ومن كان ذا طبع ممتاز استطاع أن يكون لنفسه شخصية وأن يفر من تأثير العالم، ويظل أمر هذا البحر شاذا لسبب آخر، لقلة سواعده، ونغفل عن البحر الأسود الذي لا تؤثر سواعده الكثيرة المهمة في اقتصاد البحر المتوسط. ويصب في البحر المتوسط نهر واحد من أعظم الأنهار، يصب فيه النيل الذي ليس له في مصبه سوى نفاق قليل، ولا يتلقى البحر المتوسط غير أربعة عشر في المائة من واحد في المائة من مجموع مياه الأنهار بأوروبة ، ولا يعرف، على العموم، غير عشرين من الأنهار الخمسين سبب قلة أهميتها، وما تأتيه به الأنهار الثلاثة الرئيسة، الرون والبو والنيل، لا يعدل غير ثلث ما يبخر منه؛ وإذ إن البخر أهم من الأمطار فإن سطح البحر المتوسط يظل دون سطح الأطلنطي مستوى.
إذن، على الأطلنطي، أن يصب، دوما، مقادير عظيمة من الماء في ذلك الحوض الأدنى، ولكن هذا ليس من الكفاية ما يتوازن به المستوى وما يتعادل به الملح.
وهكذا يكون ماء البحر المتوسط أكثر ملحا، ومن ثم أعظم كثافة، من ماء المحيط الأطلنطي، وذلك على عرض واحد، وتعرف هذه الظاهرة مقدارا فمقدارا كلما ابتعد عن جبل طارق إلى الشرق؛ وإذ يغدو الماء أشد ثقلا والضغط أكبر قوة، حتى في العمق الضعيف، فإن ذلك يؤدي إلى مجرى تحت سطح البحر سائل من جبل طارق، ومع ذلك فإنه يدخل من الماء دوما أكثر مما يخرج منه.
وتختلف السنن التي يجري ويتنفس بها المضيق الثاني؛ أي الدردنيل الذي يسمى هلسبون أيضا، اختلافا كبيرا، وفي ذلك يرتبط أجمل أقاصيص الأغارقة الذين كانوا يقدسون للحب، لا للألم، والذين كان هواهم يزدهر بآلهة لا يحصيها عد بدلا من تحديده وتقييده بإله واحد غير منظور.
فهنالك عاش ابن الغرام دردنوس الذي هو ولد لزوس وبلياد إلكترا، وهنالك كانت الكاهنة هيرو تستقبل حبيبها لياندر في كل ليلة، ومن هنالك فر الأخ والأخت، فركسوس وهله اللذان هما من أنصاف الآلهة، على ظهر كبش ذي جزة ذهبية، ولكن، وا حربا!
20
تسقط هله في المجرى وتغرق، ومن هنالك قام الأرغونوت بسفرهم ذي المهالك نحو كلوشيس حيث وقف فركسوس تلك الجزة الذهبية التي هي أداة شهواتهم على أحد المعابد، وما أعجب ذلك العالم الذي كانت وحدة الوجود تجد فيه رموزا لجميع العناصر والذي كانت الآلهة تعيش فيه مرئية كثيرة بين الآدميين! وكان جميع أولئك من صنع خيال أناس ذلك الزمن، فكان الأبطال وأنصاف الآلهة والآلهة لدى الأغارقة عنوان مراق لتوق واحد.
والدردنيل في الشمال الشرقي يعين إيدروغرافية البحر المتوسط، ويتوازن كلا المضيقين، اللذين يغلقان البحر، بما يقضي بالعجب، فهنا، في بزنطة التي دعيت فيما بعد بالقسطنطينية فتسمى استانبول في الوقت الحاضر، تنفذ الحضارة الآتية من العالم الآسيوي القديم، وهنالك من جبل طارق ندخل العالم الجديد.
ويعد البحر الأسود الذي ينفذ إلى البسفور بحيرة داخلية، وهو إذن لا يشعر بتأثيره بمثل قوة الأطلنطي في جبل طارق، وهو يمثل من بعض الوجوه دور الأخ الثالث الذي يعيش هادئا في عزلته مع ثباته على أوضاعه تجاه أخيه الصغير ومع بقائه قادرا على فرض مطاليبه عليه بغتة، وهو إذ كان يخرج من بحيرة عذبة فإنه يجري جريا سطحيا قليل الملح إلى البحر المتوسط على أن يتلقى منه مقابلة ماء كثير الملح بمجرى تحتاني.
وتعين تلك المبادلة بين شخصين مختلفين حياتهما الباطنية مع محافظة على حسن الجوار، وتبدو سرعة المياه، وإن شئت فقل سجية المياه، من التباين. ويبلغ ما يأتي به البحر المتوسط نحو الشمال من البطوء، ما تجب معه مدة ثلاثة آلاف سنة لملء البحر الأسود لو كان فارغا، وما كان من نقص الأكسيجن في البحر الأسود الفقير ملحا، لا يسفر عن غير تغذية حيوان عادي، فكان هذا سببا في الحط من صيت البحر الأسود حتى في زمن أوميرس، وذلك إلى أن ضيق المضيق وقلة عمقه يعجلان سرعة جريان السطح الذي يسيل إلى البحر المتوسط. وفي البسفور لا يزيد العمق على ثلاثين مترا في كثير من الأمكنة فيكون الجريان من السرعة ما يضطر صيادو السمك معه إلى جر مراكبهم بحبال على طول الشواطئ لكيلا يجرفها المجرى.
نامعلوم صفحہ