ومن الضروري أن كانت روح التجارة فطرية لدى هؤلاء اللاساميين، كما يصفهم الخبراء المعاصرون، وإلا لقامت مقامهم أمم مجاورة أرقى منهم وقائمة في موقع جغرافي ملائم مثل موقعهم كالعبريين. وظل الفنيقيون لعدة قرون أول الناس وأمهرهم في جعل الأمم الأجنبية تهتدي بنشاطهم الاقتصادي، وذلك كما تصنع المصارف الكبرى التي تمثل دور التاجر السارق الدوار فلم يلبث أن يبدو سيد السوق ومثل الأمير الإقطاعي الكبير، وقد أعانهم على ذلك عطلهم من الروح القومية كما يعين أرباب البنوك. وقد روى هيرودوتس أنهم كانوا في كل مكان يستوردون أحسن ما تنتجه البلدان، وقد كانوا يستغلون لبنان ويبيعون الخشب مما وراء البحار كما كتب حيرام يقول لسليمان: «عبيدي ينزلون خشب الأرز وخشب السرو من لبنان إلى البحر، وأنا أجعله أرماثا في البحر إلى الموضع الذي تعرفني عنه، وأنفضه هناك وأنت تحمله.»
وتدل النقوش المصرية البارزة على أن سفنهم كانت، حوالي سنة 1200 قبل الميلاد، مجهزة بمقدم متمدد من الحيزوم
90
وأن أتراسا كانت معلقة في الشبكة، وقد دام تقليد ذلك قرونا، دام حتى عهد الإسكندر، حتى زمن الويكنغ،
91
ولنا بهذه الأقاصيص التي وجدت في التواريخ القديمة، ولنا بهذه العادات التي انتقلت مع الأجيال إلى أمم كثيرة البعد، ما نصحو به. وتشابه الأتراس المعلقة التي انتقلت من الفنيقيين إلى الويكينغ شجرات النسب التي تسفر دراستها عن نشاط حفيد بعيد غارق في خواء
92
مصيرنا العام.
وكان الفنيقيون ينشئون سفنهم عريضة عرضا كافيا لتكون واسعة مع عدم طول، والفنيقيون هم الذين خيل إليهم أن ينضدوا صفين أو ثلاثة صفوف من الجذاف في السفينة الواحدة. وكانت هذه السفن تنقل من البحر الأحمر ومصب النيل ذهب كوش وأبنوس النوبة أو الفضة التي كانت ثمينة كالذهب في ذلك الزمن، وكان يؤتى بجميع هذه السلع قياما بما يقتضيه ترف الملوك والكهنة والخليلات. والحق أن سفن ذلك الزمن هي كطائرات هذه الأيام في عدم اتساعها لنقل البر على البحار. والحق أن كبار التجار كانوا لا يكترثون لغير نقل ما غلا ثمنه من الأدوات، وكل ما يجدونه من الحلي والذهب كانوا يؤدون ثمنه سلعا من النوع الأدنى اللامع، وذلك كالخرز الذي صار يعرض بعد زمن طويل على الزنوج من أهل أفريقية، وهم يستحقون أن يدعوا ب «الإنكليز الأولين» لما كان من براعتهم في إبداع احتياجات جديدة لدى الهمج.
ومن يقرأ ما كتب هيرودوتس عنهم يتمثلهم، فكانوا إذا ما أنزلوا سلعهم إلى مكان ما في ليبية تركوها حيث وضعوها وعادوا إلى سفنهم ورفعوا عمود دخان إشارة إلى الأهالي، والأهالي يأتون من ناحيتهم ويضعون منتجاتهم وينصرفون، ويرجع التجار وينادونهم مستزيدين، وتدوم المفاوضات، وكانت منطقة الحياد حراما، وكانت تتمتع بحماية الآلهة التي يدعوها كل واحد بأسماء مختلفة. وكان طراز التجارة التاريخي الأول هذا يقتضي درجة عالية من الأخلاق ودرجة عظيمة من مبادلة الثقة بين شعوب غريب بعضها عن بعض، فلا ترى مثلها اليوم؛ أي بعد مرور ثلاثة آلاف سنة من ذلك الحين، فسوء الظن هو السائد في الوقت الحاضر، لا في الشارع الخامس وحده، بل عند اقتراب طائرة من غرينلاند أيضا.
نامعلوم صفحہ