ويظهر أن أهل أقريطش، الذين جاوزوا البحر جلبا للمعادن الثمينة، لم يؤسسوا مستعمرات، وهم، على العكس، قد غزوا حوالي سنة 1400 قبل الميلاد من قبل الشعب الإغريقي: الآكيين بعد الغزو الهندي الجرماني بزمن قليل.
ونشأ عن هذا السفر سيل مداد في زماننا بمقدار ما سال من دم في الزمن الذي حدث فيه، وذهب ذلك هدرا، فلم يترك الدم أثرا ولم تقدم القضايا دليلا، وتتقدم تلك المغازي وتعقبها عشرات قرون من البربرية. وإذا كانت القبائل الجرمانية والسلافية قد أتت من الهند حقا، فإنها قضت في ألف سنة، أو ألفي سنة، حياة فطرية نامية في الغابات مع أن سنن الأخلاق والجمال كانت تنعكس على مياه البحر المتوسط المشرقة. ولما حاول أستاذ مأجور لدى أحد الطغاة أن يثبت، في مئات من الصفحات، نظريات أستاذه «الآرية» ناقض نظرياته التي طبخها بعد جهد كبير، وذلك حينما أضاف إليها في آخر الأمر قوله: «ليس لدينا عن ذلك الدور الذي دام قرونا كثيرة أية وثيقة حول معظم سورية واليونان والجزر.»
والسائح الذي يبصر نباتات سحلبية بغتة، بعد أن يسير من خلال ظلام الآجام على طريق ضيق يشقه زنوج في طين مستور بغياض كثيفة، يمكنه وحده أن يدرك المشاعر التي تستحوذ علينا عندما نكون فجأة في حضرة أوميرس بين عوسج التاريخ الذي لا يمكن نفوذه. والحق أنه لاحظ كل شيء وأنه أوضح كل شيء، فكان صريح الحديث متين الرواية، وكان المكان الذي تم فيه العمل من جلاء الوصف ما وجد بعد بحث، وقد بلغ من قوة الإقناع في قصصه الحوادث ما يبدو معه الهزج الأوميري من عمل مؤرخ، مع أن علماء وصف الإنسان المعاصرين يأتون، عند القياس، بصور وهمية، وما يصفه الشاعر، وما ينطقه، من الآلهة ينطوي على حقائق أكثر من أصدق الأطلال وأوثق القبور التي يستنبط الأستاذ الغطريس نتائج منها عن أصل الجرمان والنورمان، فيجيء بهم من جبال همالية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد إسكانا لهم حول برلين.
وتقوم الأسطورة المدوخة للأسفار في بحر إيجه على حقائق تاريخية بالغة، وما قام به أولئك الأغارقة المسافرون من مغامرات وما احتملوه من أخطار فيما بين البحر الأسود والصحراء، وإزمير وجبل طارق، أعظم من فتح الهند وأمريكة إذا ما نظر إلى اتساع البحار المجهولة وإلى الألواح البسيطة التي كانت تسمى سفنا في ذلك الحين. ومع ذلك فقد نسي أبطال ذلك الزمن، ومن ذا الذي سمع حديثا عن أوتوليك الملطي مولدا والسنوبي
95
مؤسسا؟ لم يتفق لهؤلاء الأبطال من يتغنى بهم مثل أوميرس، أو إنهم لم يعرفوا أن يفتنوه، وإن لم يكونوا أقل عظمة من أوليس. وهنا ندرك السبب في أن الأباطرة والقواد، منذ عهد الإسكندر الأكبر، أحاطوا أنفسهم بمتفننين وصحافيين يتوقف على قرائحهم ونيل الحظوة لديهم كل مجد.
ولم يفتح العالم متفننو الأغارقة ومستعمروهم بين عشية وضحاها، فالأغارقة كانوا يسافرون بين جزيرة وجزيرة في البداءة متعلمين حرفة الملاحة مقدارا فمقدارا، فلما كان القرن السادس قبل الميلاد استقروا بجميع سواحل البحر الأسود واستولوا على أقريطش وقبرس وصقلية، ولم يعتموا أن فتحوا شاطئ البروفنس، وهذا إلى أن ما كان يمازجهم من روح الاطلاع الممزوج بالفلسفة والنشاط حفزهم إلى مآثر جريئة أكثر من مآثر الفنيقيين، ويلوح أنهم كانوا أقل طمعا في الثراء من الفنيقيين وأقل ميلا إلى الملاذ البدنية من أهل أقريطش، أجل، كان في منطقة إيجه أول تخرجهم، غير أن رغبتهم الغريزية في المعرفة ألهبتهم فنشأ عن هذا تفوق جغرافييهم. ومجمل القول أن ما كان عليه الأغارقة من عبقرية فطرية علوا بها جميع أمم التاريخ جعلهم يمتازون في كل أمر قاموا به. والأغارقة بدوا أكثر خصبا في الأفكار من الأمم الأخرى حتى في حياتهم السياسية التي كانت تكدر بمنازعاتهم المستمرة.
ولم سيطروا على جميع الملاحين الآخرين، وبم كانوا أسمى منهم؟ ولم اكتشفوا البحر المتوسط وقهروه، وكيف تغلبوا على أهل السواحل الأخرى من غير أن يخوضوا غمار معركة كبيرة؟ لم يقص أوميرس علينا نبأ أية معركة بحرية، ولم يتغن أوميرس بمحامد البحر، ومع ذلك ترى الأوذيسة شعرا بحريا، ومن يرجع البصر إلى صور المعارك البحرية على الآنية التي هي أحدث تاريخا من ذلك تتمثل له ألعابا حربية. وكل شيء بين أيدي الأغارقة وأدمغتهم، من لغة وفن وحكومة، كان يغدو أهيف رائعا، وما بين الشجاعة والحيلة والإحساس والروح العملية من تمازج ينطوي على أوليس وأشيل في نفس كل إغريقي. والأغارقة قد ولدوا للحياة البحرية؛ أي للقرصنة التي لم يتحرج توسيديد في دعوتها باسمها مضيفا إليها قوله: «لا يرى فيها ما يخجل منه.»
وحياة القراصين والتجار هذه، وهذه الغريزة التي كانت تدفعهم إلى مباغتة ضحاياهم، وهذه المنازعات والمخادعات التي وصفها أوميرس وصورت على الأواني الخزفية، أمور كانت تتفق في نفوسهم مع دوام البحث فتمنح نشاطهم شكلا فنيا، فأصبح مغامرو الأمس آلهة وأبطالا بذلك. وقد أدرك الأغارقة قبل كل شعب، وبما هو أعمق مما عند كل شعب، أن العمل لا يعد شيئا ما لم يكن مقترنا ممثلا بشكل خاص. وإذا كانت مفاتيح الجمال والحكمة لا تزال موجودة في تاريخ اليونان، وإذا كان العالم الغربي قد حفظ أسماء ملوك لم يكونوا في الحقيقة غير رؤساء قراصين، فإن فضل ذلك يرجع إلى شعراء اليونان ونحاتيهم وحكمائهم، وما تنشره الدولة العصرية من الأقاصيص بآلات دوارة كانت الأمة تعهد به في ذلك الزمن إلى بضعة رجال من العباقرة مع تحلل في معاملتهم بلا رعاية بعدئذ.
وقد خلدت القصبة القديمة العادية الحصينة: تروادة بأناشيد كان بعض الملاحين يشيد فيها مع المبالغة بمغامراتهم على نمط الصيادين والرواد المعاصرين، وقد نقلوا هذه الأقاصيص إلى أبنائهم الذين ما انفكوا يعملون فيها خيالهم حتى جمع جميع ذلك من قبل أعقاب أوميرس في جزيرة ساقز
نامعلوم صفحہ