وقد ولد برنارد شو في 1856، ونشأ في وسط أرلندي جامد تستولي الكنيسة الكاثوليكية على حياته الاجتماعية وتوجهها وجهة دينية أخرت أرلندا وجعلت الإنجليز يستغلونها ويستعمرونها، وبقي شو فيها إلى حوالي سن العشرين، أمضى منها بعض السنوات في مدرسة ابتدائية كانت كل ما كسب من التعليم المدرسي، ثم حين هجرت أمه البيت إلى لندن بقي هو مع أبيه وعمل «محصلا» يجمع إيجارات المباني التي تملكها إحدى المؤسسات، وكان يحصل على أجر متواضع، ولكنه كسب ما هو أكبر من الأجر، إذ درس أحوال السكان الفقراء في المساكن التي كان يجمع منها مبالغ الإيجارات، وعرف كيف يستغل المالكون العمال الأجراء.
وكان أول ما كتب في الصحف كلمة في جريدة يومية في دبلين قال فيها إنه لا يؤمن بالله، كتبها حين كان عمره لا يزيد على ثماني عشرة سنة، ودلالة هذه الكلمة ليست في انحرافه الديني وإنما في إيضاحها لنا كراهته لوسطه الاجتماعي، وما كان يحس من تعصب الكاثوليك نحوه وهو بروتستانتي.
وكان في ذلك الوقت يعيش مع أبيه، ويبدو أن التلاؤم كان تاما بينهما على الرغم من إدمان الأب للخمر، وكما يحدث كثيرا في مثل هذه الحالات، كره برنارد شو الخمور بل قاطعها طيلة عمره؛ لأن أعظم ما يكف الإنسان عن رذيلة ما أن يعاشر أبا يمارسها ويراه وهو يتمرغ فيها.
ولا نعرف أنه ذاق الخمور إلا في السنوات الأخيرة من عمره حين تجاوز التسعين أو قاربها؛ فإنه وجد في هذه السن أن زوجته وأصدقاءه، بل إن أبناء جيله الذين كان يعرفهم، قد ماتوا جميعهم، فكان إذا انفرد في الليل، وأحس الوحدة والوحشة، تناول شيئا من الويسكي للتخفيف من توترات الشيخوخة.
ولما وصل إلى لندن قصد إلى أمه حيث كانت تسكن مع ابنتها في مسكن متواضع وتكسب عيشها بتعليم الغناء، ولم يسعد برنارد شو بعشرة أمه وأخته؛ وذلك لأنه كان يجد توبيخا دائما لأن لا يعمل ويكسب، بل يعتمد على أمه كي تكسب وتعوله، وبقي على هذه الحال نحو سبع أو ثماني سنوات، كان يحاول في أثنائها أن يؤلف القصص وأن يجد في الأدب حرفة يعيش منها ولكنه لم يفلح، وكان إصراره على احتراف الأدب يحنق والدته وأخته، حتى إن هذه حرضت والدتها على جهاده، ولعل هذه السنوات قد تركت في نفسه مرارة نحو أمه.
ولكن الواقع أن الأم والبنت كانتا معذورتين في إحساسهما نحوه بأنه عاطل فاشل، ولم تكن واحدة منهما تتوقع القدرة الكاملة في هذا الإنتاج الضخم الذي ملأ به أوربا وجعل المسارح تتبارى في تمثيل دراماته.
وكانت هذه السنين العجاف، سني التضرع للأم بأن تعطيه «مصروف جيبه» هي أيضا سني التكمل لشخصيته وبنائها على أساس آخر يحتاج إلى عزيمة وإصرار؛ فإنه قاطع القهوة والشاي والتدخين (لم يدخن قط في حياته) والشراب، بل قاطع اللحوم في الطعام.
وكانت هذه السنين أيضا سني الامتصاص الثقافي، فقد كان يقصد كل صباح إلى «المتحف البريطاني» الذي يضم أكثر من أربعة ملايين كتاب، فكان يختار ويقرأ ويربي شخصيته الفنية الأدبية.
وظني أن الأديب الحق هو الذي «يصنع نفسه» بهذا الأسلوب؛ أي هو الذي يختار ويدرس وفق حاجاته النفسية، فيختار بذلك أصح الغذاء؛ أي يقرأ ويدرس كلما أحس الحاجة النفسية، ثم له حرية الرفض عندما لا يحب، فتنشأ نفسه وتنمو شخصيته وهي على استيفاء للغذاء دون إكراه.
ولذلك ليس من اليسير أن تعلم أحدا الأدب في جامعة؛ لأنك تفرض غذاء قد لا يسيغه، وتحرق غذاء يسيغه، وكان في مقدوره أن يختاره لو كان حرا، ولكنه حين تضع أمامه امتحانا، تقهره على سلوك معين لا يرضاه.
نامعلوم صفحہ