وبينما هم ذات ليلة على المائدة، إذ جاءهم رسول بكتاب من «سرڤيل» تدعوهم فيه مدام «مرسيل» إلى ليلة أنس ورقص وصفاء تمثل فيها بعض الروايات، ثم تكون مأدبة شائقة تحت سرادقات مما يذكر بعجائب ألف ليلة وليلة، وكان اهتمام أهل «مرسيل» بإعداد أسباب الحسن والبهجة لتلك الليلة الموعودة قد عرف واشتهر بين أهل الناحية حتى صار موضوع أحاديثهم وسمرهم نهارا وليلا، فقال الكونت: إن الخياطات في هذه الناحية غير صنع الأيدي وغير قادرات على إحكام الزي، فينبغي أن نكتب إلى باريس بطلب ثوب جديد إلى «ماري»، فإني أريد أن تكون مثل مدام «ڤلمورين» حسنا ورواء. - لا حاجة بي إلى ذلك يا والدي؛ إذ لست بذاهبة إلى «سرڤيل».
فقال «ڤكتور»: وكيف هذا؟ - إني مثقلة، متعبة بالحمل؛ فلا أستطيع الذهاب، ولا أصبر على ضيق الثوب الجديد، فسر أنت لتحدثنا بما تراه هناك من العجائب والغرائب.
فألح «ڤكتور» والشيخان عليها في العدول عن هذا العزم، فصرفت الحديث إلى المزاح، وتضاحكت من عناد نفسها كثيرا على أنها لم تتحول عنه، وكان الضجر مستحوذا على «ڤكتور»؛ فاتخذ عناد زوجته وسيلة لإظهار الكدر فنهض وهو يقول: افعلي ما تريدين.
ثم ألقى البندقية على كتفه، وخرج من المنزل متوجها نحو «بروغ»، متنزها بين المروج والآثار القديمة، وكانت ناحية «بواتو» إلى ذلك العهد مرقشة بأطلال بالية ورسوم منازل عافية، منها ما هو باق من عهد الرومانيين، ومنها - ولعله الأكثر - من بقايا الأعصر المتوسطة، وسكان هذه الناحية يتناقلون عن تلك الأطلال أحاديث خرافة تدل على أن ذكرى بيت «لوزينيان» الشهيرة محفوظة عندهم بالرواية، ينقلها الأبناء عن الآباء حتى كأن ذلك البيت لا يزال في عالم الوجود، فهم يسمون كل طلل في ناحيتهم «مرلوزين» نسبة إلى امرأة من بيت «لوزينيان» يحسبونها من الجن، وهي في الواقع زوجة «مل» و«لوزينيان» فركبوا في تسميتها الاسمين، وقالوا «ملوزين» ثم حرفوا هذا المركب فصار «مرلوزين» وسموا به الأطلال كما تقدم القول.
وكان بالقرب من «بروغ» برج قديم منفرد من بقايا قصر عظيم، كان في الحقيقة ل «مرلوزين» المذكورة تصرف وقتا من العام فيه، وتقيم سائره بقصرها الكبير المعروف، وذلك البرج عال، حسن الموقع، يطل منه على ما حوله من الأرض، ويرى الجالس فيه نواقيس كثير من قرى الناحية، ويشرف على السواقي المتفرقة من الجدول وما يليها من البروج والبساتين.
وكان «ڤكتور» كثيرا ما يقصد هذه الجهة في تنزهاته، فيهيم تحت قناطر القباب الخالية، أو يجلس على تلال هذه الجدران البالية، فيذكر مجدها السابق وعزها القديم، ففي اليوم الذي ذكرناه وصل هذا المكان، وهو أضيق صدرا منه في كل يوم، فصعد الهضبة المؤدية إلى البرج على مهل، فسمع من فوقه صوت غناء، فوقف له ورعاه السمع، فعلم أنه صوت امرأة غير قروية، وذلك بما وجد فيه من حسن التوقيع، والتلحين، والرقة التي يلزم فيها من العلم بفن الألحان ما لا يتحصل إلا في المدن الكبيرة، وكان اللحن شجيا يثير الأشجان، فأثر في نفس «ڤكتور» حتى كاد يبكيه، وما برح واقفا حتى انقطع الصوت عنه، فمشى متفكرا فيه إلى أن بلغ رصفة كالدرج تنتهي إلى مدخل البرج، فرفع هناك عينيه، فأبصر على خطوات منه فتاة بثوب أبيض وخمار من اللاذ أدق مما تنسج العنكبوت، يلعب الهواء بأطرافه فتعلق بغصون الآس النابتة على جدران الأطلال، وكانت هذه الفتاة جالسة محدقة بالوادي هائمة الفكر فيه، وبين يديها علبة ألوان ورقعة صورة مبدوءة تدل على أنها جالسة هناك للتصوير، فلما أحست بحركة «ڤكتور» التفتت إلى جهته، فعلت وجهها حمرة الخجل، ووثب على «ڤكتور» من تحت قدميها كلب صغير نباح، وكانت هذه الرسامة الفتاة هي المركيزة «دي ڤلمورين» الباريسية الحسناء.
رسامة قد جرى توقيع حاجبها
بظلم أهل الهوى والأمر ما رسمت
تحكمت في قلوب العاشقين كما
شاء الجمال ولم تعدل بما حكمت
نامعلوم صفحہ