وما وجه إلى النصارى المرتابين من مظالم محاكم التفتيش في البداءة أصاب اليهود بعد فتح غرناطة. وقد صارت محاكم التفتيش نظاما إسبانيا خالصا؛ وذلك لأن الملك فرديناند عاد لا يود أن يقاسم البابا ما يصادر من الأموال. وقد نظم الاضطهاد الإسباني تنظيما مستقلا استقلالا تاما؛ وذلك لأنه كان يسمح في رومة بالكتب الممنوعة في إسبانية مثلا، وكانت دولة البابا تبيع العفو عن العقوبات فصرح الإسبان بأن الثمن غير عال فطالبوا بجعله ضعفين، وكان المارانوس؛ أي اليهود المهتدون قسرا، يشغلون الرأي العام. ومن العبث أن أوجبت الغريزة الشعبية وقوع اضطرابات في مدن كثيرة، ومن العبث أن قتل رئيس محكمة التفتيش في سرقسطة أمام المذبح من قبل نبيل، فقد نظمت محاكم التفتيش تنظيما واسع المدى، وصار يقوم بشئونها وكلاء لا يحصيهم عدد، وهكذا كان يظل ابن الوطن المنعزل محروما حقوقه فلا تحميه الدولة تجاه هذا النظام الخفي البالغ القدرة. وكانت أحكام محاكم التفتيش لا تستأنف، وكان لا يوجد مرجع يلجأ إليه إزاء سلبها ونهبها، وكان موظفو التركمادا، وكان موظفو قاضي التفتيش الأكبر هذا، يجوبون البلاد فيقتلون الناس ويصادرون أموالهم من غير أن يكونوا مسئولين تجاه أي كان، وكان الحقد العنصري وحسد التوفيق عاملين في هذه التصرفات، وكانت مناهج التركمادا تقوم على الشرطة الخفية وعلى جيش خاص وعلى عيون ومحاكم سرية وعلى القتل، وقد أصدر التاريخ حكمه الساحق ضد محاكم التفتيش قائلا إنها ماحقة للحرية، ويلوح أن نظام محاكم التفتيش قد بعث في أيامنا، كأن نور الحرية لم يسطع ولم يلمع في خمسة قرون منذ ذلك الدور المظلم! ...
9
أدت الحضارة الإسبانية إلى قيام مبان كثيرة على شاطئ البحر المتوسط، ولا يزال يرى في برشلونة وفي مدن أخرى بناء البرصة واللونجا؛ أي القصور القوطية التي تنم على العجب المدني لدى تجار الإسبان وملاحيهم، وما فتحه هؤلاء من أسواق وما جمعوه من آثار فنية أكثر إمتاعا بدرجات من تنازع الأسر المالكة في أنجو وأرغونة وتراثها وما كان يؤدي إليه هذا من إخلاء صقلية وسردينية واستردادهما.
ويعد القشتالي مثال الإسباني الخالص، وكان الهيدالغوس؛ أي الأمراء الإقطاعيون، يعيشون في قصورهم القائمة على الهضبة العالية في وسط شبه الجزيرة فيجوبون الريف على طول الأنهار الثلاثة الجميلة ركبانا. وكان هؤلاء الأمراء الإقطاعيون فروسيين مختالين كسالى، ومع ذلك كانت المجالس القومية البرغشية تعمل بجانبهم منذ القرن الثاني عشر؛ أي قبل أن تنال إنكلترة دستورها المعروف بالمغناكارتا، ولم ينشأ ذلك عن حب للشعب، وكيف اعترف الأمير الإقطاعي بذلك؟ كان اعترافه به نتيجة ضرورة تسليح الشعب ضد العرب، بيد أن ذلك كان خاصا بالداخل غير شامل للساحل.
وغير ذلك ما حدث في الشرق حيث اتحد قطالونيو القرن الثاني عشر القاطنون في الشاطئ بالأرغونيين المقيمين حول مجرى الإبره الفوقاني مؤلفين مملكة واحدة معهم، وكان كل شيء هنالك موسوما بسمة البحر المتوسط؛ أي متجها إلى التجارة، وكانت مستودعاتهم في مرسيلية تزيد أهمية كلما دفعوا إلى ميدان جنوب فرنسة السياسي. وكان الأشراف يدعون «هونبرريكوس» لمزاولتهم أمور التجارة بدلا من قضاء أوقاتهم في قصورهم خالين من العمل. أجل، كان هؤلاء الأشراف من الأمراء الإقطاعيين، غير أن البحر اجتذبهم، وما كان من ظهورهم أصدقاء في الشواطئ البعيدة جعلهم أكثر استقلالا تجاه الملك والكنيسة، ومن ذلك أن حالفت شركاتهم المعروفة ب «شركات قطالونية الكبرى» بزنطة حوالي سنة 1300 وملكت الأتيك سبعين عاما.
ومن حظ هؤلاء الناس أن استولى العرب على بلدهم فامتزجوا بحضارة لم يطردوا ممثليها إلا بعد قرون؛ أي بعد أن اقتبسوا جميع عناصرها المنتجة، وذلك كمستعمرة زنوج تطرد سادتها اليوم، وذلك مع الفارق القائل إن العرق الضارب إلى سمرة هو الذي جلب إليهم الحضارة. وكان الملوك أنفسهم مثقفين في القسم الشرقي هنالك، ولو اختير ألفونسو الحكيم ملكا ألمانيا في فترة ملك فذهب إلى الشمال وقبض على زمام الحكم فيه لكان لدى الألمان من أنصاف البرابرة عاهل مشترع شاعر فلكي ذات حين على الأقل، ويبدو ألفونسو في إحدى التحف الصغيرة جالسا على عرش كالملك سليمان.
وقد أوصى خليفة ألفونسو بالتسامح تجاه العرب ورفع العذاب عنهم. وقد وضع مجلس الأمة التاج تحت الرقابة الوثيقة حوالي سنة 1300 كالبرلمانات الحمقى في أكسفورد، وقد أمكن مجلس الأمة الأرغوني أن يصرح في ذلك الحين ب «أن ملك قشتالة يملك رعية وأن ملك أرغونة يملك أهلا أحرارا»، ومن ثم يدرك سبب انحياز قشتالة إلى فرنسة وسبب ميل أرغونة إلى إنكلترة في حرب مائة السنة. وكان جميع دول الغرب القومية يتشابه من بعض الوجوه، وكان جميعها يستند إلى مبدأ سلطان الدولة، وكان لجميعها إدارة مركزية وسياسة اقتصادية متماثلة، وكانت دول موظفين ذوي مشاعر برجوازية فيعنون بجميع طبقات المجتمع ويبطلون امتيازات كثيرة، ونظام للدولة مثل هذا كان ينفصل عن روح القرون الوسطى بفتائه وجدته.
وفي الغرب يولي الشعب البرتغالي الملاح ظهره شطر البحر المتوسط ويشغل أرضه الراهنة تقريبا، وتصبح أشبونة مركزا تجاريا مهما منذ سنة 1400 فتنزع من البندقيين سوق الأبازير الأوروبية إصدارا لها نحو الشمال. وكان البرتغاليون يزورون جزر كنارية وآصور قبل قرن، ثم نظم هنري الملاح أسفارا عظيمة لارتياد أفريقية الغربية المجهولة، ويحمل أحد الملوك اسم إمانويل السعيد الوحيد في التاريخ حوالي سنة 1500 فيقيم إحدى إمبراطوريات العالم الاستعمارية الكبرى نتيجة لأسفاره البحرية، ويعود نصف هذه الإمبراطورية إلى إسبانية.
ويملك فرديناند وإيزابلا، ويدعوان ملكين، مدة خمس وثلاثين سنة معا، وتموت إيزابلا في الثالثة والخمسين من سنيها.
ولا نظير لهذا الزواج في التاريخ، وليس الأمر زواج أميرة وارثة برجل إنتاجا لأولاد، بل زواج وارثي بلدين متعاديين توحيدا لمملكتيهما: قشتالة وأرغونة، وكان الزوجان يملكان متحدين تارة ومنفصلين تارة أخرى مع مساواة تامة في حقوقهما ومسئولياتهما، وكان لهما من الوقت الكافي ما ينجبان معه بالولد وما يكون لهما به علاقات غرامية على ما يحتمل من غير فصم لعروة اتفاقهما، وقد أمكن هذا بزواجهما قبل الأوان وباقترانهما في السابعة عشرة والثامنة عشرة من العمر وبدوام ذلك النكاح، وقد أثار هذان الزوجان فضول المؤرخين مع أن الزوج كان غير ذي جاذبية كبيرة.
نامعلوم صفحہ