163

بکائیات

بكائيات: ست دمعات على نفس عربية

اصناف

أوديب :

ليس صحيحا ما تقولون. فقد غمرتني الشمس ولم أجد الظل، ولا المطر، ولا المأوى. وعندما استبد بي الدوار ورحت أحترق ويتصاعد مني البخار كأنني فحمة ملتهبة، جلست تحت صخرة على جانب الطريق الضيق ذي الشعاب الثلاث. الجبل أمامي صخر والوادي حولي قفر. والجوع مع الغضب الحارق في جوفي جمر. وغفوت قليلا، ثم فتحت عيني على أصوات قريبة مني. كان في الأفق غبار، وموكب صغير يجرح الأقدام على الطريق المترب الخانق بالبخار لمحت نساء وأطفالا ورجالا يحملون متاعهم القليل على أكتافهم. فقراء هؤلاء الناس، مزارعون أو رعاة مما تنبت الأرض من أشواك. مروا علي وتوقفوا ليستريحوا في ظل الصخرة الكبيرة التي كنت أحتمي بها، سألني شيخ عجوز: إلى أين يا بني؟ قلت: مسافر يا عمي. قال شاب يبدو على وجهه الإعياء: الطريق طويل. حذار أيها الشاب. قلت: اطمئن إني أعرفه وأعرف هدفي. قال الشيخ: سافر كما تشاء، لكن لا تتهور. قلت: ماذا تقصد؟ قال: لا تقترب من طيبة. سألت: أهي قريبة من هنا؟ قال الشاب: أقرب مما تظن قدماك، وأبعد مما يتصور عقلك. رفعت عيني إلى الشيخ فنظر إلي وقال: نحن من أبناء طيبة. لم نخرج منها كما يخرج الناس من الأبواب. لقد تسللنا من ثغرة في السور. قاطعه الشاب: بل حفرناها بأظافرنا في الظلام! قلت: ولماذا لم تخرجوا من أبوابها؟ تعجب الشيخ وقال: وهل يخرج أحد من طيبة أو يدخلها؟ ألم تسمع يا ولدي بالهولى؟ ألم تسمع بالوباء؟ قلت: الهولى؟ والوباء؟ ماذا أسمع؟ قال الشاب: منذ أن ظهرت العذراء ذات المخالب، وهي تتربص بالداخل والخارج. تطرح عليه اللغز، ثم تقتله. قلت: اللغز؟ ما هو هذا؟ ماذا تقصد؟ قال الشيخ: لا أقصد شيئا يا ولدي. نحن فقراء لا نحل الألغاز، نجونا من الوباء بمعجزة. ونبحث عن أرض نتنفس فيها الهواء. أنا وهؤلاء الصغار. هيا يا أولادي. هيا يا أولادي. ناديت عليه قبل أن يغيبهم الجبل عن بصري: كلمني عن الهولى. صف لي الوباء. انصحني يا شيخ! تردد صوته قبل أن يختفي: حذار يا ولدي. حذار لا تذهب إلى طيبة! لا تذهب إلى طيبة! رحت أفكر فيما قال، فلم أهتد إلى شيء، هل غادرت مدينتي وملكي لأحل ألغاز الناس أم لأحل لغزي؟ وسقطت على صدر آلهة النوم وقتا لا أعرف مداه، ثم صحوت على قرقعة عجلات على الطريق الوعر. ناديت فلم يجبني أحد. وقفت وتعرضت للعربة فلم يكترث أحد. هتفت بأبناء الإنسان فلم يرد إنسان. ولسعني سوط ألهب رأسي وكتفي فصحت: أيها الفجرة! أما من لقمة أو جرعة ماء لعابر سبيل؟ صاح صوت المنادي: مل عن الطريق أيها الكلب! وقفز من العربة ثلاثة رجال سود الوجوه. لم أدر إلا وقد أنزلت بهم ذراعي صاعقة من نار، رفعت وجهي للشمس وهتفت: شكرا يا رب الأرباب زيوس! كدت أجدف باسمك، لكنك أطلقت صواعقك من يدي وذراعي. وتناهى إلي صوت وقور جذبني إليه احتواني: من أنت أيها الشب المتهور؟ نظرت في داخل العربة فرأيت شيخا جذبتني كذلك نظرة عينيه واحتوتني. تأملتها لحظة وارتعشت. آه يا ابنتي! ما الذي جعلني أرتعش في تلك اللحظة؟ ما الذي جعل تلك اللحظة تسطع كشرارة البرق في ليل العمر؟ قلت في غضب: ومن أنت أيها الشيخ؟ قال الرجل في هدوء: أنا الذي يسألك: من أنت يا ولدي؟ صحت دون أن أنتبه إلى الكلمة الأخيرة: وأنا ضيعت ملكي بحثا عن جواب هذا السؤال. قال العجوز: لكنك لم تنطق بسؤالك. صحت غاضبا: وهل سأجد الجواب لدى عجوز مثلك؟ إني أسأل ما الإنسان؟ تفكر العجوز قليلا وقال: وتريد أن تقابل الهولى؟ وتضيع ملكك لتفوز بملك آخر؟ وتحل اللغز لتقضي على الوباء؟ اذهب يا ولدي اذهب! هتفت: بل تذهب أنت أيها العجوز أعراف أنت تهرف بالنبوءات أم قائد عصبة من اللصوص الذين صعقتهم بعون رب الصواعق؟ قال الرجل وهو يشير بسوطه: لا تتهور يا ولدي لا تتكبر. اسمع قولي: عد من حيث أتيت. قلت وأنا أتحداه بعصاي: ليس قبل أن تقول لي من أنت؟ تضرع بصوت باك: أنا الهارب من نبوءة قديمة ليسأل إله هذه الأرض نبوءة جديدة، حاذر يا ولدي وارجع، حاذر يا ولدي. قلت: عراف كاذب. شأنك شأن العراف الآخر. لن أرجع لأبوي ولن أخشى النبوءة. قال العجوز: وتصمم على حل اللغز؟ قلت: حتى الموت. لوح بالسوط، وقال: هذا السوط سيمنعك رأفة بك. صعدت إلى العربة، ورأسي يحترق بنار الغضب ونار الشمس: وأنا أنزعه منك، وأنزع منك الروح إذا زدت. هجمت عليه وشددت السوط من يده، وفي لمح البصر وقع الشيخ على الأرض، فشجت رأسه على حجر كان قد أوقف العجلة عن السير. وحين انحنيت عليه لأساعده على النهوض التقيت بعينيه. آه يا حبيب! ليتني ما نظرت إلى هاتين العينين! هزتني الرعشة التي ظلت طول العمر تزلزلني، نفذت نظرته كالسكين بقلبي. لا لا. عانقت القلب كموجة ضوء أو ماء صاف. آه يا ابنتي! لن أنسى تلك النظرة أبدا. لن أتخلص من تلك الرعشة أبدا. وها هي ذي تعاودني الآن. تعاودني وترج أعضائي المتصلبة وشعراتي البيض. تجيش وترتفع وتدمدم وتتدفق من عيني. اعذريني إن بكيت الآن أمامك. اعذريني إن بكيت.

أنتيجونا :

أبي. أبي. أبي.

أوديب :

حبيبتي. أنت أيضا يا صغيرتي، أتبكين على أبي أم تبكين على أبيك؟!

3

الجوقة :

الهولى تقف على أسوار مدينتنا

تتربص بالداخل والخارج منها.

نامعلوم صفحہ