مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أوضح الحق بدليله.
ونور بصيرة من أراد سبيله وبعد:
فإن رسالة البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية بقلم مشعل الهداية ورائد التدليل لأقوم سبيل العلامة الشيخ/عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ/قد أعرب مؤلفها بفصيح اللسان وساطع التبيان أن العبودية لله وحده حبا وتعظيما وذلا وانكسارا وأن الوثنية المحبوكة باسم حب الأولياء وقداسة الصالحين ما هي إلا نافذة على ما كان عليه أبو جهل وأضرابه الذين قال الله عنهم إنهم قالوا ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ (١) .
والشيخ عبد اللطيف في ردوده بقرن الدليل بالتعليل والأسلوب الدعوي بالمنطق الجدلي وزيادة في التحقيق قام أخونا الفاضل الشيخ محمد عارف بن عثمان الهرري الأرومي بنسخ الرسالة من أصلها وتخريج الآيات والأحاديث والآثار الواردة فيها مع إضافة ما استحسنه مما هو شاهد للباب.
وقد أعنته على ذلك بالدعاء وبذل الوسع في إخراج الرسالة ضمن ما تنشره مكتبة دار الهداية وغايتنا في ذلك نيل المراد بعفو رب العباد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون وحسبنا الله وكفى نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه إسماعيل بن سعد بن عتيق
١٥/٥/١٤٠٩
_________
(١) سورة الزمر: من الآية رقم ٣.
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الرسالة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ترسم خطاهم إلى يوم الدين وبعد.
فإن هذه الرسالة القيمة النافعة التي ألفها العالم الجليل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد قطعت أصول الشرك واجتثت جذوره حيث كاد الباطل يجول ويصول
ليغرس شجرة خبيثة ترسخ عروقها في قعر الأرض وتمتد فروعها في السماء لتثمر ثمارا مسمومة هالكة، ولكن الله ﷾ كفى عباده المؤمنين شرورها وأضرارها حيث وفق هذا العالم النحرير بقلعها وقوي عزمه وشد أزره ليستأصلها من جذورها إنجازا لوعده بقوله: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ (١) وذلك أن رجلا ينسب إلى فارس- كما ذكره المؤلف-أراد أن يهدم الأسس المتينة التي أحكمها الباري وأتقن بناءها وأرسى قواعدها في أغوار أراضي الفطرة وأعماق قلوب البرية بالحب والذل له والطاعة في السر والعلانية، وأنزل الكتب وأرسل
_________
(١) سورة إبراهيم: الآية رقم ٢٦.
1 / 5
الرسل لهذا الغرض العظيم وهو تجريد العبادة لله وإخلاص الدين له والتبري عن عبادة غيره وتخصيص المعبود الواحد خالق الخلق رب العالمين بالدعاء والطلب والقصد والرجاء والرغبة والرهبة والمحبة والتوكل في نيل المرغوب وحصول المطلوب ودفع المرهوب وإنقاذ الملهوف المكروب دون غيره من الآلهة الباطلة التي يعبدها المشركون من دونه.
وأجاز هذا الضال المضل أن يصرف جميع ذلك لغيره تعالى في جلب الخير وسلب الضير، ولذلك لا يشك المؤمن الذي أنار الله بصيرته أن ما قام به هذا الشخص المذكور معول هدام استعمله لهدم هذا الركن الوثيق لولا عنايته لدينه الحنيف وحفظه له من أن يناله التبديل والتحريف والتغيير تصديقا لوعده حيث قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١) إنكاره لما دعا إليه القرآن والسنة المطهرة الثابتة عن النبي ﷺ وسلف هذه الأمة وأجمعت عليه الأئمة الأعلام ومصادم للعقل الصريح والنقل الصحيح إذ عدل المخلوق بالخالق الرازق وسوى العاجز الفاتر بالقادر القاهر سبحانه وتعالى عما يشركون فكفر بذلك برب العالمين، قال تعالى منزها نفسه المقدسة عن النقائص ومثنيا عليها بصفات الجلال والجمال ونعوت المدح والكمال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ (٢) .
وقال تعالى حاكيا عن شجار وخصام أهل النار فيها حيث يتبرأ العابدون عن المعبودين الذين عبدوهم في الدنيا من دون الله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ﴾ (٣) .
وقد تجرأ هذا الجاحد المعاند على ترويج الزيغ والزيف والضلال وغارفي عمق الإلحاد وبالغ في ترويج الخرافات والشرك والعناد حيث حاول أن
_________
(١) سورة الحجر: آية رقم ٩.
(٢) سورة الأنعام: آية رقم ١.
(٣) سورة الشعراء: من الآية رقم ٩٢ إلى ٩٩.
1 / 6
يمنح العباد ما هو خالص لرب العباد وقرر أن غيره تعالى يعلم الغيب ويتصرف في الكون وينجد الملهوف وينقذ المكروب من الكرب الذي نزل به، وبذلك صرف لغيره تعالى حقه الخاص به، وساق أدلة من الكتاب والسنة على ذلك التي تدل على فراغ جعبته من فهم الشريعة وعلى جهله المركب حيث ظن أن هذه الأدلة التي استدل بها حجة له لا عليه ولم يدر هذا المسكين أنها شاهدة على بعده عن الحق والصواب وعمقه في الغي والضلال حيث يعتبر هذا التبجح منه جحودا لما نطق به القرآن وقام عليه البرهان من تفرده تعالى بعلم الغيب قال تعالى: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (١) ونحو هذه الآية الكريمة كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تخص الباري بعلمه الغيب وتنفي ذلك عن غيره نفيا قاطعا إلا ما يعلمه أنبياءه بطريق الوحي مما استثناه الخالق من هذا العلم الخاص به مثل قوله تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ (٢) وقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (٣) الآية.
ولا شك أن هذا الكلام الذي كتبه هذا الشخص حول هذه الشبهة التي غرق فيها يدل على مرض قلبه إذ علامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار.
فهنا أربعة أشياء:
غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
والقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
_________
(١) سورة النمل: رقم السورة ٦٥.
(٢) سورة البقرة: من الآية ٢٥٥.
(٣) سورة الجن: الآية ٢٦-٢٧.
1 / 7
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ (١) .
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبدا وكيف تقاوم الأدواء كلام رب العالمين الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟
فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا في القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه.
ولكن هذا المردود عليه لم يهتد بهديه ولم يستضيء بنوره بل أراد أن يحمله ما لم يحتمله وضل سواء السبيل حيث ادعى أن غيره تعالى يعلم الغيب مما نفاه القرآن عمن سواه وزعم أن دليل ذلك من القرآن والحديث ولا شك أن ما ذكره حجه عليه لا له.
وانطبق عليه المثل "حفرت الشاة بظفلها السكين بحثها حتفها" وهو مثل يضرب لمن يؤديه اجتهاده في الأمر إلى هلاك نفسه والقضاء عليها من حيث لا يشعر ذلك وهذا جزاء من كابر صريح العقل وصحيح النقل وعادى الحق ووالى الباطل ونصر البدعة وحارب السنة حتى أدى به الأمر إلى دعواه علم الغيب لغيره جل وعلا وجحد بذلك ما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ (٢) .
٣-وزعم أيضا أن الأولياء والصالحين لهم تصرفات في الكون في الحياة وبعد الممات ينفعون ويضرون ويعطون ويمنعون ويقصدون من دون الله في جلب الخير ودفع الضير وقضاء الحاجات وكشف الملمات ويسمعون نداء المنادي بهم ويجيبون صيحتهم وقد أبعد بذلك في الضلال وأعمق في بحور الشرك وجاوز الحد وجعل لله الشريك والند في تصريف الأحوال وتدبير الأمور وإعطاء المطالب وكشف المثالب مما هو حق خالص لله، وقد أشرك
_________
(١) سورة الإسراء: رقم الآية ٨٢.
(٢) سورة يونس: رقم الآية ٣٢.
1 / 8
عباده معه في تصريف الكون وجحد بذلك توحيد الربوبية الذي أقره المشركون والكفار والخليقة جمعاء والذي لم يحصل النزاع فيه بين جميع الطوائف قط، ولاشك أن ذلك يعتبر جحودا للصانع المدبر الحكيم الخالق الرازق المحيي المميت رب العالمين الذي لم يجحد به العقلاء حتى الفلاسفة إلا طائفة شذت ونهجت نهجه وإلا فرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية مما حكى عنه القرآن حيث قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (١) وادعى كذلك الألوهية حيث تبجح وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ (٢) الآية وقال أيضا: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (٣) ولكن الله انتقم منه وعاقبه على هذا الادعاء حيث أخبر ذلك بقوله: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ (٤) ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (٥)، ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (٦) .
وهكذا كل من سلك هذا المسلك الإلحادي الذي سلكه فرعون ومن كان على شاكلته سيلقى جزاءه ويذوق وبال أمره إن عاجلا أو آجلا وله عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
وقد بين الله ﷾ إقرار الجميع بهذا النوع من التوحيد حيث أنزل الآيات التي قررت ذلك بوضوح لا يخالطه أي لبس قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (٧) .
ومن هنا نعرف تماما أن الذين عبدوا غير الله من المشركين الأولين لم يعبدوهم إلا ليكون هؤلاء المعبودون وسطاء بينهم وبين الله في رفع طلبهم إلى الله كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِن َّ
_________
(١) سورة النازعات: من الآية ٢٤.
(٢) سورة القصص: من الآية ٣٨.
(٣) سورة الشعراء: من الآية ٢٩.
(٤) سورة النازعات: الآية ٢٥-٢٦.
(٥) سورة القصص: رقم الآية ٤٠.
(٦) سورة الأعراف: رقم الآية ١٣٦.
(٧) سورة يونس: الآية ٣١-٣٢.
1 / 9
اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (١) .
ولم يوجد من بينهم من صرف خالص الحب والذل والخضوع والعبادة والطلب والقصد والخوف والرجاء لغيره ولم يشركوا مع الله أحدا في الربوبية والخالقية والرازقية بل كان شركهم في العبادة والقصد والطلب والخوف والرجاء حتى أنهم لم يخلصوا ذلك لآلهتهم بل أشركوا الله معهم في ذلك كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ (٢) الآية.
ولقد كرر الحق ﷾ ذكر توحيد الربوبية في مواضع كثيرة من كتابه إقامة للبراهين الساطعة والدلائل الواضحة والحجج المقنعة على وحدانيته ووجوب عبادته وطاعته وحبه والذل والخضوع له ووجوب الكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه عما سواه.
ومعنى هذا الكلام: أنتم أيها العقلاء من الإنس والجن إذا اعترفتم وأقررتم أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت والمعطي المانع يعطي ويمنع ويعز ويذل ويقدر على كل شيء ويعلم كل شيء لا يعزب عن علمه مثقال حبة من خردل، إذا اعترفتم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه ملكه وخلقه يدير كيف يشاء لا معقب لحكمه فهذا الإقرار والاعتراف يوجب عليكم أن تخصوه بالعبادة والحب والذل والخوف والرجاء والرغبة والرهبة فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا تسعدوا في الدنيا والآخرة فإن أبيتم تخصيصه بذلك فلا نجاة لكم في الدنيا والآخرة لأنكم معاندون ومكابرون وكاذبون فيما أقررتم به من توحيد الربوبية الذي يستلزم توحيد الألوهية لأن توحيد الربوبية دليل على توحيد الإلهية والعبادة والقصد ووسيلة له.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (٣) .
_________
(١) سورة الزمر: رقم الآية ٣.
(٢) سورة البقرة: رقم الآية ١٦٥.
(٣) سورة الأعراف: الآية ١٧٢-١٧٣.
1 / 10
والمشار إليه في اسم الإشارة في قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (١) هو توحيد الألوهية المدلول عليه بتوحيد الربوبية الذي هو غاية له، والدليل على ذلك قوله ﷺ "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به. قال فيقول نعم فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي" رواه البخاري ومسلم وأحمد.
فإذا صرف هذا الفارسي توحيد الربوبية الذي وحد الله به جميع الخلائق ولم يقع الخصام فيه فإذا صرف هذا للمشايخ والأولياء والصالحين فما باله في توحيد الألوهية الذي أبى أن يقره المشركون ورفضوه والذي أوجب الله الجهاد لتقريره وأرسل الرسل وأنزل الكتب له وهو أشد عنادا وجحودا في هذا النوع من التوحيد حيث أنه صرح أن الأولياء والمشايخ والصالحين يقصدون لقضاء الحاجات وكشف البليات سبحان الله ما أعظم هذا الشرك وأقبحه وما أجهل من اعتقد هذا الاعتقاد وأغفله ولا حول ولا قوة
إلا بالله.
٤-وكذلك رمى من أخلص الدعاء والتوجه والقصد والرجاء والخوف لله وحده لا شريك له وتبرأ عما سواه في جميع ذلك بالاعتزال جهلا منه بأصول المعتزلة ومذاهبهم وعقائدهم وقد انقلب رأسا على عقب حيث لم يفرق بين الغث والسمين.
٥-كما قرر أيضا بجواز الاستمداد من أهل القبور وقطع بسماعهم في القبور من يناديهم في طلب قضاء الحوائج وإسعاف الفواجع وجزم كذلك أنهم يتصرفون ويدبرون الكون في قبورهم وأن تدبيرهم وتصريفهم وإغاثتهم لقاصديهم أتم وأقوى من حال حياتهم، ومن هنا نعرف أن هذا المبتدع لم يترك شيئا مما هو خالص حق الله إلا صرف لهؤلاء الأموات الذين هم في أمس الحاجة على الترحم عليهم والاستغفار لهم والدعاء لهم بالعفو والرحمة.
كما أرشد الله عباده المؤمنين إلى ذلك بقوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن ْ
_________
(١) سورة الأعراف: من الآية ١٧٢.
1 / 11
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (١)، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
هذا موجز تلك الشبه التي أثارها هذا الجاحد المبتدع وأراد أن يغزو بها قلوب الغافلين ويروجها بين البسطاء وبذل أقصى جهده في نصر الباطل وإبطال الحق وقد أخبر الله ﷾ نبيه ﷺ أن ما عدى الله ورسوله فأولئك في الأذلين حيث قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (٢) .
فأنى له ذلك وقد وعد الله ﷾ أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخزي أهل الزيغ والفساد والشرك والإلحاد ويحق الحق ويبطل الباطل ولو كره الملحدون أمثاله والحمد لله رب العالمين قال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ (٣) .
وقال جلا وعلا أيضا: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ (٤) .
وقال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (٥) ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (٦) .
هذا ولما وقف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ﵀ على الأوراق التي كتب فيها هذا الشخص المذكور هذه الآراء الفاسدة والأفكار المسمومة والعقائد الزائفة بادر إلى نقضها وإبطالها وبيان زيفها ورفع الستار عنها بالدلائل المقنعة والحجج المدمرة التي تبدد تلك العقبات التي تعترض طريق الحق وتعوق السالك عن السير فيه وتعرقله، ولقد وفقه الله في نفض الغبار الذي ذره هذا الجاحد الملحد على صفحات عقائد السلف البيضاء
_________
(١) سورة الحشر: رقم الآية ١٠.
(٢) سورة العنكبوت: من الآية ٥٢.
(٣) سورة الأنفال: الآية ٧-٨.
(٤) سورة يونس: رقم الآية ٨٢.
(٥) سورة الأنبياء: رقم الآية ١٨.
(٦) سورة الإسراء: رقم الآية ٨١.
1 / 12
النقية النظيفة ليغطيها بهذه الشركيات والخرافات والجحود والإلحاد حيث وقف ﵀ عند كل رأي باطل رآه وشبهة ذكرها وقفات طويلة ودقيقة وقف من ذلك موقف ناقد بصير ومدرك ونظر فيها نظرة عميقة ثاقبة وأرسل سهامه إلى تلك الوحوش الضارية وسدد إليها وأرداها قتلى وبدد تلك الحجج الواهية
التي احتج بها من الكتاب والسنة على زعمه بالدلائل التي لا تدع مجالا للشك ولا ريبا للمرتابين والشاكين وتزداد يقينا وثباتا لأهل الإيمان والبصيرة والمعرفة كما ستقف أيها القارئ إن شاء الله تعالى على تلك الردود الحسان التي تناولها الشيخ في نقض هذه الشبه الواهية وتفكيكها وتمزيقها إربا إربا كل رأي على حدة وكل شبهة بانفرادها بحيث لا رواج لها بعد ذلك أبدا ولا غرابة في ذلك أن الله ﷾ جعل العلماء العاملين الذين يعلمون الناس الخير ويمنعونهم عن الشر مفاتيح الخير ومغاليق الشر ولله الحمد والمنة على ذلك.
هذا ولقد شرفني الله ﷾ بهذه الخدمة البسيطة حيث جعلني أحظى بتحقيق هذه الرسالة النافعة وأسهم في قراءتها ونسخها والتعليق عليها بما من الله على مع الاستفادة منها بما حوته من بيان مناهج السلف وعقائدهم ودحض آراء الملحدين والمارقين وأفكار المبطلين بالأساليب التي تقنع أهل الحق وتفحم أهل الباطل مما يزيد القارئ المتأمل والسامع المتدبر قوة في الإيمان وثباتا في العقيدة ورسوخا في الشريعة وبصيرة في الدين وتمرينا على مواجهة الشبه الباطلة وجلدا في المناظرة التي يقارع بها المحق أهل الجدل والكلام، ومن هنا يتبن القارئ أنها فريدة في نوعها قل أن تجد القرائح بمثلها أسأل الله ﷾ أن يسبل على مؤلفها وابل الرحمة والرضوان والعفو والغفران وأن يسكنه وجميع المسلمين فسيح الجنان يا حنان يا منان يا ذا الفضل والإحسان وأنت المستعان.
هذا وقد كان قيامي بهذا العمل المتواضع -تحقيق هذه الرسالة التي هي مفخرة لأهل التوحيد ومنار لطلاب الحق ورواد الإيمان وحماة هذا الدين الحنيف وحملة الشريعة– تلبية لرغبة أخي في الله الشيخ إسماعيل بن سعد
1 / 13
بن عتيق في إحياء هذا التراث العظيم الذي خلفه جهابذة العلماء ونشر مذهب السلف في بقاع المعمورة التي ابتلي أكثر أهلها بأمثال هذا المردود عليه الذين يروجون الخرافات والأباطيل ويحاربون عقائد أهل السنة والجماعة من إفراد الله بالعبادة والحب والذل والخوف والرجاء وإثبات ما أثبته لنفسه وأثبته له رسله من الأسماء والصفات ونفي ما نفى عن نفسه المقدسة ونفى عنه رسله من النقائص حيث طلب مني ذلك سائلا العلي القدير التوفيق والسداد، تقديرا لحرصه الشديد ورغبته العميقة في هذا الخير العميم وتعاونا على البر والتقوى وإدراكا مني بحسن ظنه في. أسأل الله العلي العظيم أن يحقق رغبته ويتم نواياه الحسنة وينفذ عزمه بجعل هذه الجهود المتواضعة موفقة فيما يحبه ويرضاه وخالصة لوجهه الكريم، كما أسأله سبحانه - وهو ولي ذلك- أن يبارك فيه وفي عقبه كما بارك في أصوله حيث كانوا بيوت العلم والمعرفة والدين والعبادة والتواضع كما أرخ لهم ذلك في تاريخ علماء نجد ويغفر لي ولوالدي ووالديه وجميع المسلمين وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم
محمد العارف بن عثمان بن موسى الهرري الأرومي
1 / 14
مقدمة
الفصل الأول: بيان منهج تحقيق الرسالة
...
منهج التحقيق:
تمهيد:
يجدر بنا أن نذكر في هذا المقام الجهود المباركة التي قام بها أسلافنا الأمجاد (علماء المسلمين) حيث غادروا هذه الفانية وقد خلفوا وراءهم مواريث عظيمة فريدة عديمة النظير، بيد أن هذه المواريث الغالية -مع الأسف-لم تخلد كما هي بل طرأت عليها صروف الدهر من المحن التي أدت إلى تلف أعظم ثروة علمية نادرة أنتجها هؤلاء المخلصون وقدموها للأجيال المتعاقبة لتكون لها نبراسا ودليلا إلى كل خير ولكن الله شاء أن تتلف جل هذه الجهود الجبارة التي لا نظير لها حيث سلط أعداء المسلمين على بلادهم بسبب معاصيهم وأتلف هؤلاء الكفار أكثر المؤلفات العلمية القيمة بإحراقها وإغراقها وتمزيقها -مما يرثى له- وبعض هؤلاء الأعداء الذين أقدموا على هذه الجرائم البشعة نقل معه إلى بلاده ما تبقى من هذا العمل الإجرامي- المؤلفات القيمة النافعة من فنون متعددة دون أن يدركوا قيمة ما تحويه هذه الكتب التي نقلوها معهم، وغرضهم من ذلك أن يجعلوها مظاهر تاريخية يحتفظون بها في مكتباتهم كمتاحف للزوار. وحتى هذه الكتب المنقولة إلى بلادهم بالنسبة لما بقي في المكتبات الإسلامية الذي لم يقع في أيدي هؤلاء المتلفين كثيرة جدا كما ذكر ذلك المؤرخون (١) الذين ألفوا في
_________
(١) مثل ابن كثير في حوادث سنة ٥٤٥ في البداية والنهاية.
1 / 17
الكوارث التي أصيب بها المسلمون في تلك الحقبة مما يبكي كل من يحب الفضائل ويكره الرذائل، وقد بقيت هذه المؤلفات المنقولة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار محتفظة في مكتباتهم مئات السنين ولا علم للمسلمين بشأنها إلا ما تحيل إليه الكتب الموجودة لديهم كمراجع، ولما أراد الله إبرازها لورثتهم الحقيقيين حفز همم الكفار إلى دراسة اللغة العربية التي ألفت بها غنيمتهم هذه وكتبت بها تلك الكتب العظيمة دراسة عميقة بليغة فهموا من خلالها أسرار اللغة العربية ومراميها الدقيقة وطرق كتابتها وتأليفها وأضافوا إلى هذه الثقافة الجديدة ما عندهم من قواعد ومناهج متبعة في تحقيق المخطوطات ونشر التراث، ولما اطلعوا على هذه الكتب العربية الإسلامية التي زخرت بها مكتباتهم بعد هذا الفهم الدقيق فسابقوا إلى إحيائها ونشرها بعيدة عن التبديل والتغيير لأنهم طبقوا في نشر النصوص العربية القواعد التي تتبع في أوروبا لنشر النصوص الكلاسيكية وهي قواعد دقيقة تضمن الأمان في إخراج النص وتضمن أن يأتي النص المنشور كما وضع في أصله وهذا
يمثل قول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضله طويت
...
أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار ما جاورت
...
ما كان يعرف طيب عرف العود
هذا ورغم أن الهدف الأساسي من هذه الدراسة نيل الإسلامي والمسلمين وطعن أقدس ما يملكونه من الكتاب والسنة وتشويه جمالهما الباهر بيد أنهم أنصفوا في هذه الجانب -في تحقيق المخطوطات ونشرها حيث ألزموا أنفسهم أن ينتهجوا تلك القواعد المتبعة في إحياء التراث عندهم سواء كان عربيا أم غيره-وهو إخراج النص المنشور سليما كما وضع في أصله وإلا يعتبر عيبا فاحشا في دنيا الثقافة لديهم ويتمثل فيهم قول الرسول ﷺ: "صدقك وهو كذوب".
هذا ولم يأل أيضا الورثة الحقيقيون -علماء هذه الأمة- جهادا في الحفاظ على ما سلم من صروف الدهر وتحقيق ونشر ما تبقى في أيديهم
1 / 18
وتعويض مكتبات المسلمين التي أتلفتها الأيدي الآثمة الفاجرة بما جادت به قرائحهم من تأليف ما يقرب ذلك المتلف من العلوم النافعة إلا أنهم لم يضعوا قواعد متبعة توحد مسالكهم في تحقيق المخطوط ونشر التراث مثل هؤلاء المستشرقين مما دعا بعض علماء المسلمين إلى الاعتراف بفضلهم وتنويه شأنهم.
وممن نوهوا -شأنهم في هذا الجانب- من العلماء المفكرين الذين ألفوا الكتب النافعة في قواعد تحقيق المخطوطات الدكتور صلاح الدين المنجد حيث قال (١):
اهتم العرب في ربع القرن الماضي بنشر تراثهم القديم وتحقيقه، وكان المستشرقون قد سبقوا إلى نشر هذا التراث منذ أكثر من مئة عام فنشروه متبعين نهجا علميا دقيقا مع ضعف فريق منهم باللغة العربية أو اطلاع آخرين منهم عليها.
وشاء العرب أن يحذو حذوهم في تحقيق النصوص، فنجح أناس أوتوا العلم والمنهج العلمي، وأخفق آخرون أعوزهم المنهج العلمي الذي ينبغي اتباعه في النشر وحاول هؤلاء ستر نقصهم هذا بالغض مما نشره المستشرقون واتخذوه هزؤا ثم زاد الاستخفاف مما نشر المستشرقون وبالمنهج الذي اتبعوه عن جهل بالمنهج العلمي وعصبية ضده ورأينا كل ناشر ينهج في نشره منهجا ويزعم أنه ابتدع طريقة، ومن الإنصاف أن نقرر أن المستشرقين كان لهم فضل السبق في نشر تراثنا العربي منذ القرن الماضي وأنهم أول من نبهنا إلى كتبنا ونوادر مخطوطاتنا وأنهم وضعوا بين أيدينا نصوصا لولاهم لم نعرفها نضرب على ذلك مثالا، ففي سنة ١٨٦٦م نشر وستنفلد (معجم البلدان) لياقوت وفي سنة ١٨١٩ نشر فريتاغ (المنتخب) من تاريخ حلب لابن النديم.
وقال الدكتور صالح المنجد: وكان على ناشري النصوص من العرب
_________
(١) أنظر كتابة قواعد تحقيق المخطوطات ص ٧ الطبعة الرابعة بيروت.
1 / 19
اتباع الطريقة العلمية التي اتبعها المستشرقون والاطلاع على قواعدهم واقتباسها أو اقتباس الجيد منها واتباع قواعد المحدثين القدامى في ضبط الروايات والأعلام.
هذا وما ذكره الدكتور -أثابه الله- هو محاولة توحيد طرق نشر النص المخطوط وقد كتب في ذلك كتابا أسماه (قواعد تحقيق المخطوطات) ولخص فيه المناهج السليمة التي تنتهج في إبراز الكتاب نزيها من كل عيب يمس النص متنا وحاشية.
وقد أفاد هذا الكتيب طلبة العلم في هذا المجال، والكتاب مع صغر حجمه استوعب الطرق المحكمة في نشر المخطوطات.
فجزى الله المؤلف خيرا عن العلم وأهله.
هذا وقد رحبت هذه القواعد التي ألفها الدكتور صلاح الدين المنجد لتكون دليلا للمحققين من قبل كبار العلماء حيث قدمت إلى مؤتمر المجامع العلمية الذي انعقد بدمشق سنة خمس وستين وتسعمائة وألف ١٩٦٥م للنظر فيها، ودرست لجنة التراث العربي في المؤتمر هذه القواعد وأشادت بقيمتها ووافقت عليها لتكون دليلا للناشرين عندما ينشرون النصوص القديمة. هذه شهادة من علماء أجلاء يعتمد على قولهم، وترجمت هذه القواعد إلى ست لغات أجنبية غير عربية، الفرنسية والإسبانية والإيطالية والفارسية والتركية والإنكليزية.
هذا وقد ذكرت هذا التمهيد لعلاقته بهذا الموضوع الذي نحن بصدده حيث أنه تحقيق التراث القديم المخطوط، والله ولي التوفيق والسداد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
١-منهج تحقيق هذه الرسالة
إن أول عمل يقوم به المحقق في هذا المجال السعي إلى معرفة نسخ
1 / 20
الكتاب المخطوط القديم، فإذا كانت للكتاب نسخ عديدة بينها تفاوت ما اعتمد على نسخة يراها أوثق وأنقى ويجعل الباقيات للمقابلة لتكمل بعضها بعضا.
وعندما لا تتوفر للمحقق إلا نسخة واحدة بعد استنفاد الطاقة في التفتيش عن نسخ الكتاب فإنه يعتمدها في النسخ ويقابلها مع النصوص المقتبسة عنها في المؤلفات اللاحقة.
وهذه النسخة التي اعتمدت عليها في التحقيق فريدة، أعني أن هذه المخطوطة التي حققتها لم أجد لها إلا نسخة واحدة وبذلت قصارى جهدي لأجد نسخا أخرى لأستعين بها على إتقان العمل فلم أعثر على شيء منها مما اضطرني أن أراجع كتبا كثيرة من مؤلفات المؤلف حيث كانت له ردود مثلها على بعض المتجاهلين للحق.
إلا أن الناسخ الذي نسخ النسخة التي بين يدي كتب في آخرها على هامش المخطوط ما نصه:
(بلغت مقابلة على أصل المصنف ولله الحمد والمنة) .
وهذا يدل على أن النسخة الأصلية التي كتبها المؤلف بخطه موجودة في مكان ما حتى قوبلت عليها هذه النسخة التي أمامنا كما أثبته الناسخ.
وقد ذكرت ذلك لأن قواعد تحقيق المخطوطات تنص على عدم جواز نشر كتاب مخطوط على نسخة واحدة إذا كان للكتاب نسخ أخرى معروفة لئلا يعوز الكتاب إذا نشر التحقيق العلمي والضبط ولكن هذه النسخة مصححة وسليمة وكاملة ولم يوجد فيها أي نقص وبياض إلا في موضعين، وقد ملأت ذلك بما جاد الله مما يناسب الموضوع ومع ذلك استنفدت طاقتي في مراجعة المظان التي توجد فيها المعلومات التي سجلها المؤلف كما يقتضي منهج التحقيق عندما تكون النسخة المخطوطة فريدة وبالله التوفيق.
1 / 21
٢- توثيق صلتها بالمؤلف:
والمرتبة الثانية من قواعد التحقيق دراسة الكتاب المنشور من حيث صلته بالمؤلف لأن بعض المخطوطات لا تحمل اسم المؤلف لحرصه على إخفاء نفسه خوفا من الرياء والسمعة والعجب وفي تلك الحال يتم توثيق الصلة بالمؤلف بما يلي:
١- شهرة ذلك بطريق التواتر عن الموثوقين من التلامذة والزملاء والمعاصرين أن هذا المخطوط من مؤلفاته.
٢- شهادة المؤتمنين العارفين بذلك.
٣- كون الأساليب التي كتب بها المخطوط مشهورة بالمؤلف بحيث أن العبارات التي سيقت في تركيب الجمل مما يخصه وذلك أن لكل مؤلف بصمات لا تحاكي غيره وطريقة خاصة بتأليفه.
٤- وجود المخطوط بخط المؤلف أو خط وراقه الخاص به.
٥- تصريح المؤلف في أحد كتبه بأن من مؤلفاته كتابا فلانيا وغير ذلك مما يوثق صلة المخطوط به ويقوي إضافته إليه. ولكن الأمر هنا واضح لا خفاء عليه إذ كتب على غلاف الرسالة ما يصرح بأنها تآليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ ﵏ ومن هنا لا داعي إلى تطويل الكلام في ذلك والله الموفق لكل خير.
٣- إن الغرض الأساسي الذي يصبو إليه المحقق هو إبراز الكتاب المنشور بصورة مشرقة صحيحة كما وضعه مؤلفه ما استطاع إلى ذلك سبيلا على أن يستنفد جهده وطاقته في ذلك والغاية القصوى أن يحقق
المخطوط وينشر سليما من الأخطاء النحوية واللغوية والإملائية.
وأما ما يحتاج إليه من بيان الغامض وحل المشكل وشرح الخفي فذاك
1 / 22
في الهامش وهذا هو غاية التحقيق، وقد بذلت قصارى جهدي في ذلك ما استطعت إليه سبيلا والله أسأل الإعانة والتوفيق والسداد فيه.
٤- النقص والبياض
تشير قواعد تحقيق المخطوطات إلى أنه إذا كان في الأصل المخطوط نقص وبياض فإنه يوضع مكانه نقط كل ثلاث نقط مكان كلمة ... ولكن كما أشرت إلى ذلك لم أفاجأ أثناء نسخ الأصل بالنقص والبياض إلا موضعين وقد كملت ذلك النقص وسددت ذلك الفراغ بما يناسب المقام ولله الحمد والمنة على ذلك.
٥- الآيات القرآنية
الآيات القرآنية التي استدل بها المؤلف في الرسالة ذكرت اسم سورتها وسجلت رقم الآية التي جاءت فيها.
وقد جرت عادت المؤلفين عند استدلالهم بآية قرآنية في مؤلفاتهم باقتصارهم على موضع الاستشهاد وعدم كتابتها كاملة غالبا بيد أنهم يأمرون غيرهم بإكمالها بهذا الرمز (الآية) وقد درج المؤلف رحمه الله تعالى على هذه القاعدة حيث أنه رمز في كثير من الآيات التي استدل بها في الرسالة بهذا الرمز (الآية) ولم يرسمها كاملة ولكنني لم أنحتها مثل نحته بل رسمتها كاملة إتماما للفائدة حيث أن معظم الناشئين لم يكونوا حفاظا لكتاب الله فإذا أرادوا أن يقرأوا الآية كاملة يضطرون إلى فتح المصحف وهذا يستغرق أوقاتا لا يستهان بها، وأما الآيات التي كررها المؤلف في الاستدلال نحتها كما نحتها وكما أنني في المقدمة التي كتبتها للرسالة رمزت إلى بعض الآيات التي استشهدت بها.
والطريق المثلى في رسم الآيات القرآنية كتابتها بالرسم العثماني الأول بيد أني رسمتها بالرسم الإملائي المعهود بين المعاصرين في أغلب الأحيان
1 / 23
خوفا على أكثر القراء الذين لا يتقنون الرسم العثماني من الوقوع في الخطأ في تلاوة كتاب الله كما لوحظ على كثير منه حيث أن الرسم العثماني مختلف المنطوق والمخطوط أحيانا ولا يتأتى إجادة التلاوة إلا بالتلقي وهذا أمر معروف لدى أهل هذا الشأن.
وحسما لما يعتقده أكثر الناس من عدم جواز كتابة الآيات القرآنية إلا بالرسم العثماني واعتقاده وجوب ذلك -وحقيقة الأمر هو هذا الاعتقاد- إلا أن ذلك في رسم المصحف كاملا أو بعض الأجزاء القرآنية أو السورة كاملة.
وأما الآية أو بعض الآيات التي يستدل بها المؤلفون التي تتداولها أيدي مختلفي الثقافات فأرى وجوب رسمها بالرسم المعاصر صونا لكلام الله من التحريف والتبديل والغلط من قبل الجاهلين لحقيقة هذا الرسم كما ذهب إلى ذلك عز بن عبد السلام رحمه الله تعالى.
٦- الأحاديث التي جاءت في صلب الرسالة
وقد أورد المؤلف رحمه الله تعالى الأحاديث التي استدل بها في الرسالة دون أن يعزوها إلى مصادرها الأصلية ولم يذكر الرواة الذين رووها ولا درجتها وكان عملي في ذلك أنني خرجتها في الحاشية وبينت درجتها ما استطعت إلى ذلك سبيلا وعزوتها إلى مصادرها الرئيسية التي وردت فيها كما أسندتها إلى رواتبها ومع ذلك لم أستوعبها بذلك حيث أشكل علي بعض المصادر وهي قليلة جدا، ولعلي إن شاء الله سوف أتلافى ذلك في هذا الطبع أو طبع آخر إن شاء الله.
٧-الحواشي (الهوامش)
ولا شك أن بصمات التحقيق بعد نسخ المخطوطة تتسم في وجود الحواشي حيث أن ذلك يشمل ذكر سور القرآن ورقمها ورقم الآيات التي جاءت مستدلا بها في صلب المتن، وتخريج الأحاديث التي وردت في النص
1 / 24
المحقق، وبيان درجتها من الصحة والضعف وحجيتها وعدمه، وحل المعقد من تراكيب الجمل والألفاظ والعبارات وبيان المشكل من ذلك وشرح الغامض وتوضيح معاني الألفاظ التي لا يظهر معناها بأدنى تأمل.
وقد توسعت في التعليق في بعض الصفحات من الحاشية حيث أن المقام قد اقتضى ذلك ولم يسمح لي الاختصار وإن كان هذا التوسع من حيث منهج التحقيق يعتبر إفراطا مملا بيد أن الإسهاب في تعبير الكلام وأداء المراد الذي لا يؤدي إلا به لا يكون مذموما بل هو ممدوح قد اقتضاه التعليق، وأما ما عملته في هذا الجانب فهو متوسط موف بالمقصود على حد قول الشاعر:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هواء ولا نزز
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
والله أعلم بالصواب.
٨-الأعلام الذين ذكرهم المؤلف في المخطوطة
وقد ترجمت لبعض الأعلام الذين جاء ذكرهم في الرسالة ببيان سنتي مولدهم ووفاتهم، وذكر مؤلفاتهم التي خلفوها تراثا للمسلمين، وأعمالهم التي تقلدوها في حياتهم من التدريس والقضاء والدعوة المباركة التي عملوها والموعظة الحسنة التي أنقذ الحيارى من جرائها حيث أن ذلك يتحتم على المحقق توضيحه، وأما الأعلام المشهورون الذين لا غرابة فيهم ولا تخفى تراجمهم على أفراد الناس فضلا عن العلماء وطلاب العلم فلم أتعرض لتراجمهم باعتبار أن ذلك تحصيل حاصل مثل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحاب الأمهات الست البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وغيرهم من المشهورين الذي يشار إليهم بالبنان والله أعلم.
1 / 25