وقالت سنية لكوثر: أذني سعيدة وقلبي كئيب!
فقالت كوثر مدفوعة بالخوف الذي ركبها: البلد خرب يا ماما.
فأشارت سنية إلى فوق متمتمة: لكنه موجود.
وآنست منيرة من سليمان بهجت ذعرا كأنه فأر مطارد. ودعا ربه قائلا بحرارة: اللهم لا تشمت بنا الأعداء!
وكانا يستمعان إلى صوت أمريكا بوجوم، ويغوصان في هوة خطوة فخطوة. ولكن هبت رياح شرقية وغربية فتناغمتا معا لأول مرة. احتجت أمريكا بجدية وصرامة. وتتابعت الإنذارات الروسية كالصواريخ حتى أجبر الغزاة على تصفية نصرهم بأنفسهم في إذلال لا نظير له في التاريخ. وتجلى نصر عجيب كما تتجلى فتاة الساحر من الصندوق - بعد غرز سيوفه فيه من جميع النواحي أمام المشاهدين - وهي تبسم في مرح وأمان وثقة! وسرعان ما آمن الحي والجماد بأن الزعيم حقق ظفرا كالمعجزة وبأنه عملاق بين أقزام. وصادر أموال الإنجليز والفرنسيين، ضاربا للمضطهدين مثلا أعلى، واهبا للعرب زعامة جبارة، وانتفخ بالتالي كل مواطن نافضا عن كاهله ذل العصور، وأوى الخصوم إلى الجحور ولا مطمع لهم أكثر من النسيان. ودخل الأحفاد المرحلة الابتدائية وهم يتغنون بالزعامة والنصر. سبحوا في بحيرة ناصرية صافية متطلعين إلى صورته الشامخة بانبهار وحب؛ ذلك البطل الذي بدأ به تاريخ مصر في أعقاب جاهلية ترامى ظلامها آلاف السنين. أجل حفلت المدارس الجديدة بمنغصات - كالكثرة العددية وندرة المدرسين المؤهلين وقصور البرامج - ولكن التلاميذ الجدد لم يشعروا بها، فعاناه أولياء الأمور وحدهم. أما كوثر فحلت المشكلة بمالها فكلفت الأستاذ جعفر إبراهيم - ناظر مدرسة على المعاش ومن سمار المرحوم حامد برهان - بإعطاء رشاد دروسا خصوصية في العربية والجغرافيا والتاريخ، كما كلفت الأستاذ راضي أبو العزم - من السمار أيضا - بإعطائه دروسا في العلوم والرياضة. وانتزع محمد وألفت من وقتهما المشحون بالعمل ساعات لمساعدة شفيق وسهام، على حين نهضت منيرة بعبء التدريس لأمين وعلي وحدها. وامتعضت مدام ميرفت من الحال من ناحية أخرى، فقالت لألفت: كيف ترضين لشفيق وسهام بالجلوس جنبا إلى جنب مع أبناء البوابين والخدم؟!
فقالت ألفت: مدارس اللغات والمدارس الخاصة باهظة التكاليف.
واستاء محمد لأسباب أخرى وهو يراجع كتب التاريخ والتربية الوطنية فضرب كفا بكف وقال لألفت: إنهم يحشون عقول الأولاد بالأكاذيب!
وتضاعف استياؤه وهو يشاهد حماس شفيق وسهام وتغنيهما بالزعيم على مسمع منه، وهو لا يملك إزاءهما أية مراجعة، حرصا على سلامتهما، وسلامته أيضا أن يرددا أقواله في المدرسة فيحدث ما لا تحمد عقباه؛ من أجل ذلك أخفى عنهما سر عوره وعرجه، وراح يغمغم: نحن في زمن القهر والصمت!
ونشأ رشاد وسيما، ذا طول ورشاقة، أنيقا، مغرما بأمه وجدته، مغرما بالسباحة، مع اعتدال في تحصيل العلم حتى ساواه أبناء خاله وخالته. وأحبته جدته أكثر من شفيق وسهام وأمين وعلي، لقربه من القلب والعين، ولأفضال أمه المحبوبة، ولأنها عقدت به تحقيق آمالها في تجديد البيت والمدفن. أجل بدا لعيني جدته - مثل شفيق وسهام وأمين وعلي - كأنه مخلوق بلا جذور، وكأنه لا يتنفس في جو بيتها القديم. من ذلك أنه سمع مرة اسم سعد زغلول يتردد في حديث فسأل أمه ببراءة: سعد زغلول حي يا ماما؟
وانزعجت سنية رغم أنها بررت جهله بشتى الأعذار. ومن ذلك أيضا بروده إزاء أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وولعه بعبد الحليم حافظ والأغاني الإفرنجية، وتساءلت كيف دهمه هذا التمرد على تقاليد أسرته وذوقها؟! وأخيرا قالت بتسليم: إنهم مزعجون ولكن لكل جيل شأنه!
نامعلوم صفحہ