وليس من اليسير جمع أحاديثه الكثيرة في حيز واحد ، فقد تحدث إلى مئات، وسأله السائلون وأجابهم خلال عشرات السنين، فحسبنا من أحاديثه الكثيرة نماذج شتى في موضوعات متشعبة جرى الحديث فيها بينه وبين جاره وصديقه مستر «ونستين» وبعض صحابته، ثم جمعها هذا في كتاب سماه «أيام مع برنارد شو» ... وكل منها مثال صالح لجملة أحاديثه، وفيما يلي دلالة عليها لم نتعمد فيها الانتقاء والتمييز؛ إذ كان الاختيار «الجزاف» أليق «اختيار» للدلالة على الحديث المرتجل في جميع الأوقات. •••
جرى الحديث عن غاندي فقال شو عن نفسه إنه هو مهاتما الغرب - وكلاهما كما هو معلوم لا يأكل اللحوم.
ثم قال: «لما لقيته في إنجلترا قضيت معه لحظة في حديث غاية في الطرافة، وكان شديد التلطف بي، فسألني عند انصرافي كيف أنوي أن أعود إلى منزلي؟ فقلت له: سأركب سيارة من سيارات الأجرة! فلم يقبل هذا وأصر على أن يدبر لي طريق العودة بنفسه، ودعا بسيارة فخمة يسوقها شاب أنيق جميل الهندام، فحرت ماذا أعطيه حين وقف بي على باب داري! وأحسست أنه جدير بهبة غير «نصف الشلن التقليدي» الذي ننفح به سائقي السيارات، فاعتزمت أن أنفحه بخمسة شلنات، وأدهشني أنه يرفضها، وخيل إلي أنه يستقلها، ولكنني لم أشأ أن أفسده بالسرف. وإذا به يعود في اليوم الثاني ليسأل عني، فسبق إلى خاطري أنه جاء في طلب الهبة المرفوضة، ولكنه أفهمني ونحن ندخل المنزل أنه جاء ليسألني عن راحتي في نقلة الأمس، وأنه أمير صاحب ملايين، وقضينا فترة من الوقت نتحدث عن السيارات، وكل حديث عن المكنات يطيب لي على الدوام.» •••
وتحدث الجلساء مرة عن الدعوة الانتخابية في المذياع، فتبين أن شو كان يصغي إليها ويزجي الفراغ بإعطاء أصحابها درجات في فن الإلقاء، وأنه رضي عن صوت مستر «أتلي»؛ لأنه لا ينم على احتراف السياسة.
وتكلم عن مجتمع رأس المال فقال: إن التنازع أول صفات الانسانية في مجتمعات رأس المال؛ ولهذا تصبح الحياة موحشة عسيرة من ألف وجهة لا تستلزمها الضرورة، ومن ثم يندر وجود الإنسان الذي يبلغ من ذكائه وكياسته وضبط نفسه أن يسلك طريقه في الدنيا بغير إساءة يلقيها أو يتلقاها، ويمتلئ الجو كله بالدعاوى الكاذبة حتى لا يتهم بالدجل والفساد أحد غير الذي ينشد الحقيقة. إنني أنفر من البغضاء، ولكنني لا أوصي بالقناعة. فإذا سمعت الشيوخ يدعون إلى القناعة، فاعلم أنهم عطل من الفكر أو أنهم منافقون. •••
ولما دار الحديث على القذيفة الذرية قال: «إن لم نتفق على الحكومة العالمية، فسوف تأتي الحكومة العالمية بغير اتفاق على نحو أخطر وأعنف، ستأتي بطغيان دولة واحدة على العالم بأسره، ولن تكون إنجلترا هي تلك الدولة.» •••
وتكلم محدثه مرة عن الفن وعلاقته بجهل أسرار الزوجية، كلاما أكثر فيه من الشروح والتعليلات، فقال شو: «ها أنت ذا تعود إلى الشروح كأن هذه الشروح تنفع أحدا من الناس. إن الوقائع وحدها قد تكفينا حيث تخطئ الشروح في معظم الأحوال؛ لأنها تجري في نطاق تفكيرنا المحدود. وأذكر مثلا تلك الشروح التي تعود أسلافنا أن يقنعوا بها ويعتمدوا عليها ...! لقد كانت إلين تيري - الممثلة المشهورة - تعتقد أنها ستلد طفلا بعد أن قبلها واطس، ولم تكن على هذا بالمرأة الحمقاء. وكثير من المتعلمين في أكسفورد وكامبردج لا يفقهون شيئا عن المسائل الجنسية أو يفقهونها فوق ما ينبغي، وكلاهما سواء في الضرر والوخامة.» •••
وذكروا أمامه أن القوة أو السلطة مفسدة لأصحابها، فقال: ماذا نتوقع إذا كنا من الحماقة بحيث نضع السلطة بين أيدي الحمقى؟ إن السلطة على كل حال لا تفسد الناس، ولكن الحمقى من الناس إذا ملكوا السلطة أفسدوها. وهذا ما حدث مع هتلر والبلاد الألمانية، وهذه هي صناعة اللعب بامتطاء السلطة ... ولقد عرفت جيدا تلك القسوة التي يصبها أولئك الآلهة من القصدير على الوادعين والحالمين، ولكنني عرفت كذلك جيدا تلك الأرواح العظيمة التي تزداد على القوة عذوبة وبساطة، وتتلقى الشبهات والمفتريات وتظل بعد ذلك على عصمتها من الفساد. •••
وقال عن أهل الصين إنه يحسبهم مستطيعين أن يحاربوا أبدا ولا يفقدوا ما جبلوا عليه من روح الفكاهة. ثم قال إن عبادات الصين تحف بها السكينة؛ لأن المعيشة هناك محورها السن لا الشباب، ولست أخالف القائلين إن اليونان هم المسئولون عن هذه العبادة للشبيبة. وقد حاولها هتلر ... وها أنت ذا ترى مصير قومه، ونحن في الغرب نخجل من التقدم في العمر، أما الشرقي فإنه يقول لك إذا أراد أن يسترضيك إنك تبدو أكبر من عمرك. وحذار - بعد - أن تهرف بهذا في محضر سيدة من سيداتنا؛ فقد ترى قبل أن تشعر أن سقف الدار منطبق على أذنيك.
وأخرج يوما لجليسين معه وثيقة طويلة مرقومة رقما حسنا بالآلة الكاتبة، وطلب إليهما أن يوقعاها، وقال لهما: إنها وصيته المعدلة.
نامعلوم صفحہ