وما تطيب حياة ما بها أمل
بالنقص يتلو سرور النفس أن كملا
أما «ڤكتور» فكان يشعر من نفسه بامتلاء ذهنه خواطر لا يجد لها كشفا، ولا يدرك لها كنها، فيسرح في غابات «مرلي» من الصباح إلى المساء متنزها، بل هائما في ذلك الوادي معتقلا بندقيته وهو لا يطلب صيدا، متعجبا من نفسه كمن اكتشف أرضا جديدة، وكان قد قرأ الكتب التي في خزانته ثلاثا ، وجمع من شذرات الألباب وخطرات الأفكار ما يؤلف منه عدة أسفار، حتى اعتراه الضجر وتولته السآمة؛ فبات لا يحفل بهذه الأشغال، ولا يجد فيها راحة للبال فينطلق فكره في مجال الخيال، ويهيم في أودية الأماني والآمال على اختلاف بينه وبين زوجته في ذلك من حيث أن هاجسه لم يكن متعلقا بولده، ولكن بالمجد والحب وبهارج الحياة، فكان يتصور لنفسه سؤددا عاليا، ويتمنى لها صيتا باقيا ويتخيل إدراك اللذات، ويهجس بقضاء الشهوات، وكان في عناصر وجوده من هذه العواطف جراثيم ترتفع وتنمو وتطلب الامتداد فيضيق عليها ذلك الوادي:
فيقول والآمال ملء ضميره
وبقلبه من عزمه أسرار
لي في ضمير الدهر سر كامن
لا بد أن تستله الأقدار
وفي تلك الأيام قدم إلى عمالة «بواتو» بيت من نبلاء باريس الوجهاء، واشتروا هناك قصرا يقال له قصر «سرڤيل» على مسافة ميلين من قصر «مرلي» ليقيموا فيه فصل الربيع؛ فإنه في تلك البلاد بهيج بديع، فتحدث الناس في قدومهم كثيرا، واختلفت في أمرهم الأقوال والآراء، وما كان ذلك لغرابة شأنهم، ولكن لأن سكان «بواتو» من أهل التقليد الحراص على عادات البيوتات ومبادئهم في هيئة الاجتماع، ولا سيما أهل المقامات المعروفة فيهم، فإن أكثرهم من قدماء النبلاء الذين لم يخرجوا من أوطانهم إلا للمهاجرة مع آبائهم يوم غلبت الثورة الفرنسوية على أحزاب الملك، وسار هؤلاء الأحزاب يستنجدون الملوك عليها، ومن أجل هذا كان في أولئك النبلاء احترام بالغ للعادات القديمة، وكراهية شديدة للحالات الجديدة، ونوع من الاحتراز والاعتزال عن مخالفيهم في الأدب يشبه أن يكون جفوة وخشونة، فكانوا لا يعرفون منزلة أهل الكياسة، ولا يعلمون قدر الفنون، ولا يقبلون شيئا يجيء من الطريق، بل ربما ناطوا السوء بما لا يفهمون مع سلامة نياتهم من سوء القصد، ومعاذ الله أن أريد انتقاد هذه المبادئ عليهم، فإني لا أرى في الناس خلقا أشرف وأقدس من حرص المرء على ما ربي عليه، ووقع من السلف إليه، ولكني أبسط واقع الحال تمهيدا لما سأذكره من خبر هذا البيت الباريسي، الذي قدم إلى «بواتو» كما سبقت الإشارة إليه.
فقد كان هذا البيت عبارة عن برزة نصف من النساء، يقال لها «المركيزة درميل»، وبنات لها فتيات عذارى، ولم يصادف عند أهل «بواتو» إقبالا، بل سرى بين جماعة النبلاء منهم أن أولئك النساء غير جديرات بالقبول رأسا، فإن الأم منهم كثيرة التذكر لحسنها الماضي، شديدة العناية بحفظ بقاياه، والبنات متبرجات غير مصونات يظهرن بأثواب لا تستر الأكتاف، ولا تحجب الصدور عن الأنظار، ومع ذلك فقد خاطر بعضهم بزيارة هؤلاء الضيوف، وغلب حب الاستطلاع على غيرهم، فمالوا إلى رؤيتهم لتحقيق ما يقال فيهم، فأتوهم زائرين فاجتمع بذلك من حول «المركيزة درميل» وبناتها عصابة من الشبان والفتيات الحسان، فبالغن في مؤانستهم وإكرامهم، وأقمن لهم المراقص والأعياد، فأقبل الناس عليهم أزواجا وفرادى، وصار قصر «سرڤيل» مجلس الذوق وملتقى إخوان الأنس والصفاء، فاغتفر الناس لأهله غرابة أحوالهم في جنب ما جلبوه لهم من السرور والهناء.
ولم يكن بين قصر «مرلي» وقصر «سرڤيل» غير ميلين كما تقدم القول، فلما استقر بالباريسيات المقام وفدن على قصر «مرلي» زائرات مسلمات، وكان «ڤكتور» وزوجته غائبين عن المنزل، فاستقبلهن الوالدان الشيخان بما ينبغي لمقامهن من القبول والإكرام، ثم حان وقت رد هذه الزيارة، فاهتم أهل «مرلي» بذلك غاية الاهتمام، واجتمعوا للمشاورة في الأمر، فقال «ڤكتور»: لا بد من طلب ثوب جديد من المدينة ل «ماري»، فإن أثوابها قديمة الزي لا تصلح لزيارة مثل هؤلاء القوم، فقالت «ماري»: لا حاجة بي إلى ذلك، فإن ثوب إكليلي الأبيض - وهو ثوب الزواج - لم يلبس غير مرتين، فإذا لبسته وجعلت على رأسي عصابة مكللة بالزهر الغض كنت كما يحسن أن أكون. ثم أشارت إلى أنها حامل لا تقوى على ضنك اللباس الجديد، فقال الكونت «ديلار» والموسيو «دملفو»: إن «ماري» مليحة على كل حال، وفي كل ثوب، فلتفعل ما تشاء، فصمت «ڤكتور» مغالبا نفسه في قبول هذا الرأي، فبقيت المذاكرة عند هذا الحد .
نامعلوم صفحہ