مهداة إلى من لا يحبون المقدمات
مصاير البحر تعبث بسطحه وتلهو بشواطئه، غير أنه لا تاريخ لاتساع مائه العقيم، وفي البر تقع المعارك، والوقائع لا تنال الأمواج إلا حينا بعد حين، ومع ذلك، وفي غضون المعارك والفتوح يسمع هدير البحر ويرى التماع أمواجه الزرق دائما، وتعين الزوابع والسحب أعمال الناس ومصير الأسفار الناجع والفاجع، ولكن الأشرعة والسكانات
1
والمراسي والمناور تسوق القارئ، دوما، إلى العنصر الذي يكتنف الجميع، وتنعش الصخور والأشجار والرياح والأسماك ما هو منثور في هذا الكتاب من الجزر.
ويتطلب تاريخ البحر أسلوبا غير ما يقتضيه تاريخ النهر، ويمكن وصف سيرة النيل كما توصف حياة بطل من ولادته إلى مماته، ويغدو البحر الذي يود الجميع أن يسيطر عليه ميدان صراع روائي بين الأمم التي تعيش على شواطئه، ويعارض النهر الفحل الذي يشق طريقه من خلال الصخور والصحارى بالبحر الأنثى، وكل يبغي حيازته، شأن هيلانة فيما مضى، وهو كهيلانة ينتقل من سيد إلى سيد.
وبين البحار يظل البحر المتوسط وحيدا عنصرا ومركزا، والبحر المتوسط بحيرة طبيعة، وهو ليس بحرا واحدا مع ذلك، وذلك لأن للمضايق التي تقيد حريته؛ لأن لجبل طارق والدردنيل، مصاير درامية،
2
وقد غير المضيق الثالث، وقد غيرت قناة السويس، حياة البحر المحيط، ولكن في زمن حديث جدا.
وغدا سبيل الحضارة، وغدا البحر المتوسط، مركز التاريخ الروحي الذي ظهر من العالم الهمجي في العالم الغربي، وهنالك نشأت جميع أدياننا وفلسفاتنا وعلومنا وفنوننا وتحولت وكافحت ونضجت، ومن هنالك اقتبست نفوس أوروبة وأذهانها طرز حكوماتها وأفكارها وفنونها، ومن البحر المتوسط أيضا أتت عقائد أمريكة ودساتيرها ومعابدها، ولم يتجه خيال الشعوب نحو البحار المحيطة الأخرى إلا بعد الاكتشافات الكبرى. ولذا سيكون لقصتنا لون آخر منذ سنة 1500؛ أي من الجزء الرابع، فيعنى بالتجارة والبيع والشراء أكثر مما بالحركة الذهنية؛ وذلك لأن ذلك التاريخ الذهني الطويل لا يزيد مع القرون بل ينقص في كل دور، وللتاريخ القديم في البحر المتوسط أن يكون أطول مما هو عليه ثلاث مرات؛ ولهذا التاريخ في الرسم الابتدائي أن يوسع بأكثر مما تجده هنا.
ومهما يكن من أمر فإن من المتعذر أن يؤتى ببيان كامل، فتاريخ أمم الشاطئ وحده يتطلب ثلاثة مجلدات، وما أكثر الملوك الذين لم يذكروا في هذا الكتاب! ومن العبث، في الغالب، أن يبحث القارئ فيه عن المفضلين لديه، ولا يؤلف كتاب ك «النيل» إلا رمزا، وهو يهدف إلى حث القارئ على دراسة بعض الأدوار عن كثب في الكتب الأخرى لعدم وجود ما هو منظور في هذه الصفحات، وما قد يرغب فيه من منظور يجده القارئ في الكتب الأخرى أو في المعلمات،
نامعلوم صفحہ