وأنمار نحو الشمال، وتوجد هياكل عظمية لأسود بالقرب من فلورنسة، ولفيول في مالطة، ولبقر ماء في أقريطش، ونحن، الذين يربطون اسم أقريطش واسم مالطة بسلك أريانة الأحمر وبجبال السفن الإنكليزية، ننعم النظر، مع دهش ساخر، في سيطرة أبناء السودان أولئك على الميدان الممتد أمام بلازو فيشيو، وفي اغتسال بنات النيل أمام مسرح كنوسه العظيم، وفي فيل يرفع أثقالا هادئا فهده طيار طلياني في ميناء مالطة.
أليس من المنعش أن يشعر بحلقة سلسلة لا نهاية لها؟ وإننا حينما نجد على منحدرات إتنة، وعلى سبعمائة متر، صدفا شاهدا على وجود بحر في هذا المكان قديما، وإننا حينما نجد اليوم آثارا إغريقية قديمة تحت الماء، نرى الحق بجانب رئيس بلدية مدينة واقعة على ساحل تسالية لمنعه حديثا، كما يروى، شيد بناء للبلدية على الشاطئ زاعما غمر البحر هنالك في ألف سنة.
وفي كل مكان، وعلى الشواطئ وبين الجزر، تدل آثار انفتاق على الطوفان الذي أسفر عن شاطئ البحر وجزائره، ولم تنقطع هذه الانقلابات تماما، وهي ما انفكت تشكل تلك البقعة، وما حدث من استبار خليج قابس (سرت الأصغر) أظهر استدارات القارة التي غابت في هذا المكان من البحر في دور من أدوار التاريخ على الأرجح، وترتفع جزيرة بنتلرية من عمق ألف متر فوق مستوى البحر لتبلغ من الارتفاع 800 متر، وكان هذا من عمل بركان استيقظ بغتة سنة 1891 فرفع ساحل تلك الجزيرة الشمالي في أقل من ساعة على ما يحتمل، وكان النيل يصب في البحر من ناحية الشرق مصلحا أرض فلسطين، واليوم لا تزال ترى في جنوب الكرمل من التماسيح ما صار نادرا في النيل الأدنى، وبالأمس قطع في غرب قلورية
15
ما تحت سطح البحر من أسلاك الهاتف بقوى غير منظورة.
ولا يزال صوت البراكين يسمع مرهوبا في البر، ويمكننا أن نتمثل ما حصل من تخريب في الماضي عند مقابلته بما وقع من فورانات في الزمن الحاضر، ومع ذلك كان لهذه الفورانات نتائج نافعة، وذلك لأن الينابيع الحارة والأرضين الخصيبة التي تزدهر عليها أشجار الزيتون والكرمة في عالم البحر المتوسط بركانية المصدر، فالثمار تخرج من الرماد كما تخرج الأفكار الجديدة من الثورات، ولدينا وثائق ومواقيت منذ بدء أقدم التواريخ.
وفي سنة 425 قبل الميلاد حدثت أول «زلزلة» في قناة جزيرة أوبه، وفي سنة 1894 بعد الميلاد حدثت آخر زلزلة فيها، ولشد ما يذكرنا هذا العود الجديد بعود ما نشاهده اليوم في ذلك البلد من الفتن! وكذلك نقرب بأفكارنا فناء البشرية من فناء العناصر، فيكون لنا بذلك شيء من الصحو، وذلك عندما تحدث البراكين جزرا بأسرها وترفعها من البحر لتعود فتبتلعها مجددا كما أسفر عنه ثوران وقع سنة 1831 في جنوب صقلة.
وظل بعض العناصر مشابها لبعض في غضون ألوف السنين، وقد تضحك الآلهة حين اطلاعها على إيضاحات عن غابر الأزمان في كتب لأعضاء المجمع العلمي، فيقررون تصحيح هذه النظريات في الغد على ما يحتمل. وفي الوثائق القديمة ذكر لكثير من الفيضانات، ووصف لغرق مدينة إليس، القريبة من كورنث، مع سكانها، كما حدث لساحل ليمني
16
الشرقي، وبيان لسترنبولي الذي هو بركان يدوي بلا انقطاع ولا يخبو أبدا، وما فتئ هذا البركان يزيد حجما منذ القرون القديمة، وهو شيخ البراكين لهذا السبب، وهو يشابه بدخانه الثابت على شكل المظلة وهدره الدائم شائبا راغبا في إلقاء خطبة من غير أن يجد ما تقتضيه من الكلمات. وقد عانت الأندلس وقلورية زلازل عنيفة كما عانى المنحدر الجنوبي من جبل برناس، غير أن جمال أثينة ظل سليما تقريبا، والرجال هنالك هم الذين قوضوا حتى ما صانته العناصر.
نامعلوم صفحہ