رسول الصوت يبارك سمعي كحنان الناي، أتوقف، أنشغل بتقليب الأوراق، أتذكر وأفكر. - يا ولدي، تعب العمر حصاد. - أرفع وجهي نحو الوجه الناصع عند الباب. يتألق خلف الشجرة كالبدر وراء سحاب. - أمي، ها أنت ترين حصاد العمر ؛ كم هو مر. - في عينيك فحسب، ارفع وجهك، كلمني.
جمعت الأوراق، أخذت أحصيها، أردت أن أرفعها إليها، هتفت بها. - هل ألقي الذنب عليك، أم ألقيه على نفسي، بلدي، زمني؟ - ومتى تتحرر من أسر الذنب؟ - لن أنسى يوم وداعك آخر مرة. يا للعصفور الطائش في قفص القلب!
أجري كي ألحق بالعربة، أجمع كتبي، مسوداتي، كومة أحذية وجوارب وملابس رتقت ثقوبا فيها بيديك، ولقيمات من بعض الزاد الكلمات المنثورة والمنظومة في مسبحة الرغبة والفكرة، أو في عقد الثرثرة عن المستقبل والثورة، أزمات الفن وأوجاع الشعب، في منتديات السمر الموصول مع الصحب، أهرب من ناموس القرية، من سأم الزمن الميت، من رعب الأب، تضعين القبلة فوق جبيني، فوق الخدين، أسرع لا ألتفت لقلق العينين، ولا أشعر بالمرض الزاحف نحو القلب، تقفين على الباب وداعا للطير النازح للغرب، سافر في طلب الحكمة، ها هو يرجع بحصاد الرحلة، أوراق لا تشبع نملة. - أذكر، لم نتلاق وأودت بي العلة. سافرت وجئت، زرت القبر، قرأت القرآن، ذهبت بعين مبتلة، أقسمت تصون العهد وترعى، يوم وداعك، حق القبلة. ظلت روحي معك تراقب نومك، سهرك، خيبة أملك في نفسك، بلدك، فيمن حولك، تكتب تكتب ما يمليه عليك القلب. - أكتب، أقرأ، يشقيني صمت الشعب، وضياع الكلمة في قاع الجب. - ما ضاعت كلمة حق أو كلمة صدق. لم لا تخرج من هذا القبو؟ - فشلي، خيبة أملي في الخلق. - لم تظلم نفسك؟ إني أشعر نحوك بالزهو. - فشلي كالجبل على صدري ووجودي هم، أبكي ضيعة عمري، ضيعة جيلي في سوق الوهم، بين الحاكم والحارس والشرطي العابس ضاع الحلم ضيعة. - قم وارو الأرض بعرقك وارو بذورك بالدم. اطرح أشواك العقم. ماذا تنتظر؟ - لقد شاب الشعر، جفت أغصان العمر، وشاخ الورق الذابل واصفر. فإلى أين أفر؟ - يا ولدي الصبر، ستدور الدورة يا ولدي، ويطل ربيع مفتر الثغر، وتمر يداه على شجرتك، فتخضر. - تخضر؟ - ويجيء الفجر، ربي. - أمي، ما زال الوقت. - قد قضي الأمر. أوشك ديك الفجر يؤذن فتفيق الطير. - انتظري، مدي يدك. - سيجيء الفجر، الفجر .
يتوارى الوجه، وينسحب النور، ووراء الشجرة يبقى صمت الجدران تختلج ستار. ينقر عصفور لوح زجاج النافذة، يطل قليلا، ثم يطير تتكاثف الظلال، وترقص في غيبة الشعاع، يفتح باب خلفي يرعد صوت غاضب: ليمض المجهول إلى المجهول ليس لديه هوية، لا اسم ولا عنوان، أفسد عقل صبي ساذج، أغوى المشرفة على الحمام، وأساء لسمعتها ولسمعة هذا الفندق، فليطرد من حرم المطلق. فليطرد من حرم المطلق لن نقبله، حتى يصبح نفسه. حتى يتحقق بالسر الأكبر: كن إياك ومت لتكون.
لمست يد كتفي، هتفت: أنت؟ همس: أنا أعرفك، تعال.
أخذني من يدي، دل خطاي في الظلام نحو الباب، سرنا نتعثر بين ظلال ورسوم، وتخرفش تحت أقدامنا الأوراق الصفراء، صرخ فجأة: حاذر! العقرب خلفك! ألمح عينيه تلمع كالجمر، وتتربص بك، أجر، أجر. فتح الباب بسرعة، خرجت إلى الشارع، الليل بدأ يزحف، ونسيم رطب يستقبل وجهي ويبلل شعري، يقف على الباب لا ينسى عزف اللحن الساحر. يسألني في لطف: إلى أين؟ أضع يده بين يدي، وأضغط عليها: هل أعرف من أين أتيت لأخبرك إلى أين؟ يربت كتفي وينظر في عيني: سأكون في انتظارك، وأعزف لك عندما تولد مرة أخرى! أغتصب ضحكة: تكفيني مرة! أرى النادل مقبلا يلوح بصينية تقفز منها يمامة تقف على كتفي. يشتد الجوع ببطني والظمأ في فمي، وفجأة تلدغني العقرب، تلدغني العقرب.
صنعاء، يوليو 1979م
الدمعة الرابعة: نم بسلام
بكائية إلى صلاح عبد الصبور
نم بسلام. يا شاهد عصري وضحيته، يا جرح العمر وأمل العمر، نم بسلام حتى نلقاك، نم بسلام.
نامعلوم صفحہ