ومن تملئة القرن الذي كان يحمله صموئيل عندما مسح شاول ملكا، وقد صبه أحد الأساقفة الأولين على رأس ملك الفرنج الأول، واليوم لا يزال يستعمل في دهن جباه المحتضرين، وفي التوراة يشبه الوثنيون بالزيتونة البرية التي تتحول إلى زيتونة مثمرة بعد تطعيمها. وعلى العكس كان أهل فلسطين يحاولون تجديد شباب الزيتونة المسنة بتطعيمها بجذر بري وصولا إلى إعادة خصبها؛ أي كانوا يأتون ما يشابه العملية التي تصنع الآن لبعض الشيب حتى يعودوا إلى شبابهم والتي كان الرسول بولس قد حدثته نفسه بمثلها.
وفي كل مكان يكلل الزيتون صفحات التاريخ القديم، وفي كل مكان يعد ورق الزيتون علامة السلم والسعادة، وهل هذا من أجل فتونه أو من أجل خيره؟ وفي الوقت نفسه، ومع عدم وجود زمن للأساطير، أتت حمامة نوح بغصن زيتون، كما دفعت أتينا زيتونة فوق الأكروبول في أثناء مقاتلتها نبتون لما وجدت في ذلك أثمن هدية إلى بلدها، ولما هلكت هذه الزيتونة في أثناء تحريق الفرس لأثينة أخرجت منها فرعا جديدا في يومين. وهذه الزيتونة، التي قيل إن أول إكليل ألنبي كسبه هركول قد أخذ منها، كانت تقطع منها عصائب جباه الفائزين في الألعاب الألنبية في غضون القرون، ولا تزال موميا أحد ملوك مصر تحمل حول جبينها بقايا تاج من زيتون.
ومهما بعد عهد الأسطورة فقد صلحت شجرة الزيتون للآلهة كما صلحت للآدميين، وقد وجدت في جزيرة سنتورن قطع معصرة زيت خربت قبل إنشاء الأهرام بزمن طويل، كما وجدت نوى زيتون في قبور ملوك ميسين. وفي الإلياذة أن النسيج ملس بخشب الزيتون، وأن أوليس صنع سرير عرسه من جذور زيتونة برية . وفي العصر نفسه دفع الملك سليمان عشرين ألف لترة زيت زيتون إلى نجاري لبنان الذين صنعوا من الأرز جسورا لهيكله. وكان العالم اليوناني طاليس أول من أثبت كيف يمكن العلم أن يغني أحد الأساتذة، فمما حدث ذات عام أن أبصر بما يعرف عن الرياح مجيء محصول جيد فامتدح جميع معاصر ملطية كما يضارب في أيامنا وكيل خبير على قهوة البرازيل فيربح كثيرا. وكان غصن الزيتون يتخذ لتكريم الفائز الأفلاطوني من رجال المجمع الأدبي كما يكرم الفائز في الألعاب. وكان لغصن الزيتون محل في ولادة أبناء الوطن وموتهم، وكان بوم أتينا واقعا على زيتونة في قطع النقود.
ويغزو الزيتون إيطالية والبروفنس باسم الديانتين، ويبلغ لنباردية في عهد أباطرة الرومان، وذلك حينما كانت السفن الكبيرة تنقل أوساق زيتون من طرابلس إلى رومة، وكان ديمقرطيس وبليني يقولان موكدين إن صحتهما تتوقف على الزيت. ولما سأل أغسطس الفيلسوف المئوي بوليون روميليوس عما يصنع للمحافظة على حسن صحته، أجابه هذا الشيخ الحكيم بقوله: «عليك بالخمر والعسل داخلا وبالزيت خارجا.»
وتقول إحدى القصص إن أقدم أشجار الزيتون حافظ على شبابه مع ألوف السنين. ومما يثير الدهش ما يرى في الغالب من مشيب أشجار الزيتون الشابة بما يبدو من تخشن قشرها وكثرة عجرها
79
كشراسة بعض الشباب الذين يرغبون عن إظهار حنوهم، وبما أن أشجار الزيتون تشذب في فرنسة على علو ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار فإنها تتسع مقدارا فمقدارا، فيضيق بذلك ما بينها من مساوف كانت صالحة لزراعة الحبوب والكرمة. ويظهر من جميع المناظر التي يزينها شجر الزيتون جو هادئ رعائي داع إلى الراحة أكثر مما إلى النزهة خلافا لغابات الشمال، ويوحي ما عليه الأشجار من شكل القبة بمنظر بناء روماني، على حين يلقي السرو أو الصنوبر في الروع مشاعر غوطية متعالية.
وكما أن شجرة الزيتون تصبر على الجفاف وترتضيه يتصف ابن البحر المتوسط بصفاء أفكاره وجلاء مشاعره وبساطة عواطفه، وهو لا يكون ضجورا ولا كئيبا ولا عبوسا كأهل الشمال، وما تنطوي عليه الكتدرائية القوطية من صبابة إلى الوطن أمر غريب عنه، وقد ظلت نصرانيته نصف وثنية. وإذا كانت الأرض خصيبة رطيبة أخرجت زيتا رديئا. والواقع أن أطيب زيتون ينضج حول بحيرة غارد هو ما ينتج على ردم الصخور في أطراف حقول الجليد، ويعد هذا نصرا للجنوب على الشمال، حتى إن السهل بالغ الثقل على الزيتون الذي يسر بالمنحدرات حيث يجدد الهواء وتسيطر أشعة الشمس كما يسر بالأرض الكلسية المسامية. وتنضج ثمرة الزيتون على شجره في سبعة أشهر من أشهر الحر وعدم المطر، وذلك مع فيض لا يؤثر فيه ما قد يقع بعد ذلك من نزول ماء ولو طال أمده.
وبما أن شجرة الزيتون أقدم الأشجار وأغناها فإنه يقبل كل ما يصدر عنها، حتى ما يبدو غريبا، شأن الشائب العبقري. ومن ذا الذي يتوقع أن يرى زيتونا بريا، يرجع أصله إلى جبال درن على ما يحتمل، فينمو أملس بلا شوك مع فروع مدورة كالذي يرى في مزارع الزيتون بميورقة أو الجزائر؟ وعلى العكس يشتمل الزيتون المغروس على قشر خشن وغصون مربعة الزوايا، وإليك إذن شجرة رائعة محصت بتطعيم من شجرة أخرى شائكة. وقد ورث بعض «القبائل» في شمال أفريقية صناعة التطعيم من كهان وثنيين كانوا قد تعلموها من تجار أفريقيين قبل ذلك بزمن طويل.
ويتم ذلك الاصطفاء في شجرة الزيتون ببطوء، وذلك على مرقاة ما تصنعه أو تعانيه هذه الشجرة الطويلة العمر كثيرا. وإذا ما غرست زيتونة برية في الثامنة أو العاشرة من سنيها، اقتضت مثل هذه السنين حتى تبلغ الغاية من الإنتاج. وتقلم الأشجار في فرنسة في كل عامين تسهيلا للقطف، وينتظر أهل الجزائر عشرين عاما في بعض الأحيان، وهم عندما يسألون عن زمن تقليم الشجرة يجيبون مع الابتسام بأن آباءهم شذبوها مرة واحدة أيام صباهم. وتجد من الرجال في تونس من يتخذون التقليم مهنة لهم، فهؤلاء يشذبون شجرة الزيتون حتى أصلها آخذين ما يقطعون أجرا لهم، وهم يعطون نقدا في الوقت الحاضر نفعا للمالك وللشجر لا المشذب. ومن شأن بنية الزيتون القوية احتمال كل شيء ، احتمال التقليم الطائش وعمق الكلوم
نامعلوم صفحہ