مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الجزء الأول
إلى المنار
اكتشاف البحر المحيط
الجزء الثاني
إلى المنار
غارة البرابرة
الجزء الثالث
إلى المنار
آخر الليل
الجزء الرابع
إلى المنار
البحر المهمل
الجزء الخامس
إلى المنار
مكافحة الدخلاء
الخاتمة
إلى المنار
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الجزء الأول
إلى المنار
اكتشاف البحر المحيط
الجزء الثاني
إلى المنار
غارة البرابرة
الجزء الثالث
إلى المنار
آخر الليل
الجزء الرابع
إلى المنار
البحر المهمل
الجزء الخامس
إلى المنار
مكافحة الدخلاء
الخاتمة
إلى المنار
البحر المتوسط
البحر المتوسط
مصاير بحر
تأليف
إميل لودفيغ
ترجمة
عادل زعيتر
إلى صديقي
إميل فايانكور
الكندي الفرنسي الكبير
المؤلف
مقدمة المترجم
نقلت إلى العربية منذ سنة كتاب «النيل» للكاتب الألماني الكبير إميل لودفيغ، وقد قلت في مقدمتي: «وللنابغة الغربي هذا كتاب «النيل» وكتاب «البحر المتوسط» ترجم فيهما للنهر وللبحر كما ترجم للعظماء، فأكسبهما من الحياة ما يخيل إلى القارئ معه أن الجماد من بني الإنسان، و«النيل» هو الذي أعرضه الآن على القراء.»
والواقع أنني بدأت بترجمة «البحر المتوسط» قبل نشر «النيل» فأتممت نصفها في «نابلس» وأتممت النصف الآخر في «القاهرة»، و«البحر المتوسط» هو الذي أقدمه اليوم إلى القراء.
وقد سلك المؤلف في تاريخ البحر طريقا غير الذي سلك في تاريخ النهر، فالمؤلف، وإن رأى إمكان وصف سيرة النيل كما توصف حياة بطل من ولادته إلى مماته، وجد البحر المتوسط ميدان صراع روائي بين أممه، ووجد معارضة النيل الفحل الذي يشق طريقه من خلال الصخور والصحارى بهذا البحر الأنثى، ووجد الجميع يبغي حيازة البحر المتوسط فينتقل من سيد إلى سيد.
والبحر المتوسط هو الذي ظل قرونا كثيرة مركزا للحضارة العالمية التي حمل لواءها اليونان ثم الرومان ثم العرب، والبحر المتوسط هو الذي كان أداة وصل بين تمدن الشرق وتمدن الغرب، ولم يخسر هذا البحر مكانه في عالم التجارة إلا بعد اكتشاف «رأس الرجاء الصالح» ثم استرد مقامه التجاري بعد حفر قناة «السويس».
وما فتئ الشرق يستهوي إميل لودفيغ ويجتذبه، فأنفق عشر سنين
1
في وضع «النيل»، وأسبغ على النيل من الروعة والقوة كما أسبغ على الأبطال والعظماء. ولودفيغ قد قضى سنين كثيرة على شواطئ البحر المتوسط التي أحبها، ثم وضع عنه، في ثلاث سنين، هذا السفر الجليل الذي أقدم ترجمته، فيكون قد اجتمع البحر بعد النهر لدى القارئ العربي.
عادل زعيتر
القاهرة
مقدمة المؤلف
مهداة إلى من لا يحبون المقدمات
مصاير البحر تعبث بسطحه وتلهو بشواطئه، غير أنه لا تاريخ لاتساع مائه العقيم، وفي البر تقع المعارك، والوقائع لا تنال الأمواج إلا حينا بعد حين، ومع ذلك، وفي غضون المعارك والفتوح يسمع هدير البحر ويرى التماع أمواجه الزرق دائما، وتعين الزوابع والسحب أعمال الناس ومصير الأسفار الناجع والفاجع، ولكن الأشرعة والسكانات
1
والمراسي والمناور تسوق القارئ، دوما، إلى العنصر الذي يكتنف الجميع، وتنعش الصخور والأشجار والرياح والأسماك ما هو منثور في هذا الكتاب من الجزر.
ويتطلب تاريخ البحر أسلوبا غير ما يقتضيه تاريخ النهر، ويمكن وصف سيرة النيل كما توصف حياة بطل من ولادته إلى مماته، ويغدو البحر الذي يود الجميع أن يسيطر عليه ميدان صراع روائي بين الأمم التي تعيش على شواطئه، ويعارض النهر الفحل الذي يشق طريقه من خلال الصخور والصحارى بالبحر الأنثى، وكل يبغي حيازته، شأن هيلانة فيما مضى، وهو كهيلانة ينتقل من سيد إلى سيد.
وبين البحار يظل البحر المتوسط وحيدا عنصرا ومركزا، والبحر المتوسط بحيرة طبيعة، وهو ليس بحرا واحدا مع ذلك، وذلك لأن للمضايق التي تقيد حريته؛ لأن لجبل طارق والدردنيل، مصاير درامية،
2
وقد غير المضيق الثالث، وقد غيرت قناة السويس، حياة البحر المحيط، ولكن في زمن حديث جدا.
وغدا سبيل الحضارة، وغدا البحر المتوسط، مركز التاريخ الروحي الذي ظهر من العالم الهمجي في العالم الغربي، وهنالك نشأت جميع أدياننا وفلسفاتنا وعلومنا وفنوننا وتحولت وكافحت ونضجت، ومن هنالك اقتبست نفوس أوروبة وأذهانها طرز حكوماتها وأفكارها وفنونها، ومن البحر المتوسط أيضا أتت عقائد أمريكة ودساتيرها ومعابدها، ولم يتجه خيال الشعوب نحو البحار المحيطة الأخرى إلا بعد الاكتشافات الكبرى. ولذا سيكون لقصتنا لون آخر منذ سنة 1500؛ أي من الجزء الرابع، فيعنى بالتجارة والبيع والشراء أكثر مما بالحركة الذهنية؛ وذلك لأن ذلك التاريخ الذهني الطويل لا يزيد مع القرون بل ينقص في كل دور، وللتاريخ القديم في البحر المتوسط أن يكون أطول مما هو عليه ثلاث مرات؛ ولهذا التاريخ في الرسم الابتدائي أن يوسع بأكثر مما تجده هنا.
ومهما يكن من أمر فإن من المتعذر أن يؤتى ببيان كامل، فتاريخ أمم الشاطئ وحده يتطلب ثلاثة مجلدات، وما أكثر الملوك الذين لم يذكروا في هذا الكتاب! ومن العبث، في الغالب، أن يبحث القارئ فيه عن المفضلين لديه، ولا يؤلف كتاب ك «النيل» إلا رمزا، وهو يهدف إلى حث القارئ على دراسة بعض الأدوار عن كثب في الكتب الأخرى لعدم وجود ما هو منظور في هذه الصفحات، وما قد يرغب فيه من منظور يجده القارئ في الكتب الأخرى أو في المعلمات،
3
لا في هذا الكتاب. وتختلف العاطفة والنفرة باختلاف إرادة المؤلف وفلسفته وتكوينه، وبما أنني قضيت سنين كثيرة على شواطئ البحر المتوسط التي أحبها وأحب شعوبها فإنني وصفت بحري المتوسط الذي قد ينكره الآخرون، وليس هذا كتاب سياحة، بل هو الطبيعة والتاريخ كما أراهما. وقد كتب أقدر المؤرخين عن وحي باطني غير مصرحين بذلك من المقدمة، والأغارقة هم الذين عينوا رسمي ما دمت مدينا بكل شيء لآلهتهم وفنهم وحكمتهم.
وإذ إن تاريخ البحر المتوسط حتى القرون الوسطى هو تاريخ أوروبة من الناحية العلمية، فإن من الممكن أن أطبق هنا من التاريخ الوصفي ما كانت تفصيلاته غير مألوفة منذ زمن طويل. ولما اخترت في سنة 1919 ذلك الأسلوب العصري في التراجم كان الفكر الأساسي الذي يساورني يقوم على حتمية العوامل البشرية، ومن ثم على ارتباط كل من الحياة الخاصة والحياة العامة في الأخرى وعلى إيضاح كل منهما للأخرى. وكان يلوح لي أن اكتشاف الإنسان خلف أعماله أمتع من أعماله نفسها، وإذا كان تاريخ الملوك قد درس أكثر من دراسة تاريخ العمال فلعدم كفاية ما هو موجود من الوثائق عن العمال لا ريب.
ولا نرى ما يسوغ دراسة التاريخ إذا لم تهدف إلى استخراج ما ينطوي عليه كل حادث من رمز، والرمز وحده هو المهم، وذلك لأنه مرآة لما بين منازع الناس وقوى القدر من تنازع، وذلك لأنه يفرض مقابلة بين زماننا وانتصاراتنا وهزائمنا في حياتنا العامة كما في حياتنا الخاصة، ومن لم يكن في صميم الإنسانية التي نستدعي ظلها فإنه لا يطلع على غير الوقائع ولكن من دون أن يستنبط شيئا خصيبا إنماء لنفسه.
ومتى شعر القارئ بالأهواء التي أثارت «الأبطال» كما تثيره، تمثل رجل التاريخ وفحص نفسه سرا ليعلم كيف يسير لو كان في مكانه، غير أن تغيير المكان هذا يغدو ممكنا بفضل المؤلف الذي يتمثل ذلك الرجل مقدما. وإذا ما استطاع القارئ أن يستفيد من مقادير الرجال والأمم في سلوكه الخاص على ذلك الوجه، أمكنه أن يقابل بين قدره الخاص وأقدار رجال التاريخ، وهنالك يصير التاريخ مستشاره.
وقد حاولت تطبيق هذا البيان، الذي يجعل من العامل الإنساني قطبا للتاريخ، على حياة الأمم مع مراعاة ثلاثة مبادئ، وهي: أن كل حركة روحية ذات معنى، فالأنبياء والمشترعون والمفكرون والمتفننون عوامل جوهرية في التاريخ، وأنه «لا أصل للسياسة بلا تاريخ، ولا ثمرة للتاريخ بلا سياسة.» فهذا هو من الأهمية ما لا يزال مؤثرا في زماننا، وأن من الضروري إنعام النظر في العظماء، فإذا كانت المآثر خاصة بمتحف التاريخ فإن أكابر الرجال، فإن العاملين والمفكرين، قوام أفئدة الناس وعقولهم.
وتبقى آثار الذهن والفن بعد مبدعيها، ويمضي الملوك وأقطاب السياسة والبابوات والرؤساء والقواد، الذين أعاروا أدوار التاريخ من أسمائهم، وما عملوا أو لم يعيشوا بعدها غير زمن قليل، ولم تبق واحدة من الإمبراطوريات الأجنبية التي تتعب حولياتها ذاكرة التلاميذ.
وصارت جميع المعاهدات والمحالفات قصاصة ورق، والروح التي صدرت عنها وحدها، والرمز الذي تمثله وحده، هما اللذان بقيا، ويعد النفوذ الإغريقي والنفوذ النصراني اللذان مارسهما الإسكندر والصليبيون في آسية من الأهمية كنفوذ العرب في أوروبة، ومع ذلك تبدو لنا صورة المعارك الماضية من المهازئ التي لا يستفيد منها حتى الضابط الذي يدرسها، وتدور معاهدات السلم المختومة رسميا حول ولايات أو مرافئ خربت منذ زمن طويل أو غيرت مالكيها.
وما الذي يستحق الذكر إذن؟ ليست معارك البحر المتوسط التي قام بها تمستوكل وأغريبا ومحمد وسليمان ونلسن وغريبالدي، ولا معاهدات السلم التي عقدها تيودوز وغريغوار وفليب وكافور، وإنما الذي يعين أهمية أحد الأدوار هو الذي يتركه هذا الدور كالحكمة والفن ومرآة جيل ساطع أو خلق رجل عظيم، وللأكروبول وحده من الشأن في حياة البحر المتوسط ما هو أعظم من تاريخ مراكش بأسره، وإذا وجد تاريخ آخر غير تاريخ الذهن فإنه يتجلى في تصوير السمات الإنسانية جوهرا وتصوير أخلاق أكابر الرجال.
وفي ذلك سر بلوتارك الذي هو من أعظم مهذبي الإنسانية، ولا ينبغي أن يؤلف تاريخ العالم وفق المباحث العلمية الحاسمة، بل في سبيل فتن ألوف القلوب التي تهزها تلك العوامل، وسيوضع بعض العظماء الأفذاذ المعتزلين الذين وجهوا التاريخ تحت الرصد كما في كتبي السابقة، ولو لم يقتل قيصر وهنري الرابع، ولو مات أتيلا وشارلكن ولويس الرابع عشر قبل تاريخ وفاتهم، لاختلف لون قرون بأجمعها، أولم نر بأعيننا كل ما يتوقف على حياة ثلاثة رجال أو أربعة رجال؟ أجل، إن الاقتصاد السياسي يقدم بأرقامه معطيات مهمة، ولكنه لا يسفر عن نتائج، وتعوزنا الإحصاءات الصحيحة في بدء هذا الكتاب، ولم يبرز اقتصاد البحر المتوسط وتجارته محكمين إلا من القرن التاسع عشر، وذلك إلى أن الأقاليم والأنهار والمنتجات عرضت معينة لأخلاق مختلف الشعوب.
ويسفر هذا السفر عن خلاصة للسياسة العالمية، وهذا هو الرسم الذي جعل منه فردي آمن دوما، آمن في الماضي كما في الحاضر، بأن الروحي أفضل من المادي، ولكن مع النظر إلى ما في تحقيق هواجس المبشرين من بطوء، ولا يستطيع المصلح أو الفيلسوف أو الخيالي أن يصنع زمنه، وما بعض الرجال، كبركلس ومارك أوريل وصلاح الدين، إلا من الشواذ في بلاد البحر المتوسط، وأقطاب السياسة المفكرون، كمحمد، هم الذين رضوا بالأمور كما كانت فكتب لهم الفوز، ومع أن أفلاطون ودانتي أكبر من ذلك لم يتفق لهما مثل ذلك قط، وقد نسي الفاتحون الذين أهملوا الفكر كأتيلا. والواقع أن العظماء الذين ذكروا في هذا الكتاب جلبوا أفكارا إلى الأمم التي قهروها كما صنع الإسكندر، أو تلقوا دروسا من المغلوبين كما فعل بعض رؤساء الرومان والعرب، ومن بينهم من ظهر مشترعا كجوستنيان ونابليون، أو سائرا بالحضارة قدما كبعض البطالمة والبزنطيين أو بعض البابوات أو بعض رؤساء جنوة والبندقية. قال فولتير: «أطلق كلمة «العظماء» على الذين امتازوا في ميدان النفع والإنشاء، وأما الذين خربوا ولايات وفتحوها فهم من الأبطال فقط.»
ويستدعي هذا التاريخ مقابلة بالأزمة العالمية الحاضرة على الدوام، ولا نستطيع أن نتعلم شيئا من الثورات القديمة لا ريب، وذلك لأنها خاصة بحياة أخرى، ولكن مما يفيد أن نعرف الوجه الذي ألف به طغاة الماضي شيعتهم.
وترى المعضلة الديموقراطية هي التي تفرض علينا في كل مكان، وترى الطغيان يصدر في كل زمان عن ديموقراطية فاسدة، وذلك إلى أن يزول وفق تطوره الطبيعي، وتنطوي جميع الديموقراطيات على طغاة مكتومين مرهوبين، مشئومين في الغالب، ويوصف بعض كبراء أولياء الأمور في القرون القديمة بالجبابرة، وليست قيمة الديموقراطية بما تقوم عليه من التصويت العام، وإنما تقوم في أيامنا، كما في عصر بركلس، على ما تعرضه على ذوي المواهب من إمكانيات وعلى رقابة أصحاب السلطة، ولا مراء في أن الرجل الكبير القابض على زمام السلطان يسيطر على دوره في الوقت الحاضر كما في العهد الجمهوري بأثينة ورومة، ولا يعتم مع ذلك أن يغيب مغلوبا بعمله نفسه، وإني تجاه فيض الحوادث التي وقعت في خمسة وعشرين قرنا لم أنزع إلى توسيع وجهة نظرية عما قبل التاريخ، ولن يجد القارئ في هذا الكتاب دراسة حول ما حدث قبل التاريخ من الانقلابات في البحار والقارات، ولا حول مسألة عروق البحر المتوسط الابتدائية التي تتغير بتغير الموضة
4
كثياب النساء، وقد غدت معرفة أي العروق قد سيطر على البحر المتوسط، وأي القبائل التي كان ينتسب إليها ذلك العرق، من الموضوعات الجديدة التي يعنى بها من وقف نفسه من الأساتذة المعاصرين على خدمة الطغاة في الوقت الحاضر، ومن هم «الإيبريون البلاجيون، وشعوب اللغة الساتمية وأمم المثال الهندي الجرماني والحاميون الإيبريون» إن لم تكن هذه أسماء هزلية صادرة عن مختبرات علماء وصف الإنسان في الزمن الحالي؟ وأجدر بي أن أبين أن العروق لم تختلط في مكان ما اختلاطها في البحر المتوسط، فكان في هذا سر عبقريتها.
بيد أن مصدر وحي البحر المتوسط هو المنظر والنور والهواء والماء، وقد بدأت هذا الكتاب في فصل الصيف، وقبل الحرب في البحر المتوسط، وبالقرب من جزر إيرس،
5
ثم قاد منفاي إله غير معروف فجئت بلدا فردوسيا، وهنا تستقبلني روضة اختطها خبير كبير بالبحر المتوسط، اختطها ف. و. جلسبي، الذي حلم بالحدائق في جميع حياته، والجنة التي رسمها منذ خمسين عاما وفق تصميم مغنى
6
إيستي،
7
وهنا، حيث يفصلني عن البحر المتوسط ستة آلاف ميل، داومت على كتابة سفري وأتممته ناظرا إلى المحيط الهادئ.
وهكذا حبك ضرب من رياش غوبلن
8
ذو حيوانات وأناس وأشجار وجبال، وفيه تظهر لك رحلات أمم وقسيسون ومقاتلون وأنبياء وشعراء مع مرور ملاحين بينهم في كل مكان، ويمكن الناظر أن يختار ما يشاء هنالك، وبما أنني أحاول دوما أن أحول الأفكار الرمادية أو القرمزية إلى صور غريبة فإنك لا ترى في هذا الكتاب غير الصور.
وإني، بعد هذه الإنذارات حول الوقت الذي قد يلاقيه القارئ في البحر أدعو القارئ إلى ركوب سفينتي التي تتحول من زورق ذي مجاديف إلى مركب ذي أشرعة ومقاذيف فإلى جارية
9
شراعية ثم إلى باخرة دولابية، ولا ريب في أن تنوع المناظر هذا يحول دون سأمه في أثناء سفره على أجمل البحار، وطوافه بين جنوة ويافا وبين البحر الأسود وجبل طارق، ومن عهد أوليس
10
إلى زمن موسوليني.
لودفيغ
سنتا باربارا
كليفورنية
يناير سنة 1942
الجزء الأول
إلى المنار
يكمد ظل الزيتونة ويجلس الرجل على مقعد حافظا لعينيه من الشمس بحافة خويذته، فلم يعتم أن أبصر غير محتشم ما يلمع على سطح البحر الغربي من لون وردي، وفروع ذروة الشجرة وحدها هي التي لم تزل تسطع بلون أخضر رمادي غض منارة بأشعة الشمس المائلة عند الغروب، ويسفر وجه الرجل عن أسارير منقوشة بصرامة، والرجل بحار عصلبي،
1
والرجل كهل ما فتئ ينظر إلى الشمس وهي تغيب منعكسة على البحر.
والشجرة قديمة، وقد تكون بالغة من القدم ثلاثة قرون، وهي قد برزت في هذا المكان من بلد شبه همجي نتيجة بذر أتت به الريح من الغرب، وهي قد نشبت بالشاطئ فوق هوة وعرة، وفي صدوع صخور كلسية عالية سهل عليها أن تشقها مع الزمن لتنال أغذيتها من أعماقها حين نموها في الفضاء، وتقوم الساق الرمادية المخضرة بالأشنة
2
والمغضنة بألف فلع على تلك الصخور مع ميل، وتتخذ الشجرة وضع رجل عظيم فتبقى في شقها العميق غير ملتوية على الرغم من العواصف والزوابع، وذلك مع فيض أغصانها الفتية البادية من بعيد على الصخر.
وذلك لأن شجرة الزيتون من جذرها إلى ذروتها، حين تنقسم إلى أزواج متعاقبة يكون لأقدمها غلظ الساق، تمثل، على شكل ملموس، نسب فصيلة مسنة يمسك أجدادها بأجيالها فتتعاقب هذه الأجيال فتية خفيفة مهذبة مقدارا فمقدارا، وفي الأسفل، وبالقرب من المقعد، حيث يمكن مس قشرها الخشن المتشقق لم تظهر غير أثر فتاء، وفي الأعلى، وعلى الأطراف، حيث تميل إلى البحر، تتمايل على مهل كما لو كانت حية، كما لو كانت غضة! وفي أطراف فروعها الفتية الخضر الضاربة إلى بياض تهتز ثمارها الصغيرة السود الجاهلة حقيقة الساق التي تحملها جهلا تاما، والشجرة وحدها هي التي تشعر في عروقها القديمة بجريان العصارة الحية التي تنضج الثمار في أقصى أطرافها.
ويلوح أن الرجل، كان يتأمل البحر جالسا تحت الزيتونة منحني الكتفين متوكئ الذراعين، قد كون من جوهر الشجرة والمقعد، والآن ينهض متثاقلا مقرنا كالملاح، ثم ينفض حذاءه الأيسر تخليصا له من وريقات سقطت عليه ولصقت به لصقا خفيفا.
ويمر متأنيا ببيت أبيض صغير متوجها إلى برج عال، وهنالك، على طرف رواق غير منتسق وذي صنوبر على جانبيه منحن بفعل الرياح، يبرز منار على سطح البحر النير، أبيض كالبيت، ولكن مع قوة وإحكام، ولكن مع اختلاف غريب عن برج جرس، ولكن مع خطوط طويلة ونوافذ منضودة، أنشئ من أجل ما يحمل في ذروته، وكان ذلك بيتا مدورا زجاجيا خيالي المنظر، وكان يتوج البرج الطويل المسدس الأضلاع، وكان مغطى بسقف على شكل مظلة ذات التماع أحمر، لا ريب، حين فتاء البرج والصنوبر.
ويرقى الحارس في المنار رويدا رويدا، وأول ما يعنى به قبل خدمة الليل هو فحص المصباح الذي هو روح الجميع، وتطن أعقابه
3
على الدرج الحجرية، ويغدو صوت خطواته وارتفاع الدرج أمرا مألوفا لديه في غضون السنين العشرين التي قام فيها بتلك الخدمة بعد مغامراته في أثناء الحرب العالمية.
وفي الأعلى تؤدي مرقاة حديدية ذات ست عشرة درجة حلزونية إلى البيت الزجاجي، ولا يزال هذا البيت غارقا في فوران من الشفق أحمر وأصفر مع ألف انعكاس عابث في عدسة وجه المصباح الذي يستدق في أعلاه وفي أسفله كالكمثرى، ولا يكاد الجسر الضيق المستدير حول المصباح يدع ممرا للحارس، وهو يبدو نذيرا له بألا يسمن مع حياته الحضرية، ويؤدي ما في الجذل
4
من انحراف خفيف إلى نفوذ رأسه وذراعيه في فضاء داخل القفص الزجاجي الذي رفع في وسطه، وفوق حلق من النحاس الأصفر، مصباح كهربي عظيم كامد فاتر منتظر قيامه بخدمة، ولو ترك هذا المصباح وشأنه ما كان له نور أقوى من نور مصباح سيارة على قارعة الطريق، ولكنه يبلغ بما يعلل به من المواشير
5
قوة 150000 شمعة فيرى من بعيد، يرى من نحو عشرة فراسخ.
ومع ذلك يظهر النهار غير راغب في ترك حقوقه، ومع ذلك يظهر النهار راغبا في جعل نوره مائة ضعف، وتضيء الوجوه الألف للعدسة الضخمة وجه الحارس بأشعتها المحرقة الملونة بألوان قوس قزح، وتتحول يده إلى طيف سحري كثير الألوان حينما يرفعها لفحص حلقة تحت المصباح، والآن يخرج رأسه من القفص البلوري حذرا، وهو يحقق، بنظرات يلقيها، جلاء الألواح الزجاجية المجوفة وسطحها السليم، وهو ينفخ في موضع دفعا لخيط، ثم يقوم بجولة أخرى حول الجسر الضيق بين المصباح والنوافذ الخارجية.
ويشعر الرجل الذي يرفعه بمجيئه منذ زمن طويل، وهو يقابل بين مذكراته وأدوات النور والأدلاء والصفارة البخارية واللاسلكي، وهو يفحص الجهاز الطنان الذي يتصل المصباح به آليا عند وقوفه أو انكساره فجأة.
وترانا في المنار الكبير القائم بإحدى جزر إيرس والذي يرقب ساحل البحر المتوسط الفرنسي من وسطه في جنوب طولون الشرقي، وذلك منظر جاف روائي، واليوم، في شهر أغسطس، يبدأ عمل الليل في الساعة السابعة، حتى في النهار، حين لا يشعل المصباح، لا بد من وجود حارس هنا لتسجيل الضباب والزوابع وللإجابة عن الاستعلامات باللاسلكي، والآن يأخذ الحارس خويذته قبل أن ينصرف كما يأخذ من المنضدة كتابه الذي كان يمسكه في ساعات العمل.
وينظر الحارس الجديد إلى الساعة الدقاقة، ويفحص الألواح الأربعة أو الخمسة الموضوعة على المنضدة، ويلقي نظرة على العتلة والإبر والساعات الدقاقة والهاتف واللاسلكي، ثم يسجل في دفتر وقت بدئه العمل؛ أي الساعة السابعة والدقيقة الثالثة والعشرين، وكون الجو جليا وكون سرعة الريح ضعيفة، فيلوح سكون الليالي على البحر المتوسط في أول الأمر، وتلك مصلحة لا تتطلب غير حضور الرجل المسئول وسهره في ذلك المكان بين الأجهزة التي تعمل بلا ضوضاء.
ويلقي نظرة أخرى على جميع الأجهزة، ثم يذهب إلى المكتب الكبير، ويدير عاكس التيار الصغير، فبعد هنيهة تبصر شعاعا قويا من النور يلقى، بحركات بطيئة مستديرة، على المنظر الذي لا يزال ينيره النهار إنارة ضعيفة، وتسفر ضغطة يد عن إضاءة المصباح في الأعلى، ويدور شعاع النور الثاقب المصنوع حول نفسه أحمر أبيض أزرق في فترات قصيرة، في كل أربع ثوان، وذلك هو فنار
6
الجزيرة الذي تعرفه جميع السفن من الخارج أو تسجل أمره في يوميتها حينما تبحث عن مكان لها، ويكفي مصباح واحد كذلك ينعكس نوره بوجوه العدسة العظيمة ليرى الملاحون ألوانها المتقلبة على مسافة عشرة فراسخ من جميع الأطراف، وهذا اختراع فرنسي تم في أواخر القرن التاسع عشر، واليوم لا تزال فرنسة تنتج تلك العدسات حتى من أجل مناور كاليفورنية.
ويستوي الحارس على مقعده مرفها، ويضيء المنضدة مصباحه الصغير فيستطيع بذلك أن يرقب كل شيء، وماذا يصنع الآن؟ يقرأ، وهذا ما يقضي به حراس المناور لياليهم في جميع العالم، ومن النادر أن يقرءوا روايات، وهم يطالعون تاريخا في بعض الأحيان، وكلهم يأتون من البحر، وكانوا كلهم ملاحين، ويملأ البحر قراءاتهم كما يملأ خيالاتهم، ولو عدلوا عن ركوب البحر، وهذا الفرنسي، الذي كان قد طاف في جميع البحار، هو من مواليد هذا الساحل الجنوبي، وكان أجداده من البروفنسيين.
واليوم يتناول الكتاب الذي تركه له رفيقه، وهو يقلبه غير مرة عن عدم دراية كمن يبدو فاحصا ثخنه وثقله مع وجود البرميل بين الصور، ثم يفتحه من صفحة الحارس، ويتكئ على الكرسي ويبدأ بالمطالعة.
وفي الكتاب خبر عن مصاير البحر الذي يرقبه في مكان معين، ومن عل، مناره الدوار، وهو، وإن كان ينقل بالكتاب إلى ماض بعيد، لا يلبث أن يعرف كون البحث خاصا ببحره؛ أي بالبحر المتوسط.
اكتشاف البحر المحيط
1
ينظر إلى الغرب رجل قوي لحياني جالس على حجر فوق شاطئ البحر واضع مرفقيه على ركبتيه مسند ذقنه بجمع كفه، موترة جميع تقاطيع وجهه، وتذرف عيناه عبرات كبيرة رويدا رويدا، وتتدحرج على لحيته وتبلغ شفتيه، وهي من المرارة والملوحة ما للزبد الذي يتدفق نحوه، وهو يشعر بمثل تلك المرارة في فؤاده، وماذا أصاب هذا الرجل الحزين الجالس على ساحل البحر إذن؟ وأين نحن؟
على شاطئ جزيرة، على شاطئ مالطة على ما يحتمل، وفي الأسطورة تسمى أوجيجي، والرجل يدعى أوليس، وكان مرتبطا في البحر المتوسط ارتباطا وثيقا مدى حياته، وقد ولد في جزيرة وأبحر نحو جزر على سفينته المصنوعة من صنوبر وحمله البحر من جزيرة إلى جزيرة حتى تروادة، وهنالك أيضا لم يبتعدوا عن سفنهم، وتسكن الجزيرة حورية إلهية، وتمسك أوليس منذ عام في الجزيرة حيث زورقها الآن، وهي لا تستطيع أن تشبع من قوة هذا الآدمي ، وتعرض كالبسو حياة إله عليه، ومع ذلك يعرضه أوميرس قاعدا على رملة باكيا، وهو المغامر الأكبر، وهو أعظم الماكرين، وهو أعظم المقاديم، هو يحلم بجزيرة أخرى أوسع من هذه مع نبات مماثل وحيوان مشابه لما فيها! وفي إيتاك أبصر النور، وله فيها منزله وزوجه وولده، وبوطنه يحلم أوليس باكيا.
وتعزم حاميته الكبرى، أتينه على إنقاذه، ولما اطلعت كالبسو على حكم الآلهة شكت قسوتهم إلى هرمس متحسرة.
ولكن ها هي ذي تخرج من كهفها وتنزل باسمة إلى الرملة حيث يقضي حبيبها أيام وحشة، وهي تخبره بأنها ستعينه على إنشاء سفينة يتمكن بها من العود إلى بلده، ويخامره ريب في بدء الأمر، ثم يملأ أملا فيتبع الحورية، ويسار به إلى ساحل محاط بأشجار صنوبر تناطح السحاب، وهي تدله على شجر جف بفعل السن فيصلح لصنع ألواح متينة منه، ويسقط أوليس عشرين ساقا، ويتخذ أوليس من التدابير ما يجزئها معه بالآلات النحاسية التي جلبتها الحورية إليه، ثم يضم بعض الألواح إلى بعض بدسر
1
وكلاليب، فيجعل منها طوفا.
2
والآن ينصب أوتادا من كل ناحية، ويثبت ألواح بلوط ثخينة، ويصنع من الألواح جسرا، وينصب صاريا،
3
ويضع دقلا،
4
ثم يحط السكان، وهو يجهز الجميع بحصائر من صفصاف، ويودع القعر حجارة لتكون صابورة،
5
والآن تأتيه كالبسو، التي يتجاذبها الغضب والغم دائما، بنسائج ليفصلها قلاعا،
6
وهي تبصره يعقد حبالا معدة لإدارة الأشرعة حول السارية، وهي تراه يصنع في نهاية الأمر عتلة يستطيع أن ينزل الرمث
7
بها إلى البحر، ويتم أوليس عمله في أربعة أيام من غير أن ينال عونا أبدا، وفي صباح اليوم الخامس، وبعد وداع يمزق الفؤاد، تأتيه الحورية بقربة مملوءة خمرا وبقربة أخرى مملوءة ماء مع أغذية في سلة محبوكة فيضع ذلك في سفينته الجديدة، ثم توجب نسيما لينا أمامه، وذلك ما يقصه أوميرس علينا في الأغنية الخامسة.
ويشق زورق أوليس عباب البحر المتلاطم في ثمانية عشر يوما، غير أن الزورق يتمايل ويهتز بعنف، ثم يتدهور الرجل في الأمواج، وتقذف العاصفة أوليس نحو صخر الشاطئ مختنقا ، ويسبح أوليس حتى مصب النهر، ويسقط في أدغال حافة غابة ميتا تقريبا داعيا همسا.
وكانت الجزيرة الجديدة التي بلغها أوليس بلد الفياك؛ أي سفالونية على ما يحتمل، وفي هذه المرة أيضا تنقذ امرأة تيس المغفرة وصاحب الآلهة، ونوزيكا هي التي ودت إمساكه، وهي التي لم تتعب من سماع حديثه عن قصة ترواده وكيف أنه تاه بين جزيرة وجزيرة هنالك، في الغرب، حول جزيرة صقلية، وأخيرا يغمر بهدايا ثمينة ويركب قاربا ذي مقاذيف، ويعده ملاحو الفياك بأن يرجعوه إلى إيتاك، وهذا هو آخر سفر له، ويضطجع أوليس على وسائد ونسائج ويذكر معارك السنين الماضية وآلامه، ثم ينام نوما عميقا هادئا قريبا من الموت تقريبا، ويصل الملاحون إلى إيتاك بعد نهار وليلة، ولكن أوليس ينام دوما ويرفعونه ويضعونه على الشاطئ غارقا في نومه، وذلك مع بسطه ووسائده، وذلك أمام مغارة وتحت ظل زيتونة.
وهكذا تتم الرحلتان الأوليان بحرا، فتوحي غيوم البحر المتوسط وأمواجه بهما إلى الأسطورة فتنا لقلوب الناس، وقد وصفت العواصف والسكون والشواطئ والصخور والأطواف والسفن والكهوف والبساتين والمعارك بين الأمم وقرى النساء ومعاشقهن والقدر حين يحلق فوق الجميع، والقدر إذ يتجلى في شخص الآلهة دائما، تغير الآلهة، بنعمها ووعيدها، ما هو أزرق من الأمواج، وتنظم مجرى مغامرات جديدة على الدوام.
وذلك لأن البحر المتوسط أجمل من جميع البحار، وهو البحر المختار بين البحار الأخرى بوضعه وشكله وجوه، وهو أول ما اكتشف وما وقع الطواف فيه، وهو هيلانة البحار، وهو مثلها مبتغى جميع من أبصروه فافتتحه أكثر الناس إقداما بعد معارك دامت ألفي سنة، لا عشر سنين، ثم كدر صيته بما نالته من الفخار بحار أحدث منه وأبعد، ثم أعيد اكتشافه بعد ثلاثمائة سنة، فاقتتل في سبيله مجددا على مرأى منا، ولماذا؟
أوليس أصغر من البحار المحيطة المحدقة به؟ أولم تفتح هذه البحار المحيطة في الحين بعد الحين من قبل سفن كبيرة وتجاوز في بضع ساعات على أجنحة الفضاء النشوى؟ ولم يقتتل في سبيله إذن؟
ذلك لأنه مهد الإنسانية، ذلك لأن كل واحد يعلم أن من صميمه ظهر الجمال والعرفان والبأس، والناس يعودون إلى البحر المتوسط كما يعودون إلى أمهم.
2
من النادر أن يذهب الناس إلى كونهم جزريين، ويولد الناس فيما يسمونه قارات فيشغلون ربع وجه الأرض التي يستر بقيتها عنصر لا يصلح للسكن ولا يقهر على الدوام؛ ولذا يظل فتح البحر أجدر مآثر البشر بالذكر، ولا يقاس به حتى قهر الهواء، فالأمواج مرصعة بالجزر، ولا يوجد بين السحب ما يرتاد وما يفتح.
ولمن يولد قريبا من البحر هبة ذات أسرار، فهو في فتائه ينام على الرملة مساء، وهو يهدهد
8
بارتداد الأمواج إلى الوراء، وذلك ليصحو في كل صباح على صوت واحد، وتمتاز هذه الملايين القليلة من أهل الجزر بين الجميع، فيسهل عليهم أن يتعارفوا بين سيف
9
وسيف، ولو لم يغادروا اليابسة، أو لو تحولوا عن حياة الساحل، وهم يمتازون من مليارين من الآدميين الذين لا تتمثل لهم بيئة غير الأرض الصلد والخصيبة مع غابها وحقولها وجبالها وأنهارها ومدنها وبيوتها، والزلازل وحدها هي التي يشكون بها في صلابة سافاتهم
10
أحيانا.
ومن يعش على ساحل البحر وينظر دوما إلى الآفاق الواسعة البعيدة يكن لديه من البصر في دوافع الإنسان في الرب والحب والموسيقى، ما هو أعمق مما لدى غيره، وهو إذا ما تعب من طفاح الأرض الأبلق الصاخب الذي أحبه زمنا طويلا تحول عنه ذات يوم إلى الواسع الصامت منتقلا من المحسوس الخاص إلى غير الملموس العام. وهكذا كان جميع الفلاسفة من أهل الجزر، ولو عاشوا في داخل البلاد، وهكذا نشد البحر رسل جميع الأديان، وعن الإليات
11
كان القدماء يقولون إن الروح التي ساقتهم إلى البحر الغربي قادتهم أيضا إلى أقيانوس
12
الفكر الخالص.
وما يوحي به البحر المحيط من وجل وجمال مناوبة فيعد شاهدا على عظمة العنصر البحري واتساعه وعطله من الشكل بحيواناته المستورة ونباتاته الغارقة وجباله المغمورة، وهو يهيمن على الحياة التي تكثر في الجزر ويسيطر على ما وراء الشواطئ، ويمتد سلطانه إلى قلب القارات.
ويمكن قياس البحر بالموت الذي يستقبل الجميع ويساوي بينهم، ويمكن اتخاذ الأنهار التي تجري فلكهم عليها مثلا للناس حينما تصب وتمتزج بهذا الجامع الأكبر، بالبحر، ويركم المزار الواسع الجاثم، غير مرتاد، في قعر البحار المحيطة والمزداد دوما بغنائم جديدة، ما عند الجزريين المقاديم من نشاط حيوي، ويعد المدفن الذي لم يعين بأثر، ولم يدرك من يقذفون أزهارا في مكان غرق من البحر عظمة هذا العنصر، والغواص وحده، وهو المشابه للعالم الذي يكتشف غير المرئي بمجهره، هو الذي يستطيع قولا عنه، ولكن من العادة أن يلزم جانب الصمت.
ومع ذلك لم يكن الحكماء، ولا القانطون، هم الذين فتحوا البحر، وهؤلاء لم يفعلوا غير تأمله زاهدين، وأول من خاضوا غماره، ومن لا يزالون يلبون نداءه هم ذوو الجرأة والإقدام والفضول ومحبو مسرات الحياة، وهم على الشاطئ، وحين يضعون أيديهم على حواجز موضوعة أمام أعينهم وقاية لأنفسهم من الشمس، ينعمون النظر في الجزيرة المجاورة، ثم يذهبون لفحص السفينة في الميناء متسائلين عن إمكان مقاومتها للعاصفة والأمواج. والرجل في بدء الأمر قد أراد أن ينتقل من جزيرة إلى أقرب جزيرة راجيا اصطياد أسماك أخرى ورؤية أشراك أخرى، ومشاهدة مختلف الزوارق التي رددت الأسطورة صداها إليه، ولا غرو، فهو جزري يبحث عن جزيرة ثانية.
وذات يوم يرى مع الحيرة ملاح أسفرت مائة قذفة مجداف وريح ملائمة عن حمله إلى الخضم،
13
ويدرك هذا الملاح كيف أن كل شاطئ، مهما ضؤل، يمس البحر العام كما يشترك أوضع الناس في مصير البشرية، ويبعد شيء من الفضول، لا الطمع، ذلك الملاح من الساحل كثيرا، وهو لما اتفق له من اكتشاف جزر جديدة وسواحل جديدة، يطلع على ممكنات جديدة، وينشئ سفنا ضخمة، ويجهزها بالأسلحة ما حاول الجزريون الأجانب أن يحولوا دون نزوله إلى البر، وهو، لعدم انتسابه إلى شخص، يعد ملك الجميع، فيجتذب من هو مقدام ومفكر، وهو لا يعتم أن يجمع بين مصايرهم.
وذلك لأن ذوي الشجاعة والطموح يتخلصون من حقولهم ومنازلهم وأرضيهم فيتكسبون بسفنهم القصفة من سواحل مجهولة، ويتجلى حب السلطان فيمن لم يستطيعوا في البر أن يتوسعوا بسبب جيرانهم، وفي البحر، حيث لا يسيطر أحد، يمكن الاتجار مع جزر أجنبية، وما السلب، وما الكبس، ما وجد كسب كثير! ذلك عنصر لا يقهره أحد، ذلك عنصر يغضي على كل شيء، وهو لا يثور إلا نادرا، إلا حين يعصف ضد المقاحيم الذين يحاولون إخضاعه، وهنالك، على الخصوص، تبصر الشواطئ الأجنبية التي تتيح نيل كل شيء ويسهل ذلك كلما بعدت، ومن الملاحين الأذكياء من انطلقوا من جزيرة ففتحوا بقاعا واسعة، ومن الملاحين من أتوا من موانئ صغيرة واقعة في مداخل ضيقة كأثينة والبندقية ولوبك فأقاموا سلطانهم البحري من غير أن ينالوا حماية بلد قوي، من غير أن يظفروا بمساعدة جيرانهم الذين ظلوا في البر، والبحر من هذه الناحية كان حرا دائما لتعذر رسم حدوده ولتعذر احتكاره باستمرار، فلما حظرت قرطاجة على اللاتين كل ملاحة في غرب الرأس اللاكوني اغترت ثم غلبت، ومن العبث أن حاولت جنوة إبعاد البروفنسيين من صقلية بمراسيم، وعن رغبة في احتكار الملاحة والصيد أراد البندقيون أن يحتفظوا بالبحر الأدرياتي وأراد الترك أن يحتفظوا بالبحر الأسود وأرادت الولايات المتحدة أن تحتفظ ببحر برنغ، ولكن على غير جدوى، وسواء أبالعمل أم بالحرب لا يمكن البحر أن يشرى أو يوزع أو يقسم إلى مناطق كما استطاعت الشعوب أن تصنعه في اليابسة.
وكل هنا دوار أو غير موجود، ولم تسطع دولة أن تسيطر على البر زمنا طويلا، وفي البحر كانت الصدارة للرومان بعد قرطاجة ثم غدت لإنكلترة بعد سقوط نابليون، وفي البر لا بد من توكيد كل معركة في جميع الجبهات حتى تكون حاسمة، ولكن مما يحدث في بعض الأحيان أن انتصار الأسطول يعين مستقبل دول عالمية، وقد وفقت رومة، الدولة البرية، لتكون دولة بحرية، وهذا الذي لم يتفق لفرنسة، وفي حرب وراثة العرش الإسباني تجاذبت إنكلترة رغبة المحافظين في الركون إلى أموالهم وطموح أصحاب السفن من أبناء الطبقة الوسطى، وطموح التجار، إلى البحار، ولم يحدث في غير وقت متأخر نزوع جميع الأمة إلى إقامة دولة بحرية.
أولا ينال في البحر دوما ما يحال في البر دونه بسبب كثرة الحواجز والأنهار والجبال والترع والقلاع؟ أولم تغلب أثينة الصغيرة دولة الفرس؟ أولم تقض إنكلترة، كما قضت هولندة الصغيرة، على الحلف القوي بين إسبانية والبرتغال وفرنسة؟ أولم تخز فينيسية الهيفاء الجبار التركي؟ وفي هذه الأحوال بلغت أعظم المقاصد فوق البحر، وفي نطاق ضيق على العموم، وأحسن من ذلك صدور عظمة جديدة عن كل دولة بحرية، وذلك لما توجبه من إثارة حب الاطلاع والتعطش إلى المجد، وذلك لما تتضمنه من تحد لمهارة أمم ما وراء البحار التي تتحرق لبلوغه، ولما قهرت صقلية رومة كان همها الوحيد أن تصبح دولة بحرية، وكان لا بد للفرس من السيطرة على البحر حتى يقهروا دول اليونان البحرية، ولم يتعلم مرفأ سرقوسة القوي أمر الملاحة الحقيقية إلا بعد تحاك بينهم وبين الكورنثيين، وإنما كان لدى الصقليين من كثرة الأرضين ما يصيرون به أصحاب دولة بحرية كبيرة.
ووجب على فرنسة أن تصنع مثل ذلك أخيرا، ومع ذلك، وعلى الرغم من المعارك والانتصارات التي تفرق بين الأمم الراغبة في الفتح، ترى البحر الصامت العقيم خط وصل بين الشعوب البعيدة، وناشرا للحضارات التي تذيع في البر بأبطأ من ذلك، والبحر، بأعماقه ومجاريه وأجوائه المختلط بعضها ببعض، يلوح أنه وجد لينقل حتى نهاية العالم سلعا في قعر السفن وأفكارا في أدمغة الملاحين وقلوبهم. وإذا كان الملاح يحب الغصب والسيطرة فإنه يريد التجارة والمبادلة ومحادثة الأجانب وملاعبتهم النرد أيضا، وهو يرغب قبل كل شيء في معرفة النساء الأجنبيات، ذوات العيون والشعور الغريبة واللابسات المزينات بأبدع طراز، وجلبهن لا عن قوة دائما.
والأحرار، لا المرتزقة، هم الذين جاوزوا البحار للحرب فيما مضى، وكما أن الصليبيين انتهوا إلى مواثيق غريبة بين الأمم البعيدة يرى أن الملاحة أسفرت عن وجود اتفاق دولي لا يقاوم، وقد قام بين رجال البحر من الصلات والصداقات ما يحول ضيق الأفكار والزهو والحذر دون وقوع مثله داخل القارات، وإن ريح البحر التي حملت بذور نباتات مصر إلى إيطالية هي التي نفخت ملايين الأشرعة، فمن تحت الأشرعة جلب الرجال في كل زمن أفكارا ومنتجات إلى أقصى السواحل.
3
تولي البشرية وجهها شطر الغرب، ونبحث عن النور ورسالته الصباحية عن إيمان وعزم، ومع ذلك نبتعد عنه مقدارا فمقدارا، وليست رمزا تلك السرعة التي نحلق بها فوق المحيط الهادئ ونلقى بها الشرق، فالحضارة لا تطير، وضياعها في طيرانها، وأصح من ذلك انتقال البشرية من البحر الأصغر إلى البحر الأكبر؛ أي من البحر المتوسط الشرقي إلى البحر المتوسط الغربي، ثم إلى المحيط الأطلنطي فإلى المحيط الباسفي، ولا عجب فالأغارقة كانوا لا يعدون بحرا لهم غير بحر إيجه الواقع شرق البحر المتوسط، وللملاح فيما مضى تحذير في المثل القديم القائل: «إذا ما جاوزت رأس إسبارطة فانس مسقط رأسك»، وما كاد أوليس يعرف البحر الأدرياتي ما كان هذا البحر عالما معاديا ممتدا غرب صقلية مملوءا بالرياح والمجاري الغريبة، وذلك مع استثناء قليل من القرطاجيين والأغارقة كانوا من الجرأة ما ابتعدوا به عن الشاطئ فاكتشفوا ساحل المحيط الأطلنطي. بيد أن مدلول هذا الساحل ووجود بحر هنالك أعظم من البحر المتوسط بمراحل من الأمور التي ظلت مجهولة لدى الجميع، حتى لدى النورمان الذين طافوا في أجزاء منه قبل كولونبس بخمسة قرون. وقد سهل على البحر المتوسط أن يعير نفسه من الملاحين الأولين في أسفارهم لما يشتمل عليه من مداخل كثيرة إلى داخل القارة. وإذا كنت لا تجد من البحار ما هو أغنى من البحر المتوسط بجزره، فإنك لا تجد ما هو أكثر منه فرضا وخلجانا، ويؤدي مضيق خليج بتراس إلى بلاد اليونان الوسطى وإلى البسفور وإلى أوروبة الشرقية. ونرى شبها عجيبا بين بحرنا المتوسط، هذا البحر الداخلي، وبحرين آخرين، فكما أن البحر المتوسط يصل بين أوروبة وأفريقية يصل بحر الصين الجنوبي بين آسية وأسترالية، ويتشابه كلا البحرين بجزره الكثيرة وشواطئه المعقدة، ويكاد بحر الأنتيل يقطع أمريكة من وسطها فلا يترك لها غير عصابة دقيقة هنالك. ولكن البحر المتوسط الذي هو بطل هذا الكتاب ذو صفة جوهرية يختلف بها عن ذينك البحرين، فهو بحيرة تغذيها ثلاثة مضايق كما لو كان غديرا.
وتعين الصفة الأساسية للبحر المتوسط، الذي يشابه بحيرة داخلية، تاريخه وحضارة الإنسانية وأخلاق أمم الساحل، وهي تبلغ في تعيينها ذلك درجة يسأل معها عن الناحية التي يكون مدينا لها بشكله الغريب. وهنا يتجلى لهو علماء الأرض الذين ألقوا بأنفسهم على رأس مجلدات تامة من اللعنة والوعيد، وتعدل هذه المناقشات أقاصيص التاريخ لغوا لخلوها من أساس ثابت يستند إليه، وما قبل التاريخ هذا هو افتراضي كما قبل تاريخ الأمم، وعلى العكس ينشر أثر الحوادث التي وقعت منذ خمسة وعشرين قرنا حول البحر المتوسط وفوقه معارف هي من القيمة ما لا نرى معه أن نتأخر في ظلام ما قبل التاريخ. وعندنا أن أقل معبد إغريقي أغنى معنى من حجارة دوردونية الشهيرة التي يجادل في أمرها ليعرف هل كانت مصقولة منذ خمسة عشر ألف سنة أو عشرين ألف سنة، وندع فخم الكلام جانبا فنعرض طبيعة البحر المتوسط على غير المتخصصين بأحسن إيضاح.
يرى أنه كان يوجد في العصر الجليدي سهل في محل البحر المتوسط مع وجود بحيرتين كبيرتين كثيرتي العمق كالبحر الميت واقعتين في الغرب والشرق، ولكن مع اتساع كبير، فلما ذاب الجليد فاضت تانك البحيرتان لتجتمعا ولتؤلفا بحيرة داخلية واسعة واحدة، وهل الأرض هي التي ارتفعت أو إن البحر هو الذي هبط في ألوف السنين؟ ومهما يكن من أمر فإن الأسداد، التي تؤلف آخر الحواجز فتفصل البحر عن البحار الأخرى، كنست إلى الدردنيل وجبل طارق، ويترك هذا الفيضان العظيم، الذي يذكر في جميع كتب الأساطير باسم «الطوفان»، بعض أجزاء جبلية قائمة فتبدو جزرا، ويغدو أرخبيل بحر إيجه ممثلا لذرى سلسلة جبال تنتهي في أقريطش، ومما حدث قبل ذلك الطوفان أو بعده ظهور ثغر وغضون في القشرة الأرضية ووقوع زلازل بركانية وخسف في قعر البحر الجديد، وفي الشمال يلوح سير شعبة عظيمة من البحر المتوسط مع المساند الخارجية لجبال الألب والكربات وبلوغها فينة وهنغارية، والقفقاس أيضا. وتعد الوهدة «السورية » التي تمتد إلى أواسط أفريقية الشرقية دليلا على ثورانات لاحقة كالوهدة الإغريقية وعدد غير قليل من الوهاد الوعرة التي يوجد في البحر اليوناني منها واحدة من أعمق ما في الكرة الأرضية من الهوى الواقعة تحت البحار.
ومن مستحاثات الحيوان التي لا تستطيع أية نظرية أن تبتدعها أو تبطلها، ما يتخذ أحسن برهان على ما بين أفريقية وبلاد البحر الراهن وجزائره من صلة قديمة. ومما وجد على جزائر بحر إيجه، التي كانت متصلة بالقارة فيما مضى، مستحاثات تدل على نزول دببة وذئاب من جبالها نحو الجنوب وعلى صعود وعاوع
14
وأنمار نحو الشمال، وتوجد هياكل عظمية لأسود بالقرب من فلورنسة، ولفيول في مالطة، ولبقر ماء في أقريطش، ونحن، الذين يربطون اسم أقريطش واسم مالطة بسلك أريانة الأحمر وبجبال السفن الإنكليزية، ننعم النظر، مع دهش ساخر، في سيطرة أبناء السودان أولئك على الميدان الممتد أمام بلازو فيشيو، وفي اغتسال بنات النيل أمام مسرح كنوسه العظيم، وفي فيل يرفع أثقالا هادئا فهده طيار طلياني في ميناء مالطة.
أليس من المنعش أن يشعر بحلقة سلسلة لا نهاية لها؟ وإننا حينما نجد على منحدرات إتنة، وعلى سبعمائة متر، صدفا شاهدا على وجود بحر في هذا المكان قديما، وإننا حينما نجد اليوم آثارا إغريقية قديمة تحت الماء، نرى الحق بجانب رئيس بلدية مدينة واقعة على ساحل تسالية لمنعه حديثا، كما يروى، شيد بناء للبلدية على الشاطئ زاعما غمر البحر هنالك في ألف سنة.
وفي كل مكان، وعلى الشواطئ وبين الجزر، تدل آثار انفتاق على الطوفان الذي أسفر عن شاطئ البحر وجزائره، ولم تنقطع هذه الانقلابات تماما، وهي ما انفكت تشكل تلك البقعة، وما حدث من استبار خليج قابس (سرت الأصغر) أظهر استدارات القارة التي غابت في هذا المكان من البحر في دور من أدوار التاريخ على الأرجح، وترتفع جزيرة بنتلرية من عمق ألف متر فوق مستوى البحر لتبلغ من الارتفاع 800 متر، وكان هذا من عمل بركان استيقظ بغتة سنة 1891 فرفع ساحل تلك الجزيرة الشمالي في أقل من ساعة على ما يحتمل، وكان النيل يصب في البحر من ناحية الشرق مصلحا أرض فلسطين، واليوم لا تزال ترى في جنوب الكرمل من التماسيح ما صار نادرا في النيل الأدنى، وبالأمس قطع في غرب قلورية
15
ما تحت سطح البحر من أسلاك الهاتف بقوى غير منظورة.
ولا يزال صوت البراكين يسمع مرهوبا في البر، ويمكننا أن نتمثل ما حصل من تخريب في الماضي عند مقابلته بما وقع من فورانات في الزمن الحاضر، ومع ذلك كان لهذه الفورانات نتائج نافعة، وذلك لأن الينابيع الحارة والأرضين الخصيبة التي تزدهر عليها أشجار الزيتون والكرمة في عالم البحر المتوسط بركانية المصدر، فالثمار تخرج من الرماد كما تخرج الأفكار الجديدة من الثورات، ولدينا وثائق ومواقيت منذ بدء أقدم التواريخ.
وفي سنة 425 قبل الميلاد حدثت أول «زلزلة» في قناة جزيرة أوبه، وفي سنة 1894 بعد الميلاد حدثت آخر زلزلة فيها، ولشد ما يذكرنا هذا العود الجديد بعود ما نشاهده اليوم في ذلك البلد من الفتن! وكذلك نقرب بأفكارنا فناء البشرية من فناء العناصر، فيكون لنا بذلك شيء من الصحو، وذلك عندما تحدث البراكين جزرا بأسرها وترفعها من البحر لتعود فتبتلعها مجددا كما أسفر عنه ثوران وقع سنة 1831 في جنوب صقلة.
وظل بعض العناصر مشابها لبعض في غضون ألوف السنين، وقد تضحك الآلهة حين اطلاعها على إيضاحات عن غابر الأزمان في كتب لأعضاء المجمع العلمي، فيقررون تصحيح هذه النظريات في الغد على ما يحتمل. وفي الوثائق القديمة ذكر لكثير من الفيضانات، ووصف لغرق مدينة إليس، القريبة من كورنث، مع سكانها، كما حدث لساحل ليمني
16
الشرقي، وبيان لسترنبولي الذي هو بركان يدوي بلا انقطاع ولا يخبو أبدا، وما فتئ هذا البركان يزيد حجما منذ القرون القديمة، وهو شيخ البراكين لهذا السبب، وهو يشابه بدخانه الثابت على شكل المظلة وهدره الدائم شائبا راغبا في إلقاء خطبة من غير أن يجد ما تقتضيه من الكلمات. وقد عانت الأندلس وقلورية زلازل عنيفة كما عانى المنحدر الجنوبي من جبل برناس، غير أن جمال أثينة ظل سليما تقريبا، والرجال هنالك هم الذين قوضوا حتى ما صانته العناصر.
وجميع هذه التحولات، وجميع هذه الهزات، هي التي جعلت أهل البحر المتوسط يفوضون أمورهم إلى الآلهة والأقدار في غضون القرون، وأكثر ما يقدس لنبتون في البقاع التي خربت، فلما هزت بلد الأعداء زلزلة في أثناء استيلاء الإسبارطيين على أرغوس أنشدوا نشيدا مؤثرا تمجيدا لإله البحر هذا، وما كان من انفصال صقلية قبل التاريخ ومن ظهور المضايق وانفتاق الأرض على سطح الألنب صير السكان من القائلين بالقضاء والقدر، مستعدين لاحتمال تقلبات الطالع، كثيري الشك والحكمة والفلسفة. ولو نظرت إلى أهل البحر المتوسط لوجدتهم في ذلك الزمن، كما في أيامنا، يعرفون ما اتفق لطبيعة بحرهم وشواطئه من تغيرات معرفة فطرية.
ويبلغ بحر اليونان من الغور 4700 متر؛ أي يبلغ قعرا من أعمق ما وجد، وتنتصب هنالك، وراء الشاطئ الأفريقي، جبال درن
17
مرتفعة بما يعدل ذلك الرقم، وتضاد كهذا مما يشعر به أهل البحر المتوسط بمزاجهم شعورا عميقا وإن لم يعبروا عنه بأرقام. وارجع البصر إلى وضع سواحل بحر إيجه وتشكيل الصخور في الخلجان وكثرة الجزائر، تجد هذه الأمور متماثلة برا معينة لخصائص السكان. وإذا ما عدت هذه البحيرة الداخلية، التي هي البحر المتوسط، شائبا حكيما عصلبيا محصورا ضمن حدوده حصرا أزليا غير حائز لسوى باب ضيق نافذ إلى الحرية حفزنا حب الاطلاع إلى البحث عن كيفية قيام هذا الباب بعمله وعن كيفية مقاومته للبحر المحيط، وهنا مفتاح مصير البحر المتوسط.
ويقع باب هذا البحر على جبل طارق تماما، وذلك حيث كان جسر بري يجتذب الفيل الأفريقي إلى إسبانية، وهو إذا ما نظر إلى بلوغه، بعد تكمش، أربعة عشر كيلومترا أمكن تمثله قناة من صنع الإنسان، كقناة السويس، وإن كان أكثر عرضا منها. والحق أنه كان يوجد لسبس في أقدم الأزمان، كان يوجد هركول الذي قيل إنه فتح البر ونصب عمودين تذكاريين، وما كان من حدوث منافذ هنا كما في البسفور ألمع إليه باسم دوكاليون
18
وفي بعض نصوص التوراة، وكان أرسطو وسنيكا وبوفون على ذلك الرأي. ووجد العربي الكبير، الإدريسي، الذي ولد بالقرب من جبل طارق، حلا فولتيريا للمسألة، فقد رأى أن الإسكندر سمع حديثا عما بين الإسبان والأفريقيين من قتال أزلي فأراد أن يفصل بعض هذه القبائل المتعادية عن بعض بحمل عبيد على حفر الأرض وفق تصميم محكم حتى فار البحر الأكبر في البحر الأصغر.
وليست قلة العرض، بل قلة العمق، هي التي يوصف بها جبل طارق، فهو 320 مترا فقط، وهذا هو من النقص ما لا تبادل معه مياه البحرين مبادلة ملائمة، وأحد الأخوين غني قوي ولكن مع شح، والأخ الآخر موهوب إلى الغاية بالغ اللطافة، وعلى الأول أن يعين الثاني، وهو يصنع ذلك مع عظيم بخل، والأطلنطي القوي يضبط نفسه، وذلك لأن منفذه إلى أخيه، إلى هذه البحيرة ذات الأهواء الغريبة، قد حفر حفرا ناقصا، وقد سماه العرب «باب الزقاق»؛ أي باب الطريق الضيق، حتى إن الإنكليز دعوه «المعى»؛ أي المصير،
19
وأكثر ما يخاف الملاح هو جبل طارق الضيق والقائمة على جانبيه جبال تبلغ من الارتفاع ألفي متر، دع عنك ما يؤثر في الجو والحيوان من عمق الأطلنطي وقلة التجويف في عتبة ما تحت سطح البحر. ومما يعرف أن حرارة ماء جميع البحار المحيطة تنقص مع العمق، وليس للأطلنطي سوى ثلاث درجات على طول الساحل الإسباني مع أن درجات البحر المتوسط تبلغ اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة؛ ولذا يعد اعتدال جو البروفانس والإغريق، وما يوجبه من جمال، نتيجة قلة العمق في عتبة جبل طارق.
ومن كان ذا طبع ممتاز استطاع أن يكون لنفسه شخصية وأن يفر من تأثير العالم، ويظل أمر هذا البحر شاذا لسبب آخر، لقلة سواعده، ونغفل عن البحر الأسود الذي لا تؤثر سواعده الكثيرة المهمة في اقتصاد البحر المتوسط. ويصب في البحر المتوسط نهر واحد من أعظم الأنهار، يصب فيه النيل الذي ليس له في مصبه سوى نفاق قليل، ولا يتلقى البحر المتوسط غير أربعة عشر في المائة من واحد في المائة من مجموع مياه الأنهار بأوروبة ، ولا يعرف، على العموم، غير عشرين من الأنهار الخمسين سبب قلة أهميتها، وما تأتيه به الأنهار الثلاثة الرئيسة، الرون والبو والنيل، لا يعدل غير ثلث ما يبخر منه؛ وإذ إن البخر أهم من الأمطار فإن سطح البحر المتوسط يظل دون سطح الأطلنطي مستوى.
إذن، على الأطلنطي، أن يصب، دوما، مقادير عظيمة من الماء في ذلك الحوض الأدنى، ولكن هذا ليس من الكفاية ما يتوازن به المستوى وما يتعادل به الملح.
وهكذا يكون ماء البحر المتوسط أكثر ملحا، ومن ثم أعظم كثافة، من ماء المحيط الأطلنطي، وذلك على عرض واحد، وتعرف هذه الظاهرة مقدارا فمقدارا كلما ابتعد عن جبل طارق إلى الشرق؛ وإذ يغدو الماء أشد ثقلا والضغط أكبر قوة، حتى في العمق الضعيف، فإن ذلك يؤدي إلى مجرى تحت سطح البحر سائل من جبل طارق، ومع ذلك فإنه يدخل من الماء دوما أكثر مما يخرج منه.
وتختلف السنن التي يجري ويتنفس بها المضيق الثاني؛ أي الدردنيل الذي يسمى هلسبون أيضا، اختلافا كبيرا، وفي ذلك يرتبط أجمل أقاصيص الأغارقة الذين كانوا يقدسون للحب، لا للألم، والذين كان هواهم يزدهر بآلهة لا يحصيها عد بدلا من تحديده وتقييده بإله واحد غير منظور.
فهنالك عاش ابن الغرام دردنوس الذي هو ولد لزوس وبلياد إلكترا، وهنالك كانت الكاهنة هيرو تستقبل حبيبها لياندر في كل ليلة، ومن هنالك فر الأخ والأخت، فركسوس وهله اللذان هما من أنصاف الآلهة، على ظهر كبش ذي جزة ذهبية، ولكن، وا حربا!
20
تسقط هله في المجرى وتغرق، ومن هنالك قام الأرغونوت بسفرهم ذي المهالك نحو كلوشيس حيث وقف فركسوس تلك الجزة الذهبية التي هي أداة شهواتهم على أحد المعابد، وما أعجب ذلك العالم الذي كانت وحدة الوجود تجد فيه رموزا لجميع العناصر والذي كانت الآلهة تعيش فيه مرئية كثيرة بين الآدميين! وكان جميع أولئك من صنع خيال أناس ذلك الزمن، فكان الأبطال وأنصاف الآلهة والآلهة لدى الأغارقة عنوان مراق لتوق واحد.
والدردنيل في الشمال الشرقي يعين إيدروغرافية البحر المتوسط، ويتوازن كلا المضيقين، اللذين يغلقان البحر، بما يقضي بالعجب، فهنا، في بزنطة التي دعيت فيما بعد بالقسطنطينية فتسمى استانبول في الوقت الحاضر، تنفذ الحضارة الآتية من العالم الآسيوي القديم، وهنالك من جبل طارق ندخل العالم الجديد.
ويعد البحر الأسود الذي ينفذ إلى البسفور بحيرة داخلية، وهو إذن لا يشعر بتأثيره بمثل قوة الأطلنطي في جبل طارق، وهو يمثل من بعض الوجوه دور الأخ الثالث الذي يعيش هادئا في عزلته مع ثباته على أوضاعه تجاه أخيه الصغير ومع بقائه قادرا على فرض مطاليبه عليه بغتة، وهو إذ كان يخرج من بحيرة عذبة فإنه يجري جريا سطحيا قليل الملح إلى البحر المتوسط على أن يتلقى منه مقابلة ماء كثير الملح بمجرى تحتاني.
وتعين تلك المبادلة بين شخصين مختلفين حياتهما الباطنية مع محافظة على حسن الجوار، وتبدو سرعة المياه، وإن شئت فقل سجية المياه، من التباين. ويبلغ ما يأتي به البحر المتوسط نحو الشمال من البطوء، ما تجب معه مدة ثلاثة آلاف سنة لملء البحر الأسود لو كان فارغا، وما كان من نقص الأكسيجن في البحر الأسود الفقير ملحا، لا يسفر عن غير تغذية حيوان عادي، فكان هذا سببا في الحط من صيت البحر الأسود حتى في زمن أوميرس، وذلك إلى أن ضيق المضيق وقلة عمقه يعجلان سرعة جريان السطح الذي يسيل إلى البحر المتوسط. وفي البسفور لا يزيد العمق على ثلاثين مترا في كثير من الأمكنة فيكون الجريان من السرعة ما يضطر صيادو السمك معه إلى جر مراكبهم بحبال على طول الشواطئ لكيلا يجرفها المجرى.
وما يتصف به البحر المتوسط من طبع عصبي يتجلى في المضايق على الخصوص، وفي هذا البحر الذي يكاد يكون داخليا تماما تبصر تقلصا في المد الطبيعي الذي يرى في البحار المحيطة عادة، وذلك من غير أن يغيب تماما، ولا يشعر بالمد والجزر هناك إلا في أماكن قليلة، وما يظهر من تنفس البحار المحيطة العجيب، الذي يربطها بحياة القمر على ذلك الوجه، يرفع العنصر البحري فوق نمطية القارة العبوس ، وفي البحر المتوسط تبلغ هذه الظاهرة من الارتخاء ما تكون معه غير محسوسة، ما تكون معه مماثلة لموسيقى الغرفة تجاه جوقة البحار المحيطة الكبرى. وفي البحر المتوسط لا يكاد يشعر بالجزر مع أن الجزر يقف النظر في المضايق، والجزر ما يلاحظه الملاحون في كل مكان، حتى إنهم يقولون في لفورن: «هو مملوء بالقمر»، والجزر يؤثر في الملاحة حتى قعر أهم الخلجان، والجزر مما نشاهده بأعيننا في البندقية وخليج كورنث وسرت، وترى في كثير من الفرض العوج ارتفاع الجزر من جهة وانخفاضه من جهة أخرى دائما، فيؤدي اختلاف المستوى إلى مجار خطرة، وتجد جميع ذلك مسجلا في كتب قدماء العلماء.
وإذا ما استشهدنا بالأغارقة، غالبا، فيما يأتي فذلك لما يبهرنا من إلهام هؤلاء القوم، من نبوغ هؤلاء القوم، الذين استطاعوا أن يمزجوا الملاحظة بالفكر مزجا نافعا غير مستعينين بآلات فأصبحوا الشعب الفيلسوف حقا، وهكذا نعت أوميرس الأقيانوس ب «الذي يجري وئيدا»، وأبصر صخرا يبرز من البحر ثم يستر به، وعند أفلاطون أن البحر يدفق من مغاور الأرض بشدة حينا ويرتد إليها حينا آخر، ويسمي هيرودوتس حتى اسم حكيم ساموس الذي أغرقته الآلهة في اليم
21
فكان أول شاهد على الجزر، ثم يعين قيصر القمر كسبب للجزر الاعتدالي الأكبر، ويسبق بليني في نبوءاته كيبلر ونيوتن في نصف اكتشافاتهما.
وفي الفيزياء الحديثة تفاسير أخرى لتلك الظاهرات، فهي تعزوها إلى ضيق مضيق جبل طارق وإلى وضعه الغربي الذي يواجه ما بين جزر الأطلنطي الصاعد والبحر المتوسط، وكثيرا ما يفقد ضباط البحرية صبرهم إزاء أهواء هذا العنصر، ومن ذلك أن أميرالا إنكليزيا كان يقود في سنة 1810 سفينة مدفعية أمام قادس فاشتاط غيظا لما وقع من ارتفاع الجزر قبل الوقت المعين في جداوله بساعتين.
وينشأ عن المضايق، بحكم الضرورة، مجار من كل نوع مستقلة عن الجزر. وكان مضيق مسينة، الذي كاد يقضي على حياة أوليس، مسرح كثير من الغرق بين سيلا وكاربد، ويرى أن هذا المضيق معاصر لمضيق جبل طارق والدردنيل إذا ما صدق القدماء الذين يعزون هذه الثغرة بين إيطالية وصقلية إلى فرع أوريون بن نبتون، ويرى علماء الأرض في ذلك فورانا سابقا للأوان ثار من إتنه فأوجب فتح المضيق بغتة. وإذا كان الأساتذة قد فسروا إحدى الأساطير بمثل هذه السهولة جاز لنا أن نأمل صدور قصص في يوم بعيد عن واقعيتنا المبتدعة وعن جداول أرقام الرياضيين يعرض فيها مهندسونا مثل أنصاف الآلهة الذين ورد ذكرهم في الأساطير.
ويمكن عاصفة كاربد، فيما وراء رأس مسينة، ومع عرض ثلاثين مترا وطول ثلاثمائة متر وانخفاض جزر، أن تحمل السفن على القيام بنصف دوران. وإذا كانت الأرض في أقرب نقطة من الشمس والقمر، وحين الاقتران في اليوم الحادي والعشرين من مارس، فإن الجزر العالي يبلغ عشرين قيراطا. وكانت مباغتات تلك العاصفة معروفة عند قدماء الربابنة فينتفع بها في المعارك البحرية، فمن الأساطير إذن كون نلسن أول من دخل هذا المضيق.
ولا تستطيع السفن أن تخوض في المضيق بين جزيرة أوبه والإغريق القاري؛ حيث لا يزيد عرض البحر على خمسة وثلاثين مترا، إلا في أثناء السكون القصير عند انعكاس الجريانات. وإذا كانت الرياح الكبرى لا تدوي في البحر المتوسط كما في الأقيانوس فإن الزوابع والجريانات والدورانات المفاجئة كثيرة فيه، وإذا كان من الممكن أن يبلغ ارتفاع الموج في الأطلنطي خمسة عشر مترا فإنه لا يبلغ في البحر المتوسط أكثر من خمسة أمتار، ولكن مع كون ارتداد الأمواج في البحر المتوسط التابع لهواه أعنف مما هنالك. والأمواج في هذا البحر، وإن لم تكن منتظمة طويلة، تبدو قصيرة مفاجئة هائجة، وإذا مرت سفينة بين الجزائر الكثيرة وأخذت الريح في الهبوب من السواحل الجبلية وسارت صافرة بين صخور الفرض أحس الملاح دوارا بأسرع مما يحس في البحار المحيطة. وقد تبلغ الرياح الشرقية في مصاب بعض الأنهار، في جنوب صقلية على الخصوص، من سوط البحر ما تقذف معه الأسماك والآدميين إلى الشاطئ.
4
من المحتمل أنك لا تجد شيئا أعان على ذيوع صيت البحر المتوسط كلونه، وللبحر المتوسط زرق عميق، والبحر المتوسط يسحر بصر من يبحث في البحار المحيطة، عبثا، عن ذلك اللون النادر في الطبيعة ندر الأخضر، والحق أن السماء الزرقاء تنعكس سمنجونية
22
في جميع خلجان العالم وبحيراته وأن سمرة الشتاء تنشر ظلها على البحر المتوسط.
ويلقي الزمن المتقلب نورا وظلا على المناظر الأرضية، وينعم عليها بذلك الانسجام العام الذي يعين اللون ويحوله في الطبيعة كما في الخلق البشري بلا انقطاع، ويؤثر الزمن أيضا في مصير البحار والجبال مغيرا لها بين يوم ويوم، ومما يكدر نور ما بعد الظهر المسحور سحابة أو هبة أو ظل، وذلك كما لو مس الموت بجناحه زوجين بشريين يطفحان بشرا مسا خفيفا.
ومع ذلك يوجد للروح لون أساسي ينير، أو يكدر، عناصر القلب الإنساني كعناصر الطبيعة، وهو ينساب في كل مكان، وهو، وإن كان يستتر تماما في بعض الأحيان، لم يعتم أن يظهر ثانية، وهذا هو اللون الأساسي الذي يرفع شأن البحر المتوسط، وهل حدث مرة أن أسفر ما لا حد له من مساوف البحر الأطلنطي أو الباسفي عن وضع قصائد أو إيحاء إلى شاعر؟ وهل وقع، بعد أن نعدو نوا نوا لغوغن،
23
أن أوحت البحار المحيطة البعيدة بصور ذات ألوان لطيفة؟ فالبحر المتوسط وحده هو الذي له موهبة الإلهام هذه، ولو حملنا على تعريف شكل روحه لقلنا إنه بحر أزرق، إنه بحر باسم، ومتى ثارت العواصف فيه، ومتى هاجت أمواجه، ومتى استدارت مهالك مضيق مسينة، ومتى عزفت رياح أقريطش حول رأس متابان، ذكرنا حدوث عاصفة تقطع سنفونية
24
بتهوفن الريفية، وعلى ما كان من غزوات حربية ومعارك بحرية، ومن تحطم سفن وغرق، لا يلبث سماء البحر المتوسط أن ينجلي كما لو كان يعود إلى طبيعته الحقيقية. والحق أن هذا بحر رعائي، ولو من أجل ما تشتمل عليه مئات المطاوي في شواطئه من المناظر والملاجئ حيث تنبسط دوما خلجان زرق جديدة محاطة بصخور وعرة وغابات صنوبر شائكة وأشجار زيتون سمر ذوات أوراق ناعمة. ومع ذلك وجد منذ القديم من جادل البحر المتوسط في أمر ذلك اللون الأزرق، ولا غرو، فهو إذا ما اضطرب أظلم كفؤاد الإنسان، وهنالك يصفه أوميرس ب «الأرجواني والخمري والذاوي والبنفسجي»، ومن الأغارقة فريق يسميه «البحر الأبيض» مقابلة ل «البحر الأسود»، ومن العلماء المعاصرين رجال يصرحون بأنه «عديم اللون» غافلين عن وجوب النظر إليه بعيدا من الشاطئ حتى يروه أزرق. وعند الملاح أن إظلام الماء علامة العاصفة، وأن الأخضر دليل الإخضال، وأن الأزرق آية العمق الكبير، ولكن الجميع، ولكن القدماء والمعاصرين والشعراء والمسافرين، تغنوا بما عليه البحر المتوسط من صفاء بلوري، حتى إن العالم الطبيعي يعزو لونه السماوي إلى روق مائه العميق ما دامت الأشعة اللامعة في مثل تلك البيئة منحرفة كثيرا، وليس غار كابري المشهور إلا من عجائب ما يتصف به البحر المتوسط من ضياء سائل.
وتنتقل العين من هذا اللون الصافي المصمت
25
إلى الإطار، إلى متنوع الأشكال التي ترصع هذه الصورة الساكنة الخالدة، وارجع البصر إلى الخريطة تر ما لجميع الجزر والشواطئ من طبيعة جبلية، وذلك عدا الطرف الجنوبي الذي يمتد مستويا صحراويا من تونس إلى القدس، ومن السهوب الحزينة ما يلوح أنه إطالة لسطح البحر على خط أصفر ممتد وفق نمطية لا حد لها، وتسيطر جميع الشواطئ الأخرى على السفينة التي تمر بما توحي به من جبال وأودية وفرض وأنهار وغابات وقطاع وثمار وخمر في سنة بلا شتاء.
وينعش تلك البقعة بأسرها ما في الأسماء القديمة من روائية، وما كنا إلا لنجهل، غير مكترثين، أمر جزيرة لها منظر دلوس، ولكن على ألا تحتوي اسما ذائعا في أي مكان كان، في طول المحيط الباسفي الواسع العابس وعرضه مثلا. وإذا كان أحد البيوت في الأرياف يثيرنا لإقامة وشنغتن فيه سابقا، فما أكثر ما تحركنا رحلة في ذلك البحر الذي تشترك في تاريخه جميع الأمم والذي تنفذ إليه أنهار أسطورية أكثر من أن تكون حقيقية؛ أي أنهار جميع الحضارات التي نظمت حياتنا الداخلية!
وذلك أن التاريخ ينعش الجغرافية، والتاريخ هنا أشد حرارة مما في أي مكان من الدنيا، وذلك لأن كل ما يرفعنا فوق الإنسان الفطري يأتينا من البحر المتوسط.
ويظهر أن الإقليم عامل حاسم، فما كانت الأفكار والأعمال الصادرة عن أدمغة أبناء البحر المتوسط وخيالاتهم لتنبت تحت ضغط شمس البلاد الحارة، ولا لتزدهر في مكافحة البرد، وما كانت وجوه الإنسانية ومبادئها لتنضج في الغابات الاستوائية البكر، ولا في غابات جرمانية القديمة، وذلك لما يؤدي إليه النضال الدائم تجاه الحرارة البالغة أو البرد الزائد من جعل الناس سقاما أو عنفا، وتنمو العبقرية في المنطقة المعتدلة، وفي هذا تجد سر انجذاب عظماء أوروبيي الشمال، من متفننين ومفكرين، ومن أباطرة أحيانا، إلى البحر المتوسط على الدوام.
وغدا «إقليم البحر المتوسط» فكرة قائمة بذاتها، والبحر المتوسط هو ما يذكر في كليفورنية والشيلي الأوسط وفي رأس أوسترالية الجنوبي الغربي حيث يتشابه العرض والطول، حيث يتماثل هذا العاملان الأساسيان لكل إقليم، بيد أنك لا ترى في جميع تلك البقاع بحرا ينقر القارة الصماء نقرا عميقا.
والبحر المتوسط وحده هو الجامع لجميع العوامل التي تتمازج إبقاء لاطراد عذوبة الإقليم، والناس في هذا الإقليم ينمون مسرورين منسجمين مع ولع بالفنون ومحص لحضارتهم، ومع ذلك يجب ألا يغفل عن بعض جهات كشمال إيطالية وعن بعض استثناءات كأثينة والقدس؛ حيث يتراشق الأولاد بكرات ثلج، وعن بعض شواذ كالبسفور المتجمد؛ حيث أمكن المرور من أوروبة إلى آسية على الأقدام ذات حين.
ووضع البحر المتوسط كما يدل عليه اسمه هو تمثيل دور الوسيط بين إقليمين متقابلين. وبينما تجلب رياح المحيط المطر إلى أوروبة الجنوبية والوسطى في أثناء جميع السنة تظل الصحراء في أفريقية الشمالية جافة دوما بفعل الرياح التي تهب بين دائرتي الانقلاب من الشرق إلى الغرب، فيبدو البحر المتوسط واسطة بينهما، ففي الصيف تسيطر هذه الرياح الشرقية على أمواجه وفي الشتاء يأتي المطر من الشمال الغربي، وتعرف الإسكندرية سبعة أشهر من الجفاف وتعرف بزنطة شهرين منه، وبينما ينزل مليمتران من المطر على مالطة يسقط منه سبعة عشر على رومة وسبعة وسبعون على تريستة. وعلى العموم يأتي شهر ديسمبر بأعظم الأمطار ويأتي شهر يولية بأقلها حتى في الشمال ، وهذا الجو الكثير الاختلاف حرارة هو أشد اضطرابا من جو الإقليمين المجاورين. والواقع أن الرياح في الجزائر الإغريقية هي من العنف العظيم ما لا تنمو معه الأشجار عالية، ولا شيء في البحر المتوسط يقف الخيال الشعبي أكثر من الرياح التي تختلف أسماؤها بين لغة ولغة فيوجب هذا ضروبا من الارتباك، وأكثر ما يخاف حتى القفقاس باسم بوره
26
يسمى في فرنسة بالمسترال، وهو ريح باردة، جافة عفراء على العموم، وتأتي هذه الريح من المناطق الباردة ذات الضغط الجوي المرتفع في القارة لتملأ ما فوق البحر الحار من الانخفاض. وهكذا يظهر المسترال من جبال الألب فينقض على وادي الرون في سواء حر الشاطئ فيربك الحياة فيه، ويثب المسترال على مرسيلية مرة في كل يومين فيبدو مثل شخص مشئوم يحب النوم بضع ساعات ليلا حتى ينطلق صاخبا صباحا، وقد حاول أغسطس أن يسكنه فأقام له معبدا. واليوم تحمي صفوف السرو بساتين البروفنس منه، ويخرج رمز الشمال ورسوله هذا من جبال الألب الجانبية، وتنشأ عن اصطدامه بالريح الحارة والفاترة الآتية من البحر عواصف يذكرنا عنفها وقصر دوامها بمغازي البرابرة، وإن شئت فقل بغارات الوندال المتجددة على الدوام.
وغير ذلك الريح الشرقية المعروفة بالسموم وبالخماسين، والتي قد يدل اسمها على رياح كثيرة أخرى، ويسمي العرب ريح الجنوب المحرقة «مطر الدم واللبن»، وتؤدي هذه الريح إلى شحوب السماء، وتلون كل شيء بالأصفر، وتحجب الشمس وتهيج الجلد، وتعرض محاصيل الزيتون والعنب للخطر، وتكثر الزوابع في أقسام من البحر المتوسط، ولا سيما نحو البحر الأدرياتي، وهي قد بلغت من الكثرة درجة نظمت معها الملاحة بالسفن الشراعية فحظر مجلس البندقية البلدي سفر هذه السفن بين نوفمبر ويناير، وتشابه طبيعة الريح الشرقية الحقيقية طبيعة ريح العرب التي تأتي مثلها من أفريقية فتوغل في البحر المتوسط، وفيما ترى المسترال، الذي هو رسول بلاد برابرة الشمال، يزيغ المقطورات عن الخطوط الحديدية ترى الريح الشرقية، التي هي ألطف من ذلك، تفسخ خشب الأثاث وتجفف الفواكه وتقوض كل شيء بالغبار، وهي توهن الإنسان بما تجلبه من الحر الذي لا يلطفه الليل أبدا.
وقاوم القرون والرياح «برج الرياح» القديم الذي نقش أهل أثينة عليه رموزا مناسبة فيما مضى، وتبصر في الذروة منه إلها بحريا مصنوعا من حديد متحولا ممثلا دور رئيس لفرقة موسيقية مشيرا بصولجانه إلى الجهة التي تهب منها الريح، وتبصر على أطرافه صورا مجنحة بارزة ممثلة طورا برابرة غلاظا يرمزون إلى رياح الشمال الباردة وممثلة طورا أشباحا شبابا لابسين ثيابا خفيفة يرمزون إلى النسام اللطيفة، ويسيل الماء من إناء كيرون المغطى دفيئا واللابس جرموقا والذي يرمز إلى ريح الشمال الغربي كدليل على ما يأتي به من المطر في بعض الأحيان، ويتقدم الشاب الشبه العاري: زفير تقدما وئيدا طليق الوجه فتنم الأزهار التي يجلبها على ملاءمته للحدائق، ويستر بوره أنفه وفمه بمعطف فيلوح أنه يرتجف بردا كبعض مبغضي البشر، وذلك نتيجة للقر
27
الذي ينشره حوله. وهكذا كانت الرياح تسامر أهل أثينة في عصر الآنية المزخرفة بالأسود والأبيض، ويمضي ألفا عام فيرقص دراويش الترك في أسفل ذلك البرج، واليوم تنتظر أثنية هيفاء في سيارتها حبيبا لها بالقرب من برج الرياح ذلك فتكاشر
28
زفير وتغمزه بعينها.
وظلت حرارة البحر المتوسط متساوية بتفاوت طوله، وذلك إلى أن الساحل الشمالي أمين بجبال الألب وإلى أن البحر الأسود يتلقى برد سهوب روسية القارس، وفي هذا تفسير لجو نابل الصحي وجو القسطنطينية الخطر، مع أن كلا المصرين واقع على عرض واحد.
والبحر المتوسط صحي في جميع أجزائه تقريبا، ويكاد البحر المتوسط لا يعرف الأمطار القارية الطويلة المتعبة، وتجد ساعة مشمسة حتى في أسوأ أيامه، وتبصر منافسة بين مطراته المفاجئة وزلازله وزوابعه، ولكن الهواء يسترد صفاءه والأفق روقه بسرعة متساوية. ويمكننا أن نكتشف هذه الحقيقة في نقاء الخطوط التي تزين آنية الأغارقة أو في مرح أوميرس وهوراس، وتركم بقاع لا يجاوز أعلى جبالها، كإتنة والألنب وسيرا نيفادا، ثلاثة آلاف متر ثلجا قليلا ولا تدخره أبدا، ويبدو سطح البحر أحر من الهواء الذي يلاعبه في جميع السنة تقريبا، فأين تجد مثل هذا الانسجام؟ ودوائر الانقلاب وحدها هي التي يمكن أن تعرض بقعة أخرى لا تحجب السحب سماءها إلا نحو أربعة وأربعين يوما في كل عام.
ويقدس الفلاح لذلك الإقليم، ولو أعوزه المطر أحيانا، ويستقبل الملاح نور النجوم ليلا، والشتاء موجود مع ذلك، وكانت «سماء إيطالية الزرقاء الخالدة»، التي تكلم أجدادنا عنها، تبدو زرقاء أيضا لعدم زرقتها في كل حين، ويوجد حتى الثلج، ولكنه لا يخشى كما أن البرد لا يخشى، ويظهر البحر المتوسط اتزانه الروحي فلا يخاف الضدين، ويحاول البحر المتوسط ببصره ألا يباغت مع ذلك، فهو يبقى في الظل عند اشتداد الحر وهو يمضي بمعطفه وقت المساء!
إذن، كيف يمكن فلاحا من الشمال، يقضي قسما مهما من حياته بجوار محترفه أو مراحه
29
أو مطبخه، أن يكون ذا خطو خفيف ووجه طليق كأهل البحر المتوسط الذين يكادون يقضون جميع أوقاتهم في الخارج؟ ومع ذلك لا يقتطف فلاح البحر المتوسط ثماره بسهولة كما يفعل زنجي أوغندة، وما يؤدي إليه عدم المطر من عيشه في الهواء الطلق يحمله على أعمال الري، وليست حياته أطول من حياة الجرماني ولكنها خير من هذه، وله وقاية بالحر من غير إرهاق، وهو لا يحتاج إلى العمل الشاق، وما يناله من محصول عادي يكفيه، وكل ما يحتاج إليه هو الحبوب والزيتون والخمر والتبغ تقريبا، أجل، لا يعيش عاريا كالزنجي، وهو يقدر الزخارف، غير أنه يكتفي عادة بدراعة
30
وبعمرة،
31
وقد تعودت رجلاه الأرض الحجرية بالوراثة.
وهكذا ظهر في إقليمه نوع من الحياة يتعاقب من غير تحول في غضون الأجيال ويتكرر برجوع الأوضاع نفسها مع الأدوار والحدود التي لا تستطيع الطائرة ولا الإذاعة أن تغيرها. وذلك لأنه حينما يجلس للشرب تحت عريشه فيلف سغاير ويبصق وينتقد حكومته تكفيه نظرة إلى السماء الصافية وإلى البحر الأزرق لتطمئن نفسه وتقر عينه.
5
يمس البحر المتوسط ثلاث قارات، ولكنه يجمعها بدلا من أن يفرق بينها، ولو كان من هوى إله قديم أن يجري هذا البحر من مضيق جبل طارق وأن يخصب بقوة سحرية حوضه الذي يجف وأن يغدو حوضه هذا معمورا لأصاب العالم القديم وصب، وهل كان العالم الحاضر يصير أكثر ثراء لو كان قد خلف الآلهة مهندس فأزال مياه تلك المساحة العظيمة بعمل أسطوري وأضافها إلى أوروبة الزاخرة بالسكان؟ ما كانت أوروبة، أو هذا الرأس الآسيوي الصغير، لتكون لو تألفت منها ومن أفريقية الثابتة كتلة واحدة، والبحر المتوسط وحده هو الذي أوجب الحركة التي سما بها العالم الغربي إلى نور الفكر. وإذا كانت ذات العبقرية الجامحة أوروبة الصغيرة قد استطاعت أن تتخلص من آسية وأفريقية، من هذين التمثالين الثقيلين، فإنها مدينة بذلك للبحر المتوسط الذي فصلها عنهما والذي تشق عبابه ألوف السفن ذهابا وإيابا كرسائل الغرام بعد الفراق.
وتكفي نظرة واحدة على الخرائط العجيبة التي تعرض علينا رموز العالم لإثبات تحويل البحر المتوسط لذينك الغولين الراقدين، ولم تعتم جموعهما الناقصة؛ أي جزرهما وسلاسل جبالهما وجحفل جزائرهما حول الخلجان، أن أخذت تنتظم، وما كان من اختلاط الأرض والماء الذي نجم عن ذلك، ومن سخاء السعاة الذين ظهروا لاختصار المساوف يلوح أنه نتيجة لإرادة القارات الثلاث التي سلمت أمرها إلى البحر لتبادل حضاراتها، ومن الصحارى والجبال ما يفصل بلاد الساحل عن الجنوب والشرق فيؤلف وحدة لها في حياتها الخاصة، واليوم تشتمل منطقة البحر المتوسط على ثلاثة أرباع أوروبة وعلى ثلاثة أرباع تاريخها، ومن البحر المتوسط أخذت أوروبة كل شيء تقريبا، وذلك من غير أن تأتيه بشيء، وعكس ذلك ما اتفق لآسية.
وهنا نرد بمباحثنا إلى العناصر، فنرى أن الطبيعة هي التي تعين تاريخ الأمم أو أنه يتأثر بها تأثرا عميقا على الأقل، وما في الأمواج من جريان، وما في اصطراع الأرض والماء من تبدل، وما في عالم الأسماك والأشجار من تغير، ذو انعكاس على النمو البدني والاتجاه الروحي لكل واحد، ولو من غير شعور بذلك، ولو مع محاولة الابتعاد عن ذلك، ومن تندر دراسته للطبيعة أو إدراكه لأمرها فيقضي العجب من تدخلها في الغالب ولكن بعد الأوان. وقد قال نابليون إن العناصر، لا الأسلحة، هي التي قهرته، وإنه لم يقدر ثلوج روسية تقديرا مضبوطا، ولا نستطيع أن نفقه ما نرى تكاثره على شواطئ بحرنا ما لم يكن لدينا سابق عرفان بما يعمل ويعيش في الأمواج وما ينبت على طول الساحل.
وتنعش مجاري الحياة الاقتصادية والحروب وتنافس الأمم مدن الساحل كما تعين الرياح حال الجو، وإذ إن للبحر المتوسط طبيعة بحيرة تقريبا فإن هذه الطبيعة تجعل ذلك الاصطراع منوعا أكثر مما في أي مكان آخر، وما يتصف به من كثافة ماء واختلاف مستوى وحرارة وكثرة جزر وفرض يمأى
32
الجريانات التي تعين حيوان البحر ونباته، وكذلك تعين حياة الأنام على الشاطئ بفوران الجريانات الذهنية الدائم.
وتنظم المضايق تلك الجريانات على وجوه مختلفة، وهكذا يمثل الدردنيل دور ترعة عظيمة بين بحرين، ويكثر ما يرسله البحر الأسود من ماء ما دام بخره أضعف من اندفاع نهره الكبرى ومع بطوء ما يأتي من البحر المتوسط، ويعرف «البحر الأحمق» في ساحل صقلية بأنه يبتلع البواخر الكبيرة فضلا عن الزوارق، ولا غرو، فهو جريان يدور من فوره.
وبجانب القوى المقدرة التي تصدر عن تلك الأعماق بغتة، يبدو ذلك البحر الملغز كبعض العظماء الذين ينطوي ابتسامهم على وعيد فيستطيع أن يجيء بمفاجآت ناعمة، ومن ذلك جريانات مائه العذب التي لا تختلط بماء البحر، وكان معظم هذه الينابيع مألوفا لدى القدماء، ومن هذه الينابيع واحد في خليج سبيزية وآخر في ترانت، فيمكن صيادي السمك عند العطش أن يستخرجوا من كل منهما ماء صالحا للشرب في وسط الخليج، ومثل ذينك الينبوعين ينبوع أريتوز الواقع بالقرب من سرقوسة والذي تغنى به الشعراء. وفوق تلك الجهات شبه الرعائية يشتد اعتراك الأرض والبحر، وعملت الرياح والجريانات عملا مضاعفا في الشواطئ فأدت هجمات البحر إلى سقوط طرائد
33
كبيرة من الأرض إلى الماء في أزمنة ما قبل التاريخ غالبا، غير أن الغرين الذي كشفت عنه المستحاثات البحرية، وركم في غضون الزمن، كان قد حمل القدماء على تغيير مرافئهم التي تملأ رملا.
وهنالك، على مستوى الشواطئ، يوجد الميدان الأكبر للصراع بين الأرض والبحر اللذين يتقاتلان ويدافع كل منهما عن الآخر مناوبة، والبحر يناطح الصخور القاسية على غير جدوى، ولكن كل ما ينفصل عنه يسقط في قعر الماء، والبحر يقرض رواسب الطين على مهل، ولكن سيلا جبليا يكون كالمحارب الشاب الذي يلبي نداء فيعوض في بضع ساعات من المكاسب التي نالها البحر في أشهر تولج بطيء. وفي البحر المتوسط يعقب خط الساحل الصخري المفرض، مناوبة، ما في الشواطئ الرملية من منحنيات طويلة، بيضية على العموم، ويكتب الفوز للبحر في أسفل الأودية الخسف وفي دلتات الأنهار عندما تنثني المجاري الرئيسة باحثة عن مصاب أخرى.
وفي هذا الصراع بين البحر والأرض، تكون الأرض خاسرة على الدوام، وذلك بتواريها تحت الأمواج كسرة بعد كسرة، أو بانضمام رواسب غرينية إليها، وفي كلتا الحالين يسيطر عليها العنصر المعاكس، وليس في سوى الزمن الحديث ما استطاع الإنسان بحذقه أن يحمي الأرض من البحر، وما وجده المهندسون المعاصرون من فائدة في تجفيف بعض أجزاء البحر في هولندة وما أراده أولياء الأمور ومحبو الإنسانية من اقتطاع أرضين جديدة من البحر أسفر عن تحقيق المتعذر، غير أن الماء في حوض البحر المتوسط ما انفك، في جو ملائم لعمله، يدرس الساحل منذ القديم.
وأول ما نرى الأب الشائب النيل الذي بلغ غرينه من رمل الساحل السوري ما غدا معه المرفآن، صور وصيداء، واقعين داخل الأرضين في الوقت الحاضر. وكان الإسكندر قد أقام سدا يصل جزيرة صور بالشاطئ، فجعل الغرين هذا السد عريضا كما لو كانت العناصر قد وافقت على فكرة العاهل.
وبين بورسعيد وغزة يشاهد المسافرون المعاصرون، الجالسون على ظهر المركب والمدخنون بعد الغداء، منظرا مؤثرا لكتل من الطين الأسود واسعة كالجزر تدنو من سفينتهم لتنحل وتزول عند مسها المقدم، ويركم النهر الذي نهك برحلته الطويلة كتلا من الحصباء التي تجعل الساحل مستنقعا، وتعرقل الملاحة بذلك، وتصير البقعة وخيمة، ويتحول الميناء إلى مدينة برية.
ومن الراجح أن كانت رافن واقعة على جزيرة فيما مضى، وكانت أضواج
34
مندرة
35
تؤدي إلى خليج أصبح منقعا. وكان هذا النهر إذا غمر الأرض فرض على المزارعين المتصرفين فيما حول المناور من حقول أن يعوضوا من الضرر، فيعد هذا انتقام أناس من أناس آخرين؛ أي من ضحايا الطبيعة التي كانت تهزأ بهم.
وكان المرفآن التجاريان المشهوران القديمان، ميله وإفيز، قد اضطرا إلى تبديل موضعهما غير مرة لحقا بالبحر الفار، ومما يروى أن ميناء أثينة، البيرة، كان قائما على جزيرة فيما مضى، وانظر إلى أطلال إزمير القديمة التي كانت قائمة على شاطئ البحر تجدها الآن واقعة بعيدا، واقعة داخل البلاد في الوقت الحاضر، واليوم ترى تروادة غائصة في التراب أكثر مما في الماضي، وما كان أوميرس ليستطيع أن يقود العناصر هكذا.
وما أنشب في أسوار قلاع الساحل السوري أيام العرب؛ أي منذ نحو ألف سنة، من حلق قلوس
36
المراكب فينتفع به الآن لربط الحيوانات الأهلية في أصابلها.
وأوغل البحر في البر في صفحات أخرى للصراع، فطم اليم برجا بالقرب من بيروت وطمر البحر بعض أحياء يافا.
وأسفر ارتداد الأمواج إلى الوراء في الجزائر عن انهدام مباني الرومان، واليوم يهدد هذا الارتداد أبنية الفرنسيين هنالك، وتقلص الساحل في طرابلس ومالطة على حساب البر في القرن الأخير.
غير أن ذكاء الإنسان ينتصر أحيانا، فيحول قوة البحر المخربة إلى ما فيه نفعه، وتثير دلتا الأنهار مسائل خاصة لقلة الاختلاف في مستوى المناقع التي تيسر تكوينها، وقد يصبح التراب الصالح للفلاحة والذي يدخر فيها مفيدا أو خطرا وفق صنائع المجاورين وعبقريتهم، ويكون إنشاء المرافئ الكبيرة في جهة من الدلتا غاليا صعبا كما في الإسكندرية ومرسيلية وسلانيك، وليس في غير الفرض الطبيعية، كفرض طولون وسبيزية، ما يسهل إنشاء الموانئ.
وتكون بلد من الغرين في مصب نهر الرون من فرنسة، وصارت جزر من اليابسة، وتؤلف مصاب الأنهار على الساحل بين البرانس والألب مراكز ارتكاز منحنية ثماني مرات على شكل هلال يربط رأسا برأس وظاهرة أنها من صنع الإنسان، وينحدر قعر البحر بانتظام في تلك البقعة فيقيس صيادو السمك به ابتعادهم عن الشاطئ بحسب العمق.
ومع ذلك فقد قضت الضرورة في القرون الستة أو السبعة الأخيرة بترك ذلك الشاطئ الرائع الانحناء داخلا وخارجا نتيجة لكثرة غرينه، وابتعدت أربونة، التي يرجعها بعضهم إلى عصر أوميرس، عن الساحل في غضون القرون فربطت بالبحر بقناة منذ القرون الوسطى.
وتبعد إغمورت من الساحل ميلا بعد أن كانت مرفأ حتى القرن الثالث عشر، وترى أغد أرضا ذات كروم في الوقت الحاضر بعد أن كان البحر يغمرها منذ مائة عام، وصارت فريجوس ومونبليه وآرل وست مدنا برية، وعلى شاطئ إيطالية الغربي، ترتد سبيزية باستمرار حيال ذلك، وتضيق فرضة بورتوفينو مقدارا فمقدارا، ويتسع مصب التيبر، ويرمل قسم من الساحل بالقرب من كرارة.
وجميع تلك المدن تصرف الذهن إلى البرمائيات التي لا بد لها من التحول إلى حيوانات برية بحكم الأحوال إذا ما أرادت البقاء.
6
بلغت كثرة اصطراع الآدميين واحتراب العناصر من تحويل وجه الأرض ما لا تجد معه كبير صلة بين أية خريطة عصرية وأحسن الخرائط القديمة.
ومع ذلك يظل العالم المستتر تحت المياه ثابتا، ولو استطاع غواص في زمن أوميرس أن يصل إلى قعر البحر بمثل الأجهزة العصرية لأبصر فيه من ذوي الحياة ما يشابه موجوداته الحاضرة.
وأخافت القدماء أعماق البحر المتوسط الحافلة بالأسرار فعزموا على نيل عطفها فأقاموا معابد لنبتون ولأنصاف الآلهة البحرية الكثيرة.
وكشف العلم الحديث غطاء حياة ما تحت البحر كما في كثير من الميادين، وأيد بأدواته ما اطلع عليه القدماء بوحي نفسي فرصعوه بأسماء وحدة الوجود، وما كان في الفترة الطويلة، التي ترجحت البشرية في أثنائها بين الإيمان والعرفان، ليعتقد إمكان حياة موجودات أخرى غير الآلهة في الأعماق. وفي سنة 1818 علق نجم بحر بمرجاس
37
ربان من عمق ثلاثة آلاف متر فكشف القناع بذلك عن وجود عالم حي في قعر البحر، وكان ذلك النجم يشابه رسل ما تحت الأرض الذين استدعاهم دانتي وغوتة.
ولم يكشف العالم الذي لا يسبر غوره، ولم يفتح أفق جديد لإدراك أمور البحر، إلا بعد غطس أسلاك المهندسين، لا قلوس السفن وحدها، في البحر. ومما حدث في سنة 1870 أن قامت سفينة مدفعية إنكليزية قديمة برسالة قصيرة فصنعت في الماء ما يصنعه أكابر علماء الآثار في الأرض، فأثبتت صحة الافتراض المجادل فيه حتى ذلك الحين باكتشافها الحياة الخفية، وكان كربنتر أول من ألقى نورا في ذلك الحين حول تلك المسائل (وكان هذا في البحر المتوسط) فدل مؤخرا، في أثناء ريادات طويلة، على أن الحياة العضوية موجودة في كل مكان.
والبحر المتوسط صالح للسكن مسكون حتى أعماقه، والبحر الأسود وحده، حيث تسيل مجاري ماء عذب فوق الملح الثقيل، وحيث يصعب الجريان بسبب ضيق الدردنيل، هو في أعماقه مثل مملكة للموت، فلا يعيش هنالك غير بعض الجراثيم، ولا يكفي الضغط العظيم لقتل كل حياة ما دام البحر المتوسط يبلغ من العمق خمسة آلاف متر، وذلك كما كان يعتقد فيما مضى. ويأنف ويدهش الرجل ذو الصلة بأكواخ العاصمة السيئة، بعد أن خنثته الحياة، من أناس لا يزالون قادرين على العيش والشرب واللهو مع بؤس بالغ، ومشاعر مثل هذه مما يحسه الغواص الذي يكتشف حياة في تلك الهوي فيحدق إلى العيون الهائلة في الأسماك والتنانين المجهولة التي يلوح عدم شعورها بثقل ذلك العمق. ومن الواقع في بعض الأحيان أن يرتقي عدد قليل من أبناء الطبقات الدنيا إلى السلطان والثراء، ومما يحدث كذلك أن ينتهي أهل البحر العميق أحياء إلى ضياء الشمس، وكلا الحالين شاذ خاص بمخلوقات نادرة قوية.
ويتألف من أسماك البحر المتوسط مجتمع أريستوقراطي إذا ما قيست بالأسماك التي تعيش في بحر شمالي. أجل، إن تلك الأسماك أقل عددا، ولكنها أطيب نوعا، وذلك لأنك لا تجد في الجنوب مثل جماعات الرنكة والقد التي لا يحصيها عد فيصطادها برابرة الشمال. ويعد التن، الذي يظهر بالملايين، غريبا محكوما عليه بالعود إلى الأطلنطي بعد رحلته إلى البحر الأسود في كل ربيع ليتكاثر فيه، ويؤكد جميع صيادي السمك هذا الأمر على حين يجادل فيه كثير من العلماء. وما يسلكه التن من طريق طريف في الذهاب على طول الساحل الآسيوي وفي الإياب على طول الساحل الأوروبي يوضحه بليني إيضاحا وهميا، وذلك بادعائه أن عين هذا السمك اليمنى هي أقوى عينيه، وذلك كاعتذار بعض السادة الشيب الذين تضل عيونهم أحيانا نحو الراقصات المحترفات.
وكان قياصرة الروم يختلسون جماعات من التن عند مرورها كما كانوا يحملون في بعض الأحيان على وقف سياح آخرين من الأجانب. وكان أرسطو، الذي لا يطيق الحياة بلا قياس، قد صنف الأسماك، وقد عرف أرسطو بأنه أعظم علماء الأسماك. ولا يفرط أهل البحر المتوسط في أكل السمك كالإنكليز وسكان الشمال، وكان أكل السمك قليلا في عصر أوميرس كما في المطبخ الشعبي برومة أو الآستانة في الوقت الحاضر، وبما أن الكنيسة اليونانية كانت لا تبيح في الصوم الكبير غير أكل حيوانات البحر الدنيا، فإنه كان يؤتى من الشمال بالحساس
38
مثلما يجلب في الوقت الحاضر، وذلك على حين لا يصدر البحر المتوسط نحو الشمال غير سردينه وسنموره. ويدل صيد السمك الطلياني بالدناميت، الذي هو وسيلة قاسية، على أن هذا الصيد ليس رياضة ولا فنا لدى هؤلاء القوم. وظل صيد السمك في البحر المتوسط استغلالا، لا تربية، زمنا طويلا، فاضمحلت فيه أنواع السمك فوجب الآن إرسال أنواع سمك كثيرة من الأطلنطي صالحة للحياة في البحر المتوسط.
ومع ذلك يزخر البحر المتوسط، عن تقاليد وتربية، بصغار الحيوان التي ترى على أطباق أفقر الفلاحين في منورقة وليباري وسان لزارو ولوقة وباروس.
وينشب في الصخر كثير من الدلاع
39
الأخضر والرمادي والمدور والمسدس الأضلاع والذي له لحم وردي فضي، وهنالك تجد المحار الأزرق المحدب، والمحار الأسمر المسطح، وقنفذ الماء الأسود والأحمر الداخل، ونجوم البحر ذات الفروع الخمسة مع محاجم صغيرة، والسرطان الأصفر الوردي، والإربيان
40
الأزرق العاطل من الملاقط والأضخم من السرطان البحري، والسرطان الأسمر، والسريطين الوردي، وديك البحر الأحمر، وسمك موسى، والسمك المسطح، والسمك الأنمش والسبيدج الكثير الذيول، ولا يكون البحر المتوسط كما هو لولا هذا العالم الصغير الذي ينعش نخاريب
41
ساحله، ولا تزال توجد ثلاثة أسماك كبيرة تنعش البحر المتوسط من غير أن تجعله خطرا، وفي هذا سر تسميتها «سمك يونس»، ولكن من النادر أن يبلغ قرش
42
البحر المتوسط من الطول ما يخافه الإنسان على الرغم من أسنانه الأربعمائة. وكان الخوف يستحوذ على القدماء عندما يرونه، ومما وقع ذات مرة أن ضل قرش في ميناء أوستي فأعد الإمبراطور كلود حرسه لمقاتلته فكانت للشعب تسلية بذلك، وعكس ذلك حال الدخس
43
الذي خلده القدماء بالحجر والبرونز في الغالب فيفتن ملاح البحر المتوسط في كل زمن، وقد رفق به دوما، وقد عاد غير مهدد، شأن اللقلق في البر، وقد غدا مقدسا لدى الشعراء منذ حمل أريون
44
على ظهره، ووجب أن يكون مقدسا عند الفرسان أيضا؛ وذلك لأن ركوب هذا السمك القافز لا يكون إلا من عمل معلم في الفروسية أو من عمل شاعر مجنون.
وإن ما يحنو به هذا الحيوان ظهره فوق الموج، أو يخرج به جميع جسمه، من لطف ممزوج بمزاح يعد من المناظر التي لا تنسى والتي يحفظ المسافر ذكراها الرائعة.
7
يختلف قسما البحر المتوسط المتفاوتان في أكثر من نقطة، ويرى أن القسم الشرقي الذي ينتهي في الرأس الغربي من صقلية وبالقرب من مرسالة أغنى بحار الكرة الأرضية بالجزر، وإذا عدوت الجزيرتين الكبيرتين سردينية وقورسقة لم تجد في القسم الغربي غير جزائر البليار، وقد أثرت هذه الظاهرة في صفات الأمم التي سيطرت على المنطقتين، فصار الأغارقة قوما من الملاحين ومن التجار بفعل أرخبيلهم، وتحول الرومان الذين هم شعب بري ودولة قارية إلى دولة بحرية بتأثير القرطاجيين، ولكن مع خوضهم معاركهم الحاسمة في البر، وأنشأ الأغارقة أحسن السفن وأجمل الموانئ، وعبد الرومان أفضل الطرق وصنعوا أكمل وسائل النقل، ووضع الأغارقة المغامرون المملوءون هوى ورقة قواعد للجمال والحكمة، ووضع الرومان أساس الدولة والقانون، وأدى تقطع أرض الأغارقة، الذي يرمز إليه بتلك الجزر الكثيرة، إلى تلاشي سياستهم، وأسفر تجمع أرض الرومان عن ظهورهم سادة العالم، وتشابه أثينة ورومة محترقي إهليلج واحد فتبصرهما واقعتين في عالم البحر المتوسط لاجتذاب جميع الأشعة وعكسها.
وما بين الشرق والغرب من ترديد فيوازن بما بين الشمال والجنوب من ترجيع، وبينا تمثل سواحل الشمال بفرضها وجزائرها الكثيرة نقوشا وصورا منيفة ترى نمطية في سواحل الجنوب الأكثر استواء، وتبدو منطقة البحر المتوسط الجنوبية الشرقية التي لا تشتمل على جزائر تقريبا أقل مناطقه وقفا للنظر من الناحية الجغرافية، ومن هذه الصحراء الحجرية خرج التوحيد، خرج دين بلا صور، خرج دين مملوء عظمة، ولكن بلا لون، والحق أن الإله الواحد ظهر من الصحراء وحده.
والحوض يمده البحر الأدرياتي إلى الشرق، ويمتد هذا البحر حتى جبال الألب، ويقع أكبر اتساع له بين فيوم وسرت الأكبر. وليس في شبهي الجزيرة الضخمتين، البلقان وآسية الصغرى، ما يقف النظر على الخريطة إلا حيث يتشعب البلقان ثم يتوارى ليجزأ أمام الساحل الآسيوي إلى مائة خليج ولسان وشبه جزيرة وجزيرة. وقد أدت هذه الجغرافية البالغة الهوى إلى ظهور الأساطير اليونانية التي هي أغنى العوالم الإلهية.
واستدارة إيطالية أجمل الجميع، ومن شتمها أن تشبه بجزمة،
45
ما لم تكن الجزمة رائعة خاصة بفارسة كالتي تلبسها الدوكات في ألواح فان ديك. وإذا ما عرضت خريطة أوروبة على ولد لم يلبث أن يدل على إيطالية محاولا تتبع استداراتها بإصبعه الصغيرة. وما كان من القول بوجود برزخين يصلان بين تونس وصقلية وإيطالية فيما مضى أثبت بعظام الحيوانات وبما يرى من العمق القليل في العتبات البحرية القريبة من بنتلرية ثلاثمائة متر ومن مسينة مائة متر فقط، ويميز ساحل أفريقية من ذروة إتنة بالعين المجردة، ومن ينعم النظر في هذا المنظر ذات مرة لا يفقد كل سعادته في حياته.
وعلى الخريطة تعيد العين ذينك الجسرين نحو أفريقية فتغلق الحوض الشرقي على هذا الوجه، وهنالك يرى السبب في مرور كثير من القرون قبل أن تشتد الرغبة في المعرفة والاغتناء فتحفز إلى الفتح من الشرق إلى الغرب، وتتكرر خلجان جميلة التصوير على نمط واسع وعلى طول جميع شواطئ البحر المتوسط، وتوجب بعد ذلك انخفاضا في الأرض وعلى أطراف الأودية، وتجوب سلاسل من الجبال جميع الأرضين المجاورة وتحددها، وإذا ما درست خريطة شعر بالحوادث الكثيرة التي وقعت في ذلك الزخرف الزاخر المتنوع.
ومما يزيد حوضي البحر المتوسط بركة ما بين الشمال والجنوب من تباين نسير به من الألب إلى الصحراء. وكان البحر الذي تدخل به الحضارات عن تماس متقابل خصيب بحرا صغيرا، بحرا داخليا تقريبا، وهو يبدو مسرحا كان يظهر عليه مناوبة للاقتتال برابرة الشمال وأبناء صحراء الجنوب الذين صاروا قراصين، وهل كان ينشأ غير افتراق سكان بحر كسكان البحر الأسود المتنائين عند النظر إلى عزلة هذا البحر الباردة المحدودة، وغير افتراق سكان بحر كسكان المحيط الأطلنطي عند النظر إلى بطء وسائل النقل في هذا الأقيانوس سابقا، وذلك لدى قياسهما بالبحر المتوسط؟ واليوم، حين يكفي وقت مساء للسفر جوا من قورسقة إلى تونس، تتجاور الحضارات التي يربط العلم بعضها ببعض على ذلك الوجه، وتصبح المسافة بين بورسعيد وتريستة من القصر ما نبصر معه خطر ميل المحال إلى الاختلاط، وعلى من يود تمثل اصطراع تلك الحضارات في القرون القديمة أن يتناسى السرعة الحديثة.
ويا له من تباين بين! وبين بحر أزوف، الواقع هو وزوريخ على درجة واحدة من العرض، وبنغازي الليبية يتلقى البحر ريح سيبرية الباردة وريح السموم الأفريقية، وتعد مصر ولبنان من توابع الصحراء مع استثناء سواحلهما، وقد أدى عدم المطر هنا، كما في بابل أيضا، إلى ري مصنوع، وإلى تأليف جماعات تدافع عن نفسها دفاعا مشتركا ضد البدويين، ومن هنا كان ظهور النظام المركزي والحكم المطلق والاستبداد. وعلى العكس أسفر المطر في البحر المتوسط عن الصناعات الفردية وعن الاستقلال والحرية كما نشأت عنه أحزاب سياسية. وبهذا يتجلى أول فرق بين الشرق والبحر المتوسط، وبالملاحة البحرية نفسها يتجلى ثاني الفروق.
ومن دراسة البقاع التي نشأت فيها شعوب البحر المتوسط الرئيسة نتبين ما هو نافع لها ضار بها كما نتبين أسباب انتصاراتها وهزائمها.
وهنا ترى العراق محاطا بالسهوب نافذا من هضبة أرمينية العليا إلى الشرق وإيران والهند بالغا الصين بتجارته غارقا في ظلام الجهل. ومن الناحية الأخرى تعوق سورية، بغورها الأكبر، وسائل الاتصال، ولكن مع امتلائها حيوية في ساحلها الضيق المائل إلى الغرب والذي كان الفنيقيون يدخلون البحر المتوسط منه، وهناك ترى آسية الصغرى محاطة بالجبال من ثلاث جهات فلا تبدو غير أسوجة
46
ولا يسهل دخولها من غير الغرب، وما هي عليه من اتجاه نحو البحر المتوسط ساعد على مغازي الفرس ومسلمي الترك، وبالدردنيل والبسفور اتصل بشعوب سهوب روسية البعيدة فكانت تمير
47
بالحبوب منذ القديم.
ويتصل البلقان بسهول الدانوب الأدنى، ويسهل الوصول إليه بشعب، فأغرى السيت ودارا والقبائل البدوية والروس على الغزو حتى الحرب العالمية الأولى، وفي هذه المنطقة كانت مقدونية وتراكية وصربية تتصل بأوروبة الوسطى بطرق عسكرية ثم صارت تتصل بها بخطوط حديدية. وفي الساحل الغربي من شبه جزيرة البلقان ترتفع جبال دلماسية فتحيط بألبانية التي تشغل مكان إيليرية القديمة، وهذا البلد الجبلي هو أوحش بلاد أوروبة، وتخرج أرضه رجالا عتاة شمخا قست قلوبهم بحروبهم في سبيل الحرية، ولكن مع تجارة تافهة نحو البحر الأدرياتي. وفي الجنوب، ونحو بلاد الإغريق، يتموج البلقان بمئات الفروع على طول البحر اليوناني حيث تهيمن الجبال العالية على الخلجان وحيث تجاور الثلوج والمروج الخضر. ومع ذلك نشأ عن كلس جبال الإغريق وفقدان السهول وتقسيم الخلجان والجزائر؛ أي نشأ عن هذا المجموع الذي يبدو غير ملائم أول وهلة، أسمى حضارة بأوروبة، وسنبحث عن علل ذلك.
ينطوي البحر اليوناني على أعمق بقعة في جميع تلك المنطقة، ويشتمل على خليج مشهور، يشتمل على البحر الأدرياتي ذي المرافئ القليلة والذي ترى بين مرافئه هذه أبعد موانئ البحر المتوسط صيتا مع ذلك، ترى البندقية، ويقع البحر الأدرياتي بين رصيفين جبليين فلا تجد له غير منافذ قليلة سالكة عرضا. بيد أن محاصيل الجنوب ترسل إلى الشمال دوما من طريق البندقية وأخواتها، والسفن نفسها تجلب العنبر إلى نساء الجنوب اللائي لا يشبعن من الزخارف.
وليس العنبر وحده هو الذي كانت تجلبه تلك السفن؛ وإذ يبلغ البحر الأدرياتي أقصى نقطة في شمال البحر المتوسط، ما دام البحر الأسود ملحقا، لا جزءا متما، فإنه صار، حيث كان يعرف منه كل ميل بحري بالحساب، عرق الشمال والجنوب النابض الجامع بين فلسطين والهند وحضارات اسكتلندة، وجاءت البندقية بعد أثينة ورومة وبزنطة، فعدت رابع مركز لعالم البحر المتوسط، فكانت أحسن موقعا من جميع المرافئ الأخرى لمبادلة السلع والأفكار.
وجعلت الطبيعة إيطالية بشكلها وموقعها في وضع لا مثيل له، وأين تجد رواقا داخليا كمعبد مثلما تكونه جبال الألب في الشمال فيرسم على شكل قوس بين بحر وبحر ويحيط بسهول لنباردية التي هي أخصب سهول أوروبة؟ وتنفتح الجبال على شكل مروحة إلى الخارج فتتجه إلى تورين وميلانو وفيرونة وفينسية، ويبلغ مثل هذا الوضع من الحث على الاتجار مع الشمال ما اجتذبت به إيطالية أقدم المقايضات وأكثرها تأثيرا مهما بدت منعزلة وراء سورها. ومما يجب الاعتراف به كون إيطالية اجتذبت البرابرة أيضا، وقل مثل ذلك عن جبال الأبنين الممتدة سلسلة ضيقة في البلاد فتجاوز بشعاب كثيرة سهلة وتنضد على منحدراتها سهول زراعية وأودية بركانية خصيبة. ولو أراد مهندس أن ينشئ جسرا يصل أوروبة بالقارتين الكبيرتين المحيطتين بها لأقامه في المكان الذي تشغله إيطالية تقريبا ولرسمه على شكلها؛ وذلك لأن مدخل البحر الأدرياتي واقع في مكان أصلح من رأس تونس الذي يلوح مرور أقصر الطرق منه، وستكون البندقية وجنوة، لا مرسيلية، ميناءي الشمال الطبيعيين نحو الجنوب الشرقي ما دامت الطائرة لا تستطيع أن تحمل وسق باخرة لزمن طويل. وقد وجدت إيطالية للسيطرة على البحر المتوسط، وليس من المصادفات أن وضعت رومة في قلب هذا البلد المركزي، ولكن دور رومة قد انقضى، وما كان لأمة قديمة أن تعود بعد حياة جزيلة إلى مفاخر شبابها بأكثر مما يستطيعه بطل بلغ من الكبر عتيا. وليس من العبث أن ركمت أمم البحر المتوسط وراءها أجمل تاريخ للعالم بعد اقتتال وتناوب سلطان. وقد اضمحل الفنيقيون والقرطاجيون والبربر من بين الأمم الست أو السبع التي سيطرت على البحر المتوسط وعاشت على شواطئه، وأما من بقي حيا من هؤلاء الأقوام فيشابه رجلا عظيما يأمل أن يداوم على التمتع بما قد ركمه وأن يحافظ على ذكرى ما قام به من تجاريب.
ولا يبدي الأغارقة، ولا الطلاينة، ولا الإسبان، ولا الفرنسيون، ولا الترك، ولا المصريون، من الحرارة العسكرية وشهوة الفتح كالذي كان يشعل قلوبهم فيما مضى. ولأمم البحر المتوسط التي تتفاوت في كثير من صفاتها طبع مشترك، فهي محافظة، وإذا ما نشبت بينها ثورات فإنها تنشأ عن الطبقات الدنيا كفورانات البراكين، وتكون الاضطرابات الاجتماعية عمودية في زماننا كالزلازل، وهي قد عادت وقائع غير أفقية في سبيل ولايات أو مدن.
ويمتاز جنوب فرنسة أيضا بموقعه المبخوت دوما بين سلسلتين عاليتين من الجبال، وفي الأزمنة القديمة كانت تصل بين البحر المتوسط والأطلنطي طريق مارة من بقاع لنغدوكة الضيقة مجاوزة خط المياه الفاصل المرتفع قليلا من أربونة إلى بوردو في وادي الغارون، وأهم من هذا هو وادي الرون؛ أي النهر الذي هو من أجمل مناهج العالم والذي يربط مرسيلية بليون وبالشمال من هنالك، ولولا هذان الواديان لظل تاريخ فرنسة إقليميا، ولو حال الإلهان فولكن
48
وبلوتون،
49
اللذان يتنازعان أمر خلق الجبال، دون نفوذ هذين الواديين إلى الساحل بوصلهما ما بين جبال البرانس وجبال الألب لبقيت فرنسة بعيدة من الحضارة كألمانية. وكانت البغال التي تقطع جبال الألب الوسيلة الوحيدة التي استطاعت الحضارة أن تستعيرها لتوغل في ألمانية، ومع ذلك كانت توصل إلى فينة طريق تجارية عريضة فتجعل من هذه المدينة، كما في هذه الأيام، مركزا أمدن من جميع ألمانية.
وتعد إسبانية أسوأ توزيعا بشكلها الثقيل وسلسلتي جبالها الصعبتين وهضابها المنعزلة وسواحلها الضيقة. وتشتمل جبال البرانس وسيرا على هضبتين مثلثتي الزوايا فتفصلهما عن البحر بصخورهما القائمة الوعرة في كل مكان تقريبا، وتبدو شبه جزيرة إيبرية إذن مثل حصن بحري ذي أسوار قاتمة تبعد عنه جميع العالم. وفي الشمال يجعل جدار جبلي من هذا البلد جزيرة، وذلك لاتجاه الشعاب متوازية، لا نحو مركز كما في لنباردية، وذلك إلى أن البرتغاليين والقطالونيين الذين هم ملاحو شبه الجزيرة الحقيقيون قد اضطهدوا من أمم الداخل مع أن أمم الساحل هي التي كانت مسيطرة في إيطالية. وهكذا جابت ثلاث أمم إسبانية في ألفي سنة لتدخل أوروبة أو لتخرج منها، ولم تكن فيها طريق أممية كالرون أو البو يمكن أن تصل أوروبة بالبحر المتوسط أو أفريقية الغربية.
ويتألف من جبال درن أطول سلسلة جبال في تلك المنطقة وأعلاها، ويتفرع بين ذراها أودية طويلة عريضة لا ترى مثلها في إسبانية، وما هو واقع من نزولها بغتة نحو الصحراء في الجنوب لا يربك الحضارة المحلية أبدا؛ وذلك لأن السهول والأودية العريضة سهلتا بلوغ البحر، ولا سيما مراكش، على الدوام، وتقل فرض الساحل في الشرق، فيظل تاريخ منطقة سرت نمطيا كالمنظر. ومن يلق نظرة على الخريطة يتبين سبب عدم اشتراك مصر في حياة البحر المتوسط وسبب نشوء معارك البحر المتوسط وتجارته وروحه وفنونه في السواحل الجبلية من الجزر وأشباه الجزر.
وهكذا يتضح ما بين البحر والبر من صراع؛ وذلك لأن الجبل أقوى صور البر؛ ولأنه يتجلى به مع سطح الماء تضاد مؤثر، ويحدث على جميع سواحل البحر المتوسط، حيث يتعارض العنصران، توتر كالذي يكون بين طبعين مختلفين اختلافا أساسيا.
8
والمطر هو العنصر الثالث، وعلى المطر تتوقف المحاصيل التي تغذي الإنسان، وتوازن البحر المتوسط كامل من هذه الناحية، ويتناوب حوضه بين الشمال الماطر والجنوب الجديب جفاف في الصيف وغيث في الشتاء فيعين ذلك نباته وحيوانه. وهكذا ينقص عدد الأنهار الدائمة نازلة نحو الجنوب، وتكون الملاحة محدودة هنالك، حتى إن الجسور، التي تقصر في الخريف وتطول في الشتاء قليلة العدد، وفي أوائل فصل الأمطار تجر أكداس من الحصى إلى مجاري الماء الجافة، وتزخر الأنهار ثم يقل ماؤها سريعا، ويفصل النهر ما يربطه عادة فيجب أن يعبر على ظهور الخيل، وتجف الآبار في الجنوب أيضا مع أنها أكثر عمقا، غير أن الينابيع الطبيعية تعد مقدسة لأنها وحدها هي التي تبدو خالدة.
وكان المنظر أكثر جمالا في الأزمنة القديمة غير أن الإقليم كان أشد بردا، وكان يوجد على طول البحر المتوسط في تلك الأحايين غابات كبيرة ذات نبات غني بالصيد فوجب أن تحيا. وكان قدماء المؤلفين، من أرسطو إلى أوفيد،
50
يتوجعون من الثلج والبرد، ويتكلم فرجيل حتى عن الصخور التي صدعها الصقيع، ولكن لا يغب عن البال كون المفكرين في كل زمن وجدوا عدم زيادة الحر. والواقع أنه كان ينشأ في الحدائق الرائعة التي حول رومة ضروب من المنابت الزجاجية، وأن الرومان كانوا يسيرون على غرار إيزس فيغطسون في نهر التيبر «الجامد صباحا»، وما كان من زوال الغابة البكر هنا كما في كل مكان يعد نتيجة الحضارة. وكانت آسية الوسطى في زمن الصليبيين مستورة بالغابات التي أبادها البدويون في نهاية الأمر، ووجدت في بادية الشام الحاضرة معاصر زيت متينة فتدل على تحول يمكن تفسيره جزئيا بنقص الأمطار وتقلص حدود الثلوج، وترى كليفورنية في وضع مماثل.
وكان طمع الناس وغفولهم هنا كما في أمريكة أسوأ عوامل التخريب في غضون القرون. ونشأ عن النار وفأس الإنسان وعن المعز تخريب في منطقة البحر المتوسط أكثر مما في بلاد الشمال؛ وذلك لأن الأدوار الجافة حالت دون التفريخ، ولأن الأمطار غسلت الأرض وجرتها، وتزيد دلتات الأنهار وتصبح مناقع في كل مكان، وتنهار الجدر والأرصفة التي تتألف حواجز منها، ويخرب الناس، الذين لا تحرك نفوسهم أية رغبة في الزراعة، ما يزدرونه من غاب. وهذا إلى أن التآكل يزيد مع نقص الشجر، وتصير الجبال جردا مقدارا فمقدارا، واليوم يلمع لون صخورها الصفر بفعل الشمس فتبدو رسما جيولوجيا نتيجة لعدم ادثارها بنبات. ومع ذلك كانت الطبيعة أقل تغيرا من الآدميين، وما يبدو من ازدهار صقلية منذ قرون يدل على ما يمكن إقليم البحر المتوسط أن ينتجه.
وكل ما ليس شجرا، من كلأ وعوسج وثيل،
51
يلائم نظام الأمطار، وهو يبرعم في الخريف وينمو في الشتاء رويدا رويدا، ويسرع في الربيع نموا، فإذا حل فصل الصيف ظلت الأرض مستورة بحسك
52
لاصق وعشب يابس معانية نعاسا صيفيا بدلا من الرقاد الشتوي. وعلى العكس تحتاج النباتات الخشبية إلى فصلين، وذوات الأوراق الدائمة من الأشجار هي التي تعين صورة المنظر، وهي تجتنب الجفاف بقشر قاس أخضر أو أسمر، لامع في الغالب، وهي تحفظ نفسها أيضا بالزيوت العطرية وبالأشواك التي تقوم مقام الأوراق كما في السهوب.
وتظهر أوراق العفص والزيتون الجافة المجلدة
53
من القصر ما تقاوم معه التبخر، ويعد ورق الغار من أطول الأوراق، ولهذه الأشجار الدائمة الخضرة وقاية بشكلها وتركيبها ولونها وبطبقة لبدية أيضا، فيمكنها أن تنبت في أماكن ترتفع عن سطح البحر 1800 متر، وهي تنتصب متباعدة كما في السهوب فيصعب نمو نبات تحتها، حتى إن الأشجار ذات الأوراق السريعة الذبول تميل إلى الحياة متباعدة، ولا سيما أشجار البلوط والكستناء.
بيد أن البحر المتوسط يشتمل وحده على عنصر جوهري بكثرة، يشتمل على منحدرات مستورة بأعشاب تعين برائحتها وطعمها وتركيبها الكيماوي عادات جميع البلاد المجاورة وطهايتها وصيدليتها.
ويدنو الملاحون من ساحل جنوب إسبانية أو من قورسقة، فيعرفون بلدهم الأصلي من رائحته التي تنتشر إلى مدى بعيد، حتى إن الأجانب يشعرون بذلك في بعض الأحيان، وهذه رائحة مركبة حادة قليلا، وهي نصف عذوب نصف مرة، وهي قوية تارة خفيفة تارة أخرى، ولكنها عطرية طيبة على الدوام، ويمكن أن يسمى هذا المزيج بأريج البحر المتوسط، ويستر معظم النباتات التي تتركب منها منحدرات حجرية ذات حشو ناعم لبدي، وتعيش هذه النباتات ضمن شركة وثيقة لا ترى مثلها في غير الغابة البكر، ويخرج الصعتر باقات سمرا خضرا من الحجارة وفطور
54
الصخور فتفوح رائحته بشدة كلما ديس بالأقدام فيلوح أنه يقدم نفسه إلى الزائر الغطريس.
55
وليس زهر الليلك
56
ذو الألوان هو الذي ينشر شذا، بل أوراق الدلبوث
57
هي التي يسطع منها ذلك، ويعد العبيثران،
58
ويسمى «ندى البحر» أيضا، أكثر توترا ووثوبا من القويسة
59
ذات الزرقة الفضية، ويعرفه الأطباء والسحرة والسواحر والصيادلة، ويتخذ الحبق،
60
مع زهره الذي على شكل المظال المستطيلة الزرق الوردية، تابلا في أطباق السمك الذي يأكله الطلاينة، وينتفع به قاعدة لعطر الباريسيين الصعتري فيما مضى، ويشابه غرام أهل البحر المتوسط برائحته القوية اللطيفة.
وبين ذلك تتموج شجيرات الشبت
61
والحوك
62
أو عشبة الملوك التي يتبل بها أهل جنوة معجوناتهم والإسبان مقانقهم،
63
وبين ذلك يرى النعنع ذو الأوراق الخشن والذي ينتفع به الإنكليز في صنع صبغ
64
لهم والذي ينتفع به الأمريكيون في تعطير العلك
65
والذي يحوله الفرنسيون إلى شراب أخضر مقو للباه، وينبت البقدونس البري على المنحدرات بجانب أخيه الضار: الشوكران
66
الذي شرفه سقراط إلى الأبد، وإليك الخزامى الأكبر من ذلك قليلا والأكثر من ذلك عطرا والذي هو ذو أزهار حادة كالسهام تخرج من سوقه السمر الفضية القصفة راجية اجتذاب بعض الرطوبة، وفيما هو أعلى من ذلك وأحد تتدلى إبر العرعر،
67
وهو حين يتحول إلى حب يحول نساء كثيرات إلى حمق، وذلك على حين ينبت الآس بجانبه فيجعلهن رشيدات.
وتنتشر فوق تلك النباتات طليقة موافقة مفرقة للظل شجيرة ذات فروع رمادية مبقعة قليلا مزخرفة بأروع الأوراق، وهي تحجب حبات زرق في أعماق أوراقها المشبعة، وقد كان الشعراء يكللون بها في زمن أبولون،
68
ولكن مع استعمال في الطهاية أيضا، وهي الغار الذي كانت قد تحولت إليه الحورية دفنة؛ أي رمز البحر المتوسط الذي يجمع بين حياة المرح وأطايب العيش والغرام ونعم الفكر والمجد والخلود، وهذا الموكد المزدوج للحواس والروح هو الذي يميز هذه الإنسانية السليمة المتجمعة حول بحرنا.
وتخرج من جميع السواحل روائح العوسج والنباتات العطرية، وهي في الغالب خير معين للعطارة في بلاد العرب وباريس، وتستطيع جميع هذه الأعشاب والشجيرات وجميع النباتات الثيلية أن تنمو بلا رطوبة كالبردي الذي دخل من مصر إلى صقلية، فتقوم بين طرفي العام مقام مروج الشمال حيث لا تزدهر إلا بانحطاط الرطوبة.
وتوجد حول البحر المتوسط أشجار عظيمة أيضا، وبما أن ارتفاع أضخم الأشجار يزيد نحو الجنوب فإن غابات العفص في جبال درن المرتفعة 2800 متر تبلغ من علو المكان ما لا تجد في مثله من جبال الألب غير أشجار الصنوبر والسرو، ومع ذلك لا تنتصب الأشجار في الغالب متجمعة على شاطئ البحر كما في الشمال، بل تنتصب متفرقة كما لو كانت تماثيل. ومن ذلك أن الأرز الناصع الخضرة والقليل الشعث، والذي حاول رسمه كثير من المصورين، ينتصب منحرفا فوق البحر ذي الزرقة موجها للنظر، وذلك كله كالصنوبر الذي ينبت في كل مكان من البروفنس، أو كالسرو الشائع في القسم الشرقي من البحر المتوسط.
وأدخل إلى منطقة البحر المتوسط منذ الإسكندر، وبعد كولنبس بزمن، نبات كثير من أقاليم مماثلة لإقليمه، فتحدث اليوم منظرا يختلف عن الذي كان يشاهده القدماء، وما كان يوجد هنالك أرز قبل الأغارقة، ولا كرز قبل لوكولوس،
69
ولا توت قبل جوستينيان، ولا قصب سكر وأشجار ليمون قبل العرب. ويمضي زمن طويل فيجلب البرتغاليون من الصين شجر البرتقال الذي لولاه ما كانت شواطئ البحر المتوسط كما هي في الوقت الحاضر. ويجيء الأمريكيون بالذرة والبطاطا والتبغ، وبالأغاو
70
ذي المرأى التورائي الذي يلائم منظر فلسطين جيدا فيروق المصورين أن يرسموه بجانب القديس يوحنا. ويحتاج جميع تلك النباتات إلى الري تقريبا، وقد أتقنت هذه الصناعة في لنباردية وفي بعض أقسام إسبانية، كما كان بمصر في الماضي وعلى درجة معادلة.
وتجد كثافة سكان في رياض صقلية كما تجد في وادي النيل، وتبلغ الأرضون ذات الري في تونس أثمانا عالية. وكانت منحدرات جبال درن من ارتفاع القيمة ما وكد معه غزاة العرب بأسلوبهم الرائع سفر الإنسان من طرابلس إلى طنجة من غير أن يفارق ظل البساتين.
بيد أن نباتات البحر المتوسط المميزة تزهر بلا ماء على الدوام، كانت تزهر قبل أوميرس وموسى بزمن طويل على ما يحتمل، وهذه النباتات هي القمح والكرمة والزيتون.
وكانت التوراة تفرق حتى بين الحب السقي والحب البعلي، ولا يزال الأغارقة يصنعون خبزهم كما في زمن أوميرس، ويبذر الحب في أثناء أمطار الخريف، ويحصد في أوائل الجفاف، ويدرس في العراء على صلصال
71
مكثف تحت حوافر الخيل وظلوف البقر، ثم ينقل على ظهور الحمير ليخبأ في المطامير، ويصنع جميع ذلك بما هو أقل سهولة وأكثر خطرا في الشمال حيث يجب تطهير الأرض من الحجارة قبل كل شيء وحيث يمكن المطر الشديد أن يفسد الأمر بعد الحصاد. ويجب على المرء في الأمكنة التي يأتيها الجفاف باكرا، كمصر، أن يكسب عيشه اليومي بمعاناته أعمال الري، ويباع الماء في بلرم مثلا موزونا في آنية، وتحجز الأنهار بالأسداد، ويتصرف في القنوات والنواعير كما في بعض أجزاء إسبانية وسورية. والذرة التي تزهو تحت الشمس في المكسيك وكندة، كما بأمطار الصيف، تزهو في شمال إيطالية وهنغارية، لا في الجنوب حيث يجيء الحر والجفاف معا، وتبذر الذرة في شهر مايو، وتحصد صيفا في سهل البو وبعض أقسام البلقان، وهي في هذه البقاع تقوم مقام القمح خبزا وحساء.
وعلى العكس يكون البر في بيئته بمنطقة البحر المتوسط، وهو لا يتطلب تحت درجات العرض هذه غير أمطار الشتاء، ويمكن حصاده عند انقضاء 170 يوما مع أنه يقتضي ثلاثمائة يوم في الشمال؛ ولذا يكون خبز البر الغالي، المتعذر نيله أيام الحرب، في الشمال غذاء الفقير في منطقة البحر المتوسط فيأكله هذا المعوز مع جبنة وزيتون، ولا يبتغي وراء ذلك غير قدح خمر خفيفة، وكل شيء ينضج هنا بأسرع مما في شمال جبال الألب، سواء أكان ذلك حبا أم خمرا أم إنسانا أم حكمة، والحياة هنا أكثر بساطة، والرجل هنا أقل اطلابا، والسياسة هنا لا تزعج الرجل، ويمكن الرجل هنا أن يزدهر حتى بعد هبوط الأمم. ولم تعرف هذه البقاع الجافة غير قليل من البلايا الطبيعية، وذلك مع استثناء الزلازل المشابهة بفجاءتها لنوبة الغرض المباغت الذي إذا ما استحوذ على الإيطالي التواق حطم كل ما حوله.
والاضطرابات الاجتماعية هي التي كانت تقلل زراعة الحبوب في إيطالية أكثر مما تؤدي الموانع الطبيعية إليه. وما كان الرومان ليموتوا جوعا بغير فتح مصر التي صارت نبر
72
بر لهم. أجل، إن شهوة السلطان، في ذلك الحين كما في هذا الزمن، كانت تثار بالفكرة القائلة إن المجاعة تشتد بلا فتوح، غير أن زراعة الحقول في عهد القياصرة من الإمبراطورية الرومانية قد تقهقرت لاحتياج الأباطرة إلى جنود، ولأن الجنود بعد تسريحهم كانوا يزدرون الفلاحة.
وصار يجب في منطقة البحر المتوسط منذ قرون أن تنشأ أرصفة قبل الزراعة، والأرصفة مما ينهار عند عدم العناية، وبما أن الزراعات متنوعة فإنه يتعذر حدوث مجاعات هنا كما في روسية ما لم يوقد ذوو الطموح من الملوك نيران الحروب أو ما لم توزع الحكومات الفاسدة امتيازات جائرة مثيرة لفتنة الشعب الجائع. واليوم لا يحتاج بلد من بلاد البحر المتوسط إلى مستعمرات ليعيش؛ وذلك لسهولة ابتياع كل شيء ونقل كل شيء على هذا البحر المشترك بينها، وهنا، حيث يعمل الرجل منسجما مع الطبيعة، ينال خيرا هو وبلده، وتبلغ مساحة الأرضين المزروعة بإيطالية 85 في المائة (قبل حرب سنة 1914)، وتبلغ الأرضون المزروعة ببلاد اليونان 41 في المائة، ونصف أسباب هذا التفاوت جغرافي ونصفها الآخر اجتماعي.
والكرمة، كالقمح، تزرع اليوم كما في عصر أوليس، ولا تزال بلاد البحر المتوسط محتوية أحسن كروم الأرض، ويأتي أطيب الخمر من فرنسة على ما يحتمل، ومع ذلك نقلت أشجار العنب إليها من الخارج فيما مضى، واليوم لا تزال خمر البحر المتوسط صالحة للمزج، وأخيرا ليست الصفة هي التي يبالى بها هنا، وليس لخمر فالرن التي تأتي من المنحدرات البركانية ولا لخمر مرسالة التي تنضج في بلد بحري، ولا لخمر كيرس الإسبانية، أن تخشى أية مزاحمة، وأكثر ما تنكشف أخلاق البلد بعدم الاكتراث الذي يبدو قبل قطف العنب، وذلك حين الجفاف الذي يتقبل مع تسليم سهل، وذلك من حيث أكثر النماذج اعتيادا على الخصوص. وهكذا تظهر قوة وسعادة أحد الشعوب والرجال والأرضين، ويعيش الراعي الإغريقي الذي لا يعرف حتى القراءة، والذي لا يصنع غير الإنشاد، كأمير إقطاعي إذا ما قيس بفلاح روسي من طبقته، وقل مثل ذلك عن خمر تراسينة، أو خمر كيرس الأندلسية التي لم تمزج ولم تعتق فتنال كما تسيل من العنب، فهي تهيج المهج التي تنفر من خمر موزيل الخفيفة.
ويجب أن يجتنب في منطقة البحر المتوسط غرس أشجار العنب على التلال لانحدار الماء عنها، وتجمع أمطار الربيع بعناية حول الأجفن،
73
ولا ترى فائدة من المساند الخشبية والدعائم الحجرية، وتتدلى أشجار العنب في أطراف فيسنس أو بيزه بين دردار
74
ودردار كأكاليل من أزهار، وتنمو أشجار العنب في الأندلس وكورنث طليقة بين القمح والزيتون في الغالب، وكذلك بين التين الذي نص عليه الكتاب المقدس حين نصه على الخمر والذي كان القدماء يسمونه «أخا الخمر».
وفي هذه البلاد الجنوبية، حيث تتطلب الكرمة عملا أقل مما تقتضيه البطاطا التي يجب سقيها عند احتباس المطر، يقل ميل الناس إلى الربالة
75
ويبدون أكثر حرية من أهل الشمال، ويخص الطلاينة الكرمة بسبع أرضيهم، ويخص الأغارقة الكرمة بربع أرضيهم، فيدلون بذلك على أنها تؤلف جزءا من حياتهم كما يؤلف الخبز. ويرى في منطقة البحر المتوسط سكيرين أقل مما في الشمال، وتحدث الخمر في الشمال جو عيد يقضى به على نمطية الحياة القاتمة، وتعد الخمر في منطقة البحر المتوسط عنصر حياة يتزن به الإنسان كالخبز والحب.
9
الزيتون مقدس لدى جميع أمم البحر المتوسط، ومن النادر أن تجد رمزا جامعا لمنافع ومحاسن كثيرة كالزيتون، ويلوح أنه لا يوجد منبع حياة غير الزيتون خلد ألوف السنين، حتى إن العيش لا يتوقف على السنديان والزين
76
والزيزفون والقان
77
في البلدان التي هي مصدر هذه الأشجار، فيمكن أن تتوارى، ولكن الحياة هي التي تتوارى عن البحر المتوسط بلا زيتون. والنخل ضرورية أيضا وذلك لأنها تجهز قبائل في أفريقية بالمأوى والثياب والغذاء. والزيتون، من جميع أشجار العالم، هو الذي ينفع ثمره مادة عيش لأكبر عدد من الآدميين، والزيتون لا يستلزم شيئا تقريبا، لا يستلزم مطرا ولا شمسا ولا عناية، والزيتون يعطي من الثمار ما لا يقدر غيره على إنتاجه. وكانت التوراة عارفة بذلك، ففي سفر القضاة ذكر لاختيار الزيتون ملكا من قبل الأشجار.
ويقدر عدد أشجار الزيتون في إسبانية بثلاثمائة مليون، وفي إيطالية بأكثر من مائة مليون، ويحسب مهر البنت في بعض أقسام آسية الصغرى بالزيتون، ويعد التونسي الذي يملك ألف زيتونة غنيا، وفي تونس يمكن 1800 شخص أن يعيشوا من مزرعة زيتون مساحتها ميل مربع، على حين لا يصلح الميل المربع من الأرض البور إلا لإعالة خمسة عشر نفسا. وما في إسبانية من أسوار فاصلة يدل وحده على أن البلد ليس غابة برية، بل ذات غراس ، ويمكن أشجار الزيتون في الأماكن التي تنمو فيها طليقة أن تبلغ من الارتفاع عشرة أمتار، ومن أشجار الزيتون في قورسقة ما يستغلظ فلا يستطيع ثلاثة رجال أن يحتضنوه.
ويقترن تاريخ شجرة الزيتون بتاريخ البحر المتوسط تقريبا، وفي البلاد التي نشأ فيها كل من التوراة والأوذيسة بجانب الأخرى، ظلت أقدم أشجار الزيتون حية لتكون شاهدة على صحة الأقاصيص، ولما فتح العرب القدس فرضوا صب مدين للسلطان عن كل زيتونة. وفي ذلك الحين كان عمر بعض الأشجار يزيد على ثلاثة قرون، ومن هذه الأشجار كانت ثمانية في بستان جثسيماني فحافظ عليها الصليبيون، وكان السلطان يجبي منها ثمانية أمداد في كل عام حتى الحرب العالمية التي اشتعلت سنة 1914، ولا تزال هذه الشجرات قائمة هنالك، ومن المحتمل أن كان يسوع جالسا تحت إحداها في أفجع ساعاته.
ومن يعرف حيوية شجرة الزيتون، ويدرك علائم الخلود في الأوراق الجديدة التي تنمو في أطراف الفروع، يمكنه أن يبصر في شمال الأكروبول بأثينة أشجار زيتون كان أفلاطون يعلم تلاميذه تحتها على ما يحتمل، وكان سقراط يشتري منها زيتا مؤديا ثلاثة أفلس ثمنا لكل لترة، وفي ذلك الحين كان كل من يختبط أكثر من زيتونتين في العام يلزم بدفع مائتي درهم غرامة فيعطى الواشي نصفها مع الأسف. وبما أن زيت الزيتون في بعض البلاد كان المادة الدهنية الوحيدة التي تستعمل كان من الممكن قهر العدو عند إبادة زيتونه.
وديانتا البحر المتوسط، اليونانية واليهودية، قاومتا طريقة إهلاك العدو تلك، وذلك لعدهما الزيتونة شجرة الحياة. قال سوفوكل في مأساة «إديب في كولون»: «إن الزيتونة ذات الأوراق السمر هي التي تغذي أولادنا، ولا ينبغي للشبان والشيب أن يبيدوا هذا النبات الذي تحميه الإلهة ذات العينين الشهباوين والذي يعنى به غارسه.» وما هو محرم في هذه العبادة عن خوف من انتقام الآلهة محرم في التوراة عن سبب خلقي خالص، وهذا وحده يكفي لبيان ما بين الأدبين من تباين، وكلتا الشريعتين كانت تبيح لبرابرة ذلك الزمن استعمال جميع الأسلحة خلا واحدا، وذلك كتحريم الغازات السامة في أيامنا وإن لم تكن هذه غير وجه آخر للقتل من حيث النتيجة. ومع ذلك الحظر كانت أشجار الزيتون في ذلك الزمن تسقط تحت فأس الفاتح كما أن الناس يذهبون ضحية الكيمياء في الوقت الحاضر، فلا معنى لمبدأ الحرب الإنسانية في ذاته.
والزيت أيضا كان مقدسا في تينك الديانتين، وذلك لما كان من وضعه على هيكل أتينا
78
ومن تملئة القرن الذي كان يحمله صموئيل عندما مسح شاول ملكا، وقد صبه أحد الأساقفة الأولين على رأس ملك الفرنج الأول، واليوم لا يزال يستعمل في دهن جباه المحتضرين، وفي التوراة يشبه الوثنيون بالزيتونة البرية التي تتحول إلى زيتونة مثمرة بعد تطعيمها. وعلى العكس كان أهل فلسطين يحاولون تجديد شباب الزيتونة المسنة بتطعيمها بجذر بري وصولا إلى إعادة خصبها؛ أي كانوا يأتون ما يشابه العملية التي تصنع الآن لبعض الشيب حتى يعودوا إلى شبابهم والتي كان الرسول بولس قد حدثته نفسه بمثلها.
وفي كل مكان يكلل الزيتون صفحات التاريخ القديم، وفي كل مكان يعد ورق الزيتون علامة السلم والسعادة، وهل هذا من أجل فتونه أو من أجل خيره؟ وفي الوقت نفسه، ومع عدم وجود زمن للأساطير، أتت حمامة نوح بغصن زيتون، كما دفعت أتينا زيتونة فوق الأكروبول في أثناء مقاتلتها نبتون لما وجدت في ذلك أثمن هدية إلى بلدها، ولما هلكت هذه الزيتونة في أثناء تحريق الفرس لأثينة أخرجت منها فرعا جديدا في يومين. وهذه الزيتونة، التي قيل إن أول إكليل ألنبي كسبه هركول قد أخذ منها، كانت تقطع منها عصائب جباه الفائزين في الألعاب الألنبية في غضون القرون، ولا تزال موميا أحد ملوك مصر تحمل حول جبينها بقايا تاج من زيتون.
ومهما بعد عهد الأسطورة فقد صلحت شجرة الزيتون للآلهة كما صلحت للآدميين، وقد وجدت في جزيرة سنتورن قطع معصرة زيت خربت قبل إنشاء الأهرام بزمن طويل، كما وجدت نوى زيتون في قبور ملوك ميسين. وفي الإلياذة أن النسيج ملس بخشب الزيتون، وأن أوليس صنع سرير عرسه من جذور زيتونة برية . وفي العصر نفسه دفع الملك سليمان عشرين ألف لترة زيت زيتون إلى نجاري لبنان الذين صنعوا من الأرز جسورا لهيكله. وكان العالم اليوناني طاليس أول من أثبت كيف يمكن العلم أن يغني أحد الأساتذة، فمما حدث ذات عام أن أبصر بما يعرف عن الرياح مجيء محصول جيد فامتدح جميع معاصر ملطية كما يضارب في أيامنا وكيل خبير على قهوة البرازيل فيربح كثيرا. وكان غصن الزيتون يتخذ لتكريم الفائز الأفلاطوني من رجال المجمع الأدبي كما يكرم الفائز في الألعاب. وكان لغصن الزيتون محل في ولادة أبناء الوطن وموتهم، وكان بوم أتينا واقعا على زيتونة في قطع النقود.
ويغزو الزيتون إيطالية والبروفنس باسم الديانتين، ويبلغ لنباردية في عهد أباطرة الرومان، وذلك حينما كانت السفن الكبيرة تنقل أوساق زيتون من طرابلس إلى رومة، وكان ديمقرطيس وبليني يقولان موكدين إن صحتهما تتوقف على الزيت. ولما سأل أغسطس الفيلسوف المئوي بوليون روميليوس عما يصنع للمحافظة على حسن صحته، أجابه هذا الشيخ الحكيم بقوله: «عليك بالخمر والعسل داخلا وبالزيت خارجا.»
وتقول إحدى القصص إن أقدم أشجار الزيتون حافظ على شبابه مع ألوف السنين. ومما يثير الدهش ما يرى في الغالب من مشيب أشجار الزيتون الشابة بما يبدو من تخشن قشرها وكثرة عجرها
79
كشراسة بعض الشباب الذين يرغبون عن إظهار حنوهم، وبما أن أشجار الزيتون تشذب في فرنسة على علو ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار فإنها تتسع مقدارا فمقدارا، فيضيق بذلك ما بينها من مساوف كانت صالحة لزراعة الحبوب والكرمة. ويظهر من جميع المناظر التي يزينها شجر الزيتون جو هادئ رعائي داع إلى الراحة أكثر مما إلى النزهة خلافا لغابات الشمال، ويوحي ما عليه الأشجار من شكل القبة بمنظر بناء روماني، على حين يلقي السرو أو الصنوبر في الروع مشاعر غوطية متعالية.
وكما أن شجرة الزيتون تصبر على الجفاف وترتضيه يتصف ابن البحر المتوسط بصفاء أفكاره وجلاء مشاعره وبساطة عواطفه، وهو لا يكون ضجورا ولا كئيبا ولا عبوسا كأهل الشمال، وما تنطوي عليه الكتدرائية القوطية من صبابة إلى الوطن أمر غريب عنه، وقد ظلت نصرانيته نصف وثنية. وإذا كانت الأرض خصيبة رطيبة أخرجت زيتا رديئا. والواقع أن أطيب زيتون ينضج حول بحيرة غارد هو ما ينتج على ردم الصخور في أطراف حقول الجليد، ويعد هذا نصرا للجنوب على الشمال، حتى إن السهل بالغ الثقل على الزيتون الذي يسر بالمنحدرات حيث يجدد الهواء وتسيطر أشعة الشمس كما يسر بالأرض الكلسية المسامية. وتنضج ثمرة الزيتون على شجره في سبعة أشهر من أشهر الحر وعدم المطر، وذلك مع فيض لا يؤثر فيه ما قد يقع بعد ذلك من نزول ماء ولو طال أمده.
وبما أن شجرة الزيتون أقدم الأشجار وأغناها فإنه يقبل كل ما يصدر عنها، حتى ما يبدو غريبا، شأن الشائب العبقري. ومن ذا الذي يتوقع أن يرى زيتونا بريا، يرجع أصله إلى جبال درن على ما يحتمل، فينمو أملس بلا شوك مع فروع مدورة كالذي يرى في مزارع الزيتون بميورقة أو الجزائر؟ وعلى العكس يشتمل الزيتون المغروس على قشر خشن وغصون مربعة الزوايا، وإليك إذن شجرة رائعة محصت بتطعيم من شجرة أخرى شائكة. وقد ورث بعض «القبائل» في شمال أفريقية صناعة التطعيم من كهان وثنيين كانوا قد تعلموها من تجار أفريقيين قبل ذلك بزمن طويل.
ويتم ذلك الاصطفاء في شجرة الزيتون ببطوء، وذلك على مرقاة ما تصنعه أو تعانيه هذه الشجرة الطويلة العمر كثيرا. وإذا ما غرست زيتونة برية في الثامنة أو العاشرة من سنيها، اقتضت مثل هذه السنين حتى تبلغ الغاية من الإنتاج. وتقلم الأشجار في فرنسة في كل عامين تسهيلا للقطف، وينتظر أهل الجزائر عشرين عاما في بعض الأحيان، وهم عندما يسألون عن زمن تقليم الشجرة يجيبون مع الابتسام بأن آباءهم شذبوها مرة واحدة أيام صباهم. وتجد من الرجال في تونس من يتخذون التقليم مهنة لهم، فهؤلاء يشذبون شجرة الزيتون حتى أصلها آخذين ما يقطعون أجرا لهم، وهم يعطون نقدا في الوقت الحاضر نفعا للمالك وللشجر لا المشذب. ومن شأن بنية الزيتون القوية احتمال كل شيء ، احتمال التقليم الطائش وعمق الكلوم
80
وشدة الزوابع التي لا تكاد تقلعها. وتجد شجرة الزيتون للعمر علاجا لا يستطيع أمهر الناس أن يقلده، وذلك أن ساقها إذا ما تجوفت انقسمت إلى شجرتين أو ثلاث شجرات فينمو القشر من الداخل إلى الخارج في محل الانفتاق حتى يكسو الأجزاء المتجردة ويلحمها.
وزيتون البحر المتوسط، كابن هذا البحر، لا يحتاج إلى غير نصف زراعة حتى ينمو ويثمر، وما كان الإغريقي ذو الحضارة الرفيعة، سياسيا كان أو بستانيا، ليطالب فلاحيه وأشجار زيتونه بسوى أقصى الضروري؛ أي بشيء لا يذكر تقريبا، وكل ما سنه سولون في الأمر هو أنه لا يجوز غرس أشجار الزيتون على مساوف تبعد بها الزيتونة عن الأخرى أقل من ثلاثة أمتار، وهذه هي القاعدة المتبعة الآن في البروفنس تقريبا، وتكون المساوف بين الزيتونة والأخرى خمسة وعشرين مترا في صفاقس وفي جنوب تونس حيث ينضج أطيب الزيتون. ويسقى الزيتون هنا سقيا خفيفا عندما تقضي الضرورة بذلك، وتسمد الأرض هنا في الغالب، ولا يكون التسميد في غير هذا المكان إلا في كل خمس سنين. وينبت الزيتون في جبال درن، وفي جنوب إسبانية، حتى على ارتفاع 1500 متر، ولا يزيد محل نمو الزيتون على أربعمائة متر علوا عند بحيرة كوم، حيث حده الشمالي، ومما يحدث في سني البرد الشديد داخل البلاد أن تجمد مزارع زيتون بأسرها، مع أنك لا ترى شيئا يهدد مثل هذه المزارع على ساحل البحر حيث اعتدال الشتاء يدل على بيئتها الحقيقية.
ولم يقتصر ثمر هذا الشجر الجليل وطراز اقتطافه على عدم التغير في ألوف السنين فقط، بل ترى في بعض جهات سورية بقاء معصرة الزيت على ما كانت عليه في زمن الفنيقيين أيضا، فمتى حل وقت القطف بسط نساء الوقت الحاضر ملاحف كبيرة وجلسن تحت الشجر الذي يختبطه الرجال ويهزونه، فيكون بذلك منظر رمزي عميق، ولم يلبث اللحاف أن يمتلئ بثمار يترجح حجمها بين الكرزة والمشمشة على حسب الشجرة ونوعها. وقد تحمل الشجرة نفسها زيتونا أخضر وأحمر وأسود، وقد يكون الزيتون أبيض في سورية أحيانا، وأكثر الزيتون قدرا هو ما يتحول من الأحمر إلى الأسود، ولكن من النادر أن تخرج الأشجار المثقلة ثمارا جيدة جدا، شأن النساء الولد. وتدار المعصرة في الوقت الحاضر، كما في زمن أوميرس، بحيوانات تسير على بيدر مدور، فتسيل العصارة السوداء في حوض حجري واقع تحت ذلك، وتصنع المعصرة في الغالب من ساق زيتونة قديمة ثخينة، فيقال والدة تربي صغارها بقسوة حتى إنها تخنقهم.
وتختلف قيمة الحدائق باختلاف الأزمان، واليوم تبلغ أربعة آلاف فرنك ذهبي عن كل هكتار من الأرض الجيدة، وقد تعطي الشجرة الحسنة المحصول أربعة عشر كيلوغراما من الزيت، وفي فرنسة تعيش اثنتا عشرة مديرية من زيتونها كما تعيش قورسقة وكورفو. غير أن زمن الإصدار الأكبر قد انقضى، وذلك بفعل رجل واحد، بفعل أمريكي أبطل وحده سبب ذلك الإصدار، فقد أطفأ إديسن مصباح الزيت إلى الأبد، حتى في الأمكنة التي لم يعتمد فيها على الغاز بعد. وحتى زمن أجدادنا كان عالم الظلام يغوص في دجنة مدلهمة لو جف زيتون البحر المتوسط. وكانت إيطالية في القرون الوسطى ترسل زيتها إلى الفلاندر، وإلى الصين أيضا.
واليوم عاد الزيت لا يضيء شيئا، واليوم لا يكاد الزيت يغذي من ينتجه. وكانت جميع المنازل القائمة على طول البحر المتوسط تشتمل في قرون كثيرة على جرار زيت كبيرة كالتي ترى في بونبي أمام حانوت التاجر.
واليوم عاد الزيت لا يعيش أحدا تقريبا، واليوم يقضم الأمريكي المتدلل زيتونا في أثناء عشائه، وما يصدر الآن من زيتون البحر المتوسط يتدحرج ضمن براميل في المصانع التي تستعمل الزيت الصافي في صنع الصابون والعطور والأدوية. بيد أن فلاح البحر المتوسط يجلس دوما تحت زيتونته القديمة ويتغذى بما كان آباؤه يتعهدونه من زيتونه وخمره وبره، فإذا لم تنطو ملامحه على خداع تمتعت نفسه بسكون متزن.
ولا يجوز قياس الزمن وفق المعارك، ولا قياس الأمم وفق القياصرة، فبين زوابع البحر وحروب الشعوب، وفي غضون تاريخ دام، وفي أثناء هزات الأرض وتلاطم الأمواج وغرق المراكب يحافظ ابن البحر المتوسط على صفائه، وابن البحر المتوسط هذا، إذا كان سليما خليا مقيما بالأرياف، عاش بما تنتجه الأرض ولاءم إقليما يناسبه.
حتى في المدن يقنع بلحم قليل وبعرق، فيقضي حياة طليقة، واليوم لا يزال المعمل هو المستثنى، والمعمل يدعه حرا يومين في كل أسبوع، وما يبدو به المنزل مع شرفه المكشوفة والكانون في الشتاء والمسكن في طرف الميدان حيث يتردد بلا عمل أو يدخن أو يقرأ جريدته أو يجلس أمام قهوته كما كان أجداده يصنعون في الساحة العامة أيام بركلس، أمور تمن عليه بحياة فعالة مشمسة مروح
81
لا يعرفها الشمال ولا البلاد الحارة.
ومن هناك تأتي مرونة ابن البحر المتوسط اللبقة والنشاط في سيره وذكائه وأدبه وحركاته وفن خطابته. ومن هناك أيضا يأتي الزهو والشغب والحياة العامة المعدودة لعبا والمحاباة وفت المشاريع القومية إلى مائة تركيب ومقاومة السلطة وتعذر سيطرة الزعيم على الجمهور عندما يصبح عاجزا عن إلهائه. وذلك هو أمر جميع أبناء البحر المتوسط، وذلك لكون الفرنسي من أهل مرسيلية أكثر مشابهة للإيطالي من أهل مسينة أو الإغريقي من أهل بتراس من مشابهته لأهل الهافر أو من مشابهة كل واحد منهما لأبناء وطنه من أهل ميلانو أو لاريسة، فجميعهم متقاربون بفضل البحر الذي تمسه منازلهم أكثر مما بالبر الذي أنشئت عليه.
10
ترى الحيوانات أكثر تجردا من الحيل بين جميع المهاجرين الذين اجتذبهم البحر المتوسط أو الذين تركهم يغادرونه، وهي تدل على أن البحر يفصل مرة ويصل مرة أخرى. وكانت الأسود والضباع تطوف في البلقان في زمن غير قريب من تاريخنا، ولكن مع بقاء ابن آوى هنالك، وقد أقام القرد بجبل طارق، وقد استقر الدلدل
82
بإيطالية.
وقد اقتسمت القارات هذه الحيوانات المجترة الدوارة، غير أن الوعول والغزلان ظلت في أفريقية، ويلوح أن الجمل الذي كان يعرفه الفنيقيون لم يأت إلى الغرب إلا في زمن قيصر، وكانت مراكش في ذلك الحين لا تشتمل على جمال بل على فيول، ويمسك القرطاجيون بالفيلة لاستخدامها في الحرب، وكان الملك جوبا يتلهى بالكركدن والتماسيح.
وأنس الحمار قبل الفرس، وكان الحمار يحمل صاحبه في مصر وأقريطش بصبر لم يقدره الناس إلا بعد أن فرغ، وأول ما استخدمت الحصن المصرية الصغيرة كان في جر العجال الحربية، ثم اتخذت مطيا، وقد ألقت الرعب في أثناء مغازي البرابرة الجريئة، وذلك كالغرمان الذين كانوا يجوسون خلال سهول إسبانية فرقا رباعية، وقد نقصت قاماتها فصارت خيلا صغيرة الجسم قصيرة القد في العصر نفسه وفي بعض الجزائر الإغريقية؛ حيث كانت تعيش هذه الأفراس وحشية.
وتغدو الحياة غير موجودة في بقاع البحر المتوسط الواسعة بلا بغال، حتى في هذه الأيام، وذلك لعدم قدرة السيارة على تسلق هذه المنحدرات وهذه الصخور، والبغال نادرة غالية لعدم تناسلها، وعلى البغل أن يثبت أفضلية أبيه لعالم جن بمسألة العروق ما دام وليد حصان وأتان.
83
ولا تدرك مهزأة مسائل العروق، التي تؤدي إلى جعل الخيل قوما من السادة وجعل الحمير قوما من العبيد، إلا من قبل من يقدر على تقدير قوة الحمار الأبيض ونشاطه وجماله ثم قياسه بفرس الحقل الهزيل. وفي كل مكان تجد نماذج عادية، وفي كل مكان تجد نماذج رائعة، ولا يثبت الجواد العربي، الذي هو أجمل حيوانات العالم، أفضلية جنس الخيل بأحسن مما صنع غوتة في إثبات أفضلية عرق الجرمان.
وصارت الضأن والمعز، كصغار الحمير وأنصاف الخيل، أكثر قوة، بفعل غذاء البحر المتوسط وإقليمه، من البهائم الكبيرة التي نقصت تربيتها. ومنذ زمن قليل كان البقر في جهات من آسية الصغرى يجر المقطورات في الطرق الضيقة لمناجم الفحم، ويقال في سردينية إنه يوجد من الرجال من يقدرون على امتطاء البقر، وقد قل طول البقر ومزيته نتيجة لندرة المروج وتعذر العلف. وبينا كان يوجد في ألمانية سنة 1900 عشرون مليون رأس من المواشي لم يكن في إسبانية سوى مليونين، وعلى العكس يوجد في بلاد اليونان من الضأن والمعز عشرة أمثال ما في سويسرة.
وتكاد المعز في منطقة البحر المتوسط تكون نافعة للإنسان كالزيتون، فهي تميره باللبن والجبن والكن
84
وصدرات من الجلد، وتكون المعز أو الضأن أكثر عددا على حسب البقاع ، غير أن رعاء الإغريق يخلطون اللبنين ليصنعوا منهما جبنهم، ولا يحصى مقدار ما أصابت هذه الحيوانات به الغاب من ضرر منذ وصول أعداء الأيك النورمان ثم الترك، فهم، إذا ما حل فصل الخريف، نزلوا من الجبال لدوام الرعي في الخارج وإتلاف المنظر بذلك، لا للذهاب إلى الزراب كما في سويسرة.
وبما أنه لم يمكن هنا تقوية ما بين الزراعة وتربية الحيوان من صلة وثيقة فإن الرعاة يعيشون كما يشاءون فيقضون جميع حياتهم في الخارج تقريبا كمواشيهم. وانظر إلى ألبانية وتسالية، وانظر إلى أقسام فرنسة الجنوبية وأجزاء إسبانية الكثيرة السكان والحسنة الزراعة فيما مضى، تجدها اليوم معمورة بقبائل بدوية وبمواشي هذه القبائل التي كانت منتشرة حول البحر المتوسط في القرون الوسطى.
ولم تنجل مسألة فصل البحر أكثر من وصله إلا بمخلوق طائر، ويجب أن يكون لدى الطائر المهاجر، الآتي من سيبرية وغرينلند محلقا فوق البحر الأسود متوجها نحو النيل أو مارا من وادي الرون إلى الجزائر، أحسن الخرائط ظاهرا، وذلك لانتفاعه بجميع الرءوس البرية ومجاوزته البحر في أضيق أماكنه، ومن الجنوب يصعد أبو منجل والنحام
85
والبجع، وهكذا تتكرر في ألوف السنين هجرة الطيور التي اختبرت غريزتها قبل غريزة الإنسان بزمن طويل. وكانت الطيور المهاجرة تهرع إلى الشواطئ المعروفة لدى أجدادها قبل أن تطير حمائم الزمن القديم المسافرة نحو المحال المقصودة بوقت كبير، وكان الحمام يطير إلى معاشقه الخاصة مجاوزا البحر قبل أن تدخل إلى ريشه أول بطاقة ناعمة.
ومع ذلك لم يعد إلى الشمال ما لا يحصيه عد من الطيور لوقوعها في حبائل كان ينصبها اليونان والرومان على الشواطئ والجزر. ومن ذلك أن ظهر أنبياء ومفكرون من البحر المتوسط دوما ليحملوا أفكارهم إلى البلاد البعيدة، غير أنهم اضطهدوا وقتلوا بعد أن وقعوا في أشراك الكهان أو في دبق السلطات القائمة، فرجمهم أبناء الطبقة الوسطى الدنق
86
الذين يودون منعهم من الوصول إلى أهدافهم البعيدة المدى، ومع ذلك كان يعيش أحدهم أو يظهر تلميذ أو نصير لهم على الدوام. وهكذا سرت حكمة مذاهب البحر المتوسط، كالمذهب الرباني ومذهب الحقيقة ومذهب الجمال، في العالم وأثرت في الأمم التي لا تزال تقدس لها.
11
أتت أول سفينة من الصحراء، وكانت هذه سفينة نهر في بدء الأمر، وما كانت مصر العاطلة من الغاب لتستطيع فتح البحر، ولكنها كانت مضطرة إلى السفر على النيل الذي كان أبا البلد وإلهه معا، وكان خشب السدر الجبلي نادرا، وكان خشب السنط ثقيلا، وبما أنه لم يوجد سوق أو قشور غير ذلك، فإن حزما من البردي كانت تربط في الأزمنة الأولى وتجمع على شكل القرن في الأمام وفي الخلف وتشد بلوح. وكان هذا الزورق الذي هو بلا خدف
87
ولا مقذف يحرك بغواديف،
88
فيمكنه أن يحمل رجلا مع بقرة على الأكثر. ويتقدم الزمن، وتمكن حيازة الخشب، ويحافظ على صورة الفلك هذه، ولا يقال إنه «ينشأ» مركب، بل يقال إنه «يربط»، ويستعمل الجميز والسنط لمزاياهما الخاصة.
ويغامر المصريون في البحر سنة 2800 قبل الميلاد ويجلبون من آشور أربعين سفينة مشحونة بخشب الأرز. وإذا ما نظرت إلى التصاوير الجدارية وجدت الجداف وقوفا مديرين لخدوف الذيل؛ أي المؤخرة. ويمضي زمن قليل فيخترعون الدفة الثابتة معلقة في حلقة فوق المركب فيكون الماء لا الإنسان هو الدافع بذلك. ولم تلبث الأشرعة أن ظهرت على النيل، وعلى مياه ساحل البحر على ما يحتمل، ولم تلبث المراكب أن أخذت تسافر على النهر المتغير دائما، ولم يزل يوجد مجهزون للمراكب حوالي سنة 1500.
وفي كتاب «النيل» ذكرنا ماذا أنجز قدماء المصريين وأهملوا في معاركهم ضد الآشوريين وضد القراصين. وهنا، حيث نبحث في مصير البحر المتوسط، نقتصر على ذكر الرجال الذين كانوا أول من حاول إخراج البحر من الحدود التي حصره القدر فيها، ولم لم ينته الفراعنة، الذين أقاموا الأهرام والمسلات غير مستعينين بآلات رفع الأثقال وما إليها، إلى حفر برزخ السويس؟
هم قد خدعوا البحر المتوسط، وهم، لكي ينقلوا ذخائر الهند نحو الشمال من غير تغيير السفن، لم يحتاجوا إلى حفر البرزخ ما استطاعوا أن يحيطوا به. وذلك أن رمسيس الأكبر اتخذ قبل لسبس بثلاثة آلاف سنة طريقة بسيطة بساطة بيضة كولونبس، فأقام نظام قنوات محكم يصل دلتا النيل بطرف البحر الأحمر الشمالي فتستطيع السفينة في أربعة أيام أن تسير من بحر إلى بحر، مع أن هذا الأمر يتطلب الآن سفر يوم أو يومين في قناة السويس.
ولكن بما أن معنى البحر كان يفوت المصريين، وكان المصريون لا يفكرون في غير نهرهم المقدس، فقد خربت القناة، وتمضي سبعمائة سنة فيصلحها نخاوس مع هلاك 120000 عبد في هذا العمل.
وليس هذا هو الذي أزعج فرعون، وفرعون هذا كان في الحقيقة تواقا إلى حيازة أسطول، وتبلغ الدعابة في سنة 700 قبل الميلاد درجة يحمل معها سيدات البلاط سفنا صغيرة على شكل مشابك صدر، ولم لم يصر على ما تصوره؟ لم ينشأ هذا عن الرمل الذي لم ينفك يهبط، ولا عن موت عبيده، وإنما نشأ عن قول هاتف الغيب له: «أنت تقوم بعمل في سبيل البرابرة»، وهكذا يحمل الكهنة الماكرون الإله على الكلام حينما كان نصف العمل منجزا. ومثل هذا أمر النفق بين دوفر وكاله، وكون خوف إحدى الأمتين من غزو الأخرى هو الذي يحول دون صنعه. وهكذا كان يمكن في ذلك الحين جمع شتات نظام القنوات الذي كان يصل فرع دلتا النيل الشرقي بالبقعة القريبة من الإسماعيلية في أيامنا.
ويتحقق قول الهاتف، فلما مر قرن ظهر دارا الفارسي واستأنف أعمال القناة ليفتح مصر، ثم قطعها متبعا فكرة مهندسيه الوهمية القائلة إن القناة تغمر مصر بأسرها.
وكانت الملاحة في عرض البحر أمرا عرضيا لدى المصريين على الدوام، وما كان البحر ليجتذبهم بل كان يحميهم فقط، ويظهر أن إله النهر سحرهم فحصرهم في واديهم الخصيب بدلا من اجتذابهم نحو الخضم. وكان المصريون يشعرون بأنهم في مأمن، ولكن بما أنهم لم يوسعوا سلطانهم البحري، فقد خسروا سيادتهم حينما اكتشف الملاحة والتجارة شعب آخر، وبينما كانت عظمة مصر آخذة في الأفول رويدا رويدا حوالي سنة 1200 قبل الميلاد، ظهر الفنيقيون فلاح أن تجارتهم حلت محل المصريين سلميا.
وكان كثير مما هو ناقص في مصر يفيض لدى الفنيقيين، ونذكر خشب لبنان من ذلك، والواقع أنه لم يكن عند الفنيقيين نيل يبهرهم، وإذ ضغط الفنيقيين أقوام آخرون ودحروهم من الشرق، وإذ أقام هذا الشعب الصغير بأرض ضيقة يترجح عرضها بين فرسخين وعشرة فراسخ، فإنهم اضطروا إلى مجاورة البحر ليجدوا ما ضنت به عليهم أرض جدبية غير خصيبة. وهكذا صار الفنيقيون أول المستعمرين، ومن المحتمل أنهم من ذرية حام الذين أنبأت لعانية التوراة ببقائهم عبيدا إلى الأبد، ومع ذلك كانت قبيلة حام هي التي أقامت أقوى الدول، أقامت مصر وبابل وفنيقية وقرطاجة، وكانوا يسمون بلدهم كنعان؛ أي البلد الأدنى، وهذا هو الاسم الذي تدعوهم به التوراة، ولم يتكلم الأغارقة عن فنيقية؛ أي بلد البرفير
89
إلا بعد حين، ويدعوهم الرومان بالبونيين ثم بالقرطاجيين.
وكان يمكن أن يسموا برمائيين، وذلك لأن صور وتروادة كانتا أول مرافئ العالم الغربي، فينطلق منهما شعب بري إلى البحر للتجارة والفتح، وقد امتدحهم أشعيا وهيرودوتس، وهم، لما كانوا عليه من ازدهار أيام الإسكندر، يمكن أن يقدر دوامهم بألف سنة. وإذ كان الفنيقيون أقل شهرة من المصريين والأغارقة فإنهم يتخذون دليلا على أن الخلود يضمن بالدين والحكمة والفن؛ أي بأمور ثلاثة كانت مفقودة لدى الفنيقيين.
ولو كانت الفتوح والتجارة كافيتين لنيل المجد لظفر الفنيقيون بالمقام الأول، ولا عجب، فلم يقم أحد قبلهم مستعمرة كطرابلس وقرطاجة، ولم يكن لأحد قبلهم بحرية حربية. وهم قد اكتشفوا فن الملاحة وعلم الفلك والحساب من غير استعارة شيء من المصريين، وهم قد اخترعوا الزجاج ونسيج الكتان والصباغ الأرجواني، والأبجدية أيضا، وكانت ترد إليهم سلع العالم بأجمعه، فتأتيهم الفضة من طرسوس والذهب من طاشوز واللبان من بلاد العرب والعاج من الهند.
ومن الضروري أن كانت روح التجارة فطرية لدى هؤلاء اللاساميين، كما يصفهم الخبراء المعاصرون، وإلا لقامت مقامهم أمم مجاورة أرقى منهم وقائمة في موقع جغرافي ملائم مثل موقعهم كالعبريين. وظل الفنيقيون لعدة قرون أول الناس وأمهرهم في جعل الأمم الأجنبية تهتدي بنشاطهم الاقتصادي، وذلك كما تصنع المصارف الكبرى التي تمثل دور التاجر السارق الدوار فلم يلبث أن يبدو سيد السوق ومثل الأمير الإقطاعي الكبير، وقد أعانهم على ذلك عطلهم من الروح القومية كما يعين أرباب البنوك. وقد روى هيرودوتس أنهم كانوا في كل مكان يستوردون أحسن ما تنتجه البلدان، وقد كانوا يستغلون لبنان ويبيعون الخشب مما وراء البحار كما كتب حيرام يقول لسليمان: «عبيدي ينزلون خشب الأرز وخشب السرو من لبنان إلى البحر، وأنا أجعله أرماثا في البحر إلى الموضع الذي تعرفني عنه، وأنفضه هناك وأنت تحمله.»
وتدل النقوش المصرية البارزة على أن سفنهم كانت، حوالي سنة 1200 قبل الميلاد، مجهزة بمقدم متمدد من الحيزوم
90
وأن أتراسا كانت معلقة في الشبكة، وقد دام تقليد ذلك قرونا، دام حتى عهد الإسكندر، حتى زمن الويكنغ،
91
ولنا بهذه الأقاصيص التي وجدت في التواريخ القديمة، ولنا بهذه العادات التي انتقلت مع الأجيال إلى أمم كثيرة البعد، ما نصحو به. وتشابه الأتراس المعلقة التي انتقلت من الفنيقيين إلى الويكينغ شجرات النسب التي تسفر دراستها عن نشاط حفيد بعيد غارق في خواء
92
مصيرنا العام.
وكان الفنيقيون ينشئون سفنهم عريضة عرضا كافيا لتكون واسعة مع عدم طول، والفنيقيون هم الذين خيل إليهم أن ينضدوا صفين أو ثلاثة صفوف من الجذاف في السفينة الواحدة. وكانت هذه السفن تنقل من البحر الأحمر ومصب النيل ذهب كوش وأبنوس النوبة أو الفضة التي كانت ثمينة كالذهب في ذلك الزمن، وكان يؤتى بجميع هذه السلع قياما بما يقتضيه ترف الملوك والكهنة والخليلات. والحق أن سفن ذلك الزمن هي كطائرات هذه الأيام في عدم اتساعها لنقل البر على البحار. والحق أن كبار التجار كانوا لا يكترثون لغير نقل ما غلا ثمنه من الأدوات، وكل ما يجدونه من الحلي والذهب كانوا يؤدون ثمنه سلعا من النوع الأدنى اللامع، وذلك كالخرز الذي صار يعرض بعد زمن طويل على الزنوج من أهل أفريقية، وهم يستحقون أن يدعوا ب «الإنكليز الأولين» لما كان من براعتهم في إبداع احتياجات جديدة لدى الهمج.
ومن يقرأ ما كتب هيرودوتس عنهم يتمثلهم، فكانوا إذا ما أنزلوا سلعهم إلى مكان ما في ليبية تركوها حيث وضعوها وعادوا إلى سفنهم ورفعوا عمود دخان إشارة إلى الأهالي، والأهالي يأتون من ناحيتهم ويضعون منتجاتهم وينصرفون، ويرجع التجار وينادونهم مستزيدين، وتدوم المفاوضات، وكانت منطقة الحياد حراما، وكانت تتمتع بحماية الآلهة التي يدعوها كل واحد بأسماء مختلفة. وكان طراز التجارة التاريخي الأول هذا يقتضي درجة عالية من الأخلاق ودرجة عظيمة من مبادلة الثقة بين شعوب غريب بعضها عن بعض، فلا ترى مثلها اليوم؛ أي بعد مرور ثلاثة آلاف سنة من ذلك الحين، فسوء الظن هو السائد في الوقت الحاضر، لا في الشارع الخامس وحده، بل عند اقتراب طائرة من غرينلاند أيضا.
وكان أمر استقرارهم لاستغلال المواد الأولية أو لصنع السلع نتيجة سابق إعداد أو متروكا للمصادفة. وهم بعد نزولهم إلى مالطة وصقلية نيلا لمحاصيل محلية استقروا بهما فعنوا بزراعة الزيتون والكرمة والحنطة، وربطوا القواعد الجديدة بغيرها، ووصلوا إلى جزيرة إلبة في الشمال. والواقع أنهم كانوا أول من بلغ المحيط الأطلنطي، وأسسوا قادس (الحصن) وراء جبل طارق لما كان يوجد فيها من الذهب والفضة والقصدير ومحار الأرجوان، ويلوح أنهم انتهوا إلى جزائر القصدير، إلى إنكلترة، وفي ساحل مراكش كانوا يستبدلون بالتن المملح ريش النعام وما يجلب إليهم من جلد داخل البلاد، وكان يقع جميع ذلك حينما كانت إيطالية في فجرها وحينما كاد الأغارقة يفيقون من رقادهم.
12
وأول يقظة تمت للعالم الإغريقي كانت في أقريطش، وكانت هذه الجزيرة زاهرة في دور الفنيقيين الأولين، ويظهر أن قليلا من المغامرين حاولوا السفر حتى سورية التي يوصل إليها اليوم جوا بأقل من أربع ساعات. وهذا أمر محير، وهذا لأن كثرة الخشب في أقريطش أدت إلى إنشاء سفن متينة باكرا؛ وهذا لأن ما كان عليه أهل البلد من أخلاق جزرية لم يعتم أن أوجب نشوء فن الدفاع عندهم. وما حدث من أعمال حفر في هذه البقعة أبان حضارة البحر المتوسط الأولى، وأظهر بأحسن من قبل أحوال الحياة في ذلك الدور الذي ظل تاريخه محاطا بالغموض. وليس من المحقق استقرار الأقريطشيين بهذه الجزيرة قبل الأغارقة الحقيقيين، ومن هؤلاء الأغارقة كانت تتألف قبائل بدوية جاءت من الشمال الشرقي فاستقرت ببلاد اليونان قبل الميلاد بألفي سنة؛ أي في أثناء الغزو المعروف باسم الغزو الهندي الجرماني.
وإذا كان من الصحيح ازدهار أقريطش قبل زمن أوميرس، فإن قصور غنوس
93
ومعابدها مع بلاليعها وحماماتها جديرة بالإعجاب كالآنية المزخرفة والخناجر البرونزية ولا سيما الأقداح الذهبية.
ومع ذلك لا تعدل آثار الأقريطشيين جمالا ما ابتدعه المصريون قبلهم من مبتكرات الفن أو ما صدر بعيدهم عن الأغارقة من الصناعات التصويرية والشعر. وترانا نميل إلى خلط قدم الحضارة بجمال منتجاتها الحقيقي كما نعجب بالصبي عند نبوغه قبل الأوان. أجل، إن المبدأ والجمال يتغيران، وإن الأناشيد التي يتغنى بها تمجيدا للفن الكلاسي
94
حفزت الشاب المعاصر إلى إنكار حقيقتها عن سأم، ولكن لنعترف بأن ما بقي من الفن الأقريطشي من وجوه بشرية، ولا سيما وجوه النساء في مسارح الضحايا المشهورة، هو من الشناعة ما يثير النفور والهزوء، والمطاويع الذين يضعون دمى زنوج الكونغو في مرتبة آثار متفنن كتيسيان ورينوار هم الذين يمكنهم أن يعجبوا أمام مطل الأبدان وطول الذرعان وأمام المقاتلين الذين يزينون أواني الخزف وأمام الفتيان من رصاص وأمام أوثان النساء في غنوس.
وإذا ما قيست أقريطش بميسين التي عانت نفوذها بهت الإنسان كما لو كانت إلهة الجمال قد تشبثت باليونان الصغرى. ويبدو البلوبونيز الواقع في جنوب ميسين قريبا من أقريطش فيستطيع المدفع البعيد المرمى أن يصيب الشاطئ الآخر بقنابله. ويرتفع هنالك حصن ذو قباب ابتدائية حجرية غير مصقولة تقريبا عاطلة من النوافذ، ويسمي أوميرس ذلك الحصن ب «مملوء الفيء»، ويختلف هذا الحصن عن قصر أقريطش الملكي الزاخر بالهواء والنور. ولننعم النظر في الأسدين مع ذلك، أو ليرن في آذاننا نشيد من الإلياذة تمخضت عنه أرض يونانية لا ريب، لنكون شهودا على بعث الفن الإغريقي.
ويظهر أن أهل أقريطش، الذين جاوزوا البحر جلبا للمعادن الثمينة، لم يؤسسوا مستعمرات، وهم، على العكس، قد غزوا حوالي سنة 1400 قبل الميلاد من قبل الشعب الإغريقي: الآكيين بعد الغزو الهندي الجرماني بزمن قليل.
ونشأ عن هذا السفر سيل مداد في زماننا بمقدار ما سال من دم في الزمن الذي حدث فيه، وذهب ذلك هدرا، فلم يترك الدم أثرا ولم تقدم القضايا دليلا، وتتقدم تلك المغازي وتعقبها عشرات قرون من البربرية. وإذا كانت القبائل الجرمانية والسلافية قد أتت من الهند حقا، فإنها قضت في ألف سنة، أو ألفي سنة، حياة فطرية نامية في الغابات مع أن سنن الأخلاق والجمال كانت تنعكس على مياه البحر المتوسط المشرقة. ولما حاول أستاذ مأجور لدى أحد الطغاة أن يثبت، في مئات من الصفحات، نظريات أستاذه «الآرية» ناقض نظرياته التي طبخها بعد جهد كبير، وذلك حينما أضاف إليها في آخر الأمر قوله: «ليس لدينا عن ذلك الدور الذي دام قرونا كثيرة أية وثيقة حول معظم سورية واليونان والجزر.»
والسائح الذي يبصر نباتات سحلبية بغتة، بعد أن يسير من خلال ظلام الآجام على طريق ضيق يشقه زنوج في طين مستور بغياض كثيفة، يمكنه وحده أن يدرك المشاعر التي تستحوذ علينا عندما نكون فجأة في حضرة أوميرس بين عوسج التاريخ الذي لا يمكن نفوذه. والحق أنه لاحظ كل شيء وأنه أوضح كل شيء، فكان صريح الحديث متين الرواية، وكان المكان الذي تم فيه العمل من جلاء الوصف ما وجد بعد بحث، وقد بلغ من قوة الإقناع في قصصه الحوادث ما يبدو معه الهزج الأوميري من عمل مؤرخ، مع أن علماء وصف الإنسان المعاصرين يأتون، عند القياس، بصور وهمية، وما يصفه الشاعر، وما ينطقه، من الآلهة ينطوي على حقائق أكثر من أصدق الأطلال وأوثق القبور التي يستنبط الأستاذ الغطريس نتائج منها عن أصل الجرمان والنورمان، فيجيء بهم من جبال همالية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد إسكانا لهم حول برلين.
وتقوم الأسطورة المدوخة للأسفار في بحر إيجه على حقائق تاريخية بالغة، وما قام به أولئك الأغارقة المسافرون من مغامرات وما احتملوه من أخطار فيما بين البحر الأسود والصحراء، وإزمير وجبل طارق، أعظم من فتح الهند وأمريكة إذا ما نظر إلى اتساع البحار المجهولة وإلى الألواح البسيطة التي كانت تسمى سفنا في ذلك الحين. ومع ذلك فقد نسي أبطال ذلك الزمن، ومن ذا الذي سمع حديثا عن أوتوليك الملطي مولدا والسنوبي
95
مؤسسا؟ لم يتفق لهؤلاء الأبطال من يتغنى بهم مثل أوميرس، أو إنهم لم يعرفوا أن يفتنوه، وإن لم يكونوا أقل عظمة من أوليس. وهنا ندرك السبب في أن الأباطرة والقواد، منذ عهد الإسكندر الأكبر، أحاطوا أنفسهم بمتفننين وصحافيين يتوقف على قرائحهم ونيل الحظوة لديهم كل مجد.
ولم يفتح العالم متفننو الأغارقة ومستعمروهم بين عشية وضحاها، فالأغارقة كانوا يسافرون بين جزيرة وجزيرة في البداءة متعلمين حرفة الملاحة مقدارا فمقدارا، فلما كان القرن السادس قبل الميلاد استقروا بجميع سواحل البحر الأسود واستولوا على أقريطش وقبرس وصقلية، ولم يعتموا أن فتحوا شاطئ البروفنس، وهذا إلى أن ما كان يمازجهم من روح الاطلاع الممزوج بالفلسفة والنشاط حفزهم إلى مآثر جريئة أكثر من مآثر الفنيقيين، ويلوح أنهم كانوا أقل طمعا في الثراء من الفنيقيين وأقل ميلا إلى الملاذ البدنية من أهل أقريطش، أجل، كان في منطقة إيجه أول تخرجهم، غير أن رغبتهم الغريزية في المعرفة ألهبتهم فنشأ عن هذا تفوق جغرافييهم. ومجمل القول أن ما كان عليه الأغارقة من عبقرية فطرية علوا بها جميع أمم التاريخ جعلهم يمتازون في كل أمر قاموا به. والأغارقة بدوا أكثر خصبا في الأفكار من الأمم الأخرى حتى في حياتهم السياسية التي كانت تكدر بمنازعاتهم المستمرة.
ولم سيطروا على جميع الملاحين الآخرين، وبم كانوا أسمى منهم؟ ولم اكتشفوا البحر المتوسط وقهروه، وكيف تغلبوا على أهل السواحل الأخرى من غير أن يخوضوا غمار معركة كبيرة؟ لم يقص أوميرس علينا نبأ أية معركة بحرية، ولم يتغن أوميرس بمحامد البحر، ومع ذلك ترى الأوذيسة شعرا بحريا، ومن يرجع البصر إلى صور المعارك البحرية على الآنية التي هي أحدث تاريخا من ذلك تتمثل له ألعابا حربية. وكل شيء بين أيدي الأغارقة وأدمغتهم، من لغة وفن وحكومة، كان يغدو أهيف رائعا، وما بين الشجاعة والحيلة والإحساس والروح العملية من تمازج ينطوي على أوليس وأشيل في نفس كل إغريقي. والأغارقة قد ولدوا للحياة البحرية؛ أي للقرصنة التي لم يتحرج توسيديد في دعوتها باسمها مضيفا إليها قوله: «لا يرى فيها ما يخجل منه.»
وحياة القراصين والتجار هذه، وهذه الغريزة التي كانت تدفعهم إلى مباغتة ضحاياهم، وهذه المنازعات والمخادعات التي وصفها أوميرس وصورت على الأواني الخزفية، أمور كانت تتفق في نفوسهم مع دوام البحث فتمنح نشاطهم شكلا فنيا، فأصبح مغامرو الأمس آلهة وأبطالا بذلك. وقد أدرك الأغارقة قبل كل شعب، وبما هو أعمق مما عند كل شعب، أن العمل لا يعد شيئا ما لم يكن مقترنا ممثلا بشكل خاص. وإذا كانت مفاتيح الجمال والحكمة لا تزال موجودة في تاريخ اليونان، وإذا كان العالم الغربي قد حفظ أسماء ملوك لم يكونوا في الحقيقة غير رؤساء قراصين، فإن فضل ذلك يرجع إلى شعراء اليونان ونحاتيهم وحكمائهم، وما تنشره الدولة العصرية من الأقاصيص بآلات دوارة كانت الأمة تعهد به في ذلك الزمن إلى بضعة رجال من العباقرة مع تحلل في معاملتهم بلا رعاية بعدئذ.
وقد خلدت القصبة القديمة العادية الحصينة: تروادة بأناشيد كان بعض الملاحين يشيد فيها مع المبالغة بمغامراتهم على نمط الصيادين والرواد المعاصرين، وقد نقلوا هذه الأقاصيص إلى أبنائهم الذين ما انفكوا يعملون فيها خيالهم حتى جمع جميع ذلك من قبل أعقاب أوميرس في جزيرة ساقز
96
على ما يحتمل. ولم تهب قبيلة تسالية الصغيرة، أو الأغارقة الذين لم يكد أوميرس يذكرهم، اسما لكل جمال فقط، بل نشأ الشعر عن الأسطورة أيضا، ونشأ التاريخ عن الشعر أيضا. والحق أن الأسماء والخيالات والصور والأساطير، التي كان الشعراء يوحدون بها جميع القبائل اليونانية، أدت إلى اتحاد جميع الأغارقة، ولولا أوميرس ما وفق الأغارقة لقهر الفرس بعد حين.
وترى الأمر القائل إن الأغارقة غدوا أعظم الملاحين مدينا لفن كذبهم من بعض الوجوه؛ أي لعبقريتهم الشعرية. وقد جسم أوليس وشعراء الأرغنوت
97
فرحين مآثرهم فحولوها إلى أكاذيب عجيبة كان سامعوهم يدركون حقيقتها إدراكا تاما. وقد بلغوا من حب المجد ما كان الحضور يلتهبون معه راغبين في مغامرات جديدة محاولين سبق هؤلاء الأبطال؛ وذلك لاختلاط الأبطال بالمغنين في نهاية الأمر. ومما حدث أن أحد رجال السياسة كان شاعرا وجنديا معا فاتهم بجناية فأخذ ينشد روايته الجديدة لأسطورة قديمة ففتن القضاة وحكموا ببراءته، وما كان يتصف به من روح المبالغة أثبت به عبقريته لدى القضاة وإن لاح أنه يناقض صدق شهادته. حتى إن حفدة أبطال الأغارقة الأباعد كانوا يودون أن يطمئنوا إلى أن الشادي
98
قام بما يجب من تحية أجدادهم حينما كان ينشد «دليل السفن» الذي هو أكثر آثار أوميرس نمطية.
ذلك ما كان عليه سلطان الشعراء في بلاد اليونان. وما كانت سيطرة الأغارقة في البحر المتوسط لتقوم على الطغاة وعلى رؤساء جمهورياتهم الصغيرة، وإنما كانت تشتق من أوميرس وإزيود وهيرودوتس وتوسيديد وأفلاطون وإشيل وفيدياس، وفي التاريخ هذا هو المثل الوحيد الذي أدت الروح والفن فيه إلى إيجاد سلطة عالمية، وقد جعلت حماسية الأبطال من بعض الكسالى والقراصين، الذين كانوا يدعون بأنهم ملوك، مثلا لأشد الرجال والنساء طموحا إلى المجد لدى الأجيال القادمة. وتكتسب الآلهة، التي لم يلبث الأغارقة أن خلصوها من رءوسها الحيوانية الكريهة فأعطوها وجوها بشرية للمرة الأولى بفضل خيالهم، أشكالا بدت ثانية في تصاوير ميكل أنجلو الجدارية حول إلهه الوحيد الأب.
وما كان نيل ذلك ليمكن إلا بفضل البحر؛ وذلك لأن البحر وجزره وفرضه وسواحله أشياء تعرض على حيال الأغارقة العملي ما يحتاجون إليه من مسافة وفرصة لقياسها، وما في بلدهم من غابات كثيرة منذ أدوار ما قبل التاريخ حفزهم إلى إنشاء حيازيم ابتدائية، ثم نجم عن رشاقة أيديهم صنعهم للمرة الأولى سفينة خفيفة متحركة تقابل بسفن النيل الثقيلة كما تقابل التماثيل الإغريقية بالتماثيل المصرية، وقد ظل ذلك المركب في جميع القرون القديمة على البحر المتوسط ذا مقدم وطئ ومؤخر عال ويسار مرتفع وطرفين ناهضين ورأس بارز إلى الأمام ونصف جسر يستطيع الربان أن ينظر منه إلى الخارج، وقد جلست أتينة مع تلماك على الجسر الخلفي الذي لا يزال جزءا جوهريا في المركب حتى اليوم. ثم أدى استعمال الحديد إلى بناء سفن طويلة بالتدريج، وهنالك صار من الضروري أن يكون الربان في مركز السفينة حتى تسمع أوامره من مقدم السفينة إلى مؤخرها. وكانت المجاديف في كل مكان تقوم مقام عمل الريح التي تنفخ الأشرعة. ولم يكن القسم المركزي ذا سطح تام، فاستطاع أوليس أن يجر رفقاءه وأن يدفعهم تحت المقاعد، وكان ينتفع من الجانبين بسكان السفينة المعلق على الجانب بالقرب من الجسر، وكان في العصر الأوميري يوجد في السفينة خمسون جذافا على الأكثر.
وبعد أوليس وغيره من المغامرين الذين كان يسرهم أن يطوفوا في البحر، جاء التجار والمستعمرون الذين توجهوا إلى كل جهة كما صنع الإسبان والإنكليز بعد زمن طويل، ويظهر أنهم وصلوا باكرا؛ أي قبل الميلاد بسبعة قرون، إلى صقلية ونابل من الغرب، وبحر مرمرة والبحر الأسود من الشمال، حيث كان الأرغنوت قد سبقوهم. وفي سرت وجدوا المصريين الذين انتخب أحد أمرائهم ملكا مستعينا بملاحين من الأغارقة، وقد منح هؤلاء الملاحين نقراطيس الواقعة على الفرع الغربي من النيل، وهكذا كان القراصين أول من وصل بين الأمتين اللتين هما أهم أمم ذلك الزمن فوضعوا جسرا ثقافيا ثمينا بينهما.
وهنا، وفي كل مكان، حتى بين أفجع الارتباكات، يعرض تاريخ الأغارقة من الأحوال ذات اليمن ما يلقي نورا على ذوي العبقرية من الناس، كما يعرض من الأوقات المشرقة ما يوكد به فضل الآلهة. وينسى علماء الاقتصاد، الذين يعزون، مختارين، مصاير الأمم إلى نعم الطبيعة، أن البيئة المادية التي يعظم فيها الشعب أو الرجل تتأثر برعاية موجودات علوية أو لغتها. وما كانت إحصاءات تصدير الزيتون أو الفحم لتدل على سجية جماعة إلا عند استقرار أناس قادرين على هذا العمل الخاص بأرض مشتملة على هذا الفحم أو تغذي شجر ذلك الزيتون، وسواء أسيق أولئك الناس عن ذكاء أم مصادفة يظل أمر واحد باقيا، وهو أنهم سيقوا إلى هنالك. وفي الأمثال التركية؛ أي أمثال البحر المتوسط، أن الرجل القدير ذو حظ مستمر، ولكن هذا لا يعبر عن غير نصف الحقيقة، وأما نصفها الآخر ففي كون الرجل ذي الحظ ينم على قدرته المستمرة.
ووجد الأغارقة، الذين كانوا من ذوي الحظ والقرائح معا، في كل مكان كانت أسفارهم وتجارتهم تدفعانهم فيه إلى تأسيس مستعمرات جديدة، أصلح الأحوال للملاحة، كرأس ومرفأين أو ثلاثة مرافئ مختلفة اتجاها. وفي أقريطش كان يبرز رأس للأمام ونحو الغرب، وقل مثل هذا عن رودس وملطية، وهنالك، حيث كان اشتباك الطرق الآتية من الشرق والغرب يتطلب مركزا، قامت كورنث الواقعة في محلها الراهن المثالي. والواقع أن شبه الجزيرة مانعة لكل تجارة، وذلك لوجوب نقل المراكب الحربية من البرزخ، وكان من الممكن إنشاء قناة كما رئي منذ القرن الخامس، ولم يحل دون ذلك غير غيرة كورنث التي كانت تدافع عن نفسها بما عندها من بحرية حربية. وفي ذلك الحين كانت جماعة قوية تعترض وحدها دون وضع نظم، كنظام جمعية الأمم الحاضرة، يمكن أن تكون نافعة للجميع.
ولكن الأغارقة كانوا يبدون ماهرين كلما اقتتلوا. وقد أنشأ الأغارقة في مركز جميع الأرخبيل: دلوس، وذلك منذ القرن الثامن، أول محطة للبضائع في العالم الغربي طولها ثمانون مترا وعرضها ثمانية أمتار، فضلا عن معبد لهم وعن سوق المعبد الدنيا، وقد اتخذت الحصباء والحجارة غير المهندمة مواد تملئة. وكانت السفن تربط هنالك فلا تجر على الرمل كما في الماضي، وقد بني رصيف من حجارة ضخمة طوله 280 مترا وعرضه خمسة أمتار يبدأ حيث يكون الشاطئ الوعر سيفا
99
رمليا.
وفي دلوس وضعت معشوقة زوس أبولون وأرتميس ما كانت الجزيرة تعوم وفق هوى البحر فتفلتت من لعنة هيرا، وقد أقيم على أكثر الجزائر عدم رسوخ أول مرفأ أعد للخلود ما دام يرى حتى اليوم. وكان أغارقة الأدوار القادمة يعدون من عمل الآلهة رصيف ذلك المرفأ القوي الذي وضع المهندسون الأولون مشروعه، واليوم يحاول رفع القناع عن أعمال الآلهة لتعزى إلى فن المهندسين.
وأنشئت في القرن السادس أرصفة على ذلك الطراز لتتخذ متاريس للمدن، وما أنشئ من أحواض للموانئ التي حفرت على ذلك الوجه داخل أسوار المدن كما في ساموس، وما جهزت به من مظال خشبية للمراكب، دام حتى عصر النهضة وفق تصاميم وضعها الأغارقة الأولون. وهكذا ذاعت شهرتهم البحرية في جميع أنحاء البحر المتوسط، ذاعت في البسفور الذي اكتشفه الأرغنوت، ومن الأرخبيل الذي سموه «البحر المسيطر»، إلى ما وراء جبل طارق. وقد انتقلوا من التجارة إلى الصناعة؛ وذلك لأن معظم المعادن كان يوجد في الجبال المجاورة، وكان الحديد الخام يوجد في سورية وفي بر اليونان، والنحاس في قبرس وآسية الصغرى، والقصدير في جنوب إيطالية وإسبانية، وكان يوجد في الجزائر الإيجية ذهب ورصاص خام مشتمل على فضة وزئبق أيضا، وكان جميع هذه المعادن يستخرج بصناعة زاهرة لم تأخذ في الانحطاط إلا في القرون الوسطى. وكان الأغارقة يحبكون النسائج في ملطية، ويصنعون الخزف في كورنث، ويعنون بالأعمال المعدنية في خالكي، وهم في الوقت نفسه كانوا يبتاعون عددا كبيرا من العبيد الذين سنت قبل الميلاد بخمسمائة سنة قوانين لتقييد الاتجار بهم، ولكن مع قليل نجاح كما هو الأمر في إثيوبية في الوقت الحاضر.
ولما تقدمت تجارتهم صاروا يضربون نقودا، وجاء دور القروض فور ضرب النقود، وظهر الربا مع الديون، فبلغ ما كان الدائنون يأخذونه منه ثلاثين في المائة بسبب مخاطر الملاحة.
وكان تجار المدن البحرية ومرابوها في ذلك الدور يتمتعون بحياة ناعمة على حين يجب على الفلاح أن يبيع حريته وحرية أسرته. وكانت قوانين سلون تشتمل على عبارة محكمة تهدف إلى إلغاء كل دين عام وخاص، وكانت تنصب أعمدة حجرية في وسط الحقول فتكشف لكل مار عن ديون الفلاح، وقد يجب علينا أن نجدد هذه الكتابات على جدر البنوك حتى نظهر للزائرين ما يستتر وراء المقدمات العظيمة من الحقائق.
13
لقي الأغارقة في البحر المتوسط خصمين: الفنيقيين والإتروريين، وطفق هؤلاء الأقوام الثلاثة يتصادمون بعيدين من أوطانهم الأصلية، وقد كانت مصادماتهم حروبا استعمارية حقيقية يكتب الفوز فيها للأكثر مهارة .
ويفترض أن هجرة مهمة تمت قبل الميلاد بألف سنة فجاءت إيطالية بالإتروريين الذين هم ثالث أمة بحرية من أمم البحر المتوسط. ويمكن المؤرخ، إذا ما لاح له، أن يقرب بين غزو الإتروريين من الشمال وحملة الأرغنوت التي هي أول حملة بحرية ذات مسحة شعرية حماسية. ويرى بعضهم أن الإتروريين منحدرون من التوسكان الذين يعتقد مجيئهم من آسية الصغرى والذين هم شعب من القراصين ظريف قليل العدد نزل إلى إيطالية حوالي السنة الألف قبل الميلاد، كما هو أمر النورمان في السنة الألف بعد الميلاد. ومن الإنصاف أن تصدق الأسطورة القائلة إن إينة وصل من تروادة إلى إيطالية وصار جد الرومان الطلاينة فكانت رابطة بين دورين أسطوريين.
ومهما يكن الأمر فإن الشعب الإتروري البارع الماهر سيطر على المنطقة الواقعة بين البو وخليج ساليرم بعد نزعها من الأغارقة والفنيقيين. ومع ذلك فإن الإتروريين أنفسهم كانوا عرضة من الشمال لهجوم السلت، ومن الجنوب لهجوم اللاتين الذين يوسعون نطاق فتوحهم ببطء وطيد.
وفي تلك القرون نضدت طبقات متجددة على الدوام في قالب إيطالية، واليوم تقطع كالأقراص، فلا يعجب إذن إذا ما غدا تبين مختلف الطبقات أمرا متعذرا بعد ثلاثة آلاف سنة. وكل ما يمكن الباحث أن يجده في أرض تروادة الصغيرة ليس سوى ألهية خيال عند النظر إلى ذلك البلد الواسع. ومن ذا الذي يستطيع أن يعين الدور الذي اختلطت به عروق إيطالية اللاآرية الأصلية؛ أي الليغوريون والتيرينيون، وعروق سردينية وقورسقة بالمهاجرين من إتروريين وفنيقيين، وأن يبين نسبة جميع تلك العروق؟
وكيفما كان الحال، فإن سكان رومة لم يكونوا آريين خلصا، فليس من الرأي أن ينظر إلى الأمر من حيث الدم بل من حيث اللغة.
وكانت رومة، حوالي سنة 600 قبل الميلاد، تبدو مدينة إترورية، وكانت كلمة «رومة» تدل على معنى «العالي»، ومن الصواب أن يرى أن الإتروريين، لا الأغارقة، هم مربو رومة. ولما طردت قبيلة الرومان بعدئذ هؤلاء الزراع والرعاة الجفاة فابتلعت الإتروريين، كانت قد تعلمت الشيء الكثير منهم، كانت قد تعلمت منهم حتى فن الملاحة الذي كان معلوما لديها قليلا في بدء الأمر.
ومن نتائج سيطرة ملوك الإتروريين في قرن أن تخلقت رومة بأخلاق الأجانب، بأخلاق اللوديين على الراجح، وليست العيافة والطيرة بطيران الطيور وكبد الحيوانات، وليس لبس الحلة، وكرسي الحكام، والحزم
100
التي اشتق منها اسم الفاشية، والقوس المدورة التي عرفت فيما بعد بالقوس الرومانية، إلا أمورا إترورية. ومن الواضح كذلك أن الانتصارات التي تنتهي بقتل الأسارى، وأن الطقوس الدامية، من أصل آسيوي؛ ولذا تختلف أخلاق رومة الفطرية عن أخلاق الأغارقة.
وهكذا تفسر المتناقضات في حياة الإتروريين، كما يدل عليها ما وجد في القبور من الآثار، ما وجد من خمار
101
دام في النصر تشهد به المظاهر المشئومة ويلازم ما اتصف به من أخلاق عملية هذا الشعب الروماني ذو الفضائل المتينة والذي كان يتقدم عن سعي بعيد من العياء. وفي ذلك الزمن كان جفاف الأرض يجعل هؤلاء القوم، كما تجعلهم أخلاقهم، مشابهين لبروسيي هذه الأيام، وإلى هذا أضيفوا النفوذ الإغريقي الذي ينشأ بما لا يمكن إنكاره عن بعض التماثيل الصغيرة والذي يثبت فوز الروح حيث كل دراسة للعرق تصاب بحبوط محقق. وقد ترك الإتروريون وراءهم آثارا رائعة، ومنها تلك التماثيل الصغيرة البرونزية التي صور بها مقاتلون بلغوا من الهيف ما يرون معه أنهم عذارى متنكرات مستعيرات أسلحتهن وخوذهن من إخوتهن. ومنها ذلك الرأس النسوي المصور على جدار إتروري بتاركينية. ومنها «مارس توجي» ذو المظهر الجافي والشكل الغبي، فجميع ذلك من الآثار الإترورية التي استوحت روح الإغريق.
وما كان من صراع بين الأغارقة من جهة والإتروريين والفنيقيين من جهة أخرى أوجب عقد محالفات دائمة مع القرطاجيين، وقبل ذلك كان القوم الملاحون القرطاجيون قد عظموا وتقووا تجاه وعيد الأغارقة. وهنالك، في ملتقى حوضي البحر المتوسط، وهنالك، حيث أقام الفنيقيون معسكرهم للاستيلاء على لجين إسبانية ومنتجات أفريقية، قد أنشئوا أهم مدنهم، وهنالك قد بلغوا سلطانهم العالمي في بدء الأمر، وهنالك قد بادوا في نهاية الأمر. وقد كانت قرطاجة قديمة قدم رومة، وعلى ما في تاريخ شيدهما حوالي سنة 800 قبل الميلاد من شك يدل كل شيء على كونهما معاصرتين. وخلف رأس يبلغ من العرض نصف فرسخ، وفي خليج تونس، يمتد مرفآن على مهل مع وقايتهما بعمق هذا الخليج وبكثير من الصخور العالية، وأحد المرفأين تجاري طويل ذو أرصفة عريضة، والمرفأ الآخر حربي مستدير يشرف عليه سور المصر، وفي أيامنا، حين ينعم النظر في هذين الميناءين، لا يحرك النفس أكثر من تبين صغر أبعادهما الذي قرنه الخيال بفكرة القوة كما فعل بتروادة.
وإذا نظر إلى الأمر رمزيا وجد كل واحد من تلك الشعوب مدينا بسلطانه حتى لأعدائه. وكان الفنيقيون في بدء الأمر قد دحروا من داخل آسية إلى سواحلهم المنخفضة ونحو البحر، وكذلك الأغارقة كانوا قد دحروا إلى شبه جزيرتهم ونحو الأرخبيل، ثم أوغل الفنيقيون، بسبب هؤلاء الأغارقة أنفسهم، في البحر المتوسط حافزين الرومان إلى السير على غرارهم. وهكذا حمل الضغط المستمر أحسن شعوب ذلك الدور موهبة على تحول بعضها من تجار إلى محاربين وتحول الآخرين من فلاحين إلى بحريين، والشعب الرابع وحده؛ أي العبريون، هم الذين ظلوا غريبين عن البحر تماما.
ولم يكن أي واحد من تلك الشعوب مفطورا على غريزة الفتح، وهي لم تقم بفتح إمبراطورياتها مكرهة إلا دفاعا عن النفس. وكان أعظم فاتحي العالم القديم، الإسكندر وقيصر، من أمم لم تحفزها الغريزة الحربية ولا الاحتياج إلى التوسع. وقد أرادت هذه الأمم في البداءة أن تدافع عن نفسها فقط، أن تعيش فقط، ومع ذلك جاوزت إمبراطورياتها من حيث الاتساع، ومن حيث الدوام عند النظر إلى رومة، ما أقامته قبائل البرابرة البدويين من الإمبراطوريات في منطقة البحر المتوسط بعد زمن، سائرة في هذه المرة وراء الغريزة الحربية والميل إلى التوسع.
ولما سار الأغارقة الأولون إلى الغرب بحرا بلغوا صقلية حوالي سنة 700 قبل الميلاد، وبلغوا شمال أفريقية حوالي سنة 600 قبل الميلاد، فشعروا آنئذ بأنهم وارثو قدماء الفنيقيين، ومن قول الهاتف، وهذا لا يزال صحيحا في أيامنا: «من يصل إلى ليبية متأخرا لتوزيع الأرضين يندم فيما بعد.» وكان الأغارقة قد أعدوا للوصول في الوقت المناسب فاستقروا بسرت وأنشئوا قورين وبرقة. وقد بلغ الفوسيون، الذين هم أمهر ملاحي الأغارقة، وذلك مع تعاطي السلب والتجارة، نواحي مصاب الرون، فأقاموا، أو وسعوا، مرسيلية، ثم مروا من جزائر البليار إلى إسبانية ونزلوا إلى قورسقة، وقد كانوا يركبون زوارق رشيقة ذات خمسين جذافا، لا سفنا تجارية ذات جدران مستديرة كما زعم هيرودوتس. وقد ساعد ملك طرطسوس الإسطوري، الذي يلوح أنه ملك الساحل الأطلنطي الواقع وراء جبل طارق ثمانين سنة، فريق الفوسيين الذين كانوا يحاربون الإتروريين واللاتين أو يحالفونهم مناوبة.
ثم نهضت قرطاجة لترد الضربة، وهي، إذ غدت سيدة عدة مدن فنيقية وقبائل إيطالية، هاجمت الأغارقة، وهي قد غلبت نصف غلب في أول معركة بحرية في الغرب جديرة بهذا الاسم، ولكنها وفقت لإنقاذ قسم من أسطولها، ثم حالفت الإتروريين، ثم عقدت قرطاجة معاهدتين مهمتين، وقد احتفظت في إحدى المعاهدتين لنفسها بجميع الحقوق على جبل طارق. فمما ريب فيه أن اجتذبتهم الصخرة التي يفصلها عن القرطاجيين جميع البحر المتوسط الغربي؛ وذلك لأنهم كانوا يحلمون بالبحر المجهول الذي يمتد وراء ذلك. وكان القانون القرطاجي يحظر دخول جزيرة واقعة في المحيط الأطلنطي معاقبا بالقتل من يصنع ذلك؛ «وذلك لأنها مقام الآلهة أكثر من أن تكون مسكنا للآدميين»؛ وذلك لأن الإقامة بتلك الجزيرة مما يوجه إليها نظر الإتروريين، فيحسب هذا القانون دليلا على الأثرة أكثر من دلالته على خصب الروح.
وأما المعاهدة الثانية فقد عقدت بين قرطاجة ورومة القديمة (سنة 350 قبل الميلاد كما يظن) التي كانت عاصمة العالم اللاتيني. وفي هذه المعاهدة صار يحق للقرطاجيين أن يتاجروا في الأرضين الرومانية، ولكن على ألا يقيموا حصونا ولا أن يتلبثوا ببعض الأماكن ليلا، وفي مقابل ذلك وضعت حدود لملاحة الرومان في اتجاه الغرب.
ولم يلبث جميع أولئك الملاحين الغربيين أن ضغطهم عدو قوي جاء من الشرق، فقد أرسل دارا الفارسي رسلا لتهديد قرطاجة ومطالبتها بكتائب مساعدة. وقد فرض هذا الفاتح الآسيوي بأعجاله الهائلة المجهزة بالمناجل على القرطاجيين ترك بعض الأفعال، ولا سيما تقديم القرابين البشرية وأكل الكلاب وتحويل ما يجب عليهم دفنه من الموتى إلى رماد.
ويظل ظل الفتح الفارسي، الذي أقتم به البحر المتوسط، من أقاصيص التاريخ الوهمية، ويمضي قرنان فيلوح ظل المحارب الإغريقي أمام الفرس، وهنالك يقهر الإسكندر سليل الملك الأكبر كما كان يتسمى به دارا أيضا.
وقام كلا المتنافسين بعملهما الحاسم في وسط البحر المتوسط بحكم الضرورة، وكانت صقلية الفاصلة بين الحوضين ميدانا لقتال بين، وينصر القرطاجيون في معركة هميرة في سنة 480 قبل الميلاد ولكنهم يغلبون نهائيا عن خيانة.
وهنالك يسمع للمرة الأولى أحد تلك الأسماء التي هي كل ما بقي من قرطاجة، ويتفق ما لاسم هميلكار من رنين رجولي شديد مع اللفظين الشديدين المتوعدين الدالين على أمته: القرطاجي أو البوني، وهنالك، حيث لا يوجد أي أداة فن، ولا أية صورة مهمة، يجب أن يقوم الرنين في أذن الأعقاب مقام ما حرمته العين، ولهذه الأسماء فينا تأثير اندفاع الأمواج البعيدة، وهي: هميلكار، وهسدروبال، وهنيبال ...
ويكابد القرطاجيون استعباد الألوف من رعاياهم الذين سلموا إلى العدو عبيدا ثمنا لهزيمتهم، وقد بدأ هؤلاء العبيد يقيمون معبدي سلينوت وأغريجانت اللذين لا يزالان يفوقان كل ما تركه الفاتحون في صقلية بعد ذلك. ومع ذلك ظل القرطاجيون من شدة البأس ما لم يجرؤ الأغارقة معه أن يهجموا عليهم في عقر دارهم.
ومن المحتمل أن مثلت للمرة الأولى في تاريخ أوروبة امرأة دورا في ذلك اللقاء الأول الذي كان في ميدان القتال بصقلية. وقد كانت داماريت زوجا لرجل من سرقوسة فأدت دسائسها وخيانتها إلى هزيمة هميلكار وقتله. ولما غلب القرطاجيون ألزموا بدفع جزية، بدفع مائة منا،
102
إلى الغالب «في مقابل مساعدتهم على نيل السلم»، وذلك زيادة على ألفي منا غرامة،
103
ويحملون على ضرب نقود فضية مشتملة على صورة الغالب. ويبقى اسم هذه المرأة سائرا على أفواه القوم قرونا كثيرة لما وفقت له في حرب طاحنة من عمل لم تسطع امرأة أن تكرره في أيامنا.
14
وفي اليونان أيضا كان عالم أوميرس الأريستوقراطي قد تطور إلى نظام شبه شيوعي ، وقد وصف أوميرس ملوك ذلك العصر الوراثيين على العموم، وطراز عيشهم في قصورهم، بالبروج الجبارة كالذي كان بريام وأولاده يشغلون فيه اثنتين وستين غرفة. وكان الغنى يتوقف على المواشي خاصة، ولكن الأرض كانت تزرع منذ دور الأبطال مع ذلك، فيزدرى البرابرة لجهلهم كل ما هو خاص بالفلاحة.
وكان يوجد في الدول الإغريقية التي نشأت بعد أوميرس طائفة من العادات الشيوعية، كالمروج البلدية، حافظت عليها بعض الأمم حتى أيامنا كالسويسريين والروس مثلا. وأدخل المهاجرون إلى جزائر ليباري عادة العمل والأكل معا؛ أي أدخلوا هذه العادة الإغريقية المناقضة لعادة أعدائهم الإتروريين الذين كان يؤلف من أشرافهم طبقة منفصلة. وكان فريق من القوم يكافح القراصين، وكان فريق آخر يزرع الأرض، فكان بعض الشعب يحمي بعضه الآخر فيغذيه هؤلاء مقابلة. ثم قرر توزيع الأرض ثانية في كل عشرين سنة لكيلا يؤدي الثراء الموروث إلى الكسل، ثم ظهر فلاحو ليباري مرنين، وإن شئت فقل ماكرين، فصاروا يعطون القراصين جزية سنوية ليتمتعوا بالسلم في حقولهم.
وأهل أثينة، وإن لم يخترعوا النقود ولا ضرب النقود، ما عزي هذا الاختراع إلى اللوديين، وما استعملوا النقود في القرن السابع قبل الميلاد، لم يلبثوا أن فاقوا الأغارقة الآخرين بروحهم التجارية. ولم يقم مبدأ الشرف، الذي نما بتحول التملك العقاري إلى تملك وراثي، على غير التصرف في الأرض مع إضافة السلب والقرصنة إليه. ومنذ هذا الدور أخذت طبقة الأشراف بأثينة وكورنث وساموس وغيرها من المدن تقبل على التجارة البحرية مع أن ذلك كان يعد نزولا عن المرتبة. وهكذا حدث بين دور أوميرس ودور سولون تحول الشريف إلى تاجر كتحول لوردات الإنكليز السابقين إلى اللوردات المعاصرين. وبما أن الأغارقة كانوا يجوبون سواحل إيطالية وأفريقية؛ أي كانوا ينهبون ويقايضون ويتاجرون، فقد كانوا يغيرون نظمهم السياسية بسرعة بعد ابتلاء.
وكانت القبائل اليونانية الكثيرة تلاقي في كل محل، تلاقي في البحر المتوسط وفي مكان بعيد من غربه، مستعمرات فنيقية قديمة فتدحرها بوسائل سلمية في بعض الأحيان. وكان الأغارقة يحصلون على سلع أفريقية الغربية من مصر وليبية، وعلى سلع سورية من قبرس، وعلى قمح سهوب روسية وعبيدها من البحر الأسود، ومما كان يحدث أحيانا أن تسوى الأمور تسوية ودية بين مستعمري الأغارقة والقرطاجيين فيعملون معا كما في قورين، ومع ذلك فقد قهر الأغارقة من قبل القرطاجيين كما قهروا من قبل الإتروريين.
وفي كل مكان كانت تجاوز البحر وتقتحم المخاطر مدن وقبائل منعزلة، وتتجلى فردية جامعة، نشأت عن الأرخبيل، في المئات من الحروب الصغيرة التي كانت تشتعل بين الأغارقة في أثناء المغازي البحرية، ويمضي زمن فتنجم هذه الفردية عن كثرة الفلسفات والمذاهب السياسية أيضا.
وبما أن البلد كان عاطلا من السهول المركزية والأودية العريضة فإن كل عقيق
104
يود لو يبقى، أو يصير، مستقلا فينفرد بين الجبال، وذلك على حين كان السكان يتلاقون في أثناء أسفارهم البحرية، وإذا ما قد الأولاد خريطة شواطئ اليونان الممزقة ووضعوها تجاه الضوء حصلوا تقريبا على رسم ورقة القيقب
105
التي جففها الخريف، وما انفك تاريخ اليونان يوحي بمثل هذا الرسم.
ومع ذلك، ومع كثرة فتن الأغارقة، كان هؤلاء يختلفون عن المستعمرين الآخرين بجلبهم الروح فضلا عن تجارتهم ورغبتهم في الغنى، وكان هذا كهذب إغريقي يثبت في حاشية ثوب البرابرة حول البحر المتوسط. وما الذي كان يمسك هؤلاء النفر بعيدين من أوطانهم لولا أوميرس ومغامرة تروادة ومصلحة وحدة اليونان؟ وكانت توجد أيضا معابد دلوس ودلف، كان يوجد هذا «الوطن المشترك» كما يسميه بلوتارك الذي وكد نفوذ الكهان في قرون. وفي الواقع أن أمر دلف لم يقم على هاتف نبوي، بل كان أيضا سلطانا أدبيا وسياسيا موزعا للنصائح، فوضع حوالي سنة 600 قبل الميلاد، وعلى وجه غير مباشر على الأقل ومع اتحاد بمعبد آخر، أسس أول اتحاد إغريقي، أسس حلف الأنفكتون.
وبذلك الحلف الديني يكون أول نموذج تاريخي لجمعية أمم قد وضع على شواطئ البحر المتوسط، وسيسار على هذا النموذج بعد حين فيقام حلف آخر. وقد اتحد اثنا عشر كنتونا مستقلا، أو اتحدت شعوب من الفلاحين وصيادي السمك، لحماية بعضهم بعضا قبل أن يصنع السويسريون مثل ذلك ب 1800 سنة، وقبل جمعية الأمم بجنيف ب 2500 سنة، وقد فصلوا فصلا وديا جميع المسائل الخاصة بالحدود ونظام المياه، وسنوا ما يؤيد ذلك، وفرضوا من العقوبات ما يجازى به الباغي بعمل مشترك يقوم به جميع الأعضاء. وليست مبادئ القانون الدولي الأساسية مدينة للرومان، بل للأغارقة الذين هم قوم من الملاحين والفلاسفة، وهذا إلى أنها كانت تصدر عن البحر المتوسط كصدور كل صالح عنه. والحق أن ذلك الحلف الهجومي الدفاعي أبرم، كما يلوح، قبل وضع القوانين المدنية، وكان قد قدس للمشترعين الأولين كآلهة، وهم لم تطلق عليهم أسماء رجال، بليكورغ ودراكون، إلا بعد زمن. وكان من المذهب الإغريقي أن يؤنس ولي الأمر بدلا من أن يؤله على المذهب الروماني، ولم يكن الإغريقي الوحيد الذي أله، ولم يكن الإسكندر الأكبر إلا نصف يوناني.
وأثينة وحدها هي المدينة التي سمت في ذلك العصر فوق الدويلات المتحاربة على الدوام.
ومن النادر أن تسير مصاير أفذاذ الرجال وفق خطة مبيتة، حتى عند توجيه تربيتهم بحكمة كما تقتضيه قابلياتهم، فلا تلبث الفرج والصدوع أن تقع، ولا يمكن أن يبصر من يكون مختارا بين جمع من فتيان موهوبين، وأن تعرف السرعة التي ينشأ بها، وأن تعلم سرعة ما يحتمل من تقهقره، وأن تدرك القوى التي تهدمه في نهاية الأمر. ولو كان الأمر غير ذلك لغدا التاريخ منطقيا، ولبدا مملا، ويحاول، عندما يدرس شباب أعاظم الرجال، أن يستنتج كون كل شيء أتوه كان مقدرا مقدما منذ البداءة، وكذلك يصعب علينا أن نتمثل دورا لم تكن أثينة فيه غير إحدى الجمهوريات الثلاثين الصغيرة المتقاتلة نيلا للمجد والسلطان.
ومع ذلك فإن نظرة تلقى على خريطة اليونان وعلى رسم أثينة تدلنا على أن من مقتضيات موقعها وطبيعة أرضها أن تزدهر كما أن مواهب الشاب مع مساعدة أحوال منبته مما يعده لعمل باهر، وبين مدن البحر المتوسط تقع بزنطة وحدها في مكان مبارك كذلك، ويمكن تشبيه أثينة من حيث موقعها بناظر يسمح لجمع من الأولاد أن يغتسلوا في البحر، فهو يرقبهم من فوق مرصده، وهو يحملهم على نظام شديد مع أنهم يأتونه بأصداف أو سفن. وإذا صح تعيين الجزر لمصير اليونان في الحقيقة فإنها لم توفق لذلك إلا لقربها من قارة تتصرف في مائة ساعد لتقبل السفن وفي مائة جبل لاتقائها.
وولدت الحضارة الأوروبية على تلك المزق من الأرض التي ندعوها بلاد اليونان، وهي لم تولد على غير القسم الشرقي من تلك المزق التي وضعت الطبيعة أثينة على مركزها. ومن العبقرية أن يستفاد دوما من بعض نعم الطالع فتنميها العبقرية بعدئذ بنفسها. وهكذا أعدت أثينة لتسيطر ولتكون وطنا ساطعا، مع أن رومة لم تسطع أن تنمو إلا بعناد بطيء وعلى الرغم من أحوال غير ملائمة. وبهذا يفسر سبب إتمام أثينة ارتقاءها المجيد في قرن واحد مع أن ذلك لم يتفق لرومة إلا في خمسة قرون، ومن الواقع أن رومة حافظت على سلطانها مدة أطول من التي اتفقت لأثينة.
وفي الأرخبيل، الذي يسمى الأرخبيل الإيجي، تعد 483 جزيرة، مع أنه لا يوجد عند شاطئ اليونان الغربي غير 116 جزيرة، ولكن لا أهمية للعدد. وفي الغرب يفصل بحر عريض عميق، يفصل البحر اليوناني، تلك الجزائر عن جنوب إيطالية، والمضيق الوحيد هو في كورفو. والجزائر في الشرق هي، على العكس، بقايا برزخ، فلا تزال تؤلف ممرا يبلغ من السهولة نحو آسية الصغرى ما تؤدي معه جزائر سيكلاد وجزائر إيجه من أندروس إلى رودس فيسهل على العملاق أن يخلص بأن يثب من بر إلى بر كما يمر من جدول ذي حجارة بارزة، وذلك إلى أن الرياح تعين السفن التي تصل بين القارتين كأقريطش، ومقدونية والدردنيل في الشمال. وتعد أثينة مدينة بنصف عظمتها وفوزها للجزر والرياح ومدينة بالنصف الآخر لموقعها الداخلي، وتقع الأرض القليلة التي كانت تشغل معظمها، والتي كتب باسمها الخلود للجمال الأتيكي والروح الأتيكية، على الساحل الجبلي الممتد من الشمال حول خليج إيجين المشتمل وحده على 62 جزيرة، ويحفظ الأتيك من جهة الشمال جبال ومن جهة الغرب برزخ كورنث الذي لا يجاز إلا بمضايق صعبة وبطرق ضيقة بين الصخور. والأتيك، على العكس، مكشوف من ناحية الجنوب، والأتيك مشمس جاف، وهو أقل صلاحا لزراعة الحبوب مما لزراعة الزيتون والكرمة والتين، وهو إذن لا يستطيع أن يتجه إلى غير الشرق؛ أي البحر. ويقيد هذا الأمر شكلي حضارته الأساسيين، وموقع أثينة من الناحية التجارية أرفع من موقع كورنث المحصور بين الخليجين والمعد ليكون ميناء مرور.
ولنقابل بين الأتيك وجارته الشمالية بيوسية المقتطعة من البحر، والمرصعة ببحيرات والرطيبة الجو والباردة الشتاء والخصيبة الأرض، لنبصر أنها أنشأت شعبا من الفلاحين الرزناء المتحرزين.
ثم لنلق نظرة إلى ما وراء كورنث، إلى الأركادية، إلى بلد الرعاة الجبليين الذي لا يزال فلاحوه محافظين على مظهرهم القديم، وذلك مثل رمز منسجم لقصيدة رعائية خالدة، وبين الاثنتين يقع الأتيك الذي يجتذب خليجه الجنوبي جميع من يأتون من وراء البحر والجزر بحثا عن مرفأ وإنشاء لأماكن تجارية ومحال لهو. وهكذا سطعت أثينة على الأرخبيل ثلاثة آلاف سنة فبدت منارا نيرا يلقي نيرانه على الشواطئ وعلى السفن وينشر في العالم، وعلى أفواه ملاحيه، أسطورة ضيائه حتى قبل أن تصل أعماله وأفكاره إلى السواحل البعيدة.
ومع أن هذه المدينة البحرية صارت عاصمة حلف لم تكن مالكة لميناء طبيعي، وهي قد كانت منذ البداءة، أقرب إلى البحر من رومة، غير أن تمستوكل لم يحول المستنقع إلى ميناء عالمي إلا بعد حين، وذلك بفضل مهارة مهندسي العصر، وهو أول ما ملئ بالأنقاض والحجارة، ثم جعل مدخله خمسين مترا بعد أن كان ثلاثمائة متر، ثم وسع مجددا في زماننا.
وفي مقابل ذلك حبت الطبيعة أثينة بموهبة ألزم من مرفأ لتوسعها، وكانت تبرز من السهل، وعلى ارتفاع 150 مترا، صخرة منفردة ذات ذروة مستوية محاطة بهوى عميقة، وكان طول هذه الصخرة 330 مترا، وكان عرضها 130 مترا. وقد أقيمت المستعمرة الأولى على هذا الحصن الطبيعي، وقد وجدت هنالك موقعا مثاليا يذكر بمأوى قطاع السابلة في عصر الفروسية. بيد أنه اتفق لهذا التل من الطالع الساطع ما لم يتفق لحصون الأرض طرا، فقد أقيم فوقه البارتنون منذ القرن الخامس قبل الميلاد.
15
أثبت تاريخ أثينة أنه يمكن شعبا أن يحب المال والذهن والتجارة والجمال معا، والشيء الوحيد الذي أقسى الأمم وحطها مع الزمن هو إرادة التسلط، وتكاد تكون منابع حياتنا الذهنية كلها صادرة عن اليونان لا عن الرومان مطلقا. والرومان، بعد أن قهروا الأغارقة، بدوا تلاميذ وارثين لهم، ومن الأغارقة تعلموا الشعر والحكمة والنحت، غير أن آثارهم لم تكن سوى تقليد ممهد لأساتيذهم، وهم لم يضيفوا إليها شيئا جديدا أو مبتكرا، وهكذا يتجلى تفوق الذهن على القوة، ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نأمل ذلك في عصرنا الذي يفوز فيه البرابرة مجددا.
ولولا الروح التجارية ما وجدت عبقرية أهل أثينة أساسا متينا، ولولا البحر المتوسط ما استطاعت بلاد اليونان الفقيرة أن تنال الذهب الذي حول بعد حين إلى أوابد من الفن. ويحسن أن يحكم في أمر الأغارقة بآثارهم الانتقادية التي نشأت عن روحهم الساخرة، لا بفنهم وحده، وذلك إذا ما أريد اكتناه الأثنيين. ويمكن ابن البحر المتوسط، كما لا يزال، أن يحكم في مشاعره وذوقه الفني بتماثيل العصر الكلاسي
106
وجوقات مأساته، ولكن يعوزنا هجاء الحياة المألوفة وتصاويرها إدراكا لمكره وبشره وميله إلى المال والثلب، وميله كذلك إلى الكنود والحقد اللذين يتألف منهما طبع الرجل، الملاح والتاجر، فخلده أرستوفان والآنية الإغريقية.
وأهل أثينة هم الذين اخترعوا تعبير «عمل المال»، وهم الذين كانوا يصفرون وينشدون بيت الشعر القائل: «أجل، المال، والمال هو الذي يعمل الرجال!» وكان توسيديد يقول عن أبناء وطنه: «إن الأثنيين دائمو الحركة، وهم يسافرون دائما إنماء لثرواتهم، ومن النادر أن يستطيعوا التمتع بها هادئين ما فكروا في أرباح جديدة على الدوام.»
ويتشابه توسيديد وهيرودوتس اللذان خلدت ملامحهما بهرمس ذي الرأسين، وذلك مع كون الأخير أخفهما وأكثرهما تأملا وكون الأول أشدهما قتوما وأعظمهما مجونا. وكان أولئك الذين هم أقدم حضريي أوروبة يتصرفون في قليل من الأرضين الخصيبة حول مدينتهم، ولكن سفنهم كانت تحملهم في جميع العالم القديم، وكان حب المال يلازمهم في جميع التحولات السياسية، حتى عند تحول حكومة الأعيان، التي خلفت الملوك، إلى ديموقراطية. وقد أصاب أرسطو حينما عرف هذين النظامين فقال إن أحدهما ذو حظوة لدى الأغنياء وإن الآخر عزيز على الفقراء، وهذا ما كان قد حفز أفلاطون إلى نبذهما.
وإذا ما سيطرت أثينة في جميع الأدوار بروح أبنائها التجارية وحبهم للمال؛ أي بهذين الأمرين اللذين كانا يأتلفان ائتلافا عجيبا مع حبهم للجمال والحكمة، فإن هذه العناصر كلها كانت تنشأ عن ميل جامح إلى الحرية، ويمكن تشبيه الأثنيين بالفرنسيين المعاصرين من هذه الناحية. والحق أن الغداء في أثينة القديمة كثير الشبه بغداء يتناول بباريس الحاضرة أو باريس الأمس. والحق أن الأثنيين، كالفرنسيين، كان يجاورهم عدو فيغلبهم في الحرب أحيانا. والحق أن الإسبارطيين هم بروسيو ذلك الدور، والإسبارطيون قد تواروا عن مسرح العالم تواريا تاما في نهاية الأمر على الرغم من انتصارهم.
وكيف استطاعت إسبارطة القاتمة الجبلية المقتطعة من البحر أن تنشئ مذهبا سياسيا داخليا أخصب من المذهب الذي دعي بالأدب الإسبارطي منذ ذاك؟ كان يرتفع جبلان مستوران بالثلج إلى سماء واحدة تنعكس عليها جزر وخلجان كما تبدو من تل أثينة، فأنتج هذا البلد الحجير الفقير شعبا جديا ضيق العيش، وقد أسفر صغر أرضه عن عزمه على قهر جيرانه، وقد أدى هذا العزم إلى ازدياد سلطان الدولة على حساب الفرد، وقد حول هذا النظام شبه الشيوعي وشبه الاستبدادي عبيدا غلاظا إلى جنود، كما حول الجنود إلى فاتحين زالوا في نهاية الأمر.
واليوم تقطع المسافة بين المدينة القديمة المتبربرة وأثينة في ساعة طيران، وهذه هي الأرض الصغيرة التي كان يتقاتل عليها أبطال صبانا والتي يعرض عنها فصل من التاريخ العام الذي تحول إلى أسطورة لا تزال تغذي قلب جميع أمم العالم ودماغها، ولا شيء يحرك النفس أكثر من منظر الألنب بضيقه واستداراته اللطيفة.
أجل، لم يكن الإسبارطيون من البرابرة لدى الأغارقة ما دامت اليونانية لغتهم، غير أننا نرى الأثنيين أنفسهم من البرابرة لما كانوا يملكونه من العبيد. وقد تغير معنى الكلمة كما تغير معنى كلمة الطاغية ما دام عهد الطاغية بيزيسترات الذي دام ثلاثا وثلاثين سنة قد سمي فيما بعد بعهد أثينة الذهبي. ويتخذ هذا دليلا على أن الطاغية نفسه ليس مذموما بحكم الضرورة، وأن النظام الاستبدادي الحكيم العادل كان أفضل من نظام يؤدي إلى تنازع الأحزاب ودسائسها في القرون القديمة على الأقل، ولا ينبغي أن يحدث عن الروح الديموقراطية الإغريقية إلا بتحفظ كما يحدث عن جميع الديموقراطيات عند تمسكها بنظام الرق. قال غوتة: «أجل، كان الأغارقة أصدقاء الحرية، غير أن كل واحد منهم لم يحب سوى حريته؛ ولذا كان يوجد في كل إغريقي طاغية تعوزه الفرصة لينمو.»
حقا كان يسود إسبارطة ضرب من النظام البروسي على الطراز القديم، كانت تسيطر عليها حكومة أريستوقراطية رؤساؤها من القواد والضباط، وكان المذهب الحديث القائل بجعل مصلحة الدولة فوق مصلحة الأفراد قد لطف في إسبارطة بتناول جميع أبناء الوطن، رجالا كانوا أو نساء، وجباتهم معا، وبحق كل واحد منهم في حيازة خيل وكلاب وغلال، وعبيد في بعض الأحوال، ثم كانت الأرضون التي تفتتح توزع بين جميع الجنود حصصا متساوية. ومما روي أن الرئيس المشترع ليكورغ كان يطوف ذات يوم في الحقول التي يحصد زرعها فقال: «يخيل إلى المتأمل أن هنالك ملكا خاصا بإخوة يقتسمون ميراثا.» وإذا كان الفقير لا يغتني في إسبارطة فإنه كان لا يجوع فيها بفضل الدولة، ولكنه إذا ما كان كثير المرض أو كثير الهرم أمكن قتله وفق مبادئ التناسل.
وكان مبدأ حماية الأقوياء من قبض الضعفاء على زمام الأمور يتجلى أيضا في أمر المال والملك، ولنا بكلمة إيزوقراطيس الآتية التي انتقد بها أهل أثينة ما يكشف عن هذه الحال النفسية، فقد قال: «يخاف الناس أعداءهم أقل من خوفهم أبناء وطنهم، ويفضل الأغنياء قذف أموالهم في البحر على توزيعها بين الفقراء، والفقراء لا يرغبون في أمر بحرارة مثل رغبتهم في سرقة الأغنياء.»
ولم يكن النظام الإسبارطي في تقسيم المجتمع إلى طبقات اجتماعية أكثر إنصافا من النظام الأثني، ولكن روح الشعب بأسره لم تكن أقل ميلا إلى صناعة الأسلحة من ذلك، فكل طموح كان يوجه نحو الحرب بمثل الروح الفاشية الحاضرة، وكذلك كان تمازج الروح الرياضية والروح الحربية من بعد المدى في إسبارطة ما لا يأخذ الشبان معه غير دراهم قليلة دفعا لهم إلى السرقة بمهارة، وما يشترك الفتيات والفتيان معه في الألعاب الرياضية، وإن حظر على هذين الجنسين أن يأكلا معا، وعكس هذا ما كان يقع في زمن جداتنا.
وإذا ما بدت إسبارطة شعبا مدججا بالسلاح، عاطلا من كل تربية غير التدريب الحربي، مزدريا للحياة الذهنية، خاضعا لنظام يعين الزمن الذي يجب على ابن الوطن أن يتزوج فيه والذي يؤخذ فيه من أسرته، تابعا لنظام يقيد حرية السير، قائلا بحكومة تضرب نقودا من الحديد، رئي أنها نموذج كامل لمثل يبشر بها اليوم في بلاد جمعية.
ولكن بما أن أثينة كانت تعرف أيضا ما يسمى النظام الاستبدادي، وبما أن إسبارطة كانت تعرف التفاوت الاجتماعي كذلك، فإن ما بين إسبارطة وأثينة من اختلاف كان يقوم قبل كل شيء على الوجه الذي تبدو به الدولة لكل منهما. ومن مقتضيات وجهة نظر إسبارطة حول الدولة أن كان يباح لفوهررها تدخل لا حد له في حياة ابن الوطن باسم مصلحة الدولة، وذلك على حين كان من النادر أن يساور جمهورية التجار الأثنية ميل إلى الفتح، فكانت تقتصر على الدفاع في الغالب راغبة في وئام جميع العالم، ولكن مع القول بحق الانتقاد وتعاطي الفلسفة، ولكن مع منح جميع أبناء الوطن حرية تامة تقريبا. وهكذا غابت الحرية والجمال وبهجة الحياة غيابا تاما عن دولة إسبارطة البرية والحربية إلى أن زال أثرها، وهكذا كان كل واحد في دولة أثينة البحرية يرجع أصله إلى حب الحرية، فكتب الخلود لليونان بذلك، وما تم لإسبارطة من نصر حربي لم يكن غير فاصلة قصيرة في مجد أثينة الخالد.
16
قال هاتف دلف لتمستوكل: «أنشئ أسوارا من خشب!» وقد أدرك تمستوكل معنى ذلك فأبدع بحرية أثينة الحربية، وحصن في الوقت نفسه مرفأ البيره، وبنى ميناء فرضة فالير الحربي، وهكذا أعد النصر على سرخس في سلامين وما أدى إليه من تحرير اليونان من سلطان الفرس (480 قبل الميلاد).
وبينا كانت الدولة الآسيوية تقمع كل عصيان يقوم به أغارقة آسية الصغرى، وبينا كان جميع اليونان يدفع جزية إلى الفرس، تلوح فكرة الجامعة الإغريقية، فكرة اليونان، وفي الوقت نفسه تولد فكرة عد كل من لا يقاتل الفرس من الأغارقة مقترفا جرم الخيانة العظمى، وتنضم إسبارطة إلى الحلف اليوناني وإلى الجيش الإغريقي الأكبر لزمن معين، بيد أن الأسطول هو الذي ينال النصر الحاسم.
ويحزن المفكر المعاصر باسم الروحي حينما يبصر أن ضمان أعز الأمور، من حرية وعدل وصحة وحياة، يتوقف على صنع الطائرات والدبابات. ومنذ ألفي سنة يشترك بركلس بنفسه في معركة سلامين. وإنا لنرتجف عندما نفكر في أن ما يسمى «عصر بركلس» يتوقف على إنشاء السفن، وفي أن فن الملاحة والحرب هو الذي قرر النصر بين البرابرة وبين أمدن أمم الأرض، وإن ما عومل به منقذ قومه ومنقذ التمدن بأسره بركلس من جحود فيما بعد، هو مما يدخل اليأس إلى النفوس حتى في أيامنا فنشعر بإنكارنا كل إيمان وطموح سياسي.
ومن مطالعة أنباء المعارك البحرية في الماضي ندرك جيدا كيف أن تمستوكل أنقذ حضارة البحر المتوسط في سلامين، وقد توجه صف من السفن إلى أسطول العدو توا، فعملت كل سفينة على إنشاب رأسها في جانب سفينة للعدو، وتجد سر هذا الفن الحربي فيما أبدي من حكمة في السرعة. وكانت كورنث قد قاتلت كورسير «كورفو» على هذا الوجه في أول معركة بحرية يونانية حوالي سنة 660 قبل الميلاد، وهذا ما وقع في آخر معركة حربية من هذا الطراز سنة 1866 بالقرب من ليسا حيث أغرق مركب نمسوي مركبا إيطاليا في دقيقتين، وليست النسافة الغواصة غير تطور لهذا الفن الحربي. وفي سنة 500 قبل الميلاد اضطرت أثينة إلى استعارة عشرين مركبا من كورنث لتقاتل إيجين، فغلبت مع ذلك.
بيد أن تمستوكل كان يعرف أن الفرس بحريون ماهرون وأنهم لا يغلبون إلا بطراز جديد من المراكب، ويجازف بحظوته لدى الشعب فيحظر ما تعوده أبناء الوطن من توزيع ما تنتجه المناجم من الفضة منتفعا بهذه الفضة في إنشاء 180 سفينة من التي لها ثلاثة صفوف من المجاذيف في ثلاث سنين.
أجل، إن فكرة وجود ثلاثة صفوف منضودة من الجذافين قد أتت من الفنيقيين، ولكن الطراز الذي أنشأ تمستوكل به مراكبه قبل المعركة البحرية الكبرى كان إغريقيا صبغة. وقد جعل كل شيء مرنا سريعا في السير، وجهزت هذه السفن للمرة الأولى بجسر مائل عن سمت الرأس إلى الأمام فائض عن عرض كتف الرجل، ونشأ عن هذا الاختراع ضرب من المذراة بارز من الحرف فيتخذ في الزوارق الرياضية حتى اليوم. وكانت المعارك البحرية تشابه المعارك البرية في ذلك الحين، وذلك من حيث إنه كان يحاول الوثوب من مركب إلى آخر فيقاتل الرجل الرجل فيكون بهذا كبير أهمية لعدد الجذافين وحذقهم، وفي مثل هذه الأحوال قد يكون لجسر المعركة المستوي فعل قاطع، وقل مثل هذا عن امتداد السفينة إلى ما يزيد على أربعين مترا فلم يجاوزه حتى الويكنغ، والذي ظل معولا عليه حتى اختراع البواخر في القرن التاسع عشر وحتى اتخاذ الحديد في إنشاء السفن. وبما أنه لم يكن للمركب جوف مغطى في ذلك الحين فقد كانت تحفظ الجذافين من الأمواج والشمس والعدو حواجز من النسيج والجلد. ومن العادة أن كان يترك الصاري والشراع على الشاطئ، حتى قيل إن مارك أنطوان «أنطونيوس» عزم على الفرار حينما نقلهما إلى سفينته بأكسيوم.
وقد خيل لتمستوكل أيضا أمر الربان الموسر مع تفويض قيادة المركب إلى آخر حفظا لسلامته الشخصية، وقد جعل الوزن من أجل الجذافين لزمار يأتي بألحان حادة على نسق واحد، وكانت هذه المراكب التي تحرك بذرعان الآدميين تبلغ من السرعة خمس عقد.
107
وإذا ما نظر إلى العقد الثلاثين التي تبلغ بمحركات الزيت القوية يرى التقدم الأدنى الذي انتهى إليه تمستوكل جديرا بنيل «الشريط الأزرق»، ولم يكن لديه في سلامين غير أربعة عشر رجلا مسلحين وأربعة نبالة عن كل خمسين جذافا في ظهر كل مركب، وبما أنه كان يؤكل وينام في البر على العموم، فيندر قضاء عدة أيام في السفن، لم تكن المراكب من الاتساع ما تشتمل معه على مطابخ، وكانت السفن تشحن بالماء الصالح للشرب عموما، وكانت تشحن بالخمر نادرا.
وكان إنشاء السفن يقع بأسرع من تدريب الرجال، وقد أنشأ هيرون مائتي سفينة في 45 يوما، وكان قيصر من القدرة ما أنزل معه أسطولا إلى البحر بعد شهر من تاريخ اختباط الأشجار، وكانت السفن تبلى بمثل السرعة التي تبلى بها السيارات في أمريكة، (وماذا يقول تمستوكل إذا ما علم في الدار الآخرة أن السفينة التي قام كوك بسياحته الأولى فيها مبحرا بين سنة 1764 وسنة 1774 كانت تظل عائمة لو لم تغرق بعد اصطدام؟) غير أن نظام تمستوكل حول تدريب الجذافين كان طويلا صارما، فكان الرجال يتمرنون في البر فوق صقالات
108
خاصة فيقولون بصوت عال موزون: «ري با بي»، وهم لم يعتموا أن دعوا بهذا الاسم. وقد وصف أريستوفان جميع ذلك في تمثيلية خالدة، ففيها يرى كيف يدرب شارون ديونيزوس على التجذيف مستصحبا ضفادع تغني وتنق على الوزن، والعاصفة، لا الفرس، كانت عدو الأسطول الزرقاء مع ذلك.
وفي القرون القديمة زال كثير من السفن بفعل العاصفة أكثر مما بفعل المعارك، ومع ما كان من دخول المركب في الماء نحو متر واحد فقط، ومع ارتفاع جسر المركب مترين، كان ينقل الحيزوم بعشرين طنا من الحجارة على غير جدوى، فما كان أحد ليخاطر بالاعتراك في عرض البحر، فكان يتلبث بالقرب من الشاطئ.
وأدخل تمستوكل نظام الخدمة الإجبارية جرا لأبناء وطنه إلى الملاحة، ولم يمقته الشعب بسبب هذا التدبير، بل صارت منزلته عند الأمة ضعفي ما كانت عليه. ولو نظرنا إلى ما انتهى إلينا من المصادر لوجدنا أن الطبقات الثلاث التي كانت الخدمة العسكرية وقفا عليها هي التي لم يرضها ذلك التدبير، فهي قد كرهت مشاطرة الصعاليك لمقعد الجذافين، ويظهر أن أريستيد كان معارضا لخوض معركة فاصلة، ولكنه قاتل فوق اليابسة كوطني صالح.
كانت قوى الفرس عظيمة، والفرس قابلوا مراكب الأغارقة ال 300 بستمائة مركب، ولم غلبوا مع ذلك؟ لقد قيل لنا إن سبب ذلك في كون خليج سلامين هو من الضيق ما لم يستطيعوا معه أن يديروا مراكبهم، فتكفي نظرة من عل إلى المحال للدلالة على تعذر اقتتال تسعمائة مركب في هذا المدى الضيق، ومع ذلك كانت سفن الأغارقة أصغر حجما وأكثر رشاقة وأعظم سرعة وأقل دخولا في الماء، فيسهل هذا كل تطور في ذلك الخليج القليل العمق. وما كان من نظر سرخس إلى المسرح من فوق عرشه كأنه منظر بسيط يدل على زهوه الذي لا يقف عند حد، وما كان ليدور في خلد هذا العاهل وجود إغريقي في الخامسة والأربعين من سنيه، وجود جندي بين ألوف المقاتلين، أحق منه في لبس الثوب الأرجواني؛ وهذا الإغريقي هو إسشيل الذي كان يمكنه في ذلك اليوم أن يرى ملك الفرس جالسا على العرش، وفي سلامين ينصر الشاعر اليوناني على ملك البرابرة، فيا له من رمز عظيم!
أنقذ اليونان من نير الفرس، فازدهر الفن قرنا كاملا، والفن مما لا يتنفس مضغوطا، ومما لا ريب فيه أن كان الأغارقة يرجون نيل عطف مارس مستشفعين عرائس الشعر، ففي سلامين شق إسشيل لنفسه ولخلفه طريقا، على حين كان ملك الفرس يفر من عرشه البحري ليقتل في قصره وينسى من فوره. وقد أدى النصر الذي تم في سلامين إلى جامعة اليونان البحرية كما أدت معركة سيدان إلى الوحدة الألمانية.
وما ألقاه سلطان أثينة البحري الجديد من رعب جعل امتداده حتى بروبونتيد أمرا ممكنا، وذلك مع ابتلاع أقسام من آسية الصغرى. ومما يجب عزوه إلى حكمة أريستيد وأنصاره اعتراف معظم قبائل اليونان بمجلس الحلف ودخله وبحريته وتعهدها بتأييده حتى في زمن السلم، وذلك خلا إسبارطة التي لم تر صنع ذلك في غير زمن الحرب، وبذلك تتحول جامعة دول إلى دولة اتحادية بسرعة وللمرة الأولى في التاريخ، وتأخذ أثينة على عاتقها توجيه اليونان الأدبي، على حين تنصاع
109
إسبارطة مغاضبة عاجزة عن البطش لمدة نصف قرن، وتضطرب الديموقراطية في أثينة نتيجة لفساد الأحزاب وانقسامها، وينفى تمستوكل بعد انتصاره بتسع سنين ويحكم عليه بالموت، فيلجأ إلى ملك الفرس الذي يحسن قبول قاهر أبيه هذا، وينعم عليه بإمارة، ويموت هنالك بعد زمن طويل نتيجة مرض حاد على الأرجح.
17
وفي القرون القديمة لا يقاس بركلس بغير أغسطس، فهو مثله قد سيطر على دور عظيم، وهو مثله يمتاز بطول عهده وجمال شخصه. والإغريقي يعلو الروماني من كل ناحية مع ذلك، وينم وجهه على رجولة واتزان نتوقعهما بخيالنا من قطب سياسي يوناني. ونحن يمكننا، حتى عند عدم انتهاء أي تمثال لبركلس إلينا، أن نصور رأسه مستعينين بجوقات سوفوكل ورسوم سقراط وتمثال لهرمس، وهو حين قبض على زمام السلطان لم يكن، مثل أغسطس، غنيا ولا وارثا فتيا، وإنما كان مثقفا حقيقيا مسودا
110
لنفسه، وهو كذلك لم يكن فاسقا مثل أغسطس، وإنما كان تام الحواس مالكا لعواطفه.
والذي كان يجعله فوق أغسطس، ووراء كل قياس، هو نبوغه الخطابي، وما كان يتكلم في غير أحوال نادرة، وإذا ما تكلم فبعد أن يدعو الآلهة سرا، بعد أن يضرع إليها أن تصونه من الكلام الغث. وقد سئل أحد خصومه السياسيين عن كونه أمهر من بركلس في المصارعة على الأقل، فأجاب قائلا: «أجل، إنني أمهر منه، ولكن ماذا ينفعني ذلك؟ فإذا ما رميته على الأرض أنكر ذلك في خطبة يفوه بها، ويقنع الجميع بذلك، حتى إن شهود الصراع يصدقونه في نهاية الأمر.»
ومع أن إمبراطورية بركلس دون إمبراطورية أغسطس بمراحل فإن بركلس لم يكن أقل منه انتصارا، وقد تمت للأسطول، الذي كان موجودا حين ارتقائه فأنماه، انتصارات جديدة. وقد عدت أثينة، مرة ثانية، مدينة لقوتها البحرية بتفوقها على جميع قبائل اليونان. غير أن الأسوار الطويلة التي أقامها بركلس ربطا للعاصمة بمينائها وحفظا لها في الوقت نفسه لاحت مهددة للأغارقة كما كان الأسطول الجديد قد لاح، ومع ذلك كانت جميع بلاد اليونان تجتمع تحت سلطانه خلا إسبارطة. وكان سلطان أثينة، حوالي سنة 440 قبل الميلاد، يمتد إلى البحر الأسود وإلى جنوب إيطالية، وصارت أثينة في عشرين سنة قاعدة لم يتحداها من جميع مدن البحر المتوسط غير سرقوسة، وأضحت البيرة الجديدة مرفأ بحريا كبيرا باحتكار قمح البحر الأسود وصقلية ومصر، وأنشأت المعابد التي تتصرف في ثروات عظيمة نظاما بنكيا، ولكن من غير سماح بتملك العقارات الكبيرة، ولم يكن هنالك ترف خاص في المساكن، ولا ضرائب مقررة في أيام السلم، وكانت هنالك أعياد لجميع الناس.
والحق أن بركلس أدرك احتياجات عصره، وهو مع انتسابه إلى أسرة غنية ممتازة، قد انتخب من قبل أعداء طبقته، من قبل عمال البيرة، وهو، وإن كان يقوم بشئون الحكم نفعا للعاصمة، كان يناهض المحافظين، وكان يقيم أول وأحسن نظام ديموقراطي في التاريخ لا ريب، ومن الحق أن يقال إنه استطاع أن يحمل أبناء الوطن على الاعتقاد بأنهم الحاكمون وإن كان مسيطرا فعلا مع قدرة على كتم المظاهر. وقد كان من القوة، جنديا وقائدا حربيا، ما ود معه السلم وحفظه مدة ثلاثين سنة، ولم يقطع حبل السلم مع إسبارطة إلا قبيل موته، إلا حين غدا عرضة لاتهام أبناء وطنه الناكري الجميل، وهكذا أبصر بدء حرب كان يمكنه أن يحول دونها زمنا طويلا. وكان مطلعا على أحوال النفس زعيما للجماهير فأدرك قبل الكونت ميرابو بألفي سنة أنه لا يمكن إمساك النظام الاقتصادي القديم في سبيل الطبقات ذات الامتيازات إلا مع كبير مسامحات وعظيم إصلاحات.
وكانت حكمته، قطبا للسياسة، تقوم على خداع الشعب نفعا للشعب، وهو حين يدفع من مال الدولة بدل دخول الفقراء لمشاهدة التمثيل الروائي، وهو حين يحدث مناصب قضائية برواتب تسهيلا لتقلد المعسرين إياها، يكون قد اشترى أصواتا، وذلك لما كان يجب عليه أن يتقدم إلى الانتخابات في كل عام، وقد انتخب خمس عشرة مرة في أثناء حكمه المطلق. وقد كان يحب الحكم كحب كل متفنن لآلة فنه لا ريب، ولكن مع شعوره بأن اشتراءه للشعب يوجب بقاء أقدر رجل على رأس الدولة، ولما لامه المجلس الشعبي على إنفاقه مالا كثيرا إنشاء لمعابد جديدة أجاب بأنه سيدفع ذلك من جيبه بعد الآن، ولكن على أن ينقش اسمه على التماثيل، وقد كفت هذه الكلمة لانحياز الألوف من سامعيه إلى سياسته وجهرهم بأن يخصص من أموال الدولة ما هو أكثر من قبل لشيد المعابد، ويأذن لأريستوفان وجوقته في إبداء أغلظ أفاكيههم ضد صاحبته أسبازية، ويؤدي ذلك إلى زيادة حظوته لدى الشعب.
وبركلس هو اليوناني الوحيد الذي تأثرت حياته بامرأة لا بخليل، وكان جميع الناس يعلمون أن أسبازية تحتفظ في منزلها بصواحب تعرضهن حتى لبركلس على ما يحتمل، ويزورها سقراط وإن كان هذا الفيلسوف لا يكترث لحب النساء مثقال ذرة، فتؤثر أسبازية فيه فيهجر زوجته الأولى ويهبها لرجل آخر عن تراض، وما كان لأي عار عام أن يحول مشاعر بركلس عن أسبازية.
ويود إثبات نزاهته لأهل أثينة فيشري من السوق العامة ما يحتاج منزله إليه، غير أنه يبيع محاصيل أرضه بثمن غال ككل مزارع، ويأذن للمصورين الهزليين في العمل بقريحة يثيرها قحفه الشاذ بطوله والذي لم يكشفه قط للبسه خوذة باستمرار تقريبا. وهو على ما كان يخادع به الشعب في موضوع دوام السلم مع إسبارطة لم يكف عن التسلح قط. وهو في كل عام كان يبرطل رجال الحكم في إسبارطة كسبا للوقت. وهو حينما كان يلوح لحلفاء أثينة بالمساواة بين جميع الأغارقة، كان يفرض عليهم جزية كفاتح فلا يشكون في أنه يبني الأكروبول المعد لتخليد مجده بهذا المال.
ولما اقتتلت ملطية وساموس انحاز إلى ملطية حيث كانت خليلته قد ولدت فافتضح كثيرا لدى أبناء وطنه، غير أن ما تم لهم من نصر على يديه في نهاية الأمر رفع شأن بلده وأغنى أثينة، فتضاعف بهذا النصر احترام الناس له بعد أن كاد يفقده في سبيل غرامه بامرأة، وكان لا يتحرز في المعارك.
وفي ساموس قاتل بركلس بجانب سوفوكل، وقد حفزت المصلحة والشرف هذين الرجلين العظيمين إلى المجازفة بحياتهما البدنية إنقاذا لحياتهما الروحية، وذلك لاتخاذهما الحكمة دليلا لهما، وما الأثني الحقيقي إلا كبركان مستور بثلج، وكان خيار الأثنيين براكين كإتنة.
وكان بركلس يبدو لأبناء وطنه ألنبيا، ومن بلوتارك نعلم أن هذا الوصف ، الذي كان دارسا في ذلك العصر، يناسبه مناسبة تامة. وكان بركلس، منذ بدء حكمه المطلق الفعلي، لا يبدو للجمهور إلا نادرا، وكان لا يتكلم إلا في الأحوال الكبرى، ولم يقل اشتعال النار الألنبية في فؤاده؟ ولم يمتنع ممثل الكرامة الحقيقي هذا عن التلهي بالنموذجات الشابات في محترفات فيدياس، وهن اللائي لم يزعمن اتخاذهن أتينا الحصان قدوة لهن في حياتهن اليومية إلا قليلا، وهو الذي لم يكن عليه أن يمثل أمامهن دور أبي الوطن القلق بالشئون العامة؟ ولم لا يعترف بنغيله
111
الموهوب ويناهض أمام المحاكم ابنه الشرعي الخليع؟ صارت أسبازية رمزا مع أن زوج بركلس ظلت مجهولة في التاريخ، وكانت مشارف أثينة تلقي نورا شديدا على حياة أبناء الوطن الخاصة، ومن الواضح أن حسب وضع بركلس للأعقاب.
وكان بركلس عنوان المثل الإغريقي الأعلى، وذلك كما عرضه توسيديد حيث قال: «إن من عاداتنا أن نبدي بالبساطة مقياسا حكيما وهيفا معتدلا.» وما كان الخيال ليعوز بركلس، وكان بركلس يحب المجد ويدرك أن وجود المجد بنصب التماثيل وإقامة المباني العامة، ولا ريب في أنه لم يكن ولوعا بالجمال ممارسا له، ولا ريب في أنه كان مهتديا بحب الجمال أقل مما برغبته في إيجاد عمل لمن هم عاطلون منه، وفي محافظة شعب تابع لهواه على مرحه، وما كان من ولعه بالموسيقى والأعياد المنرفية
112
يثبت مقدار سمو الثقافة في أثينة ومشابهته لما عند رجال السياسة الفرنسيين إلى وقت قريب. وقد عرف كيف يكتشف، ويمسك لديه، أعظم أساتذة زمنه، فكان يشجعهم على الكتابة والتصوير والنحت، وقد اختار خليلة له متعمدا، ودافع عن هذه المرأة العبقرية ضد جميع التهم، دافع عن هذه المرأة المتهمة في عرضها والتي كانت تدير كلية لدرس الغرام، فكان له بذلك وضع ملك يعلو به من يسيطر عليهم من الرجال، وضع ناظم للمسرح نابغة يعد زبدة ممثليه، ويقال «عصر بركلس» عادة، مع أن بركلس لم يقبض على زمام الأمور غير ثلاثين عاما.
وما ندركه من أمره هو مثل ما ندرك عند عدم انتهاء مذكرة منه إلينا، هو مثل ما ندرك مع الخطب التي لا تكاد تبلغ الست، ولمجده كسب في ذلك على كل حال. وإذا ما اعترض بعض الناس قائلا إنه كان من السعادة ما وجد معه أساتذة فضلاء، قيل إنه كان من الشقاء ما قبض معه على زمام أشد شعوب الأرض إنكارا للجميل.
ولم أسدلت ستائر النسيان على هزائم بركلس مع المحافظة على ذكرى انتصاراته؟ ولم لا يلومه التاريخ على بنائه فوق أسس ضيقة تكاد تبلغ من القدم عشرين سنة، وعلى عدم إدراكه ببصره كون الفرس والإسبارطيين مجتمعين أقوى من جمهورية أثينة الفتية بمراحل؟ ولم لم يوجه أحد إليه تهمة اشتراء الجماهير بمال الدولة؟ ولم لم تثقل عليه مثل وطأة نفي توسيديد العظيم عن حسد كما ثقلت أعمال مماثلة على نابليون؟ ولم لم يدر في خلد أحد أن يجادل في مجده كما يجادل في مجد الإسكندر وقيصر؟ ولم لم يجر معه أي ظل إلى الجحيم مع أنه خسر اللعب في نهاية الأمر؟
وذلك أنه وجب عليه أن يختار، كفيلسوف، بين المجد والطموح، وذلك لأنه لم يسر قط ضد مصلحة شعبه ليتمتع ببريق عابر لنصر يناله، بل كان يكثر من العناية بشعبه طورا، ويسليه طورا آخر، ويعمل لدور عظيم على الدوام، وهو لكونه الطاغية الوحيد عن حق في القول على ما يحتمل لم يقم أثني مأتما له حين موته، وهو لكونه عرف أن يمزج بين ذكائه وشعوره بقدر نفسه، وبين حب السلطة وحب الجمال، صار عندنا مثال اليوناني الكامل.
18
يشعر السياح الذين يدنون من فرضة أثينة من غير أن يعرفوا أين هم، وذلك عندما يستيقظون، بإحساسات كالتي ساورت أوليس حينما وجد نفسه من فوره، وذلك بعد محن كثيرة، أنه لا يزال ناعسا على شاطئ إيتاك، ويبهت أقل مما يزعم، ويحس أن هذا البلد، الذي كانت الأحلام تقاد فيه بالحدس الروائي والخيالات مناصفة، تختار الأحلام مكان المعابد منه على التلال المتألقة. والواقع أن ذلك التل الوطئ المنعزل الوعر الواقع على رأس مستو قد منح أثينة الأمان في بدء تاريخها، ومنحها الجمال الذي حافظت عليه حتى في هذه الأيام مع أن بهاءها ذوى منذ زمن طويل، ولو نقل أكروبول أثينة إلى السهل ما حافظ على عظمته ولشابه معبد تيزة الذي يبدو كالدمية عند سفحه فلا نكترث له على الرغم من إتقانه، وينشأ عن امتزاج هذا التل القديم وموقعه ولونه الزنجاري
113
منظر وحيد، وما أضفاه فيدياس من الأزرق والأصفر والأحمر على هذه الأشياء، وما عرفها به بركلس على هذا الوجه، يبهرنا لا ريب، وتمضي خمسة قرون فلا يبدو عليها أثر من البلى كما وصفها بلوتارك، واليوم قد تغير كل شيء، وليس جمال نصف التمثال الفوقاني مثل ما كان عليه الأصلي، فهذا جمال جديد آخر، وهذا مثل وجه المرأة الشائبة الدقيق الغضن الذي لا يمت إلى صورة شبابها الناضر إلا بصلة بعيدة.
ويجعل نقصه أسطورة حية من الأكروبول، أسطورة أوميرية، تظل بشرية على قياسنا. وأول ما يرى من الأسفل مقدم البارتنون الغربي الذي أحسن حفظه على حين تبقى أقسامه الأخرى الخربة مستورة، حتى إنه لا يلاحظ أول وهلة عدم وجود سقف ما هيمنت على جميع الأكروبول أركان القسم الغربي الثمانية العظيمة مع عارضتها، وكلما صعد بدت روعة. وهنالك لا يفكر أبدأ في لقاء دينوي كما في بعض الأماكن بالبندقية ورومة وباريس، وهنالك لا يفكر في غير الآلهة التي يقترب منها. والحق أن كل شيء، من مراق وأعمدة، عظيم من غير أن يكون منيعا، وهذا كالآلهة الأوميرية التي يشعر القارئ بصلة مشتركة معها.
وإن المرء لفي مداخل الأكروبول العظيمة؛ إذ يرى نفسه في وسط الأنقاض؛ أي بين التماثيل التي لا رأس لها، وينقطع هذا الأثر المختلط بمقطوعة خفيفة كما عند بتهوفن، فيظهر من اليمين معبد أتينة نيكة، وتظهر أعمدته مع تيجانها وسوقها، ولكن الإلهات مقطوعة الرءوس.
وتلوح أجملها، وهي التي ترفع قدمها اليمنى، محمية بأجنحتها، وهي إذا ما أنعم النظر فيها طويلا لاح للناظر ظهور رأسها. وهنالك ينطبع هذا التمثال في الذاكرة إلى الأبد، شأن العاشق الذي يتعلم كيف يطارح خليلته المتوفاة كما لو كانت حية على الدوام، وما أكثر ما ينعش ذلك بحضور الآلهة! وبالقرب من ذلك، وفي الشمال الشرقي، وعلى الإركتيون، يثير مدخل كبير ذكرى إركته، والواقع أن آرس أراد اغتصاب أتينة، غير أن العذراء الخالدة قاومته، فسال ماء آرس على الأرض فولد منه إركته، والآن على وصائف أتينة أن يحملوا معبد إركته تذكارا لهذا الحادث وتكفيرا عنه وإن أدرن الظهر غيظا، وإذا نظر إليهن من الخلف وجدن مشابهات لأنصاف الظلال التي لم تر بعد أن تصبح من الناس، وهؤلاء هن الكارياتيد، هن الفتيات اللائي يحملن السقف على وسائدهن الحجرية، ويا لجرأة النحات! والنحات قد كره أن يرى الرجل امرأة تحمل سقفا، وهو الذي كان يريد إنزالها من زنبيله، ومع ذلك يبدو العمل من الخفة ما يظن الإنسان معه أنه أمام راقصة تنشر مظلة خفيفة فوق رأس الملكة في أثناء طواف احتفالي.
وأولئك عذارى سليمات ذوات شعور طويلة، ومع ذلك تكفي الفروق بينهن لدحض النظرية القائلة بوجود جمال إغريقي «رمزي»، وبين أولئك تدل اثنتان على معنى الحقد تقريبا، وتبدو اثنتان مليحتين أنيستين، وتبدو الخامسة وصيفة، وتظهر السادسة مفكرة متحرزة، ويا لتكريم إله لم يولد من امرأة!
وفي البارتنون الواقع على بعد ثلاثين خطوة يلوح كل شيء أعظم من معابد مصر أيضا، وتظهر تلك الأعمدة الدورية
114
نابعة من الأرض، ولكن الذي لا يجاب عنه هو اللون العسلي، هو اللون الأصفر المذهب، الذي يلوح جريه في ألف صدع، في ألف فلع رخامي مخطط، فكأن هذا اللون يستر أعمدة البارتنون بلحم حي.
ويجب، كما في كنيسة سيكستين الصغيرة برومة، أن ينعم النظر في الإفريز الفخم الطويل، الذي هو من بقايا بناتيني، ليشتمل عليه، وعندما يطلع منه على الجزئيات التي توجد في المتحف البريطاني، والتي رئي استنساخها ألف مرة، تحيى تلك الأفاريز المملوءة ظلا كالصواحب الشائبات، ويقطع هؤلاء الفرسان وزن الأعمدة المطول بهزجهم الأفقي الخاص، فيلوح كل شيء مشابها للآلهة الشابة أو للأمراء الذين تلاطفهم الريح برفع معاطفهم، وتثب خيلهم وتجاوز وتدور ذات اليمين وذات الشمال وتشب فيظن أنها ذات حياة، ولا امرأة هنا، والجميع فتيان عراة مملوءون حياة فيتتبعهم من هنا ومن هناك رجل أكبر منهم سنا، ويسفر هذا العرض الرخامي عن أثر غزلي ما دام جميع هؤلاء الفتيان مجتمعين للاحتفال بعذراء، بالإلهة أتينة، التي كانت تسطع بالذهب والرخام في صميم معبدها.
ومثلها جميع الآلهة الأخرى التي كانت تجلس على العرش هنالك فزالت، واليوم هي سجينة في المتاحف، والحق أن الآلهة ليست غير زائرة هنا، وهي ذات مزاج انتقادي كمعظم المتفننين الذين يطلب منهم أن ينشدوا مدائح الآخرين، وانظر إلى بوزيدون وأبولون على الخصوص تجدهما يشعران بأنهما زائران غريبان هنا فيفضلان الإقامة بمعبدهما الخاص، وتلعب أرتميس بطيات ثوبها وتدعو أفروديت آرس ليركع بجانبها.
ونلتفت فنرى امتداد المنظر الإغريقي عند أقدامنا، ويوجد بين الأعمدة المضاعفة التي حفظت تماما بالقرب من مدخل البارتنون عمود يجلس عند قاعدته أجنبي فيشتمل بنظرة خاطفة على أفكار اليونان الأفلاطونية، ويستند إلى الفرضة العريضة الضاربة إلى سمرة في ركن الزاوية الجنوبية الغربية مسترخي الساقين، وذلك لأن تلك الدرج العظيمة صنعت لكيلا تبلغها الآلهة والآدميون. وكانت هذه الأعمدة ذات بياض ناصع في العصر الذي تمثلها المهندس الأستاذ إختين واختار رخامها من بين حجارة الجبال المجاورة، ويبهرنا هذا البياض عند فحص الوجوه الداخلية للقطع التي رفعها العمال المرممون من الأعمدة المتفتتة فوجدت قطعة منها أمام المؤلف حينما كتب هذه السطور، وقد لفحت الشمس ذلك الرخام في ألفي سنة كما لو كان وجها بشريا.
وتمتد أمام أعيينا سنفونية البحر والجزر والماء والجبال التي تمثل كيان بلاد اليونان، وهنالك، في مكان قريب، وأمام البيره، تبصر جزيرة سلامين ذات التلال الوديعة والفرضة التي أنقذت فيها حرية الإغريق في نهار واحد، وفيما هو أبعد من ذلك في الجنوب تبدو أكبر من تلك قليلا جزيرة إيجين التي تمتد عليها ظلال بعض الأعمدة، ويزيد عدد ما يبدو من الجزر شيئا فشيئا، ويستر بعضها بعضا حتى يمحي ساحل كورنث في الضباب المشمسة، ونحو الجنوب تمتد جبال الساحل الأثني حتى النقطة التي يبصر فيها صخور رأس كولون، وفي الشمال الغربي تغيب تلك الجبال في جوار دلف، وهكذا يتألف من الجزائر والفرض والرءوس والمعابد والملاحة والهاتف مجموع رمزي. والمرء إذا مال إلى الخلف قليلا وأمر يده على طول التخاريم أبصر فوقه تيجان الأعمدة وبقايا نوبة البناتينه، وأبصر تحته السياج مع رقص الانتصارات، وأبصر عن يمينه تمثال الإركتوم الخارجي الداعم، ثم يشعر بغتة بمركز العالم الذي كان يعبر به عن الكون.
وما كانت يد الإنسان لتنتج في أي مكان من البحر المتوسط مثل البارتنون أثرا لا ينسى، واليوم لا يزال بناءو جميع العالم يستوحونه ويستنسخونه على مقياس صغير بإقامتهم على طرازه كنائس ومصارف وبرلمانات.
ومن مدن اليونان الأخرى شادت إليس وأكراغاس وسرقوسة معابد رائعة في القرن الخامس فلا يزال بعضها قائما حتى اليوم، وفي جو روائي حفظ معبد فغالية بمنطقة من الجبال الموحشة في سواء البلوبونيز.
وفي جنوب إيطالية توحي بستوم دوسجست بالعصر الإغريقي أيضا، ومع ذلك لم تقرن فكرة الأكروبول بأثينة فيجهل معظم الناس وجود أكروبولات أخرى جهلا تاما؟ ولم قبل هذا المعبد الحصن في زون البشر على غرار ثلاثة أو أربعة من أنبيائه؟ ذلك لأن حضارة ألفية بلغت ذروتها في هذا المكان، وذلك لأن كل حجر رخامي فيه على شكل طبل يستدق فينضد على حجر آخر في شيد هذه الأعمدة الواسعة فيكون مثل بناء قائم تكريما للروح التي أبدعت تلك الحضارة وحافظت عليها؛ وذلك لأن سلطان الدولة وحس الجمال كانا يتوافقان في ذلك الأثر كما في هندسة قصور دوج بالبندقية وقصر فارنيز برومة وأسكي سراي باستانبول، وتختلط قوة ثالثة، قوة الإيمان بالآلهة، بالقوتين الأخريين فتعلو الأكروبول. وكان ملك الفرس قد حرق المعابد القديمة التي هنالك فيما مضى فأقام قاهر الفرس بعد ذلك أسوارا طويلة تربط أثينة بمينائها مع حمايتها، ويحل الوقت الذي يجمع فيه بين المفيد والمبهج، وبين الضروري والوافر.
وفي ذلك الحين وحده؛ أي حوالي سنة 450، أمكن بناء الأكروبول، وقد جرؤ بركلس وحده على هذا الأثر فأنفق في سبيله ما يقابل ثلاثة ملايين دولار في أيامنا، أولم يكن نسق هذا المشروع فوق العصري ما دامت أروقة بروبيله قد أكملت في خمس سنين وما دام البارتنون قد أكمل في تسع سنين، وذلك من غير استعانة بآلات لرفع الأثقال ولا بأية آلة أخرى؟ لقد شيدت الأهرام بمصر في خمسين سنة أو مائة سنة، ولا تزال أعمال الإنشاء التي شرع بها في أثينة بمال روكفلر وبأحدث الآلات الفنية قائمة منذ عشرين عاما، ولنضف إلى هذا قولنا إن أعمال بركلس الإنشائية تمت بأسلوب حديث كان غير معروف قبل ثلاثين سنة.
وتمضي خمسمائة سنة على الفراغ من الأكروبول فيقول بلوتارك كلمته الجميلة: «إذا ما حكم في كل واحد من آثار بركلس من حيث جماله، وذلك منذ إتمامه، عد قديما، ولكنه إذا نظر إلى وجه الكمال فيها بدت كلها للأعين جديدة ناضرة، وذلك كما لو كان كل واحد منها يشتمل على روح فتية منذ الأزل.» وهكذا يؤيد شاهد مضى عليه سبعة عشر قرنا حكم زماننا.
والأمر عجيب، فبينما كانت الرواية اليونانية نتيجة ثلاثة أدمغة في الحقيقة، وبينما كان شعراء عصر أوميرس لا يؤلفون غير زمرة محدودة، كانت النقوش والأواني الخزفية من عمل كثير من الأيدي، وتمثل الأسماء الأربعة أو الخمسة التي ظلت مشهورة ألوف المتفننين المغفلين الذين يجدر إقامة أثر تذكاري لهم كما يقام للجندي المجهول، والذي كان يرفع الأغارقة فوق جميع الأمم هو الثقافة العامة أو المستوى العام. وقال العبقري العالمي ديمقراطيس موكدا: «إن الثقافة زين في السعادة وملجأ في الشقاء.» وكان المجد يستهوي جميع الأغارقة في الوقت نفسه، فقال ديوتيم لسقراط: «ترى كثرة من يودون أن يكونوا من الخالدين، وتراهم جميعا مستعدين للتضحية بأموالهم وأولادهم وبسعادتهم كلها، وبأنفسهم أيضا، في سبيل هذا المثل الأعلى، أوتعتقد حقا أن ألسست ماتت إنقاذا لأدمت، أو أن أشيل طلب الموت من أجل باتروكل؟ إنهم كانوا يعلمون أن الخلود يكتب لذكراهم بعد موتهم ...»
وأعجب من ذلك في تلك الأحوال عمل ألوف الرجال في أثينة حبا للجمال مع أن مجد آثارهم غدا وقفا على بضعة أسماء، ولا ريب في أن فيدياس لم ينحت وحده تمثال أتينة ولا إفريز البناتيني الرخامي البالغ من الطول مئات كثيرة من الأمتار، ولا ريب في أن فيدياس وضع رسم الأثر وأشرف على عمله، غير أن مما لا مراء فيه أنه لم يساعد على الجزئيات أكثر مما صنع بركلس الذي أعانه في رسم الإفريز.
وأسهل على المرء أن يعرف أثر أيدي ميكل أنجلو الماهرة في فلورنسة ورومة من أن يبين ما بقي من آثار ميرون أو فيدياس أو بركسيتل الشخصية.
وتقيم الأمم معابد وكتدرائيات بعبقريتها في غضون القرون مستعينة بمهندسين مجهولين، وذلك كما في طيبة وأثينة وستراسبرغ، ويثبت طابع الأكروبول المغفل غنى نبوغ أهل أثينة؛ وذلك لأن الفن في أثينة مزج بالصانع؛ ولأن النقد والرأي العام أثرا في تقدمه، وأنجزت جميع آثار الفن في أثناء الهدن التي تفصل بين الحروب. وحاول بركلس، العارف بشدة إنكار شعبه للجميل، أن يحمي مقدما، ولكن على غير جدوى، صديقه فيدياس بأن توزن له كل أوقية ذهب تطبق على ثوب الإلهة أتينة، وهذا لم يحل، في نهاية الأمر، دون اتهام المعلم بالسرقة وهلاكه في السجن، ورأى المهندس إختين أن يفر، وكتب الهلاك لفيدياس في آخر صنعته نتيجة لقضية شائنة.
وتتجلى روح الأثني بما رفع من القضايا ضد فيدياس وأسبازية؛ أي ضد صديق بركلس وخليلته، في وقت واحد تقريبا، وفي كلتا القضيتين كان رئيس الدولة هو المتهم الحقيقي، وبلغ أريستوفان من التحامل ما لام معه بركلس على إيقاد حرب البلوبونيز مع أنه كان يعمل على تأخير نشوبها زمنا طويلا.
ويتهم أهل أثينة بركلس بأنه جعل فيدياس يصوره على ترس أتينة بملامح شيخ أصلع، وكان هذا بعيد الاحتمال جدا؛ وذلك لأن بركلس كان حريصا في جميع حياته على إخفاء قحفه الطويل تحت شعره وخوذته. وكان متهمو بركلس يودون أن يعرفوا أيضا أين يوجد الذهب الذي اختلسه فيدياس في أثناء إنشاء التمثال ... وأين كان يمكن أن يذهب إن يتسرب لدى الخليلة أسبازية؟ ومع ذلك لم يكن تمازج الدولة والحضارة العجيب الذي هو سر تاريخ اليونان ليظهر بأبلغ مما في تلك السنين، وقد تجمع كل شيء في ذلك العصر؛ وذلك لأن أثينة لم تبق في الأوج غير أربعين عاما، وذلك كدور النهضة الإيطالية الذي وقع بعد ألفي سنة.
كسبت معركة سلامين، وظهر بركلس ظافرا، واتخذ جميع فلاسفة اليونان المادة قاعدة لمذهبهم، فذهب أحدهم من الماء، وذهب آخر من النار، وذهب الثالث من التراب، وذهب الرابع من الهواء، وهؤلاء الفلاسفة هم الذين مهدوا السبيل للفلسفة الراقية قبل كنت بألفي سنة. وقد استخرج الأغارقة وحدة الفكر من تعدد الحوادث، ومع ذلك استطاعوا من غير خطر أن يحافظوا على آلهتهم الكثيرة.
19
ومن كان يقيض له في سنة 440 أن يصعد الأكروبول، وأن يجلس على إحدى درج البارتنون الذي كان قد تم تقريبا، يسمع في ساعة مجيدة دق المطارق وصوت من لم يحصهم عد من العمال، ويشاهد الرجال القليلين الممثلين لأثينة في ذلك الزمن فيعدون رمزا لمجد العالم، وإنه لأمر فريد في التاريخ أن يكون الرجل مشهورا في أثناء حياته وأن يظل مقدسا لدى الأعقاب، والذي يحدث على العموم هو أن ينكر العبقري عصره أو أن تنسى الذراري من رفعه الفوز حينا من الزمن، ومن دأب الأثنيين أن يعترفوا بالعبقري وأن ينتقموا منه مع ازدراء لاحق، ولكن التاريخ يجده بسهولة بعد حين.
يصعد ثلاثة رجال في درج البروبيلة رويدا رويدا، ويلوح أحد الملتحيين في الخمسين من سنيه ويدل الثالث، وهو أحدث منه سنا، على الذي تم حتى ذلك الحين وعلى الذي ينوى عمله فيما بعد، ويظهر بركلس السائر بينهما مسيطرا عليهما كلما حاول أن يمحي ويبدو بركلس ملكا أكثر من أن يبدو إلها، وإن كان هادئا هدوءا ألنبيا ينم عليه نظره وصوته، وليس من غير سبب ألا يخصص وقته للغريب الذي هو عن شماله والذي يزور أثينة غالبا في أثناء سياحاته الكبرى، ومن البديهي أن ينظر الغريب إلى ما حوله على شاكلته، وأن يجمع مسرعا من العناصر المختلفة بما هو مفطور عليه من موهبة الملاحظة والتحليل، وهو يسمع ويبصر ويسجل كل شيء في ذاكرته التي لا تخطئ؛ وهذا الرجل هو هيرودوتس الذي يرجو بركلس أن يحسن معاملته في مؤلفاته؛ وذلك لأن من عادة هذا المؤلف أن يتلو مقتطفات منها على الشعب حين الألعاب الألنبية؛ ولأن كل أثني مثقف يسعى في نيل نسخة من مخطوطاته.
والرجل الثالث صامت بعيد من الاثنين، وهو يتسور الدرج، وهو ذو وجه بطل، وهو يظن أنه قائد أكثر من أن يظن أنه بركلس لو لم ينم عبوسه على أنه مفكر، وهو صاحب قحف طويل كقحف بركلس وإن كان أنصع منه، وهو صاحب لحية قصيرة أيضا، غير أن شعره أكثر تجعدا وفمه المتزن أقل شهوة، وهذا هو سوفوكل، وقد بلغ من الجمال في صباه ما وجه معه جوقة أعياد النصر، وله بانسجام مظهره البدني وآثاره ما يدنيه من بركلس. وكلا الرجلين اشترك في وضع الدستور؛ وذلك لأن الفن وأمور الدولة في أثينة متماثلان، وسوفوكل تقلد قيادة حربية كبيرة بعدما أصاب من نجاح كبير في «أنتيغون»، وسوفوكل شاعر ونشيط كما أنه مفكر كرجل الدولة. ويبدو بناء هذا المعبد لكلا الرجلين أمرا يناط به مستقبلهما. والواقع أن الشاعر أيضا يفكر في المجد القادم، ومن المحتمل أن يكون في ذلك الصباح قد رسم ذهنيا خطوط الأنشودة عن هيرودوتس ليكتبها بعدئذ.
ولما أبصر فيدياس وصولهم خرج من بين الجمع للقائهم هو وأسبازية التي هي أنضر نساء أثينة، وهو قد جاء بها ليريها ما ينتفع به من الرسوم لنحت التماثيل الداعمة للأفاريز، ويروي بلوتارك أن من عادة بركلس تقبيل جبينها في كل مرة يلاقيها. وكانت هذه المرأة العاطلة من الاسم والأسرة، والتي تدعى أسبازية؛ أي المحبوبة فقط، قد تعرف بها بركلس الأسن منها عشرين سنة في أوج مجده، واتبع بركلس عادة أثينة التي كانت تكرم الخليلات فلم يعتم أن ترك زوجته، ومما لا ريب فيه أن كانت من العبقرية ما أغضى معه ذلك المولود سيدا مطلقا عن وجودها بجانبه.
وهنا، على الأكروبول، يحادث هيرودوتس أسبازية كرجل عالمي، ولكنه في الوقت نفسه يستعين بقدرته على التحليل فيلاحظ كل معنى في وجه بركلس، وكان أولئك الرجال الأربعة وتلك المرأة التي هي أذكى النساء يعرفون أن عيون الجمهور شاخصة إليهم، وأن جميع المدينة ستتكلم في ذلك المساء عن لقائهم، فلا ترى قوما بلغوا ما بلغ أهل أثينة ارتيابا وانتقادا، وهذا مع استثناء أهل باريس في زماننا على ما يحتمل.
ويتخذ فيدياس طور المضيف الذي يستقبل ضيوفه، ويشعر باستعداده العجيب في مصانعة رئيس الدولة، وما الوجه الذي كان يخاطب به أسبازية إلا نتيجة تأملات ناضجة، ويروق وضعه الشعب، فبذلك يكون له فائدة كما يكون لأسبازية وبركلس.
ولا ريب في أنه أبصر على مسافة رجلا له رأس الموسيقي منهمكا في محادثة غلام يدعوه جميع الناس في أثينة بالشمس الطالعة في مسرح ديونيس، وأريبيد هو الذي فاز بجائزة من أجل ابتكار جديد، فقد أظهر امرأة على المسرح، وهو قد أتى من سلامين وفحص بعين ناقدة تقدم البناء، ويلقي الغلام بجانبه نظرات ليست أقل من تلك تقصيا حول هيرودوتس، وقد كان الطموح يأكل قلبه ليكون مؤرخا كبيرا وقطبا سياسيا فيغدو مثل مليتاد وهيرودوتس معا، والغلام هو توسيديد. وبما أن كلا الاثنين أحدث من منافسيهما بعشرين سنة فقد كانا على بعد من الزمرة الأخرى مع زهو واحترام، ويجد هذان المتفننان زملاءهما كلاسيين
115
كثيرا، ويكترثان لضعف الرجال وشهواتهم أكثر من اكتراث هؤلاء الأكبر سنا منهما، ومن المحتمل أن عدا تلك الزمرة المؤلفة من أربعة أعيان أناسا عندا عن ذوق لهم.
وفي الشمال على مسافة منهم تبصر رجلا في الثلاثين من عمره جالسا بين العمال، ويبرز عند أسفل قحفه الكثير النمو أنف أفطس وفم باسم تحت ظل شجرة صغيرة سمراء في الغالب، ويجلس جميع العمال على حجارة رخامية مبعثرة، ويحركون سيقانهم وينظرون إلى الوادي في الأسفل، والآن يلتفتون لينظروا إلى هذا الرجل الذي يضع أحد أسئلته المعتادة الغريبة، ثم يضحك أحدهم بغتة ويحدق آخر حذرا إلى هذا الوجه ذي الأنف الأفطس والذي ينم دوما على السخرية والرفق معا، وهذا هو سقراط الذي فطر على تحيير جميع الناس، والذي يسلي في الوقت نفسه جمهوره بأسئلته المبتذلة ولكن مع خبث اللقانية.
ويحتمل أنه مع بصيرته النافذة لم يلاحظ الطالب الشاب الذي انساب بين الجمع ليراه عن كثب، ولهذا الشاب نظر ثاقب وخبث قاس؛ وذلك لأنه مع فتائه لا يغضي عن أي شيء حوله فيجد في كل مكان من الضعف ما يقيده في دماغه، وهو ليس صديقا للإنسانية كسقراط، ولا مؤرخا كهيرودوتس، ولا شاعرا كسوفوكل، ولا نحاتا كفيدياس، وإنما هو مصور هزلي لولاه ما كانت أثينة أثينة، وهذا هو أريستوفان، وهذا هو العبقري القادم الذي لا يلبث أن يحملهم إلى المسرح جميعا، وأن يخلدهم بأكثر مما يستطيعه شعراء عصره ومؤرخوه.
وإن الأمر لكذلك إذ يجاور الميدان لفيف من الصبيان، ويتتابع هؤلاء الصبيان ويتدافعون بين الحجارة الرخامية ويتضاحكون صاخبين، ويلتفت أولئك الرجال المتزنون جميعهم للإعجاب بما يبدو من الخصل المتموجة في ذلك الذي يلوح أنه يقود الجماعة، وبما يظهر من وثباته الصائلة، وتنقطع الأحاديث في الأكروبول بغتة، ويقف الغلام لبضع دقائق أنظار الشاعرين والمؤرخين وأنظار أسبازية وفيدياس، وبركلس أيضا، ويتوارى الغلام ويعود الجميع مع قليل ذهول إلى الحديث الذي قطع.
والذي مر هو ألكبياد البالغ من العمر عشر سنين.
20
وفي الدور نفسه، في عصري أثينة الكبيرين، لم تنتج إسبارطة نابغة ولا فكرا ولا أثرا فنيا، وكانت تنتج على الأكثر قائدا، وكان قد غادر أثينة جمع من الأطباء والفلاسفة والشعراء والخطباء وتفرقوا في جميع مستعمرات البحر المتوسط، وكان أصل بعض أعاظم الرجال من الشاطئ الإغريقي ومن آسية الصغرى وصقلية، وكان الظلام يحيط بحال إسبارطة العسكرية، وبينا كان بركلس يدرس العلوم الطبيعية مرافقا أستاذه أنكساغورس، وبينا كان يبحث مناقشا في مسائل الأخلاق مع بروتاغوراس، كانت إسبارطة تغلق حدودها دون الفلسفة والتمثيل والموسيقى، ومع قرب هذا الشعب الحربي من مركز الثقافة العالمية كان يجازى من يجرؤ على اتخاذ درس له غير الرياضة البدنية ورمي النشاب ، ومع ذلك كان فتيان أثينة يدربون عضلهم ويتعلمون التجذيف والصراع كما كان أجدادهم الأبطال يصنعون.
وكان بركلس قد وفق لإبعاد خطر محاربة إسبارطة لزمن طويل، ومن المحتمل أن كان يجتنبها تماما لو لم ينظم الأثنيون، الذين أعياهم حكم بلغ من العمر ثلاثين عاما مع حبهم للتجدد وغيرتهم، فتنا ويقيموا قضايا راجين أن يتخلصوا من رئيس دولة صار أمره معروفا جدا.
والأحزاب في ذلك الحين، كما في هذه الأيام، لم تتفق فيما بينها على إسقاط الرجل الذي وضع على رأسها، ويرفع الجذريون
116
في بدء الأمر دعاوى على الفيلسوف ثم على مهندس البناء ثم على خليلة بركلس ويبعدون الأول، ويهلكون الثاني في السجن، وكادوا يقبضون على أسبازية لو لم يوفق رئيس الدولة لإنقاذها في الساعة الأخيرة طالبا رحمة أعدائه دامع العينين كما يروى، ويلوح أن ما عرض له بركلس من خطر في نهاية الأمر دفعه إلى الحرب فصنع كما يصنع الطغاة حينما يرون تضعضع وضعهم.
وكان بركلس يأمل اجتناب الحرب مع اطمئنانه إلى تفوق أثينة البحري وإلى حصونها المنيعة، ومع ذلك يحاصر من قبل الإسبارطيين الذين تقدموا متعللين بشتى الذرائع، ويضطر إلى ترك أقسام من الأتيك، ولما ارتد العدو وعد بركلس نفسه قد أنقذ غدا ربع من التجأ إلى أثينة ضحية الطاعون، ويسود العاصمة ارتباك يقصر عنه الوصف، ويتهم رئيس الدولة باختلاس الأموال مع أنه جمع للدولة مالا لم تنله دولة في القرون القديمة قط، جمع لها نحو عشرة ملايين دولار، ويعزل بركلس، غير أن الحسرات والأحزان والسوداء لم تلبث أن ألمت بأهل أثينة، ويستدعى بركلس حينما أخذ العدو يغزو البلاد، ولكن بركلس لم يعتم أن هلك بالطاعون.
ودامت حرب البلوبونير، وظلت سجالا، سبعا وعشرين سنة، ويمر على موت بركلس أربع عشرة سنة، فتأتي الحرب بألكبياد إلى السلطان لدور قصير، وكان في الثلاثين من عمره.
ولا يتسع صدر هذا الكتاب لتحليل أخلاق ألكبياد، وبألكبياد تهب أثينة، مرة أخرى، إلى أمم البحر المتوسط عبقريا نال من الصيت ما نال أسلافه العظام، وما اتصف به من جمال وظرف وذهن ومجون وطيش كان يجعله فتانا ممقوتا معا، وهو بأخلاقه وأهلياته يذكرنا باللورد بايرون، أو بدانونزيو فيما بعد.
وبما أن ألكبياد كان محتاجا إلى نصر يكهرب به أهل أثينة الذين أعيتهم الحرب فإنه نظم حملة ضد صقلية فأوقد بذلك نار حرب جديدة بين الأغارقة يقتل الأخ فيها أخاه، وقد استطاع أن يجمع 134 مركبا في سبيل هذه الغارة، ويستدعيه قضاة أثينة الذين كانوا أقرب إلى الكيد مما إلى العدل والذين كانوا يحتفظون على الدوام بقضية خلقية احتياطا (ومثل هذا ما حطم به الإنكليز بايرون ووايلد)، فيضطر ألكبياد إلى الالتجاء لدى العدو بإسبارطة، وتستأنف حرب استعمارية بعيدة هوجاء على الرغم من إسبارطة التي تهدد حتى عند حدود الأتيك، وتغلب أثينة، ويعاد ألكبياد إلى وظائفه بين الحماسة العامة، ويعزل ألكبياد مجددا بعد هزيمته الأولى، ويفر نحو الشمال، ويحوك الدسائس مع الفرس، ويموت مقتولا.
وإذا كان بركلس قد خلد بمبان، لا يزال اسمه ساطعا في أروقتها كالنغمة التي تكرر في الأغنية، فإن ألكبياد مدين بشهرته للفن، وذلك بفضل أفلاطون الذي ذكره في «محاوراته»، ويبدو هو وأفلاطون قمرين لشمس العصر سقراط الذي يقال إنه أنقذ حياة الشاب ألكبياد في إحدى المعارك. والحق أن سقراط كان يحب هذا التلميذ الذي هو أحدث منه سنا بعشرين سنة مع أن هذا التلميذ كان يسخر من الفضائل التي يعظ بها أستاذه الجليل، ويتجلى طابع العالم الأثني البديع وضعفه، الصادران عما فيه سر سقوطه من مواهب، في تلك الصداقة التي دامت حتى الممات، على أن كلا الصديقين هلك هلاكا أليما ولكن في أحوال مختلفة تماما.
ويضع هلاك ألكبياد حدا للحرب، فقد دخل البيره الإسبارطيون الخاضعون لنظام حديدي يعد مثل دولتهم الأعلى فكانوا يمتازون من الأغارقة الآخرين بروح الطاعة والنظام فيهم.
ويعسكرون فوق الأكروبول ويهدمون الأسوار الطويلة، ويقبضون على أسطول عدوهم المغلوب، ويطلبون تسليم جميع المستعمرات، ويحملون أهل أثينة على دخول الحلف اليوناني بإدارة إسبارطة، ويقلبون ديمقراطية أثينة بنصبهم بضعة رجال لرقابة شئون الدولة، وما الوجه الذي انقض به البرابرة في ذلك الزمن على المغلوبين من غير أن يأتوا برأي جديد انتصارا لقضيتهم، وما الأسباب التي نكس بها الشعب الأثني التعب، إلا من نوع الحوادث التي تجدها في حروب زماننا. وكان النظام الديمقراطي المسيطر على أثينة قد فسد في الداخل منذ زمن طويل، وكان الصعاليك؛ أي معظم القوم، قد نالوا منحا من بركلس، فغدت مناصب القضاء مفتوحة للفقراء الذين كانوا في ذلك العصر أميين غالبا، وصار بعض الأغنياء ينضم إلى بعض، وكانت طبقة السيكوفان؛ أي طبقة المحامين الشرود، تظهر ممثلة للشعب. والواقع أن أثينة لم تبلغ المجد بنظمها الديمقراطية بل انتهت إلى ذلك خلافا لهذه النظم، والواقع أن الديمقراطية هي التي أدت إلى ذلك السقوط. والواقع أن بركلس لاعب الشعب فاعتقد هذا الشعب أنه يحكم بواسطته، ودستور مثل هذا كان سابقا لأوانه في القرن الخامس قبل الميلاد ... وكيف يمكن ديمقراطية حقيقية أن تنمو في دولة من دول القرون القديمة مع اشتمالها على ثلاث طبقات من السكان وهي: طبقة أبناء الوطن وطبقة الغرباء وطبقة العبيد، ومع وجود حقوق خاصة لكل طبقة تختلف عما للطبقتين الأخريين اختلافا تاما؟ وقد سقطت أثينة ضحية لإسبارطة ذات النظام الاستبدادي؛ لأن أثينة لم تكن ذات ديمقراطية حقيقية.
والرجل الوحيد الذي عاش طويلا ليرى جميع الحروب هو صديق الشعب وعدو الديموقراطية سقراط، وما اتفق له من صيت يفوق الذي تم لجميع رجال القرون الأولى، حتى للإسكندر الأكبر، مدين لأحوال موته، وبين رجال البحر المتوسط الكثيري الميل إلى مطارحة الحياة والموت كان سقراط وحده هو الذي ذهب إلى الموت بمحض إرادته، وذلك عن حب للحرية أو كنبيل كما يمكن أن يقال.
وما كان من انتحار أنطونيوس أو بروتوس مثلا يعد من أعمال المقامرين التعساء الذين لم يكن عليهم غير اختيار الموت أو الرق، ولم يفضل سنيكا الموت إلا ليتفلت من سقوط طالعه، ولم يعش الفيلسوف إنبذقل، الذي قيل إنه رمى نفسه في فوهة بركان إتنة، ولم يمت إلا متشائما، وخر يوليوس قيصر صريعا في أثناء مصارعته القتلة الأنذال، ودعا يسوع الله في الليلة الأخيرة أن يحفظه، وسقراط وحده هو الذي رفض أن ينقذ ضاربا بغريزة حب البقاء عرض الحائط، وقد كان عمره ضعفي عمر يسوع بالحقيقة، وقد أرسل قضاته إليه من يخبره بأنه يستطيع الفرار كالآخرين، وهو لم يكن مصابا بمرض أليم، وهو لم يكن محتاجا إلى البقاء في أثينة ليداوم على أعماله التي كان يأمل أن يواظب عليها في الآدس، وهو قد كان منتحلا لمذهب يسوع في الأخلاق قبل ظهور يسوع بزمن طويل فظل يستوحيه حتى النهاية.
ولو لم ينته إلينا من تاريخ اليونان وثيقة عن الجمال والحكمة غير رسالة «تقريظ سقراط الأثني» لأفلاطون لكان به ما تعلو أثينة فوق حضارات البحر المتوسط الأخرى، بيد أن ما يساور أهل أثينة من خبث وأسف يتجلى رمزه في موت سقراط المجيد.
وكيف هلك جميع عظماء هذه المدينة في الحقيقة؟ لم يخر أحد منهم صريعا وهو يقاتل، ولم يمت أحد منهم حديث السن، والواقع أنهم ماتوا شيبا بعد أن تمت آثارهم منذ زمن طويل، ومات إسشيل ابنا للتاسعة والستين، ومات أوريبيد ابنا للسابعة والسبعين، ومات أريستوفان في الثالثة والستين تقريبا، وقل مثل ذلك عن أولياء الأمور وعن الفلاسفة، فقد مات سقراط في الحادية والسبعين، ومات أنكساغورس في الثانية والسبعين، ومات هيرودوتس في التاسعة والسبعين، ومات فيثاغورس في السبعين تقريبا، ومات أفلاطون في الثمانين، ومات إيزوقراط في التاسعة والتسعين. وليس من الصحيح أن الأغارقة كانوا يجدون الموت قرين الشباب، فما انفك الأغارقة منذ عصر أوميرس يتمنون موتا لينا بعد عمر طويل. وإذا ما نظرنا إلى العظماء بين الأغارقة، وهم الذين يمثلون خيار قرن ونصف قرن في أثينة على الخصوص، لم نجد سوى واحد من سبعة عشرة، لم نجد سوى سوفوكل، استطاع إنماء قريحته طليقة غير مقيدة، وأما ال 16 الآخرون فإن مصيرهم يدل على ثورة المجتمع ضد العبقرية، فهؤلاء الأغارقة ماتوا بين سنة 456 وسنة 322 قبل الميلاد في أعمار تترجح بين ال 55 وال 75، بعد أن كانوا موضع اضطهاد، فمات إسشيل في المنفى، وأبعد أريستيد في مشيبه لمدة خمس سنين ثم عفي عنه، ونفي تمستوكل فمات في بلد الأعداء، واتهم بركلس فعزل، ومات فيدياس في السجن، وفر إختين ومات في بلاد الأعداء، وحكم على أنكساغورس بالقتل فمات في المنفى، ونفي فيثاغورس فمات جوعا على ما يحتمل، ومات هيرودوتس مبعدا، ونفي أوريبيد ضمنا فمات في بلد أجنبي، ونفي توسيديد وقتل، ونفي ألكبياد الذي هو أحدثهم سنا وقتل، وحكم على سقراط بالقتل، وبيع أفلاطون عبدا في البداءة ثم أعتق، واتهم أرسطو وفر ومات بعيدا من بلده، واضطهد ديموستين وشرب السم.
وكان عمل الحوادث في طرد هذين الأخيرين أكثر من عمل أبناء وطنهم، فدل ذلك على حقد الأغارقة وعدم صبرهم وعلى حسدهم وإنكارهم الجميل، ويجنح أحيانا إلى جعل الحق بجانب أريستوفان. ومن سعادة الإنسانية أيضا أن يكون حس الجمال قد حال دون تخريب الأغارقة لآثار المبدعين حين القضاء عليهم.
21
الموسيقى هي أكثر الفنون شهوانية، وهي تلازم تاريخ الحب في كل زمان، تلازم المصريين كما في أفلام
117
أيامنا، ومع ذلك تظل غير ملموسة كأنها متموجة في الهواء، وهي لا تزال تمحي أكثر من امحاء الشعر الذي يمكن حفظه وفحص ما ينطوي عليه من خيال، وليس أثر الرسام أكثر ظهورا، والأوضح منه جزء قليل من بناء، والحق أنه لا يمكن مس غير التماثيل.
ويوحي هرمس براكزيتل إلى الزائرين من رجال ونساء برغبته في ملاطفة أرجلهم، وقد اكتشف منذ خمس وستين سنة في ألنبيا، ولكنه الآن في متحف يورث النفس غما ولا يثير الفؤاد أبدا، ولا ريب في أن هذا هو التمثال الرخامي الوحيد الذي يرجع إلى العصر الكلاسي، وهنالك بضعة آثار زخرفية وبضعة تماثيل يرد تاريخها إلى أدوار لاحقة فنراها أصلية كما يحتمل أن تكون أصلية بضعة آثار برونزية، غير أن جميع التماثيل التي تعزى إلى بعض المشاهير فنجدها على قواعد في مختلف متاحف العالم، والتي فحصها العلماء والهواة في القرون الأربعة الأخيرة، ليست سوى نسخ عن الأصول، وقد عملت الأفاريز نفسها، وقد عملت أفاريز البارتنون وفيغاليه، في محترفات بأيد مجهولة، لا من قبل فيدياس ولا ميرون لا ريب، وتدل قوائم نفقات الأكروبول الإنشائية على أن هؤلاء المتفننين المجهولين قبضوا ما يعدل خمسة عشر دولارا عن وجه كل إنسان أو حصان.
وعلى العكس ترى تمثال هرمس، كما هو في الألنبيا، أنه القطعة الرخامية الوحيدة التي انتفع بها في عمل أثر نحتته يد معلم في القرن الرابع فظل باقيا حتى أيامنا، وذلك مع استثناء الذراع اليمنى التي أصلحها أستاذ مؤخرا فأساء إلى التمثال بذلك، ولما أبرز هذا التمثال كان هذا مثل بعث للجمال الإغريقي بعد رقاد طويل، ويبعث هرمس كمسيح انتظر ظهوره منذ زمن. أجل، توجد تماثيل رجال ذات جمال بدني كذلك، وذلك كتمثال سائق العربة إلى دلف، أو كتمثال هرمس بسيكوبونبوس، غير أن الأول هو من برونز مصبوب وأن الثاني هو نسخة رومانية عملت بعد حين.
ويختلف الخبراء من حيث أصل هذا أو ذلك الأثر الفني، ولكنك لا تجد أثرا يمكن أن ينم على حنان حسي كتمثال هرمس ذلك، وما في هذا الجمال من قوة إيحاء يظن الإنسان به إمكان لمسه قدما فاترة عن حرارة الحياة لا عن برودة الحجر. وإذا كان من الممكن أن يعبر عن الجمال البدني بألفاظ عند عدم الموسيقى، فإنه يمكن تعريف خيال الأغارقة الرجولي ب «اللطف الطبيعي». والواقع أن هذه الصفة تظل سائدة من أثينة بركلس حتى بونبي، ومن بوليكليت حتى متفنني برغامون، ومما قرره أرسطو عدم وجود جمال إغريقي نموذجي مع عده جميلا كل شكل ممكن للأنف أو الفم، وما هي فائدة التعاريف؟ وإذا ما رئي شاب يقبل إلينا على طول الشاطئ فيسميه بعضنا إلها شابا إغريقيا عرف كل واحد منا ماذا يعني ذلك. ويوجد هذا اللطف الطبيعي لدى الرومان وحدهم عندما يستنسخون آثار الأغارقة، ويجيد الرومان عمل التصاوير على خلاف الأغارقة، وكان الإسكندر من الشخصية البارزة ما يكون معه مثلا إغريقيا عاليا.
ومن المحتمل كون السر في ابتداع الأغارقة، والأغارقة وحدهم، لجميع آلهتهم على صورتهم، فهم لم يحاولوا قط أن يجعلوهم في أقصى درجات الكمال. قال إكزينوفون: «لو كانت الأسود قادرة على التصوير لصورت آلهتها على شكل الأسود.» وهنا تجد السبب في أن التمثال لإله إغريقي ليس أكثر من تمثال الرجل جمالا. ومن العادة أن نقول عن إحدى الفتيات: «أليست حسناء كديانة؟» وقال إغريقي عن تمثال ديانة: «حقا إنه من الجمال كفرينتي أنا.»
ولو جرؤ أحد الأثنيين على عرض تماثيل أشخاص بالغة من البشاعة كما تبلغه الآلهة المصرية التي لها رءوس الحيوانات أو الإلهات الهندوسية ذات الثدي العشرين أو آلهة أمم الشمال العور بعضها والكتع بعضها الآخر، لصلب بلا محاكمة. ولم تكن الآلهة في أثينة فوق البشر ولا دون البشر، وكانت هذه الآلهة تصنع كما يصنع الآدميون، ولكن بسهولة ومع زيادة إتقان، وكانت الآلهة تخطئ وتقترف أغاليط، وكانت الآلهة لا تبصر المستقبل في كل وقت وكانت خاضعة لأحكام القدر. وروى أوميرس أن زوس خشي ذات يوم أن يقبض أشيل على تروادة ما دام لم يعين هذا الحادث في تقويمه. وكان الإغريقي لا يشعر بعرفان الجميل من أجل ما كانت الآلهة تنعم به عليه من السعادة، وعلى العكس كانت الآلهة نفسها تشكر له تمتعه بهذه السعادة ما دامت لا تحتمل رؤية الشقاء.
وماذا كانت السعادة عندهم في الأساس؟ وإذا ما لخص رأي فلاسفة اليونان حول السعادة في خمسة قرون أبصرنا ظهور الكلمات: الصحة والنوم والمجد والجمال والتربية والصداقة والموت بلا ألم مع تقدم السن. ولم يذكر أحد من الفلاسفة الثراء من عناصر السعادة، وتبلغ الآلهة الإغريقية من الطبع البشري ما تحسد معه سعداء الناس وتعتدي معه عليهم، وديونيزوس وحده، وهو المعدود من الآلهة الآسيوية، هو أكثر الآلهة نفورا وأشدها خطرا، وبهذا تفسر أسرار هذا الإله.
وإذا ما تمثل شعب آلهة منتقمة منيعة، سواء أتعددت هذه الآلهة كما عند المصريين أم كانت إلها واحدا كما عند اليهود أم كانت إلهين كما عند النصارى، عين الخوف والإجلال صورة هذه الآلهة، وكان الأغارقة أنفسهم يحاولون نيل الحظوة لدى آلهتهم بما يقدمون إليها. وكان الأغارقة خرافيين أكثر من معظم الأمم الأخرى من هذه الناحية، وما كان من كثرة أساطيرهم ومن إنعاشهم العناصر والنباتات والحيوانات يدني آلهتهم منهم ويحول دون إقامة ذلك الحاجز المنيع الذي يفصل بين تعاليم الأديان الأخرى وربهم، وما كانت الآلهة الإغريقية تبديه من اكتراث دائم للآدميين الذين يستولي عليها سأم عظيم بغيرهم يعين المظهر التصوفي والشعري في ذلك الدين، وما كان من استنساخ المئات من صور هذه الآلهة في كل يوم يجعل هذه الآلهة حقيقية كما يجعلها أقرب مما يمكن أن يكونه إله واحد لا يحضر إلا وفق خيال مجرد.
وذلك هو السبب في أن الدين الإغريقي هو الدين الوحيد العاطل من علم لاهوت ومن أية وثيقة مكتوبة حتى في دلف. وقد جرؤ بروتاغوراس، الذي هو أول السوفسطائيين والذي هو أسن قليلا من سقراط، على القول: «ومن حيث موضوع الآلهة لا أعرف شيئا، لا أعرف هل هي موجودة أو غير موجودة، كما أنني لا أعرف طبيعتها، وهنالك أمور كثيرة تحول دون النظر جليا، ومنها غموض الموضوع وقصر عمر الإنسان.» وما كان الخيال لينال حرية أكبر من هذه، ويمكن كل واحد أن يتمثل آلهته ولا يعوزه ذلك في الحقيقة.
وباللواطة يفسر تفسيرا جزئيا عرض التماثيل بوجوه رجال على الخصوص، وبما أن جميع المتفننين، والممثلون منهم، كانوا من الرجال، فإن من الطبيعي أن يجعل بدن الرجل العاري نموذجا. وكان عدد التماثيل النسوية العارية قليلا جدا، والنساء كن يخفين فتونهن على حين كان الفتيان يبدونه، حتى إن المترجلات كن كاسيات، وما نراه من مستثنيات جميلة، كتمثال فينوس دوميلو أو تمثال أفروديت النصفي الذي وجد حديثا في قورين، يرجع إلى عصر لاحق، وليس تمثال نيوبيد المشهور العاري الذي يشتمل عليه متحف ترمس برومة، وهو الأثر الوحيد الذي يعود إلى دور كلاسي،
118
إلا أمرا فريدا، وهو يثبت اتصاف الأغارقة بقريحة منوعة. بيد أن الأغارقة كانوا يتشهون عرض أبدان الذكور، ولهذه الروح كان الفياسين الأسطوريون يتخذون من الغلمان حملة للمشاعل الذهبية في قصر ألسينوس، والنساء أيضا كن في كل مكان يفضلن الجمال على جميل الطباع، وكذلك العذارى الخالدات، كأتلنتة، والصائدات والمترجلات كن يقمن بمغامرات غرامية في نهاية الأمر، وإذا ما صدقنا اتصاف بنلوب بالوفاء فإننا لم نجد مثله عند زوجها أوليس الذي ظل عدة سنين يتلهى مصاحبا حوريات وبنات ملوك فبلغ من الرضا بذلك ما لم ير معه أن يعود إلى منزله من فوره. وليس الحب التعس من مشاعر الأغارقة، وكيف يمكن شعبا كان يتمثل حياة غرام كثيرة التنوع أن يطالب نساءه بالعفاف؟! فمن الحب والجمال والمجد يتألف ثالوث الفضائل اليونانية.
وطبع الأغارقة معابدهم وتماثيلهم ومآسيهم بأفكارهم السياسية والثقافية، ومثلت حياتهم اليومية في الكميدية،
119
ولا سيما الأواني الخزفية التي يمكن عد ما عليها صورا فتوغرافية، ولا غرو، فإنه يسهل على شعب موهوب كهذا الشعب الكثير الفراغ والهزل أن يصور مظاهر الحياة اليومية على الآنية، وقد وجدت مئات من هذه الآنية سليمة، وقد انتهت مئات الألوف إلينا كسرا منها، ومن هذه الآنية ما هو تافه ومنها ما هو ثمين، وإذا جمعت هذه الآنية والتقطت صورها الفتوغرافية وجعلت في كتاب كان لدينا دليل حقيقي عن اليونان في دور متأخر، وتجد لبلاد الإغريق الأولى انعكاسا تاما في آثار أوميرس.
وتغتسل فتيات تكريما لديونيزوس، وتكاد فتيات أخر يكملن زينتهن بدهان، وتهذر فتيات أخر بالقرب من ينبوع ذي رأس أسد، ونرى دنانهن المملوءة خمرا وأقداحهن ونماذج نسائجهن، ونرى سررهن ومقاعدهن، وإذا أمسكت امرأة رأس زوجها في أثناء استفراغه حول المائدة وجد في الحال من يصور هذا المنظر، ونرى ذهابا إلى الصيد والوجه الذي يتمثل به السلاح والطراز الذي تعلم به الشبيبة حسن السلوك والرقص، ونرى المئات من مناظر المرافئ والملاحة، ولا شدة هنا، ولا ما هو كلاسي هنا، ولا ما هو لاهوتي هنا، وإن كنت تبصر في الغالب أسماء آلهة معروفة مكتوبة تحت الوجوه اللطيفة لهؤلاء الفتيات والفتيان، ولدينا نحو مائة صورة هزلية عن المشيب والألم والبخل والكسل والثمل، وننسخ أريستوفان بأجمعه على الآنية قبل الحرف، دع عنك رابله ومولير وفرانزهالز.
وتلك الوجوه تمثل الأغارقة الذين أقاموا في سجست، وبعد المعركة، معبدا لعدوهم الأكبر فليب، وذلك لما كان من جماله الباهر، وهؤلاء الأغارقة هم الذين جعلوا أدونيس يقضي، بسبب جماله، ستة أشهر بجانب أفروديت وستة أشهر بجانب برسفون مقسمين حياته على هذا الوجه، وهؤلاء الأغارقة هم الذين لم يحرقوا رودس المحتلة إنقاذا للوح رسمه بروتوجين كانوا يعلمون وجوده في حي مهدد منها، وهؤلاء الأغارقة هم الذين برءوا سوفوكل لأنه أنشد في أثناء محاكمته أغنية جديدة من تأليفه تمجيدا لوطنه وحمدا له.
22
ترى عناصر ثلاثة ذات مدى رمزي يرتبط بعضها في بعض حوالي سنة 400 قبل الميلاد، وهي: غارة إسبارطة على أثينة وغارة القرطاجيين على صقلية وغارة السلت على إيطالية، وقد زلزلت الحضارة كل واحدة من هذه الغزوات، وكتب الفوز للقوة البربرية والعلم الحربي والثراء على الذكاء في الشرق وفي الغرب، وفي الشمال، وعلى أشكال مختلفة، ولم يكن غزو الشمال ذا نفوذ، ولم يترك غزو القرطاجيين أي أثر تقريبا. حتى إن إسبارطة التي افتتحت أقوى حصن للحضارة في عالم القرون الأولى ظلت خارج أبواب المغلوب على الرغم من جميع انتصاراتها، فقد أعيد بناء أسوار أثينة التي خربها الغالب في عشرة أيام وبعد ثمان وعشرين سنة من انتصاراتها، وقد غلبت إسبارطة في البحر من قبل أثينة التي بعثت، وإسبارطة هي التي داومت، حتى في السنين التي عقبت انتصارها، على حياة نمطية هوجاء في عالمها العسكري الفارغ الخالي من الروح، وذلك مع تأسيس أفلاطون لمدرسته الفلسفية بأثينة في ذلك الحين، وذلك مع استئناف بركسيتل إبداع تماثيله الخالدة.
ولا ترى في التاريخ مثالا على وجود شعب استطاع أن يخضع إلى الأبد شعبا آخر أرقى منه ذهنا. وانظر إلى أثينة التي كانت تعلو بروحها حضارة البحر المتوسط بأسرها تجدها قد ظلت زاهرة بعد رومة الظافرة عدة قرون، وذلك من غير أن يكون لسلاح الرومان غير ظل عليها. وفي ذلك الدور؛ أي حوالي سنة 400؛ أي قبل غياب السيطرة الإغريقية عن البحر المتوسط، تنازع شعبان قديمان، تنازع القرطاجيون والأغارقة، ليحرم كل منهما الآخر أملاكه مقابلة، وقد غدا اصطراعهما مختلطا فاقد القيمة منذ ظهور دولة قوية ثالثة في منطقة البحر المتوسط ظهورا وئيدا منذ ظهور رومة.
ولا مفر من نشوب الحرب بين الأغارقة والقرطاجيين بسبب امتلاك الجزيرة الكبرى التي تفصل بين نصفي البحر المتوسط. وقد تصادمت الحضارتان في صقلية، فحارب القرطاجيون في سبيل أقرب المستعمرات إلى بلدهم، وحارب الأغارقة من أجل المستعمرة البعيدة نسبيا من بلدهم الأصلي. وكان من الطبيعي إذن أن يكون القرطاجيون أكثر اكتراثا لصقلية التي يمكنهم بلوغها في ثلاثة أيام في ذلك الحين، وكان لهؤلاء التجار الملاحين حق تاريخي على هذه الجزيرة من بعض الوجوه، ولم يكن الأغارقة ليبالوا بها إلا لتقاليدهم في السلطان العالمي ولعادتهم في الاستيلاء على السواحل والمرافئ المهمة، وما كان من تقلب الطالع الذي يقاتل به كل من سيدي البحر المتوسط هذين من أجل صقلية يثبت عدم تغلب الروح التجارية على كل من الأغارقة والقرطاجيين في ذلك. وكان العامل الحاسم هو طراز المراكب التي تستعمل، فيقابل القرطاجيون ذوات صفوف المجاذيف والجذافين الثلاثة من المراكب بمراكب ذات أربعة صفوف من المجاذيف والجذافين.
ويجب البحث عن سبب هذه الحروب العميق في الزهو القومي الذي كان قد استحوذ على الشبيبة الأثنية، وشبان الأسرة الأخلياء كانوا يبدون، كما في كل وقت، أكثر انتفاخا من أجدادهم الأجلاء. ولم يطمع بركلس في سيادة العالم قط، ولكن تمستوكل كان قد سلك سبيل جنون العظمة القومية فأطلق على إحدى بناته اسم إيطالية مثلا. ومما حدث أن الشبان «الحراقين» الذين كان يوجههم ألكبياد صاروا يقيمون الدليل على أن القرطاجيين يرهقون أهل صقلية وعلى أن هؤلاء يطلبون العون، فأخذ أولئك الشبان يتكلمون عن فتح قرطاجة. وقد حبطت حملة الأثنيين التي وجهت إلى صقلية حوالي سنة 413ق.م نتيجة لتلك الروح في أثناء حرب البلوبونيز، ولما كان من تهديد إسبارطة إياهم، ومن نقص استعدادهم، ومن وقوعهم بين أمر وطنهم المضعضع في الداخل وبين مستعمرة مذعورة مجزأة غير خاصة بأحد.
ومع ذلك لم يرد أهل صقلية المقسومون بين مدن كثيرة مستقلة أن يصبحوا قرطاجيين، وقد كانوا في مثل وضع الألزاسيين الذين تجاذبتهم فرنسة وألمانية قرنا فانتهوا إلى مقت إحداهما والاحتراز من الأخرى. وقد أسفر عدم انقطاع الحروب بين قرطاجة وسرقوسة على الخصوص، وقد أسفرت اندفاعات اليونان حوالي سنة 350 قبل الميلاد، عن حوك المؤامرات وعن ضروب القتل وعن فوز بعض الطغاة. وكان قطب ذلك الدور طاغية سرقوسة دني الذي أقام إمبراطورية صقلية حوالي سنة 400 قبل الميلاد، قوية مثل أثينة، مشتملة على نصف إيطالية، ممتدة إلى مصب نهر البو، محتوية قورسقة. ويبدو لنا دني كإغريقي حقيقي بميله الشديد إلى الثقافة، وقد كان يمكنه أن يشغل مكانا مهما في التاريخ لو أحاط نفسه بشعراء ومتفننين كبركلس، واليوم لا تزال رءوس الأسود المبتورة على الجدر المتينة في قصره الحصين، في قصر أريالوس، تسيطر على سهل صقلية.
ومع ذلك لم يبق شيء من دني الأول على الرغم من انتصاراته وتوفيقاته العظيمة، وهو لم يذكر إلا لأن أفلاطون وافق على اقتسام الحكومة معه، وما كتبه أفلاطون من رسائل في سرقوسة يثبت أن الشخص الواحد يمكنه أن ينطوي على فيلسوف وقطب سياسي معا وأن هاتين الصفتين لا يمكن أن تتعاونا إذا ما تقمصتا شخصين مختلفين. وقد أبدى دني من الروحية والاحترام والقرى والتعطش إلى المجد ما لم يبده الأباطرة والبابوات الذين ظهروا في القرون القادمة نحو متفنني عصرهم. وكان أفلاطون عازما على تحقيق أفكاره قبل كل شيء، ولا ترى من الفلاسفة من هو أقل أفلاطونية من أفلاطون؛ وذلك لعدم اكتفائه في النصف الأول من حياته بالتأملات الفكرية الصرفة؛ وذلك لأنه كان يريد أن يسير ويبدع دولة جديدة وأن يحقق مبدأ جديدا؛ وذلك لأنه كان يود أن يجعل سلطان الحكومة خادما للروح.
وتثبت رسائله ورحيله الأخير درجة ما مني به من حبوط تام، وما كان ليستطيع أن يحقق من بعيد ما يسميه «الدولة الثانية الصالحة»، وما كان عليه أميره من زهو، وما كان يطمع فيه من مدح دائم ثمنا للإعجاب الذي يظهره للفيلسوف، وما كان من خفة أولياء الأمور على العموم، وصفه أفلاطون بعبارات تحمل على التأمل فريق المفكرين الذين يودون التأثير في ذوي السلطان، قال أفلاطون:
لقد وجدت عند وصولي إلى سرقوسة وسيلة اختبار شخص لأرى هل هو مشبع من شعلة الحياة المقدسة ومن الأفكار الفلسفية، ووجدت وسيلة اختبار الأغنياء الذين وجب أن يكونوا قابضين على أعنة من ذلك، وهكذا يجب أن يروا ماذا تعني الدراسة العميقة للأمور، وهكذا يوضع على محك الاختبار أشخاص عاجزون عن السعي والثبات، فلا يستطيعون بعد ذلك لوم أدلائهم، بل يستطيعون لوم أنفسهم وما هم عليه من كسل خاص.
ومتى رئي أن أكبر رجال ذلك العصر موهبة حصر في بستان القصر فلا يستطيع أن يخرج منه إلا بإذن من الجبار، ومتى علم أن خطر القتل كان يحيق به وكيف أنه كان في ذلك الحين موضع إكرام الأمير، أمكن إدراك وضع كورناي تحت سلطان ريشيليو ووضع ميكل أنجلو تحت سلطان يوليوس الثاني ووضع فولتير تحت سلطان فردريك الكبير.
ولكن جميع ذلك لا يدل على مزاج أفلاطون النفسي ولا على مزاج الأغارقة النفسي وحدهم، أجل، كان النبوغ والفن وقفا على الأغارقة، فإذا وجد حجر قرطاجي لحدي دقيق يرجع تاريخه إلى ذلك الدور حكم في أنه نسخة عن نموذج إغريقي، غير أنه كان يرى في كل مكان أثر للأخلاق الفروسية؛ ولهذا السبب كان عالم البحر المتوسط يمتاز في القرون القديمة من البرابرة الذين يهددون من الشرق والشمال آتين من فارس والغول. وإذا ما نسيت ذكرى حصار سلينونت وسيباريس، ونسي اسم هانون الذي هو أعظم قائد في عصره، وجب بقاء الأمر الآتي، وهو: أن ابن هانون استدعي من المنفى في قرطاجة ليقبض على زمام السلطة فعدل عن الانتقام، ولم يقتل أعداءه الذين غدوا تحت رحمته، بل اكتفى أمام الجمهور المجتمع بوضع رجله على رقاب هؤلاء الرجال المبطوحين أمامه على الأرض ثم أطلقهم.
ولا نستطيع أن نميز متنافسي البحر المتوسط الثلاثة في القرون القديمة بعرقهم، ولا نستطيع أن نعزو إلى كل واحد منهم صفة خلقية أعلى مما لدى الآخرين، وما يبذل اليوم من جهد هزلي لتطهير دم الأمم التي اختلطت بمئات العروق كان غير مجد حوالي سنة 400 قبل الميلاد. وقد كان يتألف من كل من الأغارقة والقرطاجيين والرومان مزيج من سكان البلاد الأصليين ومن القبائل المهاجرة كما هي حال أهل المكسيك في الوقت الحاضر، والأرض، لا العرق، هي التي كان يعتد بها.
وهنالك، حيث اختلط الدم في غضون تاريخ ألفي من غير أن يعنى بالصحة، ظلت طبيعة الأرض وحدها عاملا ثابتا، وكما أن جنس البقر الذي صار إدخاله إلى ضفاف النيل التأم هو والإقليم والعلف الجديدان دمغت شعوب البحر المتوسط بالعناصر أكثر مما بالعرق؛ وذلك لأن العرق يظل مختلطا مغلقا مع أن العناصر خالدة؛ وذلك لأن الخليج والميناء والشراع، ولأن الصحراء والريح؛ ولأن الزيتون والقمح والسمك، أمور تحول الآدميين الذين يقيمون على طول الساحل من غير أن تحول الساحل.
وفي ذلك تجد السر في أن مغازي البرابرة لم تترك غير آثار قليلة في شواطئ البحر المتوسط؛ وعلى ذلك الذي يتلهى بكلمة «الهندي الجرماني»
120
أن يتمثل صحاري غير مسكونة فيكتشفها أناس من الأجانب ويستولون عليها في نهاية الأمر. والحق أنه لا يوجد هندي ولا جرماني حول البحر المتوسط، والحق أن السكان هناك شعوب أصلية اختلطت بمئات من الشعوب الأجنبية. والحق أنه يوجد بين صور الرومان والجرمان من الخطوط المشتركة ما يوجد بين صور حيوانات العصر الجليدي وصور رفائيل، ولا غرو، فكلا الأمرين قد تم فوق أرضي الإمبراطورية الرومانية. وليس بالذي يذكر بجانب ما في نظرة الإنسان من قوة الإيحاء جميع الدراسات حول الاشتقاقات اللغوية وكسر الخزف وقطع الصور المرسومة على الأواني. ومن كان منصفا فيدقق في وجوه سكان صقلية والبروفنس وفلورنسة وبرشلونة وسلانيك وإزمير وحيفا والقاهرة، يجد جميع هؤلاء الرجال والنساء ذوي شعور دكن وعيون سمر، وأنهم يتشابهون فيما بينهم أكثر من مشابهتهم لأولئك الشقر الشعور والزرق العيون الذين يتلاقون في البندقية أو أرمينية تلاقيا استثنائيا.
23
وفي القصة أن رومة أنشئت يوم أقيمت قرطاجة ، ولم خرجت رومة ظافرة من صراع مائتي عام؟
من المحتمل أن تجد سبب ذلك في كون رومة مدينة غير ساحلية، وهذه المدينة قد أقيمت بعيدة من البحر مائة ميل بحري، وذلك على ضفة نهر صالح للملاحة، فكان يمكن أكبر السفن في ذلك الحين أن تسير فيه، ولكن في مأمن من القراصنة. واليوم لا تزال رومة تتمتع بمثل ما للمدن الساحلية من المنافع، وذلك من غير أن تكون عرضة لمثل ما يواجه هذه المدن، وتسيطر رومة على الطريق العسكرية الوحيدة بين الجبل والبحر، وهي لذلك تكون في وضع تقاوم به غزو الإتروريين واللاتين في الشمال وفي الجنوب، وهي لهذا الوضع الجغرافي كانت تشتمل على شعب بري نشيط متحد وعلى جنود ووطنيين، وبينما كان الأثنيون مفرقين منذ حالهم الأولى بين مختلف الخلجان والجزر لم يكن السهل الروماني ليتسع بغير الفتوح المنظمة كما كانت عليه الدولة البروسية في بدء أمرها. وما كانت مصاهرات الأمراء ومواريثهم لتأتي بأملاك بعيدة كما اتفق لبروسية فيما بعد؛ وذلك لأن رومة ظلت جمهورية سبعمائة سنة؛ أي ما يعدل عمر جمهورية سويسرة حتى الآن.
وما كان يشترك فيه الرومان الأولون والبروسيون هو ما يشترك فيه هذان الشعبان وقدماء الإسبارطيين، ومع ذلك لم يكن الملوك الأولون الأسطوريون، في الحقيقة، غير رؤساء لجمهورية كان يسيطر عليها أشراف من أصحاب الأرضين الواسعة في البداءة فصارت تدار بحلف من جميع الطبقات، ويعدل القنصلان، اللذان كانا ينتخبان حتى في عهد الملوك، حاكمين يؤدي تحاسدهما إلى حفظ الإسبارطيين من الجبروت، وعلى العكس كان السنات ضربا من المجالس العليا الوراثية التي تتمتع بسلطان دائم، ومع ذلك لم يعتم الفقراء أن ثاروا ضد كل ضغط فألفوا بمجالسهم الشعبية دولة ضمن الدولة التي زاد سلطانها سريعا.
ولا يشبه الدستور الروماني الذي ظل باقيا ألف سنة لقيامه على الحرية والنظام إلا بالدستور الإنكليزي الذي يختلف عنه في أمر واحد على الخصوص، وهو أن الحياة السياسية والتجارية لدى الإنكليز تقوم على التقاليد والشرف فلا تجد عند الإنكليز غير القليل من القوانين المدونة ومن الأوامر والنواهي، وأن الرومان بكروا في تسجيل جميع ذلك عن ألواح فأدى هذا إلى ظهور مبادئ فقهية انتشرت من البحر المتوسط إلى جميع العالم الغربي، واليوم لا يزال البتاغوني يتزوج ويرث أباه وفق المبادئ التي صيغت في رومة الفتاة منذ أكثر من ألفي سنة، وما كان الحق ليمارس على مقياس واسع بلا حرية. وبهذا يفسر السبب في كون إسبارطة وبروسية لم تستطيعا فتح العالم على الرغم من قوانينهما الشديدة شدة قوانين رومة. وكلا البلدين، إسبارطة وبروسية، تعوزه الحرية، وإذا ما نظر إلى الأمر من حيث النظام العسكري والزهد والترتيب وجد الرومان الأولون أكثر مشابهة لأهل إسبارطة مما لأهل أثينة، وكان الرومان أنفسهم يضحون بالروح في سبيل الدولة.
وذلك على خلاف مبدأ الحرية، فلم يقم إخلاص الرومان للدولة على ضغط يأتي من عل ولا على قسوة باردة، ولم تكن الطاعة مثلا عاليا كما في إسبارطة، بل كانت ضرورة ارتضيت طوعا، والأشراف، لكي يظفروا بذلك، اخترعوا حيلة دين الدولة الذي لم يكن مؤثرا في غير عهد الفراعنة حتى ذلك الحين، وقد عمر خيال الأغارقة عالم الآلهة، والرومان، لعطلهم وعجزهم عن تمثل آلهة جديدة، استعاروا من الأغارقة آلهتهم وأطلقوا عليها أسماء جديدة وجعلوا منها رموزا لقوانينهم الخاصة، ولا تبصر أمة كالرومان كثرة آلهة وقلة ديانة، والرومان وضعوا ضربا من حساب الدوبيا
121
مع الآلهة التي تقوم ببعض الواجبات في مقابل عدد معين من التقدمات، وكيف كان يمكن شعبا مثل هذا الشعب أن ينتج تماثيل وآنية وأغاني ومآسي تقاس بما أنتج الأغارقة؟
وفي مقابل ذلك وسع الرومان نطاق دولتهم الحربية على مقاييس أوسع مما صنعت إسبارطة، وعرفوا أن يوفقوا، ببدعة جديدة، بين سلطتهم العسكرية وسلطتهم المدنية، وبيان ذلك أنهم ابتدعوا وظيفة جديدة تشتمل على كلتا السلطتين في الأحوال الملحة، ابتدعوا وظيفة الطاغية، وتعبير الطاغية كتعبير الإمبراطور من مبتكرات الجمهورية فكان شيشرون، مثلا، يدعى إمبراطورا، وكان الطاغية يمثل شكلا من السلطة التي رضي بها جميع الأمم في غضون التاريخ بعد ذلك، وكما أن ألقاب «السناتيين» و«القناصل» ظلت باقية في مختلف البلدان حتى أيامنا بقيت كلمة «الطاغية» قائمة منذ القرن الرابع قبل الميلاد. وفي رومة جعلت تولية الطاغية مقيدة بشرطين: (1) أن يكون البلد في خطر. (2) أن يترك الطاغية سلطانه للسلطات المنظمة بعد انقضاء ستة أشهر.
وقد حافظ الشعب الروماني على تلك القواعد عن حسد حتى عهد سيلا ويوليوس قيصر، وكان العوام أكثر من الأشراف محافظة عليها؛ وذلك لانتخاب القنصل الشعبي الأول قبل الميلاد بأربعة قرون. وكان الرومان في البداءة قوما عاطلين من كل نفوذ خاص، ثم عرفوا، بما كانوا يستندون إليه من القانون ونظام الدولة، أن يقيموا حلفا مشتملا على المدن المجاورة، ولا تزال دولنا الاتحادية الحديثة تعمل بمبادئ هذا النظام.
وبما أن مبدأ الرومان في الدولة يقوم على الحرية، فقد غدا النظام أساس مستقبل الدولة العالمية القادمة، ولم يحتج الرومان لإقامة هذه الإمبراطورية إلى روح تجارية أوسع مما لدى الأغارقة، وإنما كانوا محتاجين إلى نظام أوثق مما عند هؤلاء. والرومان أكثر من الأغارقة ثباتا وإن كانوا دونهم إبداعا، والرومان أشد من الأغارقة وحدة وإن كانوا أقل منهم أفكارا. ومع أن الأغارقة لم يستطيعوا طرد غزاة الفرس إلا بعد هزائم قاسية دحر الرومان من فورهم، وهم أضعف من الأغارقة، أول هجوم قام به البرابرة السلت إلى خارج أسوار مدينتهم، وتجد في خلق الرومان الخصيب بالمبادرات جميع الصفات الأساسية الضرورية للسيادة العالمية، وكل ما كان يعوزهم هو علم الملاحة البحرية.
ولم يلبث الرومان أن تعلموا هذا العلم من منافسيهم القرطاجيين، وإذ كان الرومان شعبا بريا وحربيا، ولم يكن لديه غير جيش صغير مؤلف من ثلاثة آلاف رجل وثلاثمائة فارس، فإنهم تركوا، عن ضرورة، شواطئ حلف مدنهم لنهابي الأغارقة حتى القرن الرابع قبل الميلاد. وتدل الوثيقة الرومانية الرسمية الأولى التي لدينا على عقد معاهدة مع قرطاجة حوالي سنة 350 قبل الميلاد تقضي بحظر الملاحة على الرومان في المناطق البحرية من جنوب صقلية، وقد عقد الرومان معاهدة أخرى مع تارانت تقضي بحظر الملاحة عليهم في شرق البحر المتوسط ، وهكذا يبدأ التاريخ الروماني بهزيمتين كتاريخ كثير من مشاهير الرجال والشعوب.
والحق أن هذه المعاهدات أبرمت فور غارة البرابرة الأولى، مقتضية تضحيات مالية عظيمة لتجهيز البلد بالسلاح، وقد سحق الإتروريون من قبل غزاة السلت، وقد كسر الحلف اللاتيني، ومن المحتمل أن دهشت شعوب إيطالية حينما أبصرت رئيس البرابرة برينوس يرتد بغتة آتيا ضروب النهب في الطريق حين تقهقره، بدلا من استقراره بالبلاد، وقل مثل هذا عن ألاريك وجنسريك اللذين هما أول من شن من أهل الشمال غارة على البحر المتوسط بعد حين، فلم يكن لهما غاية غير النهب ولم يكونا ليهدفا إلى الاستعمار والإنشاء. وكانت الثروات، التي تتجلى لنا اليوم في المواد الأولية، تقوم عند أولئك على كنوز المعابد وذهبها وعلى من يأتون بهم من الرجال فيجعلون منهم عبيدا.
وفي العصر الوثني الذي عقدت فيه تلك المعاهدة مع قرطاجة كانت مبادئ الأخلاق أسمى مما هي عليه الآن، وكان القراصين يحترمون القوانين التي يسخر منها ربابنة الغواصات في الوقت الحاضر، فكان لا يمكن بيع التجار الذين يقبض عليهم في البحر عبيدا في البلاد الصديقة لرومة وقرطاجة، وكان يوجد في رومة مبدأ قانوني قديم يحظر بيع الإنسان عبدا في البلد الذي ولد فيه أو البلد الذي عاش فيه حرا.
ومع ذلك فإن هذه المنازعات كسفت كغيرها بين شعوب البحر المتوسط الثلاثة، وذلك بحادث جوي ظهر في سماء هذا البحر لم يلبث أن توارى في الشرق البعيد.
24
ولد الإسكندر الأكبر في ظل غابة مقدونية البكر، لا في كنف الأكروبول البهي، وأبصر في صباه الأسد، لا البوم الذي هو رمز الحكمة، وعرف أغاني الصائدين البرية والجموع الخاضعة، لا الأجواق الأثنية والخطباء الشعبيين، وقد رأى ملوكا وأمراء يسيطرون كما في زمن أوميرس. وقد كان أبوه أول من أراد تنوير هذا البلد الهمجي الذي لم يختلف جوهرا عن جرمانية في زمن يوليوس قيصر. وينشأ الشاب الإسكندر في وسط المجادلات الأسرية القاسية وفي سواء الأخلاق البربرية، فيشاهد تطليق أبيه لأمه التي هاجمها بنفسه في نوبة سكر ، وهذا يفسر ما بين الرجلين من حقد وتحرز كما يفسر السبب الذي لم يكن الإسكندر به غريبا عن قتل فليب، ومن المحتمل، كما يلوح، أن فليب لم يكن أبا حقيقيا للإسكندر. وجميع ذلك قد ترك أثرا بربريا في حياة الإسكندر وعمله فكان يمكن ألا يغدو غير نظير لجنكيزخان وجنسريك اللذين كانت إمبراطورية كل منهما قصيرة العمر كإمبراطوريته.
وما نراه من كون الإسكندر أحد رجال التاريخ الخالدين مدين، في الدرجة الأولى، لفكرة فليب الرائعة في دعوة أعظم مفكري الزمن إلى بلاطه ليكون مربيا لابنه، وبدا أرسطو الذي كون روح الأمير الإسكندر فيما بين الرابعة عشرة من سنيه والسابعة عشرة من سنيه رسول حضارة القرون القديمة العليا في بلد كثير البربرية، ويمكن تشبيه عمله بعمل ريح البحر التي تنثر ثائرة بعض الحبوب من خلال التلال والأودية لتنتج أكرم نبات في الغابة الابتدائية.
وقد أعدت أفكار إغريقية ابن البلد الهمجي هذا لأعمال الكرامة والمروءة والبدائع الثقافية التي عدها مقلدوه أهم من فتح الهند. وكان الإسكندر أسدا بربريا يحضر أمورا فظيعة ويتمها بنفسه. وكان الإسكندر يخاطر بحياته في جميع المعارك وينال انتصارات حاسمة بحد سيفه، ومع ذلك كان الإسكندر ينشر في الوقت نفسه أزهار الحضارة اليونانية في جميع البلدان المفتتحة.
ولو كان هذا الأمير يتصرف، كأبيه فليب، بجنود أكثر قوة فقط، أولو كان في معاركه قادرا كبرابرة الوقت الحاضر على الانتفاع بآلات حربية فائقة فقط، ما كان أهلا للالتفات أكثر من جنكيزخان، ولكنه إذ هضم أفكار الأمة الكبيرة المجاورة قبل قهرها صار في وضع الفاتح النادر الجامع بين القوة والروح، ولم يسطع يوليوس قيصر ونابليون، اللذان يشبهان به، غير تقليده تقليدا ناقصا لما كان من مكافحتهما حضارات رفيعة في بعض الأحيان. وكانت أفضلية الحضارة اليونانية القريبة من غاب البلقان البكر قد بهرت ملك مقدونية فليب، الذي عرض سلما لينة على أثينة المهددة من قبله بعد أن قهر تب. وفليب كان بالحقيقة مؤسس أول جمعية للأمم عندما جمع جميع القبائل الإغريقية، خلا إسبارطة، في مؤتمر بكورنث ، وهكذا يصبح ملك أجنبي رئيسا لحلف يوناني.
وشاهد الإسكندر جميع ذلك عن كثب، مع أنه كان وليا للعهد، والإسكندر هو الذي انتزع النصر في كيرونه بشجاعته الشخصية، والإسكندر قد رأى أباه الذي هو من أنصاف البرابرة يدعو الأغارقة إلى محاربة ملك الفرس الذي كان أمدن من هذا المقدوني. وعلى ما أدت إليه أعراس فليب وأعراس ابنته الدامية من زيادة تعطش فليب إلى السلطان، انتهت بمذابح ونهاب للعرش عقبتها مذابح جديدة، ولم يتقلد السلطة ملك في أحوال أكثر شؤما من تقلد الإسكندر الفتان. ويذهب الإسكندر إلى مقاتلة الفرس والفتح، لا لتحرير الأغارقة منهم، ما كادت أثينة وتب ترتبطان مع ملك الفرس في عهد ضد ملك مقدونية. ويبدو الوضع الذي ورثه الإسكندر سيدا للأغارقة من عدم الثبات ما كان عليه أن يتساهل به مع الأثنيين حتى بعد أن ينال نصرا جديدا.
ويرى بغريزته وبحكمته، وليا للأمر، أن يحفظ أثينة وأن يخرب تب. ولما سقطت هذه المدينة البالغة الشهرة والنضج، قال معاصر إن نور القمر قد انطفأ في الفلك كما لاح.
وتقوم شهرة الإسكندر على أن الطالع لم يمن عليه بغير وقت قصير لفتح العالم من جهة، وعلى جماله البدني من جهة أخرى، ولو كان وجه الإسكندر أقل نضارة ما استطاع أن يظهر للعالم إغريقيا، وكان الإسكندر يعرف ذلك، فيعنى بالدعاية مستعينا بالنحاتين والصحافيين والمؤرخين الذين يجمعون ويسجلون للأعقاب شمائله وما يحوم حوله من أقاصيص. والحق أن الإسكندر كان يحب المجد أكثر من حبه للسلطان على ما يحتمل، وكان أجمل أعماله يصدر عن رغبته في بعد الصيت أكثر مما عن المعاني الخلقية، وما كان من سرعة مفاخره واتساع مآثره ينم على عظمة رجل يؤلمه شعوره بالموت قبل الأوان فيجمع في ثلاث عشرة سنة، كما جمع نابليون، ما قسمه قيصر أو شارلكن على ثلاثين.
لم يذهب الإسكندر إلى الحرب لفتح العالم، بل لقهر الفرس، وقد قادته طريقه إلى الشرق إذن. وكانت الأمم الفاتحة، الأغارقة والقرطاجيون والفرس، يولون وجوههم شطر البحر المتوسط على الدوام ؛ ولذا لم ينطلق الإسكندر غير نصف انطلاق من عالم البحر المتوسط، ومن عالم البحر المتوسط الشرقي فقط، وهو لم يجاوز البلوبونيز طولا قط، ولو بدا له أن يعد نفسه رسولا للحضارة اليونانية لكان من المنطق أن يولي وجهه شطر الشرق ما دامت هذه الحضارة قد بلغت مرسيلية وجبل طارق منذ قرون. ويجد الإسكندر الأغارقة على شواطئ آسية الغربية، ويجد آلهتهم وفنونهم، ويسأل في نفسه: هل يفضل هؤلاء الأغارقة جيوش المقدونيين على جيوش الفرس؟ وكان الأغارقة يضطرون إلى مقاتلة إخوانهم الأغارقة في الغالب، وليس القتال في سبيل تحريرهم من نير الفرس إلا وليد تنافس ملكين قويين كانا يهدفان إلى السيطرة على شعوب لا تلبث أن تقهر بالحديد، ويتصادم الإسكندر والقرطاجيون المنافسون للأغارقة، وذلك في أثناء حملاته الأولى على صور الواقعة في شمال حيفا الحاضرة التي كانت جزءا من فنيقية، ويفر ألوف الناس إلى قرطاجة عندما انتشر خبر اقترابه، ومما حدث أن رجلا من أهل صور رأى في منامه استعداد إله هذه المدينة الحامي أبولون لمغادرتها، فقيدوا تمثال هذا الإله بالأغلال، وهل ضحك أبولون على الطريقة الأوميرية أو اكتفى بالابتسام على طريقة الفلاسفة؟
وفي منطقة أقصى شمال البحر المتوسط وسع الإسكندر نطاق فتوحه من الدردنيل إلى النيل، وهنالك أتم أدل أعماله على سعة البصر وأبقى آثاره على الدهر. وذلك أنه عند ظهوره وحده حفز كهنة أمون إلى التصريح بأنه ابن الرب، وذلك أنه أنشأ بعيد ذلك مدينة الإسكندرية في أصلح مكان لهذا المرفأ، في أهم محل على سواحل البحر المتوسط، في موقع لا تزال قائمة عليه منذ ألفي سنة. أجل، نصحه المهندسون بذلك لا ريب، غير أن العبقرية التي أبصر بها هذا الشاب، هذا الجندي، هذا الأجنبي، مستقبل ذلك الشاطئ المهجور فوضع فيه أسس مدينة عصرية ليست أقل إثارة للعجب، والإسكندر هو الذي عرف في ذلك الرأس الغربي الخالي من دلتا النيل ما لم يبصره أحد من سادة مصر الذين ظهروا قبله، والإسكندر هو الذي عرف المكان الذي يمكن ميناء أمينا فيه أن يصل مصر بالبحر المتوسط، من غير أن يبلغه غرين النيل، والإسكندر هو الذي يلوح أنه أدرك ببصيرته صورة تجار من الأغارقة يشحنون قمح مصر، والإسكندر هو الذي وضع، كما يصنع أمريكي الوقت الحاضر، رسما لشوارع ذات زوايا مستقيمة معينا الشوارع بحروف الأبجدية للمرة الأولى كما هي الحال في شوارع وشنغتن الآن، ومعلما مكان معابد إيزس وزوس اللذين هما إلها ذلك المكان المتنافسان، وما فتئت مصر تكون من بلاد البحر المتوسط منذ ذلك الحين، وتقول القصة إن الإسكندر وضع رسمه أمام مهندسيه على أساس من دقيق فوق منضدة في الهواء الطلق فأتى طير كثير فنقرت الدقيق فعد ذلك فألا.
وفي تاريخ للبحر المتوسط يجب أن يذكر، عند البحث في موضوع حملة الإسكندر من فارس إلى الهند، ما هو الوجه الذي نقل به الإسكندر روح الأغارقة إلى آسية؛ وذلك لأن إمبراطوريته العالمية كانت قصفة غير ثابتة من حيث ظهورها عنوانا للقوة، وهنا تنكشف طبيعة الإسكندر الثنائية، ولا أحد يستطيع أن يقول موكدا إن أسد الغابة البكر الهمجي تغلب في عرينه على تلميذ أرسطو.
ويربى الإسكندر جنديا فلا تكون الحياة اليومية عنده غير جهاد متصل تقريبا، ويشابه سيره في الحياة سير سوفوكل في ميدان القتال، فكان يحارب في الصف الأول دوما راكبا حصانا شاهرا سيفه على العموم، وكان له حق القتل من الناحية الأدبية ما عرض للخطر على الدوام. وكانت مهنته تقوم على القتل ونيل النصر، وهكذا يمكن أن يرى مصورا على ناووس فخم يحمل اسمه فيحفظ اليوم في استانبول، وهكذا تجده مصورا على فسيفساء تمثل بها معركة إيسوس حاسر الرأس متموج الشعر مغيرا بحصانه على ملك الفرس.
وأثبت الإسكندر عبقريته بما وفق له من دفع الخطر مجاهدا ومجادلا مناوبة، وحدث أن ظهرت مؤامرة في الجيش بغتة فخطب في الكتائب قائلا: «لكم جميع ما ربحت، لكم سورية ومصر والعراق أيها الأصحاب، أنتم المرازبة أيها القواد! ماذا تركت لنفسي؟! لقد حرمت نفسي النوم لأدعكم تنامون! أروني جراحكم لأريكم جراحي! من شاء الانصراف منكم فلينصرف ، اذهبوا جميعا، وهنالك أتخذ حرسا من البرابرة المغلوبين!»
ويختلي بعد هذه الخطبة، ويفاوض الفرس، ويمضي يومان فيرسل جنوده من يطلب موادعة، ولا يجازى العصاة.
وهذه هي من الأحوال التي استحق بها الإسكندر لقب «الأكبر».
وفي أوقات أخرى يذنب تجاه الأخلاق اليونانية والفلسفة اليونانية ذنبا يبدو به ذا خنزوانة،
122
ومن ذلك أنه دمر عاصمة العدو: برسبوليس
123
بلا سبب ثم أرسل جثة دارا لتدفن مع الإكرام، ومن ذلك أن جعل الجيش المجتمع يحكم على قائد عاص فأمر من فوره بقتل أبي هذا القائد المتمرد مع براءة هذا الأب ومع كونه صديقا له. أجل، كان صاحب النفس العالية الإسكندر يحب محادثة أصحابه بالفلسفة عند تعاطي الراح، ولكن أحد أصدقائه المخلصين لاجه ذات مرة حول أصله الإلهي المزعوم فقتله حالا في أثناء نوبة جنون مفاجئة جافية، وما كان الأعقاب لينسوا هذا مع وقوعه في أثناء سكر الصاحبين.
وما كانت تربية الإسكندر الإغريقية لتقيه من جنون العظمة الذي لم ينج منه سوى القليل من الأقوياء، وقد بلغ من جنون العظمة ما كان يعد نفسه به سليل هركول وأشيل كما يعد نفسه ابنا لديونيزوس وأمون، ولم تنتشر هذه الأسطورة من قبل الملك في البداءة إلا للدعاية. وتسفر هذه العماية عن استياء حرس الإسكندر القديم وتمرده لحمل الإسكندر إياه على السجود أمامه على الطريقة الفارسية، ويؤدي عزمه على مزج العادات الإغريقية بالعادات الآسيوية، بتزوجه عدة أميرات فارسية وبأمره أكابر ضباطه أن يتزوجوا نساء من طبقة الأشراف الفارسية، إلى إلقائه بذور الارتباك في الأمتين بدلا من أن يوفق بينهما. ومن الممكن أن كان حبوط الإسكندر هذا يصلح نذيرا لنابليون وواقيا له من كثير من خيبة الأمل.
وتكثر المؤامرات مقدارا فمقدارا، ويدعو الملك ابن أخي أستاذه أرسطو إلى كتابة تاريخ مآثره، فيبلغ من الصراحة ما يتكلم معه ضد السجود فيقتل جزاء جرأته، وينم هذا القتل مرة أخرى على همجي غاب الإبير ورائض الخيل والعاطل من حليته اليونانية الرائعة، وعمل مثل هذا يضع الإسكندر على مستوى أي فاتح فارسي كما يضعه عليه إدخاله طقوس عبادة الملك.
وما يراه الأعقاب من الشأن في الصفات الخلقية التافهة ظاهرا والبارزة حقيقة يثبت من جديد كون المعارك الحربية والفتوح أمرا زائلا، ونقش الأخلاق وفتح القلوب هما اللذان يدومان، ولا تسفر وقائع الإسكندر بين الأنهار والجبال، ولا يسفر سفره إلى الهند واستيلاؤه على قسم من الشرق، عن غير ذكرى طاغية يسير إلى الأمام على الدوام، وذلك وفق ناموس فاجع، لا للقيام برسالة تمدن. ونرى الإسكندر في نهاية الأمر، وبعد سنة استراحة ذات بهرج، يستعد لفتح بلاد العرب سدا لثغرة بين مركزين يسيطر عليهما وهما مصر وبابل، والواقع أنك تجد في كل وقت ثغرة يجب على أحد الفاتحين أن يملأها ولو بذل في سبيل ذلك جهود حياته.
وكان عهد الإسكندر في أواخره من الانبساط والهوى ما لا ترى مثله في التاريخ. وكانت الوفود، في زمن خال من وسائل النقل ومن الطرق في الغالب، تأتي من سهوب جنوب روسية فتتدافع في إيوان سيد العالم هي ووفود أخرى آتية من منابع النيل الأزرق كما تتدافع هي والإيبريون والسلت والإتروريون والرومان والقرطاجيون ... وكان الجميع متسولا ملحفا، وكان مهندسو الملك يعملون معا في وضع مشاريع للملاحة حول جزيرة العرب وري بلد الفرات واستعمار جزائر الخليج الفارسي، وكان يقوم بناءون آخرون في البلد الملكي بزخرفة معابد جديدة في مدن بالغة القدم، وذلك إلى وجود ممثلين للمآسي ومشخصين من اليونان.
ومات الإسكندر في الثالثة والثلاثين من سنيه بغتة، وذلك بعد أن قام بأعمال عظيمة مع أنها مجزأة غير قائمة على خطة موحدة.
ومع ذلك كان لطوافه القصير في الأرض من النتائج ما لا يحصى، ومن ذلك أن انتشرت حضارة العصر وأغنى لغاته في مصر ونصف آسية، وأن انتحلتا من قبل أناس مثقفين ومن قبل ملاحين من بعض الوجوه، وذلك على حين عاد سلطان الإسكندر السياسي، سلطان نصف الإغريقي هذا، لا يكون إلا من ذكريات الماضي منذ زمن طويل، وقد ظلت لغة الأغارقة وحضارتهم في أقسام من جزيرة العرب ستمائة سنة، وفي سورية ومصر ألف سنة؛ أي إلى حين الفتح العربي. أجل، وجد الرومان، عند ظهورهم على مسرح التاريخ ممثلين لدور فاتحي العالم بعيد وفاة الإسكندر، الفرس والهندوس باقيين عرقا، غير أنهم أبصروا الثقافة اليونانية منتشرة فوقهم كبساط ثمين، أجل، لم يدخل الإسكندر هذه الثقافة، غير أن الإسكندر كان أول من وطدها على مقياس كبير.
وكان الإسكندر، قبل أن يخامره خمار الفتح العالمي، قد قام بمآثر خالدة تعد دليلا على ثقافته اليونانية، ففي تب صان بيت الشاعر بندار، وفي فارس عامل أم الملك وزوجه وابنته كما كان فرسان القرون الوسطى يعاملون نساء أعدائهم، وفي صور سمح لسفراء قرطاجة بالعودة إلى بلدهم أصحاء سالمين، وفي الألنب نشر في أثناء الألعاب مرسوما حمل فيه مدن اليونان على استرداد جميع مبعديها السياسيين، فأحدث هذا الأمر ذعرا في أثينة لما كان من توزيع أموال مبعديها منذ عشرات الأيام، ويتقاطر المهاجرون إلى الألنب لكي يسمعوا ذلك التدبير المحير الذي اتخذه ملك عادل.
ومهما يكن من أمر فإنه يظل حسن السمعة ما كسرت الحواجز بين الأغارقة والبرابرة، وما نقل تراث اليونان من قبل رجل غير إغريقي ولا نصراني، وقد حمى هذا الرجل بحرارة الهمجي الفتي تراث اليونان الذهني تجاه فتنه وحروبه الأهلية الدائمة.
25
الإسكندرية هي عمل الإسكندر الوحيد الذي ظل باقيا حتى أيامنا، وفي آسية زالت المدن الثلاث أو الأربع التي شادها هذا العاهل وشرفها باسمه كما زال أبناؤه وأزواجه وأمه؛ أي جميع هؤلاء الذين قتلوا، وكذلك لا ترى أثرا للنصب الذي أقامه في الحدود على الهيفازيس بالهند ليرى الأعقاب أين وصل عاهل البحر المتوسط الأول. وعلى العكس ظلت الإسكندرية باقية، لا لأنها ميناء وحيد على البحر المتوسط حيث تكثر الموانئ؛ بل لأنها تنم على فكرة عبقرية، على دستور جديد؛ بل لأنها أول مدينة عصرية في العالم القديم ونموذج للمرافئ في المستقبل.
وذلك الميناء جعل من الإسكندرية عاصمة العالم الثقافية في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد مع أن رومة كانت أقوى مدينة، وتربط الإسكندرية بين ثلاث قارات أحسن مما تربط أية مدينة أخرى. وفي الإسكندرية كانت توجد مكتبة أشهر من مكتبات التاريخ وأكمل من مكتبات العالم الحاضر، وتحرق هذه المكتبة بعد ثلاثة قرون من تاريخ إنشائها فيزول بذلك أثر لا يعوض من آثار العالم القديم، ويمكن تشبيه بليتها بالانفجار الذي وقع على الأكروبول مؤخرا، وبلغ مؤسسو المكتبة من الاغتباط بما جمعوه درجة منعوا بها إصدار البردي عندما حاولت فرغامس
124
نفسها تأسيس مكتبة.
وكان أغنى ملوك العالم القديم يجتذبون بالذهب كبار علماء العصر، وفي الإسكندرية يجرع حكيم الحكماء، إبيقور، الشمس والحكمة، وللمرة الأولى في التاريخ يسار بالعلم في طريق التقدم ويكافأ العلم الصرف الخالي من الأغراض العملية، ولا يفرض الأقوياء على أي شخص كان ما يجب أن يكتب أو يفكر فيه، فبذلك استطاع المصريون واليهود بعد زمن أن ينموا مبادئهم الهدامة بعض الإنماء ضمن نطاق تلك المكتبة، وكل ذلك مدين للإسكندر، وظل الروح وميناء الإسكندرية اللذان هما رمزا البحر المتوسط الكبيران أعظم ما أوجد.
وكانت السفن تشق عباب المحيط قبل الإسكندر، وصارت التجارة البحرية عصرية فلم تنلهما يد التعديل في عهده؛ وذلك لأن الإسكندر كان يرى الابتعاد عن المسائل البحرية، وهذا يفسر سرعة العطب في إمبراطوريته. ومنذ قرون قبل ظهوره كانت نسائج الصين الحريرية وحجارة الهند الثمينة وذهب السودان وعنبر بحر الشمال سلعا تجلب إلى موانئ البحر المتوسط الغنية، وكان الملح والشمع والعسل والقمح والذهب والعبيد سلعا تصل إلى بحر إيجه آتية من الشمال الشرقي مارة من البحر الأسود. وكانت ميله التي هي أغنى مرفأ في القرون القديمة تنافس صور وغيرها من المرافئ الفنيقية، لا دلتا النيل التي كانت، والتي لا تزال، غير منتظمة وغير سهلة للملاحة، ولم يكن للنيل، الذي هو أكبر الأنهار وأكثرها اتباعا للهوى، من الصلات بالبحر المتوسط غير تواريه فيه بعد جريان طويل، وذلك كالرائد الكبير الذي يموت بعد أن يعييه الهرم في أثناء سياحة يقوم بها في الخارج.
وبالنقود يستدل على حظوة البحر لدى الأغارقة وعلى كل ما يناسبه في زمن عادوا لا يكونون فيه سادته بلا نزاع، والنقود تتبع ذوق الزمن في كل مكان. ومما نراه على نقود إفيز وسرقوسة وإيجين وأبولونية وبوزئيدونية وغيرها من المدن الكثيرة، صور الدلفين والمرساة والسبيدج وثعبان البحر وطير البحر والسرطان، ويرى على قدح مشهور ديونيزوس فوق سفينة ذات سارية تنبت الكرمة وينضج العنب عليها وذلك مع لعب الدلافين حولها.
والبحر كان، ولا يزال، بلد الأغارقة الحقيقي، ويدل ما سجله إكزينوفون من هتاف مشهور على الروح الإغريقية الحقيقية، وذلك أنه لما أتى برجاله ال 10000 إلى البحر الأسود وأبصر الجنود البحر بعد عدة أعوام قضوها في المغامرات هتفوا قائلين: «البحر، البحر، والبحر أخيرا»، ولم يبق من تاريخ إكزينوفون الذي يفزع منه شبان الطلاب غير هذه الكلمة الصغيرة.
وكما كانت المرافئ الكبرى في القرون القديمة مراكز صناعية، كانت السفن تسير ضمن حدودها الصغيرة في البحر المتوسط، وذلك كما تصنع البواخر التي تصل بين شواطئ البحيرات الألبية. وكانت جميع المرافئ حربية حتى سنة 400 قبل الميلاد لما كان من تسلحها. وكانت القرصنة مباحة في القرون القديمة، وكانت تعد ضربا من الفروسية كالتجارة البحرية، ولم يكتشف الأغارقة إلا مؤخرا ما يمكن التجارة أن تأتيهم به، وهم في ذلك كلوردات الإنكليز الذين لم يبدءوا بإدارة المناجم والمصانع شخصيا إلا مؤخرا. وكان الأغارقة يسخرون في دور ازدهارهم التجاري حتى من المدن التي لا تتعاطى التجارة البحرية، وكانوا يجدون مثلا أن سكان سيم قد اكتشفوا مصيرهم على ساحل البحر بعد الأوان بثلاثمائة سنة.
وكانوا في الحين بعد الحين ينشئون أرصفة حسنة التخطيط ويعمقون أحواض مرافئهم؛ وذلك لأن حجوم سفنهم صارت تزاد سريعا. ومع أن هيرودوتس قد تكلم في القرن الخامس قبل الميلاد عن وجود سفن في النيل تبلغ الواحدة منها 130 طنا صنع من المراكب الحربية بعد نصف قرن ما يبلغ الواحد منها 262 طنا، كما صنع مركب واحد على الأقل يشابه القلعة العائمة بأبراجه وأقسامه العالية فانطلق من أثينة إلى سرقوسة كأنه من مدرعاتنا. ولم تبلغ السفينة التي سافر بها كريستوف كولونبس غير 150 طنا، مع أن سفينة «الإسكندرية » التي أنشئت في القرن الثالث قبل الميلاد فعدت أكبر سفن القرون القديمة، كانت 1050 طنا إذا ما نظر إلى وسقها.
وكان يقابل تلك الحجوم من السرعة ما يقضى منه العجب حتى في زمن محركات ديزل الحاضر. ومن ذلك أن فريقا من قراصين الفنيقيين كان يقطع ما بين رودس وصور في ثلاثة أيام، أي كان يقطع ثلاث عقد في الساعة الواحدة. ومن ذلك أن كان السفر حول صقلية يدوم أسبوعا واحدا بالسفن الشراعية، ولم يكن في هذه السفن من السكانات غير ما هو صالح للتوجيه والدنو من الساحل. ويرى أرسطو أن المركب التجاري الذي يتقدم بالجذافين هو كالحشرة التي تكون أجنحتها من الضعف ما لا تحملها معه. وكان الربابنة يستعينون بالقلوس،
125
التي ظلت تستعمل إلى وقت قريب، لإلقاء مراسي السفن الكبيرة في الخلجان، ومع ذلك فقد بكر في اتخاذ سلاسل رسو من حديد، ويظهر أن الإسكندر كان أول من استعملها؛ وذلك لأن سفنا مربوطة بقلوس قد حاصرت مرفأ صور فغطس في الماء جنود من هذه المدينة المحصورة وقطعوا قلوس سفن العدو، فهنالك استبدل الإسكندر سلاسل بها. ويمضي زمن طويل فيروي يوليوس قيصر أمر استعمال المراسي ذات السلاسل من قبل غوليي الشمال على أنه خاص بهؤلاء!
ولم تبدأ جغرافية البحر المتوسط إلا حوالي سنة 500 قبل الميلاد في الحقيقة. وكان العبريون والأرغنوت، ثم الملك سليمان، والشاعر أوميرس، يعتقدون أن الأرض قرص مبسوط محاط بالبحر المحيط مع عد الألنب مركزه. وقد انهار هذا الرأي عند ظهور الخرائط الأولى التي رسمت وفق الطبيعة، ومن دواعي الدهش أن صنعت هذه الخرائط من أجل أحد البرابرة، أن وضعها علماء اليونان من أجل الملك دارا. ومما وقع في ذلك الدور أن سار هملكون القرطاجي وشاطئ أوروبة الغربي فاكتشف الجزر البريطانية، غير أن الحكومة القرطاجية كانت من ضيق الأفق كإحدى الحكومات العصرية ما أنكرت معه كريستوف كولنبوسها مصرحة، عن حسد أو عن مكر، بأن الأطلنطي غير صالح للملاحة.
وتمر ستون سنة، فيعرض هيرودوتس على قومه صورة جديدة عن ذلك العالم البعيد، فيصف المئات من الجزئيات المنظورة أو المروية بما عرف به من براعة القصص جامعا بعض الأفكار المهمة، وكان على الشعراء في القرون القديمة أن يكونوا من علماء الفيزياء والتاريخ، ومن النادر في أيامنا أن يجمع الرجل في شخصه بين القابليات الأدبية والأهليات العلمية، وهذا ما يجعل مطالعة أشهر الآثار العلمية أمرا شاقا. وكان هيرودوتس وتوسيديد وبلوتارك من أكابر العلماء، وكانوا في الوقت نفسه من الشعراء الحقيقيين مع أنهم لم يركبوا متن الخيال قط.
وبما أن الأغارقة قد ساروا بالعلوم الرياضية نحو الكمال فإن فن صنع الخرائط الجغرافية بلغ من التقدم السريع ما يثير الحيرة. والمرء، حينما يفكر في أن غليلو وكيبلر أصيبا بكثير من الأذى والألم والإهانة لاكتشافهما النظام الشمسي، يرى أن البشرية رجعت القهقرى بعدما كان من جهر فيثاغورس وأفلاطون بكروية الأرض وما كان من إثبات أرسطو ذلك من غير أن يعن لكاهن أن يعارض ذلك. وكان الإسكندر، ككل فاتح، لا يبالي بغير ما استولى عليه من البلدان، فأمر بوصف آسية الغربية وبوصف الهند ولكن من دون أن يرسما على الخريطة.
ولم يحدث إلا بعده؛ أي في القرن الثالث قبل الميلاد، أن أضيف إلى المناهج الدارجة منهاج قياس الدرجات؛ أي الحساب الحقيقي لأي مكان كان. ويرى المستوى العالي الذي بلغته الجغرافية عند اليونان بالمثال الآتي: فقد حسب إراتوستن موقع جبل طارق الجغرافي فوجده 26° 21
25
مع أننا نعينه في الوقت الحاضر ب 26° 0
6 . 30!
وإذ لم يكن عند ملاحي القرون القديمة بوصلة فإنه كان يتعذر عليهم أن يعينوا الاتجاه وفق الخوافق،
126
وإنما كان يمكن هؤلاء الملاحين أن يدلوا على ما يستطاع، أو لا يستطاع، النزول إليه من الرءوس والذرى والصخور والأشجار كما كان يمكنهم أن يعينوا المحال العالية؛ حيث يمكن نيل الماء الصالح للشرب وحيث يمكن اتقاء الريح. وكان لا يمكن في غير الصيف تعرف البروج التي عرفها الفنيقيون قبل غيرهم، ولا سيما الدب الأصغر الذي ينتفع به في تعيين الاتجاه، فكانت الملاحة تقف في الشتاء لهذا السبب تقريبا. وقد وضع الأغارقة مبادئ الملاحة هذه وضعا مضبوطا، فلما أنشئت أول مدرسة بحرية في شلمنقة حوالي سنة 1500 بعد الميلاد انتفعت بمعارف أقليدس وبطليموس التي بلغت من القدم ثمانية عشر قرنا وأربعة عشر قرنا.
وإذا ما قابلنا بين ما وقع من تقدم في القرون القديمة وفي زماننا لم نجد اختلافا عظيما بين أثينة وباريس في النهار، وأما في الليل فعلى العكس يبدو ليل عالم القرون القديمة مظلما محزنا، وما كان الملاح العصري ليستطيع أن يعرف الجهات إذا لم يبصر الشاطئ المنار من مسافة كيلومترات كثيرة إذا أبصر الخط الداجن الذي كان ينتظر طلوع الشمس مكتئبا في ذلك الزمن، حتى في أكبر المرافئ كانت النار التي تسطع قاتمة في الهواء الطلق تقوم مقام المصباح العجيب الدوار الذي تعودناه، ويلوح أن أولى هذه النيران قد أوقدت في البيره على ذروة عمود كورنثي حوالي سنة 400 قبل الميلاد. وكانت تسطع نار القربان المخصص لأتينة في الأسفل قليلا وعلى هيكل مستدير، فبذلك كانت الآلهة الحامية للنار ترسل نورها الخاص إلى الملاح الذي يقترب بادية رمزا لمنبع الأفكار الملائمة للإنسان بما يورث العجب.
وكان منار الإسكندرية أشهر مناور القرون القديمة وأدعى ما في تاريخ جميع البحار إلى العجب، وكان ميناء الإسكندرية يستحق الإعجاب فضلا عن ذلك، وكانت أسواره قد أنشئت موازية للشوارع وفق نهج جديد في ذلك الحين. وكان يتألف من رصيف فني متين بالغ من الطول فرسخا مرفأ مزدوج ينتهي إلى قباب ذوات مخرجين، ومع أن الممر الغربي لا يتصل بمياه النيل صار المرفأ الرئيس لسهولة الدفاع عنه، وفصل الممر الأصغر فحصن حتى في زمن أنطونيوس على حدة. وكان المرفأ الأكبر من اتساع المكان ما يصلح معه ملجأ لأكبر السفن ومحطا لسلعها، وهو في ذلك كنيويورك التي يمكن أن تكون مأوى لبواخر ك «النورماندي».
وكان المنار يبرز في أقصى الرصيف من ناحية الغرب فيشتق اسمه من جزيرة فاروس التي يصلها رصيف بالشاطئ. وقد دعي كثير من الأبراج المنارة في كثير من اللغات ب «الفنارات»، كما أن كلمة قيصر أتت من كلمة سزار. وكانت ناطحة السحاب الثانية في التاريخ هذه (وقد كانت ناطحة السحاب الأولى قائمة في صور منذ زمن طويل) بالغة من الطول 110 أمتار، وكانت من طراز البناء ما يوصل معه إلى بابها الذي يعلو مستوى البحر خمسة عشر مترا ركوبا على الحصان فوق سلم مائل، وما كان من شكل هذا البرج الجليل المثمن الزوايا في الطبقة الثانية والأسطواني في الطبقة الثالثة يعد بدعا في فن البناء. وكانت نار المنار مغطاة بسقف؛ أي مصانة من المطر والعاصفة بعض الصيانة، وبما أن نار الحطب والقطران لا ترى إلا من مسافة سبعة أميال بحرية على الأكثر فقد صنعت مرآة مقعرة يصير بها مدى النور عشرين ميلا بحريا، فكان هذا الاختراع من الأهمية ما يقاس معه بالنور الكهربي.
وقد عد برج الإسكندرية من عجائب الدنيا مدة ستة عشر قرنا، وقد أنقذ حياة ما لا يحصيهم عدد من الملاحين، وقد طال أمده على الرغم من جميع الزلازل، فلما كانت سنة 1300 انهار، وجاء هذا الانهيار مطابقا لما منيت به آثار يونانية أخرى.
26
ظلت حياة الإسكندر حادثا بسيطا في تاريخ البحر المتوسط، ومع ذلك كانت أمم البحر المتوسط تتلقى أوامره مرتجفة ضارعة إلى آلهتها أن تبعده عنها بأن تجعله يوغل في الشرق، فلما مات وانهارت إمبراطوريته عادت رومة وقرطاجة إلى الاصطراع ولكن بوسائل واسعة في هذه المرة.
وقد صارت دولة الفلاحين البرية رومة دولة بحرية لضغط قرطاجة إياها، وذلك كإنكلترة في أثناء كفاحها ضد النورمان، وكل منهما مدين بعظمته لضرورة الدفاع عن النفس، وكل منهما اقتص من الخصوم الأقوياء في نهاية الأمر. ففي مدرسة الضرورة الكبرى تخرجت الأمم كما تخرج الأفراد، ولم يتم أعظم الاختراعات حين الرغد، بل وقت الضيق، شأن أصحاب السجايا العظيمة الذين يكون الخطر عامل ثبات لهم في الغالب. وقد استطاع بعض الأقوام كالمصريين، وبعض العباقرة كسوفوكل وغوتة، أن ينموا نموا متوازنا منسجما، وهم، حتى في هذه الحال، كانت تخامرهم فتن باطنية غير بادية ولكنها حقيقية.
وقد دام اصطراع رومة وقرطاجة في سبيل سيادة العالم 120 سنة وانتهى بانتصار رومة. وكانت رومة تتمتع بثلاث مزايا في البداءة، وهي أنها كانت صاحبة قاعدة في وسط البحر المتوسط، وأنها كانت قادرة على تطبيق عتادها الطبيعي في المعارك البرية على المعارك البحرية، وأنها كانت تشتمل على أهل أشد فقرا وأكثر طموحا وأعظم مرونا على الحرب وأظهر إخلاصا من أغنياء قرطاجة وتجارها الذين كانوا راغبين في التمتع بغناهم آمنين ظانين إمكان الدفاع عن بيضتهم بجنود من المرتزقة. وكان القرطاجيون كأغنياء مانشستر الذين ظلوا حتى سنة 1900 يزعمون قدرتهم على مزاحمة ألمانية الفتاة بآلاتهم القديمة، فحافظ القرطاجيون على أساليبهم الابتدائية التي ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد مقدرين أن ما استقر من تقاليدهم واحتكارهم يدوم إلى الأبد، ومع ذلك حل الوقت الذي أبصر فيه زبنهم من الإسبان أن الآلات في صقلية من أحسن جنس وأن الآنية في صقلية من أجمل نوع.
ومع ذلك وفقت قرطاجة البالغ أهلها أربعمائة ألف إنسان، وذلك بما لديها من الذهب؛ ليكون عندها من الجنود، الذين كان عددهم ستين ألفا، ما يشل به، لقرن آخر، ملايين السكان الأربعة الذين هم أهل مستعمراتها الأفريقية والإسبانية، وذلك كما فعل الإنكليز إلى وقت قريب.
ويموت الإسكندر حوالي سنة 300 قبل الميلاد فتظل قرطاجة ورومة وحدهما دولتي ذلك الزمن الحقيقيتين. وكان الأغارقة قد خسروا من سلطانهم البحري بمقدار ما ربحوه من النفوذ الثقافي في عهد الإسكندر الأكبر. وقد جرب بعض الأغارقة المغامرين، كأغاتوكل الصقلي، حظهم ضد قرطاجة فاستولوا على تونس ووتيكة اللتين لم ينزل إليهما عدو منذ أقدم الأزمان، غير أن هؤلاء الأغارقة رموا من هذه الشواطئ في نهاية الأمر كما رموا من معظم صقلية. وقد بلغت قرطاجة من بعد الصيت ما صار كثير من المستعمرات الإغريقية يرى معه أن من السعادة وقوعه تحت حماية قرطاجة. وفي ذلك الحين كانت الإمبراطورية القرطاجية تشتمل على جزائر البليار، وعلى مالطة ونصف مراكش وإسبانية، وعلى قورسقة، وعلى قسم كبير من صقلية وسردينية، وعلى ليبية. وكانت اللغة البونية؛ أي القرطاجية، لغة هذه البلاد الرسمية ، وكانت جميع هذه الأمم تابعة وإن كان يطلق عليها اسم «حلفاء» مداراة.
وكانت بحرية قرطاجة الحربية مؤلفة من ملاحين منتسبين إلى الشعوب الأجنبية: الإسبان والسلت والقورسقيين والنوميديين، ولم يكن القرطاجيون ليشتركوا في المعارك إلا عند غزو بلدهم؛ أي كانوا لا يشتركون فيها أبدا. وكان «الجيش المقدس» المؤلف من فتيان هيف يبدي من المظاهر الحربية ما كان يميس معه حاملا تروسا مذهبة وأسلحة ثمينة. وكان هؤلاء الشبان يعرضون أمام النساء غمود سيوفهم العاجية من غير أن يستعملوا هذه السيوف أبدا على ما يحتمل. ومع ذلك كان هذا الجيش يلقي هولا بفضل ما عنده من فيول يمكن تشبيهها بالدبابات الحاضرة، فتعلم القرطاجيون وجه الانتفاع بها على غرار الإسكندر الأكبر الذي كان قد أتى بفيول من السند، ولما بدت الفيلة الأولى في إيطالية أمالت الميزان إلى ناحية قرطاجة.
وكان القرطاجيون ملاحين مرهوبين، وقد انتفعوا في هذا المضمار بما للفنيقيين من تقاليد تالدة. وكانت سفنهم التجارية قد تحولت إلى مراكب حربية رائعة، وذلك لأنهم أول من جعل هذه المراكب ذات أربعة صفوف وخمسة صفوف من الجذافين على مقياس واسع. وكان القرطاجيون يشعرون، وهم على المراكب، بأنهم في منازلهم، وكان المقذاف أحب إلى القرطاجيين من المزراق، فيفضل القرطاجي، كالإنكليزي، أن يخدم في السفينة على الخدمة في عربة حربية. وقد كان الأسطول القرطاجي من القوة البالغة ما خسر معه خمسمائة مركب في معركة بحرية ضد رومة من غير أن يخرج من الميدان. ولما أنشأ الرومان أول أسطول حربي لهم استوحوا مركبا قرطاجيا ذا خمسة صفوف من الجذافين دخل في الرمل بالقرب من مسينة.
وكانت الطبيعة تمثل دورا حاسما في تلك المعارك التي تهز عالم ذلك الحين، فكانت الغابات الكثيرة في إيطالية الوسطى في ذلك الزمن تمن على الرومان بخشب أمتن في إنشاء السفن من خشب صقلية الذي ينتفع به خصومهم. وكانت قرطاجة في مركز دون مركز رومة من ناحية أخرى، وذلك أن موانئها كانت تفلطح فتكون في وضع صعب للدفاع، ومع ذلك ما أصغر هذا وما أضيقه! يعسر على السائح الذي يكون أمام هذه البقايا التي تثير الشفقة أن يدرك كيف كان يمكن دولة عالمية أن تجد هنالك مركزا لها، ولا بد من أن يكون تاريخ كل من قرطاجة ورومة غير ما انتهى إليه لولا رمل المرافئ القرطاجية وخشب الأرياف الرومانية القاسي.
ومع ذلك فإن كل واحدة من المتنافستين، رومة وقرطاجة، قاتلت الأغارقة بجانب الأخرى في صقلية، وذلك قبل تصادمهما، فاستعان الأغارقة بأحد ملوك البلقان بيروس، وكان بيروس، هذا الآتي من الشمال الشرقي، يعد نفسه خليفة الإسكندر الأكبر فيطير من نصر إلى نصر، ولكن بيروس هذا، الذي يدل ظاهره على أنه من الصقالبة، لم يكن في الأساس غير أفاق عاطل من الأرض والإيمان، فلم يلبث أن أضاع جميع ما نال في بدء الأمر. وتظل صقلية، التي هي مركز البحر المتوسط والتي هي أروع رهان، قبضة الحليفتين، وستكون مدار صراع قاطع لا ريب.
وندرك ما اشتملت عليه الحربان البونيتان الأوليان اللتان دام أمرهما ثلاثا وستين سنة فقضيت أربعون منها في العمل الحربي، فانظر إلى الأرقام تجد 150000 جندي روماني وأربعمائة سفينة حربية، وانظر إلى المساوف المصغرة كثيرا وإلى عدد السكان تجد ما تقول معه مؤكدا إن هذه الحروب فاقت حروبنا الحاضرة بنسبة عشرة في مقابل واحد من حيث الديمومة وما انتفع به من الجنود.
ولم ضحت الأمتان المتنافستان بأجيال كاملة في سبيل تينك الحربين؟
ذلك لأن أمة فتية حازمة كانت ترغب في السيطرة على البحر المتوسط فتذيع أنه «بحرنا» بعد انتصارها البحري الأول في ميله سنة 260 قبل الميلاد، وأخيرا ينصر الرومان في البحر بعد أن غلبوا عدة مرات في سنين كثيرة، وذلك بمكيدة جديدة، وذلك بما رموه من جسور على ظهور مراكب العدو بغتة.
وتصبح صقلية أول ولاية لرومة الفتاة فيما وراء البحر، كما تصبح أول هري
127
ليسارها، وتصبح سرقوسة التي هي أكبر من رومة وأجمل منها مستعمرة رومانية. ورومة هي التي لم تكن حرة في إرسال سفنها إلى حيث تريد فصارت اليوم قادرة على إلزام قرطاجة بتقليل مستعمراتها، وصارت اليوم دولة بحرية في القسم الغربي من البحر المتوسط، وهي ستنمو بسرعة، وهي ستدوم ستمائة سنة. وقد أنشأت رومة أسطولا جديدا بالغرامة العظيمة التي أخذتها من منافستها الغنية، وقد صنعت رومة ذلك من غير أن تبدي أمم البحر المتوسط الأخرى أية مقاومة كانت، وما كان من الحروب الدائمة بعد موت خلفاء الإسكندر ألهى قواها وصرف أبصارها عن قوة رومة الحربية الناشئة، وما كان من فساد في ناحية ومن ازدهار في الناحية الأخرى أنسى ما في القضاء على المنافس الجديد الخطر من فائدة. وما كانت تتمتع به مصر من رخاء كبير حال دون اتخاذها أية مبادرة كانت، ومصر، التي هي أغنى دول البحر المتوسط في ذلك الحين، صارت خاضعة للقائد بطليموس بعد موت الإسكندر، كما أن ذرية هذا القائد سيطروا عليها في القرون الثلاثة قبل الميلاد.
وكانت رومة في دور إقبالها تبدي جميع صفات الشعب السليم الصوال الولوع بسيادة العالم، فتحاول توسيع رقعتها في الشرق من غير أن تقاتل الأغارقة في ذلك الحين، وهي، على العكس، قد عاهدت الأغارقة ضد المقدونيين في أول الأمر. ولما استقرت أول سفارة رومانية بأثينة وكورنث رضي الأغارقة أن تكون رومة شريكتهم في اللعب بالدرجة التالية ووافقوا على قبولها في الألعاب البرزخية. ومن المحتمل أن كان لا يتكلم غير اللاتينية ذلك البطل الروماني الأول الذي اشترك في تلك الألعاب الإغريقية التقليدية حوالي سنة 230 قبل الميلاد ففاز بإكليل من الغار مثيرا إعجاب حضور منحطين، ومما لا ريب فيه أن كان ذلك البطل يرمي الإطار إلى ما هو أبعد من منافسيه أو كان يضرب الرقم القياسي في السرعة، بيد أن هذا البطل كان يرمز إلى وعيد الغرب الشاب، بيد أن هذا البطل جاء رسولا لينذر الأغارقة بالدور الجديد.
وكانت قوة رومة الفتاة تلقي أشعتها نحو الشمال فضلا عن الغرب والشرق. ورأى الرومان أن يدافعوا عن أنفسهم من تلك الناحية تجاه هجمات الغوليين فأبرموا معاهدة مع القرطاجيين مقتسمين وإياهم إسبانية ومناجم فضتها مثيرين بذلك حربا أخرى ستؤدي إلى إخراج وجه خالد من تاريخ البحر المتوسط.
والأسر الكبيرة التي يزيد الأبناء والحفدة فيها تراث آبائهم الفني أقل من الأسر التي يبدد الأبناء فيها تراث الآباء، ويتألف من تنضد تراث الجيل الفني فوق تراث جيل آخر منظر عجيب بين النحاتين والموسيقيين لا يمكن تبديده، وعلى العكس يبدد سريعا تراث الآباء حيث يكون السلطان والمال في الأسر المالكة أو أسر التجار الكبرى، ومثل هذه الأسر كثير في القرون القديمة، ولكن على قلة بين الملوك ومع عدم وجود بين «العصاميين» ...
ويشغل هنيبال وهزدروبال وهميلكار مكانا عاليا في تاريخ البشر مع أن أبناء الأسرة الآخرين لا يمتازون أبدا، ويوجد حول رءوس هؤلاء الأشبال، كما كان أبوهم يدعوهم، إكليل مجد كإكليل الإسكندر، ولكنه أكثر فجعا، وقد كانوا أبطال مأساة بارزين فرفع شأنهم بحبوط خطتهم العظيمة. ومن الواضح أن هميلكار الذي هو زعيم الطبقة الوسطى وقائدها في قرطاجة هو واضع الخطة الحربية ضد رومة، ثم نقلها إلى ابنه الذي نفذها، ولا ريب في أن هميلكار كان يشعر بموته قبل الأوان، وذلك لطلبه من ابنه هنيبال البالغ من العمر تسع سنين أن يقسم على تنفيذ خططه فيما بعد. ويدرك هميلكار ما في التوسع الروماني من أخطار على قرطاجة، وذلك بعيد حروب قاسية ناجحة اضطر القرطاجيون إلى شنها ضد قبائل ليبية ومراكش العاصية. وقد قاتل هذا القائد القرطاجي الرومان في البحر وفي عشرات الأيام، وذلك بين جزيرة وجزيرة وعلى الشواطئ وفي المرافئ، ومع ذلك فقد تمثل خطة تهدف على مقياس واسع إلى الهجوم برا على أحدث دولة بحرية من قبل أقدم دولة بحرية، وقد قضى أعواما في إسبانية لوضع أسس تلك الخطة. ولما قتل في إحدى المعارك آلت قيادة جيشه إلى ابنه هنيبال الذي كان في الخامسة والعشرين من سنيه، وقبض هنيبال على زمام القيادة بعد انتصارات الإسكندر الأولى بمائة سنة، فكان يمكنه أن يشبه نفسه به عن فتاء، وهل كان جميلا كهذا العاهل الأكبر وقد ورث مثله سلطانا وإن لم يرث عرشا؟ تتعذر معرفة ذلك ؛ وذلك لأن التمثال الموجود بنابل والذي يحمل اسمه لا يشابهه في الحقيقة، وهو قد ربي جنديا كالإسكندر. وكان نصف الهمجي هذا خفيف الجسم فارسا مسايفا عنيفا فنال تربية يونانية كالإسكندر، ولا سيما من قبل معلم إسبارطي، وإذا لاح أن هنيبال قد فاق جميع جبابرة اليونان بمكره فقد وصف بأنه أكثر إنسانية من خصومه الرومان على الأقل، ويظهر أنه أبطل القرابين البشرية.
ولا ريب في أنه كان قد تعلم من معلمه الإسبارطي فن قيادة الرجال الذي امتاز به، وقد اقتبس عن أبيه علم الأسلحة والتعبئة، وما كان ليجد معلما خيرا منهما. وكان يخامر الأب والابن شعور تاريخي بأن صراعا يقع بين الأمتين حتى الموت، وبأنهما اختيرا للسير بهذا الصراع حتى النصر. وكان يخالج كلا منهما مشاعر شرف وانتقام؛ وذلك لأن رومة كانت قد جردت قرطاجة من سلطانها في أفريقية واغتصبت منها جزيرة سردينية بالتهديد.
ولم يكن ذلك الذي تمثل له، حوالي سنة 218، أن يستولي على إيطالية بأن يجوب إسبانية والغول فيجاوز جبال الألب والأبنين أقل إقداما من الإسكندر في القفقاس.
وكانت حيرة إيطالية عظيمة، ومما زادها حيرة عدم امتلاك الحلف الإيطالي لسفوح الألب بعد، وكون هذه السفوح ملكا لقبائل سلتية. ويظهر أن هنيبال قد مر من شعب سان برنار الذي سار عليه نابليون بعد ألفي سنة، غير أن الثلج قد ديس بفيول كانت أقل إيلافا للشتاء من شباه الإسبان المرتزقين الذين كانوا يعرفون قر جبال نيفاده على الأقل.
وقد نقشت في ذاكرة الرجال ذكرى هذه الفيول التي نقلت على أطواف فوق نهر الرون وجابت جبال الألب فصورت على طبق قديم مع وجود أبراج عليها يقوم بالرقابة منها رجلان مسلحان كما لو كانت من دباباتنا. وقد تكلم بحماسة تيت ليف وغيره من مؤرخي الأعداء عن تلك الرحلة الكثيرة الخطر على ذلك الإفريقي المقدام، وما هو عدد ما هلك من هذه الحيوانات الهائلة التي أتي بها من قارة أجنبية، وذلك بفعل الجو وبما كان من سقوط في المسايل، وذلك حين المرور من دروب لم يتعودها غير البغال. وقد جلب هنيبال من الرون حتى جوار تورن نحو أربعين ألف رجل في ستة وعشرين يوما فهلك نصفهم في أثناء مقاتلة السكان، وقد استولى الرعب على السكان في بدء الأمر، ثم لم يلبثوا أن أبدوا عنادا ضاريا، ولا يقاس هذا الاجتياز الذي تعد حملة بونابارت بجانبه توقفا إلا بمجاوزة بوليفار لجبال الأند في سنة 1815.
وتدلنا الصورة الثانية التي انتهت إلينا من تلك الحرب على أرشميدس بسرقوسة وهو يبيد من الشاطئ سفن الرومان بمراياه المحرقة ومجانقه، وهو يضرع إلى الجندي الروماني الذي يريد قتله أن يمنحه بضع دقائق لحل مسألة رياضية. وتدلنا الصورة الثالثة على كلاب اخترعه هنيبال؛ أي على نظام جديد للقتال استطاع به أن يحصر ويبيد، في كان جيشا رومانيا أقوى من جيشه مرتين.
وما أغنى هذه الحرب، التي يتطلب وصفها مجلدا خاصا، بالمناظر الروائية! وأروع الجميع هو الصراع في سبيل سيادة العالم وتجلي هذا الصراع في مبارزة بين غلامين. والواقع أن سبيون الروماني كان في الثامنة عشرة من سنيه عندما شاهد انتصار عدوه الأكبر هنيبال في تيسن للمرة الأولى. وكان المعلم لسبيون أيضا أبوه الذي قتل في معركة بإسبانية فيحاول الانتقام له، ويدل على النساء مع ملامح روائية وخصل طويلة فيبدو شابا من الطراز الأول ويعامل على هذا الوجه، وكان يصدر عنه شعاع كشعاع هنيبال فيتمادحان كما لو كانا من الشعراء الجوالين. وتطبع هذه الحرب بوقائع كثيرة أدت إلى تخريب إيطالية في ست عشرة سنة، ويرى هنيبال المنصور أنه وقف أمام رومة في الساعة الأخيرة، ويعاق في صولته ويهجره إخوانه الأغبياء نهائيا ويعود إلى وطنه تعبا شائبا عن غم فينصح قومه بالصلح.
ويكره على مغادرة وطنه خائبا مبعدا.
وكان يمكن هذه الحياة الفاجعة أن توحي إلى شكسبير، وقد سجل التاريخ عناد الرومان ووطنيتهم كما سجل براعتهم في تلقي دروس من العدو، فقد اقتبسوا طراز المراكب الحربية القرطاجية واقتبسوا فن القرطاجيين الحربي فاستطاعوا أن يقاتلوا في إسبانية وأفريقية وأن يحملوا هنيبال، هذا البطل الذي أسئ جزاؤه، على الفرار إلى آسية الصغرى للبحث عن حلفاء ضد رومة.
وتمضي أربعون سنة على بدء هذه الحرب العالمية، وينسى هنيبال تقريبا، ويؤلمه أن يبصر جلاوزة
128
الرومان أمام بيته فيزدرد السم.
ومن الراجح أن يكون سبيون، الغالب في هذه الحرب والذي وفق لإقامة دولة رومة العالمية نهائيا، قد مات في السنة التي مات فيها هنيبال، وهو قد توفي في منفى اختياري مشاطرا بذلك مصير كثير من أبطال القرون الأولى، وهو قد أوصى بألا يرقد في أرض رومانية.
27
ولانتصار الرومان نتائج لا تحصى، فقد صار البحر المتوسط بعد الحرب البونية الثانية؛ أي جميع العالم المعروف في ذلك الحين تقريبا، ملكا لهم، وظل قبضتهم خمسة قرون، وداومت قرطاجة على العيش، وعاشت مرفهة حينا آخر، وغدت مدينة تجارية بلا مستعمرات. بيد أن هذا الشعب لم ينتج غير تجارته، فلم يكن عنده، كما عند أثينة، حضارة، ولا شعراء وقصص فاجعة، ولا معابد وتماثيل، ولا فلاسفة وعلوم طبيعية، وقد زال اسمه سريعا مع أن الأغارقة الذين نزع سلطانهم السياسي منهم لا يزالون ذوي نفوذ يزيد قوة مقدارا فمقدارا.
وأخذت رومة الظافرة ترسل مراكبها الحربية وكتائبها ضد اليونان، ورومة هي التي كانت تلزم خطة الدفاع تجاه قرطاجة وتهاجم كثيرا حتى سنة 200 قبل الميلاد فصارت تبحث لنفسها عن فتوح. ولما وحدت إيطالية تقريبا وتقدمت نحو جبال الألب في الشمال واستولت على لنباردية ثم على ليغورية، كانت الضرورة هي التي تدفعها إلى حماية نفسها تجاه الغوليين والسلت الآخرين، وعلى العكس لم تكن مغازي الملك الشاب فليب المقدوني في الشرق غير ذريعة للرومان. والحق أن هؤلاء القوم الذين هم أمهر من في البحر المتوسط أخذوا يدفعون إلى حروب جديدة في البر والبحر عن رغبة في السيادة العالمية. والحق أن الرومان استطاعوا بين سنة 200 قبل الميلاد وسنة 100 بعد الميلاد أن يقيموا أعظم إمبراطوريات القرون الأولى وإمبراطورية من أوسع ما عرف التاريخ.
وترى هذه الإمبراطورية الأولى مدينة في قيامها لتطبيق ناموس السكون على الأجسام المتحركة، وفي هذه المرة لم يكن الموضوع موضع برابرة كالفرس ولا تجار كالقرطاجيين، ولم يكن الرومان مرتجلين عن عبقرية كالأغارقة فيذهبوا من جزيرة إلى جزيرة وفق هواهم ووفق وحي الساعة عاطلين من خطة معينة ومن مركز للقيادة ومتعاركين على الدوام، ولم يكن ذلك مثل رأي أحد الفراعنة الذي عزم بغتة على سوق جيوش عظيمة ليدعها بعدئذ تهلك في الصحارى أو البحار، ولم يكن ذلك كالغزو الخيالي الذي قام به بعض الفاتحين كالإسكندر عن حلم في السلطان إلى أقصى حدود الدنيا، وإنما شاد الرومان إمبراطوريتهم في تلك القرون الثلاثة عن عزم منظم فكانوا يستولون على الولاية بعد الولاية متطاولين رويدا رويدا كما استطاع الإنكليز أن يقلدوهم به بعد زمن.
وإذا وجد من يشك في أن بعض البصائر المنظمة سيطرت على السياسة الإنكليزية، وإذا وجد من يفترض أن كل شيء قرر عندهم وفق وحي الساعة، فإنه لا يقال أكثر من تفتح نظام ذرائعي في رأس رجل مثل سبيون أو يوليوس قيصر، وعلى العموم تبصر رؤى الأكابر التي نظر إليها متفرقة شخصيا قد حفظت بعد حين في القصص والشعر والفلسفة. وما كان من انتظار الرومان حتى سنة 300 قبل الميلاد لاختراع أسطورة انتسابهم إلى أسود تروادة هو من الرمزية كتقليد قواد الرومان للإسكندر حينما ولوا وجوههم شطر القسم الشرقي من البحر المتوسط. أجل، كانت مقاومة قوى الرومان أمرا متعذرا، غير أن هذه القوى كانت تعد غير ذات معنى لولا تعاقب الفتوح تعاقبا رائعا، ولولا هدف كل شيء إلى سيادة العالم السلمية تحت شعار «السلم الروماني».
ولم تدم الإمبراطورية الرومانية، التي لم تأخذ في التكوين إلا بعد سقوط قرطاجة، إلا بفضل سلطانها المسلح، وذلك كما اتفق للإمبراطورية البريطانية فيما بعد.
وكان سير القوى في بحر إيجه وآسية الصغرى يختلف اختلافا موجبا للارتباك، وإن ملكا، كفليب المتعوق وأنطيوخس القوي، قد قاتل الرومان في مقدونية وسورية مقدما فأمسكوا بعيدين من مصر. وبعدما قهر هنيبال طلب العون لقرطاجة من فنيقية التي يرجع إليها أصل أجداده، ولاح كمن هو في ذكر شعري حين عاد إلى الشرق ليبحث فيه عما كان محتاجا إليه فلم يجده في الغرب، ولكن ملكا شرقيا خادعا قد خانه، ولكنه أضاع حياته في الحين نفسه. وكان النصر يكتب للرومان في كل مكان فوق البر وعلى البحر، ولما نصر الرومان لأول مرة في بحر إيجه سنة 191 قبل الميلاد عين مصير البحر المتوسط بأسره لقرون كثيرة.
وكان الرومان دهاة حينما كانوا يظهرون بمظهر المنقذ للأمم التي لم تطلب منهم أن يحرروها قط، ولكن الأغارقة، أو ساستهم الأذكياء على الأقل، كانوا من اللطف ما لم يبدوا معه عواطفهم الحقيقية فاحتفلوا بعيد إنقاذهم مع الغالبين في الألعاب البرزخية كما لو كانوا غير شاعرين بأن الكتائب الرومانية التي تتقدم تدوس حريتهم تحت أقدامها. وكان النظام الروماني الجديد يقوم على حماية الدول الصغيرة تجاه الدول الكبيرة وعلى احتلال المراكز المهمة من غير فتح للأملاك وعلى إضعاف للخصم في الداخل، فاتخذ هذا النظام مثالا من قبل الفاتحين في المستقبل. ومن ينظر إلى وجه أنطيوخس الكبير في متحف اللوفر يبصر ما ينم عليه من مرارة أحد التابعين الأولين لرومة وشغل باله، ولا بد من أن يكون فليب الخامس الملقب باليوناني الأخير قد شعر بمرارة الهزيمة هذه.
ومع ذلك بلغت رومة من قوة الجذب ما نقل معه ملكا دولتي القسم الشرقي من البحر المتوسط سلطانهما إلى الرومان، موجدين بذلك ولاية آسية، وكان هذا قبل طرد القراصين من قبل بونبي وقبل تعميم القانون الروماني، وكان السر يتجلى في القيام بفتوح دائمة لجعل الناس يعتقدون تعذر القهر. وكان الرومان، الذين ورثوا كل شيء من الأغارقة فانتحلوا آلهتهم وفلسفتهم وتماثيلهم، يرقبون هؤلاء الأغارقة الأمدن منهم كما كانوا يرقبون شعوب القسم الشرقي من البحر المتوسط. وقد بلغ الرومان هذا المقام بما لديهم من نظام وقوة عسكرية، ولم يكن هؤلاء القوم الذين هم أقل تمدنا ليستطيعوا السيطرة على أمم كثيرة مدة ثلاثة قرون إلا لانتحالهم حضارة من قهروهم.
وكان الرومان مدينين بنجاحهم من بعض الوجوه لإقدامهم على المغامرة في البحر، فلما باع روماني حقله للمرة الأولى حتى يشتري سفينة غير تاريخ البحر المتوسط وزنه وقياسه، وما كان من تحول سلطان رومة البري، الذي ثبت أمره في القرن الثالث والقرن الثاني قبل الميلاد، إلى سلطان بحري أيضا هو من الغرائب التي تفسر بنظام رومة الفني والاجتماعي.
والواقع أن الرومان المدققين لم يسلكوا سبيل الخيال الذي هو صفة اليونان المهيمنة، والرومان كانوا يحذرون حتى سراب الهوى، وإذ تعود الرومان معارك البر فإنهم لم يهدأ لهم بال قبل اختراعهم في المركب طبقة بين جسرين غير قابلة للعزل بالغة من الارتفاع ثمانية أمتار في يسار المركب. ولما انقض هنيبال في المعركة الأولى على مراكب العدو وفق عادته ذعر؛ إذ وجد نفسه أمام تلك المراكب، فلم ير غير النجاة من الأسر. وكان هذا الانتصار البحري الذي نالته الدولة البرية رومة على القرطاجيين انتصارا للآلات والعناد على التجربة وسهولة الحركة، وفي الحين نفسه أثبت الرومان ما فيهم من روح التضحية عندما أنشئوا أسطولين جديدين غاليين بعد هزيمتهم الأولى.
وهنالك سبب آخر لفوز الرومان، وهو روح الاقتصاد التي هي فضيلة الأفراد والأقوام العاطلين من الخيال، وما نالته رومة من ثروات في البلاد المفتوحة اقتصد فيه اقتصادا منتجا في السنين المائة أو المائتين الأولى، وذلك من قبل الدولة كجماعة أو من قبل التجار كأفراد، فكانت تلك الثروات عامل زيادة في القوة التي هي مصدرها. وبينما كان الزيت والقمح يردان كثيرا إلى صقلية، وبينما كانت الفضة والذهب والمعادن الأخرى تأتي من إسبانية وآسية الصغرى، لم يكتف الشعب الطموح في ذلك الزمن بامتلاك الأرضين، بل كان ينشئ سفنا جديدة أخرى ويقيم بالولايات البعيدة مؤسسات تجارية جديدة، وذلك على حين كانت الحكومة تعبد طرقا وتبني مراكب حربية.
وإن الجمال الذي كان يعبر عنه بالآلات والإنشاءات لدى الرومان، كما عند الأمريكيين في الوقت الحاضر، لم يكن ليسرف على الأواني والرخام كما في بلاد اليونان، وكان الجمال عمليا على الدوام، وكانت الآلهة تحمل على النفع في المعابد، وقد أدى النظام والعمل اللذان هما من لوازم الأمزجة النائرة إلى فتح العالم بأسرع مما يؤدي إليه الروح والخيال. وقد عرف الرومان أن يحسنوا زراعة الأرض وأن يسمنوا الدواجن بدلا من إبداعهم تماثيل وروايات. أجل، كانت الإوز تسمن في الأكروبول، ولكنه لم يعجب بالذي كان يقوم بهذا العمل.
ولم يكن المال ليعبد في دور إقبال رومة من أجل المال نفسه، وذلك خلافا لما كان عليه الأمر في قرطاجة، والمال الفاعل المحول إلى قيم منتجة هو الذي كان محترما وحده، وما كانت نقود الاعتماد كالصرر الجلدية المختومة التي لا يعرف أحد ماذا تحتويه لتخترع في غير قرطاجة، ثم انتحلت من قبل دول أخرى، ومن كان يفتح صرته عن فضول يخسر قيمتها لعجزه عن ختمها ثانية، وبما أن الدولة كانت تقبض هذه الصرر ثانية بثمن الإصدار فإن أحدا لم يبال بقيمتها الحقيقية، وقد كانت رمزا تاما لتأليه المجهول ووجها لما كان الكهان يخادعون به العلمانيين
129
في معبد المال.
وأظهرت رومة للعالم في ذينك القرنين مثلا عن النشاط والتضحية مضافين إلى عطف عميق على خير الدولة. فكانت هذه المقومات الثلاث صالحة لرفع الشعب فوق مستوى الشعوب الأخرى وإن عطل من العبقرية. وكانت السماء الصاحية، التي تسطع فوق رومة فتأبى النجوم المذنبة والظاهرات الجوية، توحي إلى الأعقاب بالحيرة، لا بالإعجاب إلا نادرا، ولا بالعاطفة على ما يحتمل. والحق أن الرومان، مع جميع فضائلهم ومع جميع ما أتموه، لم يتركوا غير نموذج أبناء للوطن معينين، وغير أمثلة لا تمس ولا تلمس فتوجد في مبانيهم فقط، وكل ما يلقي شعاعا في العالم الروماني هو من أصل يوناني.
وأروع ظاهرة هو ما كانت تجهر به رومة القوية من عبادة علنية لأمها الروحية اليونان المغلوبة، فقد كتبت دساتير تحرير المدن الإغريقية في روح المأثورات الفخمة. وقد كان متفننو الرومان يشعرون بأنهم مقلدون طوعا لما لأثينة من خطوط كلاسية، وكان فلاسفة الرومان ومفكروهم يقلدون نماذجهم اليونانية في طراز حياتهم، حتى في معايبهم، حتى في الانتحار، وود شيشرون أن يعبر عن رمز مزج الحضارتين فاخترع كلمة «الإنسانية». وكان أقصى طموح في فرجيل هو أن يضع «أوذيسة» جديدة، ولكن يا للسخرية! فهو لم يكن دربا بالملاحة فضلا عن أنه ليس مثل أوميرس، فغدت قصته الكبرى عن البحر رواية برية، وقد قهرت رومة جميع خلفاء الإسكندر الأكبر من الملوك، مناوبة، في أثناء الحروب الآسيوية الكبرى في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد، جاعلة من ممالكهم ولايات رومانية، مؤسسة بذلك إمبراطورية في البحر المتوسط لم تساوها إمبراطورية أخرى، وقد وقف توسعها في عهد تراجان، ولم توجد هذه الإمبراطورية في أي حين وفق رغبة طاغية واحد في الفتح، ولم يكن الرومان محتاجين إلى ممتلكات متفرقة فيما وراء البحر. وكان الرومان يهاجمون في الغالب كما حدث مع هنيبال وأنطيوخس وفليب، وما كان من أمر معركة بيدنا الكبرى التي هزم فيها ملك مقدونية، برسه، فرض على الرومان، وكل ما كان الرومان يطلبونه هو وجود دول زبن؛ أي دول غير خاضعة، لكن غير مستقلة.
ولم يكن في ذلك الدور مستعمرات رومانية وحلفاء كما يوجد اليوم في الإمبراطورية البريطانية، وكانت إسبانية مستعمرة كما هي جزائر البرمود، وعلى العكس كانت أفريقية والإغريق دولتين ضعيفتين مع استقلال اسمي، كحال كندا في الوقت الحاضر.
والرومان مع ذلك، وعلى الرغم من كونهم سادة شواطئ البحر المتوسط، لم يكونوا سادة هذا البحر، وكان شيشرون يمتدح رومة لأنها غير واقعة على الساحل. وكان هوراس قد أصيب بدوار البحر مثل حامية أغسطس فوضع قصيدة لعن فيها مخترع الملاحة، وهنالك، على المسافات الكبيرة وعلى الأمواج الزرق أو الرمادية، لم يكن في القرن الثاني قبل الميلاد غير سلطة واحدة، غير القورسقيين الذين كان مأواهم في الغالب بأقريطش، بهذه الجزيرة التي كانت «غير ملك لأحد». وكان هؤلاء القراصين حلفاء تجاريين لتجار ملاحين يشرون منهم أحسن العبيد، وصار أحد العبيد ملكا في كليكية الواقعة بالقرب من الإسكندرونة الحاضرة، فاتفق مع القراصين كما يتفق طغاة اليوم مع الجواسيس. وكان الخوف من القراصين يربك التجارة في جميع البحر المتوسط فيبتسم حين يقرأ أن التجار كانوا يفضلون سير سفنهم في فصل الشتاء الذي يستريح فيه القراصين عادة.
وأخذت قرطاجة المغلوبة تزدهر مع ذلك ومع انتشار سلطان رومة، وظلت عامل تهديد لرومة، وكان الرجل الذي يبغض قرطاجة أكثر من أن يخشاها هو كاتون الذي هو روماني أكثر من الرومان إن لم يكن أعظمهم.
وكان مثل الرومان الأعلى يتقمص هذا الرجل السليم العضل الضامر المدبوغ الجلد والكثير الجروح والأزرق العينين والثاقب البصر مع فتور والأشقر الشعر والمعدني الصوت. والحق أن هذا الرجل كان لا يبحث عن الملاذ ولا عن الثراء، بل كان واقفا نفسه على الأسرة والأمة. والحق أن هذا الرجل كان يذكر فضائله الخاصة أكثر من أن ينشد السلطان، وكان يستشهد بفيثاغورس الذي يوصي بالاعتدال أكثر مما بالاستمتاع، وكان مثاليا في إدارة ملكه فلا يتناول غير الحساء والذرة مع خدمه، ولا ينام على فراش وثير، وكان يقوم بأعماله لتكون مثالا للآخرين أكثر من أن تكون مثالا للآلهة على العموم، وكان يحب أن يكون قدوة في البساطة فيتهم الآخرين فيما يلقيه من خطب مثالية، أو يعلن فضائله الخاصة في أحاديث لاذعة.
وكان الحنبلي
130
الأول في التاريخ كاتون لا يبدي لأبناء وطنه صورة عن الغنى أو العرفان أو الحكمة، وإنما كان يريهم فضيلته، وهو مع بساطته لم يحب أن يعيش فيلسوفا معتزلا كذيوجانس مثلا.
وهو إذا باع بساطا ثمينا موروثا من أسرته سعى في إذاعة النبأ، وكان كل واحد يعرف أنه لا يلبس من الثياب ما يزيد ثمنه على مائة درهم، وأنه كان لا يشري من الإماء من هن فتيات حسان بل كان يشري غلمانا للإصطبل، وأنه لم يدهن بيته باللون الأبيض مرة ثانية. وكانت رومة بأسرها تقص خبر عدول كاتون، حين نصبه قنصلا لإسبانية، عن حصانه ليوفر على الدولة نفقات النقل، وكانت رومة تقص خبر استغنائه عن العربة مسافرا رسميا إلى سردينية على الفرس متخذا خادما واحدا رفيقا له. وكان كاتون جريئا لهذه العلانية فيقول في نفسه إن الذين يبصرونه وهو يجاهد يرون أن الأمة مدينة لكاتون أكثر من دين كاتون للأمة، حتى إنه حين يلوم نفسه لا يفعل ذلك عن ندم.
ومن قول كاتون: «لا ألوم نفسي إلا على ثلاثة أمور: إفشائي سرا لزوجتي، وقضائي نهارا بلا عمل، وسفري إلى مكان بحرا مع إمكان السفر إليه برا.»
ومن سعادته أن كان يستطيع بما له من حق الرقابة أن يرقب أخلاق أبناء وطنه، وأن يتعقب زملاءه الفساق، وأن يضع حدودا للترف بالعربات والحلي والثياب والأقوات؛ أي إن ينتقم من الآخرين لعجزه الشخصي عن التمتع بالحياة. ومن ذلك أن طرد أحد أعضاء السنات من مجلس لتقبيله زوجته في وضح النهار وعلى مرأى من ابنته، مضيفا إلى ذلك قوله في لائحته الاتهامية إن زوجته لم تعانقه غير مرة واحدة عند شدة الهيجان، ولكنه عندما آم
131
تزوج فتاة صغيرة، فوجد لابنه الحائر التفسير الآتي وهو: «أود أن أترك للوطن أبناء آخرين مثلك.»
وكان عارفا بأمور الدنيا، فكان يغتني مقدارا فمقدارا على حين يحرم الأغنياء ما تحتاج إليه حدائقهم من الماء، حتى إنه استفاد من التجارة البحرية بتأليف شركة ملاحة مع دائنيه. وكان يحاول إلقاء بذور الفساد بين عبيده منعا لهم من مخادعته، ومع ذلك لم يحدث أن قضى على أحدهم من غير أن يعترف العبيد الآخرون بذنبه، وهو مع وصفه سقراط بالثرثار كان يستشهد في كتاباته بأقوال اليونان المأثورة كما كان يكتب ويتكلم بلغة لاتينية مصنعة، وهو كان، كأول مؤلف قومي، ينذر أبناء قومه بأن وطنهم يخسر سلطانه السياسي إذا ما قلدوا الأغارقة في حب العلوم.
وكان كاتون الذي أراد في تسعين سنة أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة أكثر الرومان صلاحا وأشدهم وطأة، وكانت مزيته تتجلى في تخريب قرطاجة، ومع ذلك أتعد هذه مزية؟
وفي أفريقية خلف هنيبال الكبير التعس همجي عصلبي جبار قادر مدرب حقيقي لأمته، وقد دام سلطانه ستين سنة، وقد مات في التسعين من عمره تاركا ابنا بالغا من السن تسع سنين. وقد طمع هذا الرجل، الذي عد أسعد من في عصره، في جعل قرطاجة الجارة عاصمة لمملكته البدوية فكانت هذه ذريعة لتدخل رومة، وقد ذعر ديمقراطيو قرطاجة من ذلك ففضلوا فتح أبواب مدينتهم للعدو التقليدي على أن يحكم فيهم ذلك الهمجي الماهر، وأراد كاتون أن يزور العدو مودعا قبل أن يهلكه فوصل إلى قرطاجة بنفسه وفق أطواره الحنبلية.
وأنقذت قرطاجة شرفها في ساعة اليأس، وحرر مجلس المدينة جميع العبيد مثبتا عطل السلطات من المبادئ الخلقية في غير ساعة العسرة، وتسلح جميع القرطاجيين حتى آخر صعلوك، وذهبوا إلى الموت مقاومين جيش رومة العظيم بشجاعة، وسار القرطاجيون على غرار أجدادهم الذين قاتلوا الإسكندر في صور فماتوا أبطالا في إحدى قواعد القرون القديمة المرهوبة، وبيع من لم يهلكوا منهم عبيدا، ودمر الرومان جميع قرطاجة غير تاركين فيها منزلا، وما كانت اللعنة الخالدة التي نطق بها مجلس السنات الروماني إلا لتهز القائد المنصور سبيون.
واليوم لا ترى في المكان، الذي ازدهرت فيه تلك المدينة، فعدت من أقوى مدن القرون القديمة مدة خمسة قرون، غير مروج ومراع، ولا ريب في أن حلم كاتون العبوس قد تحقق، ولكن قرطاجة غدت موضع عطف العالم منذ ذلك الحين.
وقد صب الرومان مثل تلك اللعنة على مدينة كورنث بعد بضعة أشهر، وعلى ما كان من بعد هذه المدينة من وسط البحر المتوسط أصيبت بمثل نصيب قرطاجة. والرومان في سنة 146 تلك عادوا إلى ما كان في الأزمنة الأولى من عادات همجية، والرومان حرقوا، من غير سبب وعن حسد وحقد، مدينتين من أقدم المدن وباعوا أبناء أسرهما القديمة عبيدا، وهم لم يتركوا وراءهم غير أطلال مع إمكان قيامهم بإدارة مدن عظيمة زاهرة، ويمضي قرن فيحاول يوليوس قيصر إعادة بناء هذه المدن على غير جدوى، وتزول كورنث في الزمن الذي زالت فيه قرطاجة، وبلد أفروديت كورنث كانت عاصمة الحلف اليوناني، وإذا عدوت بزنطة لم تجد في منطقة البحر المتوسط مثل كورنث مدينة رائعة واقعة بين بحرين جليلة جميلة مثل أثينة.
أجل، كان الإسكندر قد عامل تب بمثل ذلك، ولكنك لا تجد يونانيا أصاب العدو المغلوب بمثل ذلك.
ومع ذلك مضت قرون بعد الإسكندر، مضت قرون مملوءة فلسفة يونانية وتسامحا إغريقيا.
وهكذا أثبت الرومان أنهم من البرابرة.
28
ومع ذلك كان عمل الرومان مهما في تعبيد الطرق وإنشاء الموانئ على الخصوص. وكان الرومان قد تعلموا فن الملاحة، غير أن عبقريتهم الحقيقية تجلت في البر، ولا سيما الأماكن التي يتصل البر بالبحر فيها؛ أي تجلت في بناء المرافئ والأرصفة وكاسرات الأمواج وإقامة الجزر المصنوعة.
وقد سئل هاتف الغيب عندما أنشأ الرومان للمرة الأولى في بتيولي القريبة من رومة رصيفا بحريا منحنيا مطبقين القوس المستديرة التي اخترعوها على الإنشاءات البحرية، ومن الطبيعي أن حدثت بعض الأغاليط في البداءة، فقد انهار مرفأ أفسوس ومرفأ سلوقية بفعل الغرين، وكيف يعرف الرومان سنن الغرين وتكوين الدلتات ولا يزال علماء الماء يجادلون في هذه المسائل؟
ولم يمكنهم عد أنفسهم سادة العنصر البحري وحمل هذه السيادة إلا حين أخذوا يفصلون موانئهم من مدنهم، وكان هذا حادثا شبيها بإنشاء أول مطير في الصحراء، ويوجد مركز ميله الرومانية في طرفه كما كان الأغارقة يقولون مندرين،
132
وتنشأ مقدمات بناء رائعة أمام البحر، وتنشأ على أرصفة باحات عامة تبلغ من الارتفاع ستة أمتار في بعض الأحيان، وتشاد مبان وآثار على طول الساحل. وكانت ميزين أول ميناء بلا مدينة، ولم تظهر هذه المدينة إلا بعد زمن طويل، وقل مثل هذا عن مرفأ رافين الذي أنشئ في الوقت نفسه، ويبدو فن جديد للإنشاء بالغ من التأثير في النفس ما بلغته الأسداد الكبيرة الحاضرة، فنتبينه بالقنوات المحفورة من خلال الضحاضح برافين كما في الآرل، والتي كان يجب حفظها من الغرين باستمرار.
وأوستي هي الأثر الروماني الخالد الذي شاده أبو نيرون، وفي البداءة كان يمكن السفن الكبيرة أن تصل إلى رومة، ثم تراكم الغرين فحال دون الملاحة، وصار كل ما يرد إلى رومة ينقل إلى مراكب صغيرة، ولم يوفق الأخوان غراخوس ويوليوس قيصر للسيطرة على هذه الرواسب المتجمعة في أسفل رومة مع ما بذل من الجهود لجعل تنزيل القمح والخمر والزيت؛ أي المحاصيل التي تحتاج إليها رومة، أمرا ممكنا مباشرة، ثم أنشأ كلوديوس، في نهاية الأمر ، مرفأ وقناة بشمال مصب التيبر وبنى رصيفا رائعا نصف دائري، وقد أجرى هنالك مركبا كبيرا كان يحمل مسلة من وراء البحار، وقد وضع ثلاثة ألواح ضخمة سميكة فضلا عن ذلك فأقام على تلك الأسس جزيرة مع منار، ثم يمضي زمن فيستولي الرمل على جميع ذلك مجددا، أجل، حاول تراجان أن يعزل ذلك، غير أن موسوليني هو أول من وفق لذلك.
وكذلك يوليوس قيصر طبق على البحر فنه الروماني رئيسا للجيش، فاستطاع أن يجلب كتائبه بحرا منشئا سفنا على طراز جديد، وهو لم يكسب معركة فرسالوس الحاسمة إلا لنجاحه في نقل أربعين ألف رجل من برنديزي بحرا، وهو قد غلب الفنيت على الشاطئ الغربي من الغول بحيلة جديدة، وذلك أنه أراد أن يواجه سفن هؤلاء الشراعية العالية فأنشأ في مصب اللوار مراكب خفيفة سريعة تسير بالمقاذيف مع ملاحين كثيرين مسلحين بسكاكين طويلة معقوفة ثابتة في خشب دقيقة، فبهذه السكاكين قطع الرومان حين المرور قلوع سفن العدو وصواريها فقبضوا على هذه السفن.
ومع ذلك لم يسطع يوليوس قيصر أن يقتص من القراصين، والقراصين قد ظلوا باقين بعد كل حضارة في البحر المتوسط، فكأنه يوجد نسب بين ملك قبرس، الذي شكا أمره إلى فرعون مصر أمنوفيس سنة 1370 قبل الميلاد، والقراصين الذين تكلم عنهم أوميرس، وكذلك بين أسلاب الفنيقيين ونهاب الفلسطينيين والكتب الحديثة حول الملاحة التي تحذر الربابنة من الإشارات المزورة التي يعطيها قراصين ساحل شمال أفريقية المكتمنين وراء الصخور، وليست النخاسة في جزائر المرجان بالبحر الأحمر، وهي التي لم يكافحها نجاشي الحبشة جديا قط، إلا جزءا من أعمال القراصين الذين تحولوا قليلا نحو الجنوب. وكان القراصين في عصر قيصر ينزلون بغتة إلى بعض المراكز كرجال المظال المعاصرين نيلا للخبز والماء ومبادرة إلى الاستيلاء على باب للمدينة أو على برج، وهنالك كانوا ينتهبون مخازن المرافئ ومعابد الجزر، وما كان من كثرة ديون معظم الجمعيات اليونانية يعزى إلى القراصين. قال شاعر روماني: «بلغ أبولون من الفقر بفعل القراصين ما لم يسطع معه أن يري خطافا أصغر حبة من الذهب.»
ومن الممتع أن يلاحظ أن بعض المبادئ الخلقية كان يسود القراصين، وكانت دولة القراصين التي كونت حوالي سنة 100 قبل الميلاد وألفت من الفارين والعبيد والجنود المسرحين تفرض روح الإخاء والكتمان والشهامة فتشابه بعض المشابهة قاطعي طرقنا الذين يذكروننا بما جاء في الروايات.
وكان يجمع بين هؤلاء القراصين مبدأ الانتقام من مجتمع برجوازي
133
نبذهم من بينه، وكانوا يذبحون أسراهم مسوغين عملهم هذا بقولهم إنهم كانوا يعانون مثل هذا المصير لو قبض عليهم في ميناء. وكان البحر المتوسط إمبراطوريتهم، ولو رسمت خريطة لهذه الإمبراطورية لشابهت خرائطنا البحرية التي يلوح البحر فيها زاخرا بألف إشارة على حين يبدو البر فلاة، وكان هنالك نظام برد وإشارات يدل كل لص بحري على المخابئ الأمينة التي يمكنه أن يجد فيها القوت والنقود ويخفي فيها النساء والأولاد، وكيف يمكن ألا يرقص أولئك القراصين مع طباعهم في خيال الفتيان؟ وهنالك يتحول الجيل الجديد، المشبع من الأمور الذهنية والتعب من النظام والنمطية، إلى ولوع بالمخاطر والمغامرات الجريئة وبالمجد. وقد نهب القراصين جزيرة دلوس على الرغم من لوكولوس وأسطوله، وكان القراصين يطالبون جزائر ليباري بجزية سنوية في مقابل صونها، وكان القراصين يغزون المرافئ الكبيرة كسرقوسة مثلا، ومما حدث أن «الوالي» أتى بسلاسل ليقيد بها فربط بهذه القيود بسارية مركب روماني قبض عليه القراصين، وصارت الجمعية الظريفة ببايس لا تجرؤ على السباحة، والحق أن سيادة البحر قد انتقلت إلى شعب لم يكن شعبا ولم يملك بلدا، فكان كدولة عائمة.
ويقسم بونبي في سنة 67 قبل الميلاد منطقة البحر المتوسط إلى ثلاث عشرة ولاية بحرية، بما عرف عن الرومان من دقة، ويؤلف كل من هذه الولايات جزءا من ولاية برية، ويضع خطة لاستئصال القراصين كما يكافح الوباء في أيامنا. وبينا كان هذا الروماني يطارد القراصين صوب إلى أعدائه سلاحا خلقيا جديدا تم له الفوز بفضله، فقد بدا حليما نحوهم مانعا صلب من يؤسر منهم محافظا على جذافيهم، حتى إن أشد رؤسائهم فتكا، حتى إن الذين يخفون نساءهم وخزائنهم في حصون جبال طوروس، كانوا يرقبون بونبي على طول ساحل آسية الصغرى فينالون عفوه عند خضوعهم، وبذلك طهر القسم الشرقي من البحر المتوسط في بضعة أشهر. وقد خرب هذا الرئيس الروماني 1300 مركب وأتى بأربعمائة مركب إلى رومة، وافتخر بأنه لم يقتل أكثر من عشرة آلاف لص بحري!
وقد يكون هذا النصر البحري المغفل أعظم من جميع ما كسبته رومة، وقد كان لتلك المعركة أن تسمى بحق «معركة البحر المتوسط»، وصار يمكن إيطالية الجائعة مع غناها أن تستقبل مجددا سفنها التجارية بلا قيد، ويعجب العالم كله بالديمقراطية التي أعيدت إلى رومة مقدمة لازمة لتلك الحملة الكبيرة. وكان في أثناء سيطرة القراصين قد هزت الإمبراطورية الرومانية ثورة خفية وثورة علنية. وكان انتصار هذه الإمبراطورية العالمية الجديدة قد أتى بالمال، فأسفر المال عن الترف فعم الفساد هذه الأمة التي كانت مقتصدة حتى ذلك الحين، وقوض الأخلاق البرجوازية القديمة وغدا من الممكن رشو قواد وأعضاء من مجلس السنات من قبل أمراء من الأجانب، ويثير السادة بما يقيمون من الولائم المخالفة للصواب من يخدمهم من العبيد مع صمت يورث الغم، وتصبح الحرب الأهلية بين الفقراء والأغنياء قريبة الوقوع.
ويلم الفقر بالفلاحين الذين كانوا أركان سلطان الرومان؛ وذلك لأن الفوضى التي عمت القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية كانت تسهل صيد الإنسان، وتؤدي إلى نزول ثمن العبيد باستمرار. وكان صيد الإنسان، الذي يتعذر تمثل حضارة العالم القديم بغيره، يبلغ من الأهمية ما بيع معه في مرفأ دلوس، في مركز تجارة الشرق الكبير هذا، ما لا يقل عن عشرة آلاف عبد في يوم واحد، وما كان يعطى من قليل خبز وبر أجرة، وما كان من استمرار الحروب، يسفر عن فقر الفلاحين. وفي سنة 100 قبل الميلاد يصرخ خطيب روماني قائلا: «ترون لحيوانات إيطالية الوحشية عرائنها ومغاورها، وأما أنتم، أيها الفلاحون والجنود الذين يخاطرون بحياتهم في سبيل إيطالية، فليس لكم غير الهواء والشمس! أجل، إنكم تدعون سادة العالم، ومع ذلك لا يملك الواحد منكم فتر أرض!»
وصوت مثل هذا، وقول مثل هذا، ينطوي وحده على نغم موزون يرن من خلال ألحان القرون القديمة الرائعة.
ويروق بعضهم أن يحوك قصصا عن الصلات الودية بين العبيد وسادتهم في رومة كالتي قيلت عما في جنوب الولايات المتحدة، ومع ذلك لم يكن مثل هذه الشواذ ليفيد العبيد الآخرين الذين كانوا مقيدين بالأغلال مهددين بالسياط فيقضون نهارهم في الفلاحة ويقضون ليلهم في الأصابل أو السجون الخالية من الهواء والضياء، ومع ذلك ظهر من بين أولئك البائسين من أسعده الحظ قليلا، من قيض الطالع له سيدا صالحا فأتيح له أن ينمي مواهبه الفطرية. وكان هذا هو العبد اليوناني أندرونيخوس الذي جاء من تارانت إلى رومة فترجم أوميرس وحول إلى اللاتينية روايات تمثيلية إغريقية، وألف تاريخا لرومة، وكان اسمه ليفيوس.
وكان الرومان يبنون قصورهم فوق السجون، وكان من نتائج الثراء المفاجئ الذي نشأ عن الانتصارات المستمرة، وعن خضوع البلاد التابعة التي صار عددها يزيد مقدارا فمقدارا، أن ضعضعت فضائل الزهد التي صارت المدينة الصغيرة الثانوية، الفقيرة حتى في زمن الحروب البونية، رومة، دولة عالمية بها، ورومة هذه استولت في 110 من السنين على صقلية وسردينية وإسبانية ومقدونية واليونان وفرغامس وقرطاجة، وصارت تجارة الشرق، التي كانت تنصب قرونا كثيرة في ميله ورودس وأنطاكية ثم في الإسكندرية، تتجه إلى رومة حيث ظلت متجمعة ثلاثة قرون، أي بين سنة 150 قبل الميلاد وسنة 150 بعد الميلاد.
وكان التجار الجدد يلعبون بالملايين في تجارتهم مع الولايات، وكان العشارون وميار
134
الجيش والصرافون يقرضون الأمراء الإقطاعيين مالا حتى يعطوا الجزية، وبما أن جميع أولئك الموظفين كانوا يقومون بالقضاء في الولايات فإن من غير المحير أن تراهم يظلمون الناس وصولا إلى تغطية مضاربات أصدقائهم. وكان أبناء الأغنياء يعفون من الذهاب إلى الحرب في مقابل ما يدفعونه من النقود، والحرب قد غدت عملا يأتي بأعظم الأرباح بعد أن كان جميع الشعب يشترك فيها، وصار حلفاء إيطالية أنفسهم يهددون بالنكوص، وأصبحت جميع العلامات تدل على اقتراب نشوب ثورة.
ويبرز بعض الرجال ليحولوا دون نشوب هذه الثورة، ومن بينهم يجمل أن نذكر الأخوين غراخوس على الخصوص، ونرى أنهما كانا إكليل مجد لصراع رفيع في سبيل العدل وتاج فخر للشهداء، وهما قد خرا صريعي هجمات أبناء طبقتهما في الحقيقة، وذلك بعد كفاح عظيم عن إيثار تام.
وأقدم الأخوان على أخذ ما يزيد على خمسمائة فدان روماني
135
من أرضي الأغنياء وتسليمه إلى الفقراء، وتدبير مثل هذا كان يبدو في ذلك العصر ثقيلا على أبناء الأسر وعلى أصحاب المصارف.
وكان أصغر الأخوين غراخوس أعظم ثائري القرون القديمة، وكان رصينا بسيطا كأبيه، وقد انتخب محاميا عن الشعب سنة 123 قبل الميلاد فنال شكر الشعب لسن قانون الحبوب وقانون إعانة العاطلين من العمل، وهو، على ما كان من اعتماده على الجماهير، عرف كيف يجتذب عواطف فريق من الأغنياء الجدد بأن جعله يشترك معه في مناهضة مجلس السنات المحافظ، ويؤسس وراء البحار مستعمرات من أبناء الوطن معالجة لزيادة السكان في رومة، ويحاول منح اللاتين حق الوطني الروماني، وهو يغير حزبه السياسي وينتفع بأبرع الذرائع لكي يحقق مبادئه الاجتماعية، وهو، وإن كان مثاليا، استطاع أن يبدو سياسيا ماهرا إلى الغاية، فلا يزال يرى ابن بجدتها.
وقد أدى حبوط ما حاوله الأخوان غراخوس من فتن، وقد أدى انتصار الأقلية الغنية القوية على الأكثرية التي لم تكن صاحبة السيادة في غير الظاهر، إلى سيطرة العسكريين حتما؛ أي إلى أزمة الجمهورية الرومانية، وهنالك أبصر الفلاحون والصعاليك أنهم مضطرون إلى شهر الحرب على الرأسمالية. وقد امتد مدى هذه الحروب إلى خارج إيطالية فدامت نصف قرن، دامت إلى الدور الذي عقب موت يوليوس قيصر، ثم حدث ما نسجله في الغالب حين الأزمة الداخلية الشديدة، وهو تدخل ملوك من الأجانب، ومهرداد وجوغورته هما اللذان تدخلا في النضال متعللين بحجة مساعدة المضطهدين، وفي رومة يقوم ما يدعى التطوع مقام الجندية. وفي ذلك الدور يؤلف العاطلون من العمل نواة الجيش الروماني، ويسفر هذا عن تبديل حاسم، يسفر عن تطبيق طائفة من المبادئ السياسية على الحرب، وقد توقف تموين الكتائب وإخلاصها وبسالتها على وضع البلد السياسي.
وأوجبت الثورة الاجتماعية ظهور أول طاغية في التاريخ كما في أيامنا، وانتفع الأريستوقراطي سيلا بجيش الصعاليك للقضاء على سلطان الطبقة الوسطى، ويثبت هذا الحلف الغريب الذي كرر في التاريخ الحديث كيف أن ذوي الطموح من الزعماء يفرطون في مبادئهم الخاصة ليقبضوا على زمام السلطة، وينتخب الديمقراطي ماريوس قنصلا سبع مرات فيغلبه الرجعي سيلا في شوارع رومة، وذلك إلى أن سيلا كان يمكنه أن يبدو منقذا للوطن لقضائه على فتن الشعوب الإيطالية، وسيلا قد أظهر من المهارة البالغة ما سمح معه لمندوبي الأمم الغريبة بأن يتكلموا بلغاتهم في مجلس السنات الروماني؛ أي منحهم رخصة لا تبيحها أية دولة كبيرة معاصرة في عاصمتها، وقد غدت مستعمرات البحر المتوسط الرومانية الجديدة؛ أي الولايات، ضمانا لسلطان رومة العالمي؛ وذلك لأن برابرة الجرمان لم يلبثوا أن هجموا من الشمال؛ ولأن الأغارقة لم يلبثوا أن هجموا من الشرق تباعا، ويقاتل كل من ماريوس وسيلا جيوش الأعداء من ناحيته، ويعد كل من هذين الخصمين المستأسدين منقذا لوطنه إذن.
ويكرر حادث عرضي على البحر الأسود ثم على بحر إيجه، وذلك أن رجلا من أنصاف البرابرة أعتق الأغارقة بعد الإسكندر بمائتي سنة، وذلك أن ملك بنطش، والفارسي الإغريقي، مهرداد اغتنم فرصة الحروب الأهلية الرومانية فأراد أن يقهر رومة محالفا القراصين واليونان، وتصبح سيادة البحر المتوسط مدار نزاع بين الرومان والأغارقة للمرة الأخيرة، وهنالك يبذل الرومان جهدهم في عدم سيرهم كالبرابرة. فبينما كان ملك الفرس يأمر بقتل الألوف من الطلاينة المستقرين بآسية الصغرى كان سيلا يحقن دماء أهل أثينة بعد انتصاره معلنا أنه يريد حفظ الأحياء إكراما للأموات. أجل، خرب كلا الفريقين تلك المنطقة، غير أن الأغارقة لم يكونوا ليرتدعوا عن ذلك في غضون تاريخهم، وما كان من هجو الروسي بوجود تتري يشف وراءه يمكن إطلاقه بأن يقال إن كل متمدن ينطوي على وحشي فلا يعتم هذا الوحشي أن يظهر من فوره!
ودل سيلا، الذي كان قائدا من الأشراف أكثر من أن يكون قطبا سياسيا، على أنه ذو خيال أكثر مما لدى الروماني عادة، وكان سيلا الغني الأهيف إذا ما ظهر للناس على حصانه الحربي كفى ظهوره وحده لإثارة الحسد. وكان يرى، في الغالب، جالسا أو ضاجعا على عرش كملك، محاطا بمغنين وراقصات، متأججا وفاترا مناوبة، متكبرا وماجنا دوما، بالغا من الشدة ما لم يبلغه روماني قبله، قابضا في كل وقت على قوائم بقتل أعدائه الشخصيين أو سجنهم بلا محاكمة، والخلاصة أنه كان على النقيض من كاتون ومن ماريوس الذي أدى موته إلى جعل سيلا السيد الوحيد.
وتقف الجمهورية الرومانية قوانينها للمرة الأولى مفوضة إلى القائد المنصور سلطة مطلقة معانية لها في سنين بلا معارضة ولا انقطاع، ومع ذلك كانت التقاليد من القوة ما حفزت معه سيلا إلى الانزواء طوعا قبل موته بسنة. ومن المحتمل أن اتخذ سيلا هذا القرار عن تعب، ومهما يكن من أمر فإن مثال هذا الطاغية الذي عدل مختارا عن السلطان مما قل تقليده.
وما كان سيلا المستبد ليكترث للثورات الاجتماعية التي اشتعلت ثانيتها أيام مراهقته، وتجد نسبا في العالم البرجوازي بين فتنتي عبيد الرومان حوالي سنة 130 وسنة 100 قبل الميلاد ومغازي القراصين، وتجد العدل يؤدي إلى العنف مرة أخرى، وذلك أن كثيرا من محاكم صقلية أحست تحولا في مناحي العصر فنطقت في وقت واحد تقريبا، وفي ثمانمائة قضية، بأحكام ملائمة للعبيد ضد سادتهم، وهنالك تلغي الحكومة الجديدة هذه الأحكام إلغاء تاما، وهنالك يثور ألوف من المعدنين ويلجئون مع عبيد آخرين إلى الجبال، وإذ لم يكن لدى الحكومة من الجنود ما يكفي فقد استوحت سابقة في أثناء قتال القراصين، فعاهدت رئيس عصابة وعهدت إليه في القبض على العصاة، غير أن عصابة أخرى من العصاة تسلحت، وجعل أناس من السوريين الذين بيعوا عبيدا في الخارج من ملكهم محل سخرية رافعين على العرش رجلا منهم.
وإن ارتقاء صعلوك إلى السلطان في منطقة البحر المتوسط يدل على معنى إن لم يكن قد وقع للمرة الأولى. ومما يجدر ذكره أن ولد أول عبد ملك في تراكية حرا، وأنه لم يغد عبدا إلا بعد القبض عليه، ولم يكن لسبارتاكوس الذي أرهب الإمبراطورية الرومانية حوالي سنة 70 قبل الميلاد في ثلاث سنين سوى سلف واحد، سوى العبد دريماكوس الذي قاد في ساقز
136
ثورة عبيد حوالي سنة 300 قبل الميلاد فوفق لتسوية عادلة، ولكنه عندما سرح جيشه وفق المعاهدة التي أبرمت خاس أهل البلد بالعهد ووعدوا قاتل الزعيم العاصي بمال. أجل، إن دريماكوس وفق طويل زمن للنجاة من ظالميه، غير أنه قتل شيخا بيد أحد المقربين إليه عن طمع في الجائزة التي ينالها إذا ما أتى برأسه.
ولما فر زعيم العبيد السوريين، سبارتاكوس، من جلاديه جلب معه جيشا مؤلفا من سبعين رجلا، فلم يلبث هذا الجيش أن عظم فبلغ رجاله سبعين ألفا، ويعد سبارتاكوس جد جميع الثوريين الذين ظهروا من الشعب فهزوا البحر المتوسط فكان موسوليني آخرهم في الترتيب التاريخي.
29
يمكن درس عظماء التاريخ وإدراك أمرهم من الناحية الفردية على أنهم من أصحاب السجايا الخارقة للعادة أو من ناحية البيئة التي نشئوا فيها، ومع ذلك يكشف التحليل الثنائي عن الرجل بأجمعه، ومع ذلك ننحاز إلى هذا المنهاج أو ذلك تبعا للوجه الذي نتناوله بحثا في حياة البطل.
وإذا ما سرنا في رواق على الكابيتول ودرسنا تماثيل العظماء النصفية الرخامية التي صنعت في القرن الأول قبل الميلاد، أبصرنا الرومان يراءون الرجل المعاصر أكثر من الأغارقة، وهنالك، كما في هذه الأيام، لا نرى كبير تقدير للجمال المذكر، وكان يعنى بالذكاء والقوة أكثر مما بأي أمر آخر. وكان أولئك القوم لا يبالون بتفهم الحياة والتمتع بها كما كان الأغارقة يصنعون قبلهم، وإنما كانوا يريدون أن يهيمنوا عليها، وليست بضعة الوجوه التي تبدو هادئة كملامح أغريبا اللطيفة، أو ملامح أغسطس المنحط اللطيفة، إلا من الشواذ، وينم وجه قيصر الخالد على الذكاء والعمل مع أن وجه الإسكندر ينم على العمل والجمال. وإذا كان يوليوس قيصر غير معدود أقوى سيد للبحر المتوسط فإنه أكثر سادته اتزانا على الأقل، وهو إذن لا يمكن تحليله إلا على نور الوضع السائد للبحر المتوسط في أواسط القرن الأول قبل الميلاد، وذلك إلى أنه كان له منافسون كثيرون، فلا يبصر فوزه عن يقين في عشرات السنين.
والمال؛ أيام شباب يوليوس قيصر، هو الذي كان يسيطر على الرومان أكثر من قبل حين كانوا يقضون حياة بسيطة، أو أكثر من بعد حين أوحى إيمان جديد إليهم بطراز عيش أعظم اعتدالا. وكانت رومة تشتمل على مليونين من السكان؛ أي كانت تحتوي من الناس ما يعدل ضعف أهلها في الوقت الحاضر؛ أي كانت أكبر مدينة في القرون القديمة، وقد أتى عليها حين كانت أسوارها تضم فيه تسعمائة ألف مصوت، وكان المال يساعد على رقابة الانتخابات والجيش. وقديما كان الأغارقة مدينين بسلطانهم لروحهم التجارية الفطرية، والآن ترى الروح التجارية هي التي تضعضع قوة الرومان التي كانت تقوم على حياة بسيطة وعلى فضائل حربية فيما مضى، وعلى مثل هذا النمط تحولت بروسية وألمانية الحديثة من أمم حربية إلى أمم تاجرة، والرومان تطوروا من أمم حربية إلى أمم تجارية كالبروسيين بعد زمن، وهذا هو سبب محاولتهم أن يتوسعوا من ناحية البحر مضطرين.
ولكن الرومان الذين كانوا ينشئون على حياة البحر المتوسط اضطروا بفعل موقعهم الجغرافي، أن يمدوا أبصارهم إلى جهة البحر حيث كان الشعب اليوناني الجزري يشعر بأنه في بلده. وكان الرومان عاطلين من مثل روح الأغارقة المرنة ومن مثل خيالهم فلم ينتجوا غير قليل من آثار الفن، وعلى العكس عرفوا مع الزمن سعادة وقوة أكثر مما عرف الأغارقة من حيث السلطان السياسي، ووصل الرومان من حيث الحذق التجاري إلى مستوى الأغارقة مع اختلاف الأمتين في عاداتهما التجارية. وصار الرومان في عهد يوليوس قيصر تجارا أكثر من أن يكونوا محاربين، وصار الأشراف، الذين كسب أبناؤهم معارك، يتعاطون أعمالا مالية، وكان جميع الناس يضاربون على أعمال النقل التجاري، وكان لجميع الناس أسهم في مصانع الآجر، وكانت تبنى، أو تشترى، بيوت للإيجار في رومة أو الإسكندرية، وكانت تستأجر سفن فتكسب الملايين أو يخسر المرء جميع ثروته إذا ما تفلتت السفينة المشحونة قمحا من القراصين أو صارت قبضتهم ، ولما أقدم لوكولوس على تحريم الربا في آسية الصغرى حال رأسماليو الرومان بينه وبين القيادة العليا.
ولم يترك الراح والزيت، اللذان هما من محاصيل البحر المتوسط، بين أيدي الأغارقة؟ ولم يشترى من القراصين بثمن عال ألوف العبيد من الخبراء بزراعة الكرمة؟ وفي رودس، في السوق العالمية، حيث كان يخزن الزيتون والخمر، كان يدفع مستخدمون لتعلم زراعة الكرمة وحفظ الخمر وبيعها تحسينا للنوع في روماني وزيادة في ثمنه، وصارت الخيل والضأن والحمير تربى تربية علمية وفق المنهاج الإغريقي بعد أن كانت ترعى في مراعي إيطالية وحشية. وكان المال ينصب نتيجة لارتفاع الأثمان فيحول إلى مغان
137
وحدائق ورد ومواكب صيد وولائم فاخرة يرفع صاحب المحل في أثنائها قشرة فطيرة كبيرة فيطير منها زوجا حمام، وقد أفسد فاتحو الرومان جميع العالم الإغريقي، ومنه الرزاة
138
والخطباء والأطباء.
وأراد فلاسفة الرومان وأولياء أمورهم وخطباؤهم تحسين حياتهم منذ ذلك الحين، ومن هؤلاء لوكولوس، الذي كان كثير الاعتدال والاتزان مدة خمسين سنة والذي كان جنديا فصار قائدا، قد بنى بذهب الفرس المغلوبين قصرا فخما لنفسه على مونتي بنشيو، وذلك مع ملء مغناه «توسكولم» في «الريف الروماني» بالتماثيل والشرف واستقباله أزهى مجتمع فيه، وقليل من الناس من ينظر إلى أنه كان قد فتح نصف آسية قبل أن يقيم الولائم التي جعلت من اسمه رمزا. وأما شيشرون؟ كان شيشرون رجلا ممتازا، كوزير بريطاني وتلميذ سابق من أكسفورد، مضطهدا، عن نزاهة، لعدوي الجمهورية كاتيلينا وفرس، وكان لذلك أول عصري في القرون القديمة، وكان من الزهد الخلقي والوثوق النفسي ما داس معه رغائبه زمنا طويلا، ثم ماذا؟ لقد أذعن لمغريات عصره في نهاية الأمر، وهو قد كان شائبا حينما اقترض من كراسوس مبالغ كبيرة فأنشأ بها قصرا فخما على جبل بلاتن حتى ينسى فيه المنزل المعتدل الموروث عن أبيه. وكان جميع رجال ذلك العصر من القواد، ومنهم الخطيب شيشرون والصيرفي غراكوس. والواقع أنه كان يجب على من يود حسن التقدير أن يولي وجهه شطر ميدان القتال على الدوام، وماذا صنع بونبي بما له من وجه عريض لنائب ضابط فكان الأنف يشغل فيه مكانا كبيرا على حساب الجبين؟ وماذا صنع ليكافئ رفقاءه الصعاب؟ هو قد أمر بأن يحمل أمامه، وفي موكب نصره، خزائن الملوك المغلوبين وتيجانهم وأصنامهم فضلا عن أسلحة القراصين وحيازيم سفنهم. وكانت قافلة بغال تحمل لبيت المال في رومة أكياسا من النقود المغتنمة، وكان يعقب هذه القافلة أمراء ورهائن وأولاد ملك الفرس السبعة وأسارى من العرب واليهود وعبيد وأحرار وتمثال بونبي النصفي ثم القائد نفسه لابسا قميص الإسكندر الأكبر. وقد شاهد يوليوس قيصر جميع هذا وما إلى هذا من الحوادث، فكان له أن يرى نفسه فقيرا، وهو، إذ كان ابنا لأسرة رفيعة منحطة عارفا بمواهبه الخاصة، عزم على عدم وقف نفسه على الحكمة والدين والأدب مع ميله إلى الفلسفة، وهو قد أراد أن يكون غنيا قويا، وهو قد كدس من الديون، وهو قد بلغ من الولع والغرام بالغواني الهيف، ما وجه إليه الأنظار رجل دنيا، وهو قد لاقى في إحدى الرداه الدنيوية عطار الملك مهرداد الذي كان عبدا فاشترى حريته بفضل صنعته التي يطبقها على كبريات النساء في ضفاف التيبر، وقد لقي هنالك أيضا طهاة من اليونان وسحرة وصاغة ومصورين كانوا قد نفوا فأثروا سريعا في رومة الموسرة أكثر مما في بلادهم الأصلية المعسرة.
وكاد قيصر نفسه يصير عبدا، وذلك أنه سافر إلى رودس تلميذا فقبض القراصين على سفينته في أثناء جولة بحرية، وقد ظل في الأسر خمسين يوما قبل أن يطلق بفدية عظيمة، وكان يفاخر في رسائل ساخرة بأنه عاش أميرا بين القراصين فنظم ألعابا وقرأ أشعارا ولم يكف عن تهديد حرسه بالشنق، وبقيت رومة محرمة عليه طويل زمن لكونه ابنا لأخت ماريوس، وقد رفض العودة إلى رومة لجعل ذلك موقوفا على ترك زوجه الفتاة، وهو لم يرجع إلى رومة إلا بعد موت سيلا.
وكان قيصر في الثلاثين من عمره حينما اتخذ السياسة مهنة له، وكان سيئ السمعة، وقد انتحل برنامجا محافظا قوميا لكي يصل إلى مبتغاه، ثم التفت نحو الحزب الشعبي وصار يحدث عن قرباه من ماريوس، حتى إنه صار يفيق مبكرا ليكون، في الميدان العام، محاميا عن جميع من يحتاجون إلى عريضة. وكان - على ما يبديه من إصغاء إلى الشكاوى التي يدونها عبده - يفكر في فتون سرفيليه أو في سحر فتاة أخرى تركها منذ هنيهة، ويصبح صديقا للشعب فيعاشر المنادين وباعة الأزهار والحوذيين
139
والحلاقين والزمارين، ويطمع أن يكون حبرا وأن يشغل هذا المنصب في سبيل الشعب بعد أن نزعه سيلا منه؛ أي إن يبدو قديسا فيكون لهذا الزنديق ترويح بذلك.
ولم يبدأ عمل قيصر الحقيقي إلا بعد أن ناهز
140
الأربعين، وهو سيعلو جميع نجوم الفلك الساطعة بهذا العمل، وما كان يرى بعد أن يصبح أكثر من ركن في الحكومة الثلاثية؛ أي أكثر من العضوين الآخرين، بونبي وكراسوس، اللذين كانا يقيمان برومة على حين يقيم ببلاد الغول في ذلك الوقت. وكان قد أقدم على مغادرة رومة لشعوره بأفضليته ولعظم طموحه، وما اتصف به من الشجاعة كان يبرز مزيته العسكرية العظيمة ما اقتضت بلاد الغول فتحا بالسلاح، ويجعل من الفرق الثلاث التي تلقاها حين نصبه واليا لخمس سنين جيشا شخصيا له، وبما أن بونبي كان قابضا على زمام الغرب فقد اضطر إلى البحث في الشرق عن الفتوح والمجد لذلك، وقد ولي من قبل المجلس الشعبي، لا من قبل مجلس السنات فعد ذلك انقلابا. وإذا نظر إلى الأمر عمليا وجد أن قيصر جرد مجلس السنات من سلطانه للمرة الأولى منذ قرون، ويظل قيصر مخلصا لمبدأ الأخوين غراكوس فيقدم مزارع جديدة إلى رجال الشعب كما يمد يد المعونة إلى العوام وقدماء الجنود، وكان أريستوقراطيا مثل سيلا، فود أن يقوم بأعباء الحكم مثله مستعينا بالشعب ضد طبقة الأشراف.
وكانت إقامة قيصر ببلاد الغول، حيث قضى عشر سنين تعد خير سني حياته، تنم على تضحية كبيرة قام بها هذا الرجل الدنيوي الناعم العادات، وأصبح قيصر رجلا عظيما بمصاحبته جنودا يشاطرهم حياتهم بعيدا من الترف والنساء محاطا بغرباء ومقاتلين وبقليل من الضباط الأصدقاء وبكثير من الضباط الحاسدين، وما كان من مقاتلته الغوليين والجرمان وما ناله من انتصارات يعد من الروائع لعدم قضائه شبابه في المعسكرات كنابليون ولقضائه في المخادع والمجامع والميادين العامة، وكان قد قاتل قليلا قبل حملته في إسبانية، وهو، قبل أن يأكل الطموح فؤاده، لم يكن غير ولوع، غير هاو غير حائز درجة رفيعة من الثقافة اليونانية، ولم تبدأ مغامرته الكبرى إلا مؤخرا، ولم تدم إلا خمسة عشر عاما، وكان الارتجال من أسرار عظمته.
وتجد السبب الثاني في سهولة ملاءمته الأحوال وسرعة تغييره قراراته ومقاومته أشد الهجمات، وهو لم يكن صعبا في اختيار الوسائل التي تتخذ، وهو يسير نبيلا على الدوام مع ذلك، ومن ذلك أن ظل عاشقا لزوج بونبي زمنا طويلا، فلما صار بونبي أيما زوجه ابنته، أويعد هذا رواية هزلية أم فكرة عبقرية؟ ومهما يكن من أمر فقد ماتت هذه البنت في الوقت المناسب، وكان موتها نذير خلاف بين الرجلين، ولا بد من أن يؤدي إلى نتيجة حاسمة في المعترك تنافس الرجلين بعد موتها وموت كراسوس في ميدان القتال بآسية، وصار لا يسأل منذ زمن عن الدستور ولا عن الانتخابات القنصلية القانونية. ولما زحف قيصر إلى رومة مع جيشه الشخصي سنة 48 قبل الميلاد، وجعل نهر الروبيكون الصغير التافه خالدا، كان عنده من الإقدام ما لم يكن عند ماريوس وسيلا، ولكن مع أغراض أدل على الطموح، ويقهر بونبي في فرسالوس، ويفر بونبي، ويقتل حين نزوله إلى مصر.
ثم يقبض قيصر طاغية على زمام الإمبراطورية الرومانية العالمية، وليس من غير المشكوك فيه أن يكون قد رفض التاج ثلاث مرات، وإنما الذي لا ريب فيه هو أنه لم يضعه على رأسه إلا لأنه كان يريد أن يستحقه على شكل عظيم باهر، ولم يترك لنا التاريخ غير صورة قيصر شائبا، وعلى العكس يبدو لنا الإسكندر شابا، وكلاهما حقق مآثره ونال مجده في خمس عشرة سنة.
ومع أن فاتحة الإسكندر الباكرة وقصيدة حياته كانتا تشعران بخاتمته قبل الأوان كما هو أمر رفائيل وموزار لم ينتقل قيصر من حياة النعيم والدرس إلى حياة العمل إلا بعد تقدم في السن، ومع أن الجيش والقيادة والعرش أمور نالها الإسكندر وراثة اضطر قيصر إلى خدمة الأمة سنين طويلة وإلى تمحيص سلطانه تجاه منافسيه بأعمال مجددة على الدوام. وقد ورث الإسكندر السلطان وسار به إلى أقصى حدود الأرض تاركا خلفه إمبراطورية انحلت فور وفاته، وقد فاز قيصر بالسلطان بنفسه وسار به إلى حدود بحر وطنه موطدا دعائم إمبراطورية عاشت بعده ثلاثة قرون، ولا مراء في أن الطريق التي سلكها الإسكندر أكثر سرعة، غير أن طريق قيصر تؤدي إلى ما هو أبعد من ذلك، وكان شخص الإسكندر أعظم جمالا وكان شخص قيصر أعظم غنى.
وقد أتم الإسكندر جميع ما كانت تؤدي إليه أهلياته، وقد حصر قيصر مشاريعه في قلبه، وقد خر قيصر صريعا بيد نذل قاتل طعنه من الخلف، وبهذا يفسر السبب في كونه أكثر جاذبية من الإسكندر في التاريخ وعلى المسرح. والحق أن بروتوس الذي كان يقوم بأعمال ربا كبيرة، والحق أن بروتوس الذي يمجده الثوريون في كل جيل، لم يكن غير صاحب نفس صغيرة ترزح تحت عظمة مولاه، لا تحت نير من عدم الحرية. وكانت حياة قيصر أكثر ارتباطا في البحر المتوسط من ارتباط حياة الإسكندر فيه، فلم يترك قيصر هذا البحر تقريبا، وقام قيصر بمآثره في البلدان الأربعة الواقعة على شواطئه. وكان قيصر ابنا للبحر المتوسط كما أن إمبراطوريته كانت إمبراطورية البحر المتوسط، ولو سار قيصر على أثر الإسكندر حتى فارس، كما كان ينوي، لظلت روحه ضمن حدود بلده الأصلي، والإسكندر، على خلاف قيصر، قد قضى جميع حياته، تقريبا، بعيدا من وطنه الذي عاد لا يشعر بنسب معه في نهاية الأمر.
وقد حمل الإسكندر حضارة اليونان إلى مدى أبعد مما صنعه جميع من جاءوا بعده، ولم يبلغ قيصر شأو الإسكندر في ذلك، وذلك لما كان من اطلاع الإسبان والمصريين عليها قبله، وأما الغوليون والجرمان فما كانوا ليبالوا بها، ومع ذلك ظل الإسكندر من أنصاف البرابرة، وذلك على خلاف قيصر الذي كان يونانيا أكثر من الإسكندر. وكان قيصر من طليعة العالم الأفلاطوني، وعاد غير وثني، ومارس قيصر مبادئ خلقية كانت مجهولة في القرون القديمة، وإذا ما اتخذت أخلاق رجل العمل، لا أخلاق الفيلسوف، قاعدة كانت خاتمة أخلاق القرون القديمة بقيصر.
وكان قيصر أول سيد للبحر المتوسط خامره شعور جديد، وذلك أنه كف عن الانتقام وجعل من أجمل فضائل الأمير حقيقة، وهي نسيان اسم أعدائه.
الجزء الثاني
إلى المنار
يطبق الحارس الكتاب متئدا، وتظل يده اليسرى مستوية على الغلاف، وينظر أمامه، ويتنفس تنفسا عميقا كما لو كان بجهد، وقد شغلته القصة ليلتين، وذلك لما وجده فيها من أمور جديدة يصعب عليه أن يدركها، ولا يزال الليل مرسلا سدوله، ولا تزال فأس المنار الدوارة تقطع السماء بوميضها المتعاقب ثلاث مرات، ويأخذ الحارس في التأمل. «... ويقول في نفسه إنه كان يمر على بحرنا من الأمور ما يمر الآن، وكانت تتنازع المقام الأول فيه أمم قليلة، والله يعلم سبب رغبتهم عن السلم! وهل من المهم كثيرا أن يكون السلطان في صقلية للأغارقة أو القرطاجيين؟ وما الفرق بين سيطرة هنيبال وسيطرة سبيون على شواطئنا؟ ومهما يكن من أمر فقد جار كلا القومين على أجدادنا، ومهما يكن من أمر فقد استقر كلا القومين بجزيرتنا كما لو كانا في وطنهما، ومع ذلك فإنني قد أكون سليل هؤلاء الفاتحين، والآن! متى اكتشف الغوليون البحر المحيط وأصبحوا فرنسيين؟ ... وما أكثر المفاجآت في كتاب ضخم كهذا!
وقد تكون السفينة التي نقلت المسلة مشتملة على 1200 طن، ومن الضروري أن كانت المسلة ضخمة كالتي تقوم في ميدان الكونكورد عندنا، ويا لأولئك القراصين! ولا يزال القراصين موجودين، ولا يزال القراصين متعادين، ويمكن أن تعود هذه المنازعات غدا! ومن ذا الذي يعرف الوقت القريب الذي تنطفئ فيه علامتي الساطعة، ومن المحتمل أننا قرطاجيو العصر الحاضر، ولكن الرجل الذي يحكم اليوم في رومة ليس قيصر! وماذا يعرف عن البحر وإن كان يتكلم عنه بحماسة؟ وهو إذا ما انتقل إلى دائرة العمل رأى أن الغوليين لم يتغيروا!
وأما الإسكندرية، هنالك كان يعمل جوني السمين عادة، رباه! ما أشد ولعه بالقنينة! وكان يعرف مع ذلك أن يبقى ثابتا على ساقيه، وأن يبدأ بالخدمة باكرا، وكان مطلعا على جميع تاريخ مناره عن ظهر القلب، فإذا ما تكلم عنه قيل إنه أوضح للإسكندر الأكبر استعمال اللاسلكي، والذي وددت أن أعرفه، وليس في الكتاب إشارة إلى ذلك، هو مقدار ما كان الحارس يناله في العهد الروماني القديم ...»
ويصعد الحارس في الدرج رويدا رويدا، والدرج أربع وثمانون، وما أكثر ما عدها! وهو إذا ما نظر إلى الشرق من فوق الرواق الأعلى أبصر من ناحية سان رفائيل وميض الفجر الأول الأخضر والأزرق، أجل، لم يبد بعد، غير أن فتح النهار سريع في شهر أغسطس على الخصوص، ومن يعرف مقدما آخر هذا السر المنير يمكنه أن ينتظر انتشاره، وإن الأمر لكذلك إذ يتسع خيط النور الضيق فوق الطريق كالمروحة التي تتفتح فتضئ كل شيء عند ظهور نور الشمس الناشئة. وقد حسب الملاح الشائب، الذي أبصر عند الصباح ارتفاع ذلك من البحر مئات المرات، تقدم الغالب الأعظم بتقهقر الليل المغلوب، وقد رأى النجوم تصفر فتأملها بضع دقائق بذلك الشعور الديني الذي يحرك الملاحين دوما.
حضر زميله ليقوم مقامه، وهنالك يمسك الحارس، الذي لبس ثيابه البلدية، خويذته، ويودع مسرعا وينطلق إلى منزله الصغير الأبيض، وتغني طيور النهار الأولى متفرقة على استحياء مع تكرار لحنها اللطيف، وذلك كما يسمع عند توافق آلات أحد الأجواق، ثم تشتد ثم تغرد صادحة، ويصل الحارس إلى بيته مغتبطا بذلك الضجيج البهيج، ومع ذلك يرى الناس نياما، ولا تصحو زوجه إلا لصرير الباب غير المدهون جيدا.
ويقف الحارس بضع دقائق قريبا من سرر الأولاد، ويتحرك أحد هؤلاء الصغار كما لو كان يشعر بوجود شخص آخر بجانبه، ويحس الحارس سعادة كبيرة، مدة دقيقة، لكون ابنه صغيرا بعد، فقد تنتهي الحرب قبل أن يأتي دوره، ويدفع هذا الخاطر بشدة، ولا يلبث أن ينام. «... أدين جديد؟» ويتعلق فكره بالكلمات التي ينتهي بها كتابه ، والمسيح ... الذي يأتي بعيد قيصر، يقرأ هذه القصة في هذا المساء ...
غارة البرابرة
1
يقوم البلد الذي أنجب بالمسيح على تلال منخفضة حجيرا متصدعا صلدا جديبا، وهو يمتد عبوسا باردا حاقدا عاطلا من الشجر، بعيدا من الأودية الخصيبة التي لا يصل إليها البصر، وتقوم في وسط صقع أدجن مدينة فخور مبنية من حجارة سمر وصفر، ويمتد في الشمال، وعلى مكان غير بعيد، وعلى مهل، بلد أخضر غني بالينابيع مستور بأشجار لطيف ناعم، وهذا هو الجليل. ومن يلاحظ في هذه الأيام ذينك المنظرين القريب أحدهما من الآخر يدرك من فوره الفرق بين الديانتين اللتين ظهرتا في ذلك البلد، فهنالك المعتقد اليهودي الرجولي القوي الولوع بالحياة والصراع، وهنا النصرانية النسوية المنثنية عن الحياة المتواضعة الراغبة في سلم رعائي، وما بين منظري البحر المتوسط هذين من تضاد ينم على خلاف بين النهجين، وما لمؤسسيهما من عيان أصلي كثير البعد جاعل للقدر والتاريخ منهما.
وتعلم العبريون الزراعة في كنعان، تعلمتها هذه القبيلة المؤلفة من بدويين ومن رعاة كانوا يعيشون كما يعيش بدويو اليوم في النيل الأوسط، وقد وجدوا أمامهم تجارا كانوا يستفيدون من طريق للقوافل قبل عصر أوميرس بزمن طويل. وكان العبريون قبل الفنيقيين، ثم مع الفنيقيين، يستوردون من اليمن، ومن الهند أيضا، توابل ولبانا وما يرغب فيه الملوك على ضفاف الفرات والنيل، وكانت تلك القبائل السامية تملك قطاعا وتزرع كرمة وزيتونا، ومع ذلك لم يكن البلد الفقير فلسطين «بلد لبن وعسل» إلا عند قياسه بالبادية؛ ولذا قضت الضرورة على سكانه بتعاطي التجارة، وفي فلسطين اغتنوا كما اغتنى جيرانهم الفنيقيون، وفي سفر القضاة نص على أن جمالهم كانت ذات قلائد من ذهب، ويمضي زمن، وينقضي دور النفي الأول، فيزاول أبناؤهم التجارة أكثر من قبل وسيلة للعيش، ولما تكرر هذا الحادث أجيالا كثيرة أسفر هذا التكرار عن زوال بعض القابليات ونمو بعض الصفات.
وكانت ثورات الماضي تقع على شكل هجرة، وهذا هو سر انتقال أمم كثيرة من بلد إلى آخر بين سنة 1000 قبل الميلاد وسنة 600 بعد الميلاد ، وهذا هو سر حدوث ثورات قليلة داخل حدود البلاد. وكان البدويون الذين لا يتصرفون في غير مراع هزيلة يبحثون عن مراع خصيبة بحكم الضرورة في البقاع التي تقرب السهوب والصحارى فيها من الأنهار. وكان الهكسوس، الذين هم من بدويي كنعان على ما يحتمل، قد هاجروا إلى مصر، وقد انقض المصريون على فلسطين، وقد طرد الحيثيون المصريين فطرد الآشوريون الحيثيين. وقد غزا العبريون البدويون فلسطين فطردوا الفلسطينيين الذين كانوا يوصدون طريق البحر المتوسط دونهم، وكان شمشون وداود رئيسي عصابات فتم لهما النصر على الفلسطينيين، واستولى داود على مدينة أورشليم المنيعة فصار بذلك رقيبا على التجارة نحو مصر، فدعي هذا الدور فيما بعد عصر داود الذهبي، ومن شأن مشاريع هذا الملك أن تؤدي إلى الاتفاق مع الفنيقيين؛ وذلك لأن العبريين كانوا يجهلون الملاحة، وهم لم يصيروا قط أمة بحرية كما لم يصر حفدتهم اليهود في ثلاثة الآلاف سنة التي أتت بعدئذ.
وما كان من صعوبة ملاءمة البحر، والزراعة من بعض الوجوه، للعبريين يفسر نشوء المنطق والثقافة الذهنية لدى هؤلاء القوم، كما يفسر الحوادث التي توالت بعدئذ بعض التفسير، يفسر خسرانهم لبلدهم ثلاث مرات متعاقبات، ونبصر مجددا أن قوة الشعب متصلة اتصالا وثيقا بضعفه، وأن الخيال المتوسط، الذي يبدو عند عدم الاستعداد الفني، قد يكون أساسا للفكر الجلي.
وما بين الأغنياء والفقراء من تضاد كبير، لا يؤدي إلى ظهور طبقة متوسطة، بلغ من إضعاف فلاحي فلسطين ما أنبأ إشعياء معه بانحلال الشعب وما دعا النبي عاموس معه الأمة إلى الثورة ضد القادة كزعيم اشتراكي. ولم يعتم هذا الانحلال الذي كان يسهل تبينه أن تحقق، وذلك أن الآشوريين، الذين كانوا قد أضنوا فلسطين منذ قرون، والذين ما انفكوا منذ سنة 800 قبل الميلاد يتكلمون عن بني إسرائيل كملزمين بدفع جزية إليهم، أسروا رؤساء السامرة ومديريات أخرى ثم خواصها، وهم حين وزعوا أسرى بني إسرائيل بين الساخطين من شعبهم الخاص أثبتوا نبوغهم السياسي، وهكذا كانت خاتمة بني إسرائيل الذين كانوا عشرة أسباط، واليهودية وحدها، مع عاصمتها أورشليم، هي التي ظلت باقية. ثم أتى نبوخذ نصر ودخل هيكل داود وخرب الصحن الذهبي وحرق البناء وأخذ جميع رجال اليهودية ونساءها أسارى، وقد وقعت هذه الحوادث حوالي سنة 600 قبل الميلاد؛ أي قبل الإمبراطور تيطس والفتح الروماني بستة قرون.
وكان لليهود أعظم فائدة من إسارة بابل هذه كما كانت تدعى، وذلك أن ذكرى الوطن الأصلي كانت قد ضعفت في نفوس الأسرى كما ضعفت في نفوس الأمريكيين المعاصرين، وأن اليهود كانوا من الحظ ما حررهم معه فاتح بابل كورش، بعد خمسين سنة، فعادوا إلى بلدهم محيين في نفوسهم رغائب الماضي وذكرياته، وأن اليهود قد اضطروا في الأسر إلى تعاطي التجارة ما حرم عليهم أن يكونوا جنودا أو مزارعين كما وقع لهم في أوروبة بعد زمن، فاتفقت لهم بذلك معرفة تجارية عالية في بابل، ووجد اليهود البحر المحيط مغلقا دونهم منذ عودتهم وقبل أن يقهرهم الفرس والأغارقة، وكان الأغارقة قد استولوا على مرافئهم في مصاب النيل؛ فلذلك وبما أن المصريين والرومان الأولين كانوا محتاجين إلى تجار فقد هاجر كثير من اليهود قبل أن يكرهوا على الهجرة بعدة قرون.
وإذا نظر إلى الأمر من الناحية الروحية علم ما كان من فائدة للثقافة البابلية، فقد انتحل الكهنة، والسلطة المركزية في المنفى قبضتهم، أقاصيص بابل، كقصص التكوين والجنة والخطيئة الأصلية وبرج بابل والطوفان، وحرمة السبت الذي لم يكن ليراعى من قبل كما يلوح.
وعلى العكس كانت صلة هذا الشعب الغامضة بالرب، والتي تميزه من غيره، والتي ذاع صيته بسببها في العالم بأسره، موجودة قبل نفيه، وفي أيامنا يرد المؤرخون موسى، الذي عد رجلا أسطوريا زمنا طويلا، إلى دور أقدم من النفي ألف سنة. ويفترض أن موسى كان أول من أنبأ بإله واحد وأن يسوع أول من نادى بحب القريب، ولا يقوم واحد من هذه الافتراضات على أساس تاريخي حقيقي.
وارجع البصر إلى زمن الدولة القديمة تجد كهنة مصر يقولون بنظرية الرب الواحد وإن كان ذلك في مذهبهم الخفي، حتى إن أمنوفيس الرابع حمل الكهان على الجهر أمام الشعب بأن الإله الشمس هو الرب الوحيد، ونرى أن موسى عرف هذا المذهب في مصر ولو عاش قبل أمنوفيس مع الشك في هذا. وكان توحيد البابليين في ذلك الدور قد انتشر في فلسطين مع اللغة البابلية، فكان الإله القمر مردوخ يعبد كإله واحد، ثم إن يهوه لم يعد إله العبريين الوحيد المسلم به في قرون كثيرة، ولم يظل بعل وعشتارتا، اللذان كانت أعيادهما تخلط بأعياد الرب الواحد في كنعان، بلا منافسين كما تثبت ذلك طقوس الرقص حول العجل الذهبي، وكما تدل عليه الحجارة المقدسة والكهوف التي تقيم بها الآلهة والترافيم؛ أي الأصنام التي سرقها يعقوب من صهره، ولم تحرق الآلهة الأجنبية إلا حوالي سنة 600 قبل الميلاد، أي في عهد يوشيا، ولم يناد الكهنة بالإله الواحد إلا بعد العود من الإسارة، وذلك لما بين دين العبريين ودين جميع جيرانهم وأعدائهم من تباين.
ولم يكن التوحيد لدى العبريين ثمرة تحليل فلسفي كما عند أفلاطون، بل هو نتيجة تركيب بعد استبعاد كل إله غير الإله الواحد، وكان لهذا الإله الواحد أصول دنيوية ووطنية أكثر منها تصوفية. وكان إله العبريين في الغالب، إلها عسكريا وإلها قوميا معا؛ أي رمزا لقبائل اتحدت للقتال، وكان سيف يهوه هو الذي يسوق داود واليهود إلى المعركة.
وقد أظلمت فكرة الإله الواحد العظيمة بالمشاعر القومية التي لم يخل موسى منها. ولما عاد اليهود من بابل فرض عليهم واجب إعادة بناء هيكل يهوه في أورشليم دون سواها عن وجد، وقد بلغ هذا الشعور من الرسوخ في روح القوم ما وطد الكهنة معه يهوه في هذا المكان مخبرين إسرائيل بأنه الشعب المختار لإعلان إنجيله، وقد قال إشعياء صارخا: «وأما أنت يا إسرائيل عبدي يا يعقوب الذي اخترته نسل إبراهيم.»
ومن يعان الضغط يبالغ في تقدير نفسه، ومن ذلك أن اليهود عنت لهم فكرة كونهم شعب الرب المختار أيام كانوا تحت النير الأجنبي، وكان مثل هذا الزعم، الذي رأوا به حيازتهم وحدهم للحقيقة في عالم القرون القديمة، يوغر صدور الأمم المجاورة التي كانت تعبد آلهة أخرى، والتي كانت قوية فترى الوضع المحال الذي يفرض به الشعب اليهودي الصغير إلهه الواحد على الشعوب الأخرى، وهذا هو مصدر اللاسامية التي ظلت باقية من خلال التاريخ حتى أيامنا.
ومع ذلك كان هذا المعتقد، الذي يحوزه الشعب اليهودي في رسالته، غير صادر عن غطرسة أو عن اضطراب باطني، فقد جعل الكهان، الراغبون في التوفيق بين الحكمة العامة الثقافية الواسعة النطاق ومشاعر شعب صغير من الرعاة والتجار، من يهوه إلها واحدا ليفسروا لبني إسرائيل أن ما أصيبوا به من أسر هو نتيجة غضب إلهي، وكان الخلاص من هذه الخطايا يستلزم مسيحا، يستلزم رجلا مرسلا من الله، يستلزم ملكا معدا ليقيم مملكة في الأرض.
وما في الكتب المقدسة، التي ذاع بها صيت اليهود قبل أفلاطون بقرن، من لهجة نبوية أمر محير. وكان الأغارقة يشعرون بأن هذا الشعب الغريب المقيم بشاطئ بعيد من شواطئ البحر المتوسط يضع قوانين، كما أنهم؛ أي الأغارقة، يتمثلون أفكارا أو يؤلفون صورا، وكان لمبدأ الرسالة المنتظرة وللهجة الأنبياء دوي جديد في عالم القرون القديمة. وبينما كان الأغارقة يقضون يومهم مع آلهتهم الكثيرة كان يوجد بين اليهود صفوة من الرجال لا يتصلون بالرب الواحد إلا في ساعات من الوجد. وقد علم الفلاسفة، مع اهتمام، ومن سياح، أن اليهود بدءوا يتخذون طرازا دينيا في الكلام والتفكير يقوم مقام المنطق اليوناني.
ومع ذلك لم يدهش الناس شيء كعدم وجود صورة ليهوه العجيب، وكيف يمكن الإغريقي الذي هو شخص بصري شهواني أن يتمثل آلهة يحرم عرضها بصورة فضلا عن عدها غير منظورة؟ وما قالت به أساطير المصريين واليونان من أصنام للآلهة والعفاريت في أمكنة معينة جعل موجودا في كل مكان لما كان من نشره في جميع المحال، وعكس ذلك أمر بعض القبائل البدوية التي كانت تكتفي برمز لعدم استطاعتها أن تأخذ معها تماثيل في مهاجراتها، ويصبح العبريون حضريين، ولا يغدون قوما من المتفننين، ويريد سليمان أن يقيم هيكله فيطلب من ملك أجنبي أن يرسل إليه ما يحتاج إليه من خشب ونجارين وبنائين، ويقدم سليمان برا وزيتا بدلا من ذلك.
ويمضي زمن فيجد كهنة اليهود مصدر زهو في عرض الآلهة الأجنبية بصور، ويصير التجريد فضيلة وعادة ومبدأ، ويسهل عدم الأصنام مبدأ الإله الواحد ويعمق سره لدى شعب إسرائيل نفسه مع إثارة حيرة الأجانب، ويا للشعب الذي لا يمنح أدبه المجرد امرأة لإلهه الوحيد! ...
ومع ذلك لم يكن العبريون عاطلين من الخيال، وإذا عدوت الكالفنية
1
وجدت الخدم الدينية في دين العبريين، كما في جميع الأديان الأخرى، ضربا من التمثيل الروائي، والفارق هو أنك ترى هذا التمثيل يهدف لدى اليهود إلى تجريد، وتميز وحدة الرب الذكر هذه دين اليهود من جميع الأديان السابقة وأكثر الأديان اللاحقة. وكانت روح الأغارقة التي تنبجس رطيبة كينبوع قد اخترعت عالما مهتزا اهتزازا خياليا فوق الأرض وتحتها وعلى سطحها، ووضعت مصير الإنسانية بين الآلهة والعفاريت. وكان ابتداع الآلهة في هذا المضمار من عمل الروح بحكم الطبيعة، وإن شئت فقل لهوا نفسيا، وما مبدأ حبل العذراء بلا دنس الذي يرد إلى مختلف الحضارات إلا من الشواذ الغريبة في بلاد اليونان، وهو لا ينطوي على طهر خاص، ومن العفاريت كانت تطرح عصارة إله على الأرض وتولد إلهة من رأس أبيها.
ومع ذلك كان الحب مجرى أوليا يصدر عنه الأصل في أساطير المصريين والأمم الآسيوية والأغارقة، وكان الحب يجلب الأغارقة إلى الشانزليزه، مع أن الحب في التوراة هو الذي أدى إلى طرد الإنسان من الجنة، وما كان أشيل وأوليس وآثار أوميرس إلا من المستحيل لولا قصص غرام الآلهة التي كانت تجلس على العروش في السحب والتي كانت تنفع نماذج للعاشقين من الناس.
وكان يهوه أول إله يقضي حياة زهد، ومع ذلك لم يكن يهوه ملكا سماويا أو طيفا أو كوكبا، وإنما كان إلها رعادا مقاتلا يمكننا أن نتمثله، كما صنع ميكل أنجلو، ذا مظهر مذكر أكثر من يسوع وبدهة
2
اللذين كانا محاطين بالنساء، ويكون هذا الإله بلا امرأة أدعى إلى الدهش لدى اليهود من الحياة التي يؤكدها ومن الخصب الذي يرفعه إلى فضيلة، وماذا يستتر وراء هذا التناقض؟
ذلك مطلب لاهوتي. وكان يهوه لا يمتدح الزهد، وكان يهوه يدعو رجال الدين والدنيا إلى التكاثر، وما كان يمكنه أن يفرض قوانينه الأدبية على المؤمنين به، مولى وقاضيا، إلا إذا رغب عن العلاقة الجنسية، وهنا ترى إلها يطالب المؤمنين بأقل مما يطلب من نفسه مع أن الآلهة الألنبية كانوا على النقيض.
ولا يعلم مقدار ما يرد من ذلك إلى موسى؛ وذلك لأن عشرة قرون تفصله عن التوراة؛ أي عن الأسفار الخمسة التي تعزى إليه على العموم، والذي لا ريب فيه هو أن الأنبياء نشروا شريعة خلقية قبل أفلاطون بمائة سنة. ومن تعاليمهم أمام العالم القديم الذي كان يرخي العنان لأهوائه أنه لا يجوز قتل العدو بل يجب إطعامه وسقيه، وأن من يحقد يكون بجانب من يسفك الدم، وهم قد أباحوا للغرباء أن ينتفعوا بشرائعهم وعاداتهم لما كان من تذكرهم حياة المنفى. وأدعى الأمور إلى حيرة الأغارقة هو إعلان اليهود كون العمل بركة لا ذلا، وكان أرسطو يقول بتعذر إلغاء الرق قبل أن يعم استعمال الآلات، وذلك هو شعب فقير مضطهد يمنح العبد حقوقا مساوية لحقوقه تقريبا، ويهب له راحة في السبت ويدعوه إلى مائدته وأعياده.
وفي تلك الشريعة أن من يكسر سن حر تكسر سنه، فالسن بالسن، ولكن على من يكسر سن عبد أن يعتقه. وقد بلغ الحد الأقصى لذلك في الوصايا العشر التي لم يصغ أدبها بأكثر مما انطوت عليه من جد متوعد وإقدام بالغ وحزم منطقي. وهكذا تنشر قبيلة صغيرة مؤلفة من بدويين ورعاة وتجار شريعة تامة الجدة في عالم القرون القديمة، وستبقى هذه الصفحة الكبيرة مبسوطة على ركبتي التاريخ إلى الأبد.
2
وإلى تلك الصفحة القانونية التي كتبها اليهود يضيف يسوع صفحة جديدة ثمينة مهمة كالأولى، وذلك لعرضها الأدب اليهودي على العالم، ولم كان ذلك حادثا وحيدا في البحر المتوسط، ولم كان يجتذب ذلك أبصار الأعقاب ولو لم ينشر أحد مذهبه؟ ولم عهد إلى هذا النبي اليهودي أن ينقل أفكار أجداده إلى العالم القديم ومن ثم إلى العالم الحديث؟
ذلك لأن الأغارقة وجدوا بين موسى وعيسى، ولأن عيسى ظهر بعد أفلاطون بأربعمائة سنة، وظهر بعد موسى ب 1400 سنة، فتحولت شريعة موسى الصارمة الشديدة الحربية بين ذينك التاريخين كما تتحول الأدوات البرونزية بما يكسوها الزمن به من زنجار
3
رقيق.
وترى وراء اليهود تاريخا زاخرا بالمعارف فقيرا في الانتصارات بطوليا رجوليا، ولكن من غير زيادة في قوتهم. وكان اليهود شهودا من شواطئهم على نهوض كثير من أمم البحر المتوسط وسقوطها، وبما أنهم كانوا لا يشتركون في منازعات هذا العالم، وبما أنهم كانوا راغبين عن التوسع إلى مثل جزيرة قبرس القريبة من بلدهم أو أنطاكية أو رودس، وبما أنهم كانوا يهدفون إلى التجارة في الخارج وإلى إقامة دولة ربانية في الداخل، كان خيالهم القاسي يلين رويدا رويدا.
وكان البحر المتوسط مشبعا من فلسفة انتحلت مناحي اليهود الخلقية وأثنت على نصرانية ما وراء ذلك. وكان علم اللاهوت اليوناني يبتعد عن مبدأ جنة مملوءة بالملاذ ويبحث عن حقل روحي منذ قال فيثاغورس وأفلاطون إن حياة الروح هي الحياة الحقيقية وإن الإيمان بمصير الإنسان قد تغلغل رويدا رويدا. وكان أبيذقليس قد قال هو وتلاميذه، مع خلاف طفيف، إن الروح تجازى في مقابل جولاتها الدنيوية إما بعدم الوجود بعد الموت وإما بالعود إلى الجوهر الإلهي. وقد وصف أفلاطون شدائد روح الجندي المذبذبة بين السماء وجهنم، وذلك قبل رؤيا متى حول النار الأبدية وقبل وحي مار يوحنا بأربعة قرون.
ونشأ عن مثل ذلك المذهب في زمن الرومان مزيج غريب من المشاعر المؤلفة من خشية الموت والشوق إلى الموت، وقد كانت هذه المشاعر غريبة عن عالم أوميرس، وهذا يفسر ما يبغيه مذهب ما وراء هنالك القائل إن حياة الدنيا ليست غير إعداد، وكان هذا المذهب يتضمن رغبة في نجاة الروح. ويقترب سنيكا، الذي عاش في الدور الواقع بين موت عيسى وكتابة الإنجيل، من تعاليم النصرانية في مذهبه عن الموت، ومن قوله: «إن الجسم حمل وعقاب للروح التي يثقلها ويقيدها، والروح تكافح هذا اللحم الثقيل، والروح تود أن تعود إلى مصدرها، وتنتظرها الراحة الأبدية حيث كانت قد شاهدت الحقيقة والنور.» ويقول فيلون في ذلك الزمن: «إن الروح مدفونة في الجسم كما في قبر.» وما أكثر اقتراب هذين الفيلسوفين، اللذين كان أحدهما وثنيا والآخر يهوديا، واللذين كان أحدهما يقيم برومة والآخر بالإسكندرية، من نبي الناصرة!
وأخذت عبادة آلهة أوميرس في الأفول منذ القرن السابق، وكان قد مر زمن طويل على تصريح أشيل في الهادس متذمرا بأن فلاحا حيا أسعد من أمير ميت. وقد مر زمن طويل على ظهور الآلهة رفيقة للناس في منازعاتهم وأعمالهم اليومية، ويمضي زمن فلا تبدو الآلهة إلا نادرا، ولا تظهر إلا ظهورا معجزا، وذلك لسموها، أو لطردها، فوق الأرض الزاهرة ودخولها عالما مجردا بالتدريج؛ وذلك لأنها أصبحت من الحضور والقضاة بعد أن كانت رفيقة في المعارك.
ومن السهل أن يكتشف وجود انتقالات بين مبدأي الألوهية. فلما أتى القديس بولس إلى أنطاكية حضر احتفال أدونيس الربيعي الكبير حيث تدفن صورة الإله الميت بين عويل النساء لتظهر ثانية بين هتافات الشعب المبتهج. وكان يمكن سلفا، أو تلميذا، ليسوع أن يلاقي في أثناء سياحاته مصريين يحدثونه عن أوزيرس الذي حملته عذراء، وذلك كولادة الثور المقدس أبيس من بقرة بتول، وكلاهما كان قد لقح بشعاع الشمس أو بشعاع القمر كما عند بعضهم. وقد درس فلاسفة في جميع الإمبراطورية الرومانية عبادة مترا الفارسية وبشر بها جنود كانوا يسرون بهذه الفنون السحرية من غير نسك أو استغفار، ونجد تناول القربان بين طقوس مترا، وهو خبز مقدس وكأس مملوءة ماء وخمرا، ولم يكن جميع هذا مناقضا لأدب العالم اليوناني، بل كان منسجما معه، وهكذا زار أبولون أم أفلاطون، وهكذا اكتشف فيثاغورس روح أناس من آدميي الماضي في الحيوانات فحادث دبا ولاطف نسرا.
ومع ذلك لم يحتج يسوع إلى البحث عن جميع هذا في مكان بعيد، فقد وجده حوله، فالشريعة الأدبية التي ترعرع تحت ظلها، وذلك من الحجر الذي نقشت عليه الوصايا العشر إلى الأسفار الخمسة التي صححت مائة مرة، جهزته بما هو ضروري من العقائد والأساطير لعرض أحلامه الخيالية على قومه، وهو لم يكن قط معارضا لليهودية، وهو لم يعطف قط على مذهب معاد للشعب اليهودي، وهو لم يعارض الأنبياء السابقين بخيال إنساني جديد مثلا بل جاء متما لهم. وفي مار يوحنا ويسوع بعث إرمياء وإشعياء بعد خمسمائة سنة، وكل ما كافحه يسوع هو ما يمارسه الكهنة من طقوس لا معنى لها وما كان إرمياء قد كافحه بنصوص متشابهة، وما كان من نبوءة هدم الهيكل أحاط النبي الجديد بسياج من حقد الكهنة كالذي أثاره سلفه، وكلاهما اضطهد عدوا للوطن.
ووجد يسوع قائما ما كان صالحا لوضع أساس معتقده، وذلك كالتكوين والعناية الربانية ويوم الحساب وطاعة الله ومحبة الضعفاء (وفي مزامير سليمان التي كتبت حوالي سنة 70 قبل الميلاد والأناجيل التي كتبت حوالي سنة 70 بعد الميلاد دلالة على الآمال المسياوية)، ووجد يسوع أيضا تعبيرا للأدب الذي كان يعلمه ويخاطب هلل السابق أحد المرتابين حوالي سنة 30 قبل الميلاد معبرا بالكلمة الآتية عن روح الأدب اليهودي: «لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به.» وإذا كان اليهود قد عبروا، كالوثنيين، عن الأساطير والأقاصيص والوصايا والتاريخ وسجلوا هذه الأمور، وإذا كانوا قد قيدوا كل ما يشتمل على جوهر الأناجيل، فما هي مزية يسوع الخاصة إذن؟
مزيته في كونه انتهى إلى نتائج عظيمة؛ أي في هدمه أبواب الحصن الذي كان يعزل اليهود، وفي مده ذراعيه إلى العالم، وفي أنه جعل دينا عالميا من دين احتفظ به شعب صغير حاسدا، فبحث هذا الشعب المضطهد عن ملجأ له في إيمانه برسالته كشعب مختار، وفي أنه ملأ الهوة بين الإيمان والشعور القومي الذي كان قد هز قلوب الأنبياء الشيب؛ وذلك لأنه كان يبالي بنجاة البشر أكثر مما بصدارة الأمم، ويرى ابن ميمون الذي هو من أعاظم اليهود أن عيسى والعرب قد أعدوا السبيل للمسيح المنتظر.
وأنقذ يسوع العناصر الغالية من العقائد التي احتفظ بها الكهنة العند المحافظون عن حسد ؛ أي أنقذها من أدب لم يسطع أن يسيطر على العالم في ألف سنة لادعاء شعب صغير حيازته له وحده كتراث قومي، وبما أن دعوته جاوزت حدود بلده فقد أسس جمعية بين الأمم وأوجد شعورا جديدا يفوق الشعور حول الدولة، وهو حين دعا الأمم إلى تأليف حلف بشري شامل للعبيد والبرابرة أيضا، لا إلى تأليف حلف قومي، يكون قد جاوز شواطئ البحر المتوسط، ومع أن يسوع لم يجاوز حدود بلده الصغير غدا فاتحا أعظم من الإسكندر.
وهو، إذ يأتي بالرحمة والعدل والنجاة والمسيح من أسوار أورشليم الحجرية إلى بساتين الجليل، يكون قد حول الإله الشديد العنيف، يكون قد حول إله الحرب والانتقام، إلى إله حليم كريم، إلى حمل كما كان شخصه، وهو يدعو نفسه ابنا للرب وأخا للناس بلا وجد، ولكن مع كل خشوع، وهو لم يقدم حياته مختارا عن حب للحقيقة، غير أن موته كان من القسوة والظلم ما يبدو يسوع معه ضحية موكدة متوجة لرسالته، وهنالك عنصران بشريان، هنالك موته ووجه أمه (التي هي أول إلهة بين اليهود)، قد أضفيا عليه من الشعاع ما لم يتفق لأحد من بني وطنه سابقا، ويعرض اليهود عنه فيتقبله العالم، وكان الناس يأملون أن يجدوا السلام به.
3
ولا يقع الذنب عليه إذا لم يجد العالم غير السيف، ولا يكون الأنبياء والفلاسفة ما هم عليه لو لم ينكروا أو يسفهوا من قبل أناس أنانيين حاسدين. وقد ظهر طالب الرب يسوع في زمان ومكان يشوه فيهما خياله النبيل بحكم الضرورة، وقد أبرز مثل ثوري يسوع الذي كان يسمو فوق الدولة والذي كانت روحه تسير في الأثير بجانب أبيه العلي. ولم يكن يسوع أول من حوله مذهبه، حول حياة أخرى أطيب من الحياة الدنيا، إلى ثائر شعبي على الرغم منه. ويجب على من يعلن أن الصحة والقوة والعمل المنتج والتمتع والسعادة من الشرور، ويجب على من لا يحاول بلوغ هذه الأمور، أن يكون جاذبا جذبا طبيعيا لجميع من هم عاطلون منها، وخضع الفقراء للقدر دوما ، ويسمي الفقراء أمرا مقضيا كل ما يعدهم بعالم أحسن من العالم الراهن، ويفضل الآخرون من ذوي الطبائع الخصيبة المسيطرة والأمزجة المبدعة أن يكونوا مدينين لأنفسهم بفوزهم فتراهم يأبون الاعتراف بعمل القدر.
وجعلت تعاليم يسوع المثالية منه شيوعيا في الحياة الاجتماعية وأدنته من مذهب كان يؤدي إلى حياة هادئة في فلسطين منذ أكثر من قرن ونصف قرن. ولم يكن الإيسيون ثوريين، بل كانوا مثاليين طليقي الوجه، وقد ألفوا منظمة من أربعة آلاف عضو حوالي ذلك الدور فكانوا يعيشون في القرى والمدن معا من غير تملك خاص، وكانوا يوزعون أغذيتهم وثيابهم ويحظرون حمل السلاح ولا يتاجرون فيما بينهم، وكانوا يتحلون بالحلم والورع ويسلمون كل مال منال إلى لجنة مفوض إليها أمر توزيعه. ولم يكن هؤلاء الناس من الزهاد في الدنيا ولم يكونوا ممن يعيش من الصدقة كالنساك أو ذيوجانس، وإنما كانوا يعملون كفلاحين وعمال، وهم، وإن لم يحرموا الزواج، كانوا يحذرونه، وهم، وإن أباحوا التناسل، كانوا يرون من الإثم أن يهدف النكاح إلى الاستمتاع، وإذ عدوت هذا المبدأ الطهري وجدت كل شيء عندهم مثيرا للعاطفة.
ولم يثبت، بما يقنع به، أن يسوع كان من تلك المنظمة، وإنما كانت روحه تشابه روح أعضائها، ولا أحد يشك في انتساب الرسل إلى هذه المنظمة، وقد كانوا يعيشون كالشيوعيين، وما كانوا يوجهونه إلى الأغنياء من التهم آل في القرن الرابع إلى آباء الكنيسة الذين منعوا كل مال خاص في الجمعيات الدينية. ومما وعظ به جان كريزوستوم أن كل شيء سيعدل بجعله مشتركا كما عند النصارى الأولين، حتى إن يسوع قال مكررا في إنجيل لوقا: «بع كل ما لك ووزع على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني.»
وما يحاول من فصل غريب ليسوع عن الشيوعية التي تجدد في أيامنا شغل بال متى كما شغل بال غيره من علماء اللاهوت الذين ظهروا بعده، حتى إن مارتن لوثر حاول كتم هذه المبادئ عن خوف ألماني من السلطات. والحق أنه لا صلة بين شيوعية النصارى الأولين والشيوعية السياسية الحديثة ما اقتصرت على الانتفاع بالأموال انتفاعا مشتركا، ولم يكن الإنتاج الزراعي ليسلم إلى المجتمع تسليما شافيا، وأما الصناعة، وقد كانت تافهة في ذلك العصر، فقد كان إمكان جعلها حكومية أقل احتمالا.
ومع ذلك كان يسوع أكثر ثورية مما يلوح أول وهلة، وكان يرمي بمشاعره إلى ما هو أبعد من ازدراء للمال. وقد حاولنا في كتابنا «ابن الإنسان» الذي ألفناه سنة 1929 أن نجد في الأناجيل إيضاحا لرواية عاميه الأخيرين الباطنية ولتحول طبعه الحليم الناعم إلى طبع قاتم متعاظم. وإذا نظرت إلى الفصل الأخير من نشاطه وجدت قوة أنبياء اليهود الثقيلة فيه أحيانا، وهنالك مثال ليسوع البزنطي الذي نراه جالسا على العرش الفسيفسائي كسيد للعالم.
ولكن يسوع الأخير هذا لم يعرف في زمنه، وهو، على العكس، قد استهزئ به أو أشفق منه.
وكان الرجال الثلاثة الذين هم أقوى رجال القرون القديمة أصدقاء لليهود، فقد اجتذب الإسكندر عددا كبيرا منهم إلى مدينته الجديدة فسكنوا حيين من أحيائها الخمسة، وقد حماهم قيصر من طقوس اليونان والرومان، وقد أعفاهم أغسطس من بعض قوانين الإمبراطورية، وبما أن اليهود كانوا لا يستطيعون حضور بعض الولائم العامة بسبب يوم السبت فإنه كان يأمر بتوزيع هداياه بعدئذ في حيهم وراء نهر التيبر.
وتجد سبب وضع هؤلاء الأقطاب في محافظة اليهود وغناهم وروح إبداعهم. ومن أحكام قانون المواريث الروماني أن كانت توزع جميع أموال الميت، ومن نتائج ذلك أن كانت الأمم الزراعية تحدد عدد أولادها، وإذا ما أضيف إلى ذلك استغلال العبيد والمزارعين وجد أنه كان يؤدي إلى خلو إيطالية من السكان، وعلى العكس كان يمكن اليهود الذين هم تجار، لا فلاحون، أن يوزعوا أموالهم بين أولادهم الكثيرين. واليهود كانوا يوجهون إليهم أنظار الأقوياء بسبب إلههم الواحد، والعالم التعب من آلهته القديمة كان يقبل على عادات فارسية ويهودية عن تعب، حتى إنه وجد في عصر يسوع من المؤرخين من كانوا ينتظرون من اليهود نوعا من التجديد العالمي. وبينما كانت روح البحث العلمي تضمحل على شواطئ البحر المتوسط، كان الشوق إلى الخوارق وسرعة التصديق يزيدان وكان يتمسك بكل ما يختلف عن الآلهة القديمة.
وكان من البدع في زمن يسوع وبعده قليلا انتحال اليهودية في المجتمع الروماني، ومن المعلوم أن اثنين من ملوك الشرق قد ختنا ليستطيعا الزواج بأختي الملك اليهودي أغريبا، وقد خانت الزوجتان زوجيهما ... وكانت زوج نيرون وأزواج كثير من أعيان الرومان من اليهوديات، أو كن حاميات لليهود، وصار المثقفون يخجلون من تعدد آلهتهم، واعتنق مؤلفو اليونان ما جاء في أسفار موسى من مبدأ الإله الواحد ومن مبادئ الأخلاق، وهم لم يغضوا عن غير الطقوس المقيدة كالسبت والختان وقواعد الطعام، وهم قد ابتدعوا يهودية منورة يمكن قياسها بيهودية القرن التاسع عشر.
وأثار اليهود في الوقت نفسه عوامل الحقد بثرائهم ومعارفهم وعاداتهم الغريبة، واليهود لم يعترفوا بأية ديانة أخرى على خلاف اليونان والرومان، واليهود زعموا أنهم يهبون إلى العالم إلههم الواحد، وفي ذلك العصر كان يطوف مبشرون منهم في جميع بلاد البحر المتوسط.
ومن قيصر استمد هيرودس سلطانه في عهده الذي دام أربعين عاما والذي يفسر به ذلك الدور، وقليل من اليهود من عرف أنه مدين بوجوده لذلك الروماني الكبير. وكان بونبي قد قهر، بعد معارك طويلة، دولة اليهود الصغيرة التي زعزعتها الفتن المتصلة فجعل منها محمية رومانية تشابه حكومتها الإلهية حكومة الفاتيكان بعد سنة 1870، وتلوح لقيصر فرصة دعوة محميه إلى مساعدته في مصر، وكان هذا في وقت حرج، وتلوح لنصف اليهودي العتيق أنتيبا الذي كان قد ساعد قيصر على الفرار، فرصة اختبار صفته النادرة، صفة عرفان الجميل لدى أحد الطغاة، فمنحه قيصر، كما منح ابنه هيرودتس، أنسب شرط تمتعت به محمية رومانية؛ أي أعفاه من الجزية ومن الجندية وأذن له في إعادة بناء حصن أورشليم، وسار أغسطس على سنة قيصر فأضاف إلى ذلك حتى لقب ملك.
وعرف هيرودس، الذي كان رومانيا أكثر من أن يكون يهوديا، أن يتملق الدولة الحامية بلباقة، ويعد هيرودس مثال الملك الغني الذي يوسع بلده ويفسده معا. وكان هيرودس يروق الرومان الذين كان يتردد إلى معابدهم ومسارحهم وألعابهم، ولكنه كان يغضب اليهود، فلم يعتم أن عد خائنا من الفريقين، وهو يحسب آية طريفة على الانحطاط كالذي يشاهد قبل الانقلابات الذهنية على العموم. أجل، كان هيرودس مرائيا في كل واحدة من حركاته، غير أنه كان فاتنا حتى بكلبيته. وكان هيرودس حائزا خليلات مصريات وجنودا من العرب وحرسا من الجرمان وخصيانا وقاصين وغلمانا وجواسيس، وقد تزوج هيرودس عشر مرات، فكان عنده من الولد الكثير ما يعد نفسه معه أبا الوطن.
ومع ذلك لم يوفق هيرودس لاستمالة اليهود حتى حينما أقام هيكله الرخامي، وذلك لما في النسر الروماني الذهبي الذي يعلو المدخل من تدنيس للعيون، ولم يسطع الصدأ ولا المطر إزالة أثر النسر في زمن طويل حتى بعد نزعه. ومع كل ذلك كان أولياء الأمر من الرومان يشعرون باحترام عميق لهذا الشعب الصغير الشرس، ومن ذلك أن هيرودس لما مات فحول أغسطس بلاد اليهودية إلى ولاية رومانية نهائيا لم يضرب من النقود هنالك ما يحمل صورته مراعاة لعواطف السكان، ومن ذلك أن حظر دخول الهيكل اليهودي على كل جندي روماني وإلا عوقب بالقتل.
ويحاول الإمبراطور كاليغولا بعد زمن أن يقيم تمثاله في الهيكل فتسمو دولة اليهود الدينية إلى درجة فاجعة من العظمة، فقد قامت بإضراب قومي، وعاد لا يزرع حقله أحد، وأعلن الشعب بأجمعه أنه يفضل الهلاك على رؤية صورة الإمبراطور في الهيكل، ولم يلبث هذا أن صار ثورة شاملة، وبما أن الأمر روحاني فقد ظهر أناس من المجاذيب كان بعضهم حسن النية وكان الباقون من المشعوذين، وقد أظهروا أنفسهم من المسحاء الذين ينقذون بلاد اليهودية، ويمضي وقت كبير فيعود حفدة من طردوا إلى أورشليم ليبكوا أمام جدار قديم من هيكل الملك سليمان.
4
صار أغسطس وارثا، وعلى ما بذلناه من جهد في جعل وجهه الكريه يدنو من الكمال مستعينين بتماثيل كثيرة وبقطع من النقود، ينم هذا الوجه على رجل متثاقل محتال مراء مقرن الأعضاء كبير الفم طويل الذقن والأنف، وله من الملامح ما يدل على غلام ناضب قبل الوصول إلى سن الرجل، ومع ذلك كان من حيث العلائق الجنسية منتظما، وداعرا أيضا، ويعيش ستا وسبعين سنة، وتعرف سجيته بأحسن من ذلك من دراسة صورة امرأته ليفية الفاترة الولوع معا والتي تعد من أجمل صور نساء التاريخ، ولنا باختيار أغسطس إياها زوجا له ما يثبت إدراكه لأمور الغرام.
وكان عارفا بالرجال أيضا، ويا لكمال دهائه في خدع مجلس السنات! وكان يمثل دور صديق الشعب على الدوام، فيعتزل ليضرع إليه أن يعود إلى السلطان، وكان يواجه الهجمات فلا يغادر القاعة إلا عند احتدامها، وكان يكتم ثروته، وهو لم يبن قصرا إلا في مشيبه، وقد انتخب قنصلا ثلاث عشرة مرة، وقد انتخب ليكون إمبراطورا وحبرا مدى الحياة، وقد أدخل الإمبراطورية إلى التاريخ الروماني بالحيلة ومن غير انقلاب، وهو لم يلبث أن وجد في منصبه.
ويا للذي يبدى من الحذر والاحتراس والمراعاة تجاه ذوي الحرص والطموح! ويا للحكمة في الأعمال الكثيرة التي لا تجد فيها ما هو عظيم بالحقيقة! ويعد أغسطس أحسن مثال للسياسي الماهر الذي يمكن طول عهده أن يقوم مقام العبقرية فيبدو للأعقاب رجلا عظيما.
وهو لم يقتبس سلطانه من عبقرية قيصر فقط، بل استفاد من الدرس الذي تجلى في موت هذا الأخير أيضا، ولولا أواسط مارس ما صار أغسطس، وتثبت صورته وأخلاقه أنه لا يحمل قطرة من دم خاله، ومع ذلك كان دم قيصر المسفوك بخنجر القتلة على الكابيتول ضربا من الأوثان لخلفه. والواقع أن أغسطس اعتصم بمثل غاية قيصر باستدعائه نفسيا، وكانت هذه الغاية ملائمة لعظمة أخلاق قيصر الذي استطاع أعضاء السنات أن يحتملوا سلطانه لا روحه، وما كانت حكمة أغسطس الناعمة لتثير أحدا، وكانت مجاملته المصنوعة تبديه أعلى موظف في الدولة مع أنه كان الإمبراطور الأول في الحقيقة، وكان عمله الفني ملائما لمواهبه، ولم يكن عالما بفن الحرب، وكان يعتمد على جيشه اعتمادا تاما، ولم يخب أمله في قواده، وقد خاض جميع معاركه بواسطة هؤلاء القواد مع أن الإسكندر وقيصر فاقا جميع معاصريهما بعلمهما الحربي، ولم يكن للرجل ، الذي ألف جيشا دائميا، وكان له حرس يحميه في حياته الطويلة، نبوغ الجندي وقلبه.
ومع ذلك عرف أن يجد من يحتاج إليهم من الرجال، فقد كان أغريبا صديقه ثم صار صهره، وقد كان هذا من أروع الرومان، فينظر إلى بعيد بعينيه البعيدتي الغور، ولو ظهر في أيامنا لبدا مثال الطيار الكامل، أو مثل رائد القطب، ولو قابلنا بين التمثال النصفي لكل منهما لوجدنا أغريبا يختلف عن أغسطس اختلاف رجل العمل عن الرجل المتأمل. ومما يرى أيضا أخلاقه الواقعية المنتجة وأخلاق الآخر القائمة على الأثرة والحساب، ويبدو أغريبا لنا مثل ملك ويبدو لنا أغسطس مثل حامل الختم.
وما ظهر من روعة عهده الذي نال به اسم أغسطس؛ أي الجليل، يجعلنا ننسى أن هذا الإمبراطور قضى جميع شبابه؛ أي ما بين التاسعة عشرة والثانية والثلاثين من سنيه، في قتال خصومه السياسيين، وكان عليه أن يدفع ثمنا غاليا لينال تراثه، ثم كسب أغريبا معركة أكسيوم البحرية على الشاطئ الشرقي من البحر الأدرياتي.
وقد نال أغسطس إمبراطوريته بهزيمة امرأة، ومما يستحق الذكر أنه مدين بعرشه للحقد لا للحب.
وتعد كليوباترة أجمل امرأة أنجب بها البحر المتوسط، وهي قد جاءت بعد ازدهار جنسها الأسمى، ولكن قبل انحطاطه، شأن أطيب عنب البحر المتوسط الذي ينضج قبل آخر قطف، ومن اليونان قد ورثت روح الحرية لدى أسبازية، ومن الرومان قد ورثت فن الحكم. أجل، كان الأجمل أن تظهر في عصر النهضة، غير أن من اليمن ألا تكون قد ولدت بعد خمسة عشر قرنا؛ وذلك لأنها كانت تلقى بورجيا، لا قيصر، ولو لم تنل كليوباترة البالغة من العمر خمسا وعشرين سنة غير غرام قيصر الذي كانت سنه تزيد على سنها ثلاثين سنة لكفى هذا في إغنائها الإنسانية بأروع قصصها.
وبعد قيصر لم تحب كليوباترة غير أنطونيوس، وكان العاشقان يلتقيان بسفنهما في الخليج الذي وقعت في جواره المعارك الثلاث التي هي أعظم ما حدث في البحر المتوسط، وإن خليج أنبراسي الذي يعرف اليوم بخليج أرتا هو فرضة بالغة من الطول نحو ثلاثين ميلا مع مدخل لا يزيد على نصف ميل إلا قليلا، وهو لا يقدر بثمن لمن يبحثون عن ملجأ، ولكنه خطر في زمن الحرب لإمكان حصار ما فيه بأسهل مما في الدردنيل، والتقى جيشا أنطونيوس وأكتافيوس (أغسطس القادم) الرومانيان لتعيين مجرى التاريخ هنالك، بالقرب من رأس أكسيوم، وفي وسط الإمبراطورية الرومانية.
وكان جيش أكتافيوس مرابطا في شمال الفرضة حيث يرصد كالكلب الحارس من غير أن يحول عينيه عن المدخل.
وكان جميع أسطول أنطونيوس في الفرضة متصلا بجيشه المنتشر في البر إلى أبعد مدى، وقد حاصرت سفنه المدخل الضيق ولكن مع وضع دفاعي، وكانت مراكب أكتافيوس في الخارج، وعلى مدى البصر، مستعدة للحملة على أسطول أنطونيوس عند ظهوره، ويعمل أنطونيوس برأي كليوباترة التي كانت معه في مركبه، وذلك مع شعوره بأن تقدم أكتافيوس الحذر أكثر ملاءمة لهذا الأخير، فيقرر خوض المعركة في البحر مهملا كتائبه البرية الأحسن استعدادا.
وكان كلا الجيشين متواجها كالنمرين، وكانت كليوباترة مستلقية تحت الخيمة النمراء
4
المنصوبة على مركبها داخل الخليج، وكانت تعبة شاعرة بكارثة قبل وقوعها، ولكن مع عدم قطع الأمل في النصر، لاعبة بحليها، مناكدة وصيفاتها، مدندنة تسكينا لانتظارها الهائل، وكانت تتبين زيادة غضب ضباط أنطونيوس الذين يودون القتال في البر بال 30000 جندي الذين كان يمكن رئيسهم أن يتصرف فيهم.
وكان غير معتمد على سفنه تجاه أسطول أكتافيوس الرائع، وكان بعض القواد قد انحاز إلى جيش أكتافيوس البعيد بضعة كيلومترات فقط، والسهل بلوغه. وكان أنطونيوس يبدو مستخفا بالأنباء السيئة، فلما انضم صديقه إنوبارب إلى العدو اشتاط غيظا ودخل خيمة الملكة لينقل غضبه إليها.
وهنالك، في تلك الخيمة المصنوعة من الحرير، حيث يشم العطر، مثل العاشقان دورا من الغضب والحقد والألم، فقد أخذ أصدقاء أنطونيوس ينفضون من حوله.
وكانت كليوباترة قد قررت إخراج مراكبها الخاصة من الخليج وأن تدع أنطونيوس يخوض غمار المعركة وحده، وذلك تفاديا من مشاطرة مصير أختها والظهور في مركبة نصر الفاتح الروماني بين عواء الرعاع.
وتصدر الأوامر، وفي صباح الغد تتبع سفنها الستون، بعيدة من الشاطئ، المركب القائد «أنطونياس»، ويفتح باب المرور وتبدأ المعركة، وتنقض سفن أغريبا الخفيفة الرائعة على سفن أنطونيوس الثقيلة في الخليج.
ولكن أكتافيوس أمر بألا تمس واحدة من السفن المصرية، وتمر مراكب الملكة ذات صفوف المجاذيف الثلاثة من بين مقاتلة الرومان كالإوز السحري، وتتوجه نحو البحر تاركة وراءها دم المعركة ونارها وضوضاءها، ويبصر أنطونيوس إشارة انصراف الأسطول المصري، وما كان يحمله نحو كليوباترة من ميل مقدر حمله على ترك الرجال الذين يحاربون باسمه، ويبتعد في مركب من فوره محاولا اتباع مركب الملكة، ويتعقبه بعض سفن الأعداء، ولكنه يطردها ويداوم على اتجاهه نحو الجنوب.
ويظل أنطونيوس ثلاثة أيام جالسا في مقدم سفينة الملكة صامتا مخفيا رأسه بين يديه عدة ساعات، ويكون أنطونيوس قد ختم حياته العسكرية بتركه مراكبه وجيشه بلا رئيس.
وتمزق قوى أنطونيوس، ويصبح أكتافيوس سيد البحر المتوسط، ويتتبع كليوباترة وعاشقها في مصر، ويحملهما على الانتحار، ويقتل ابن قيصر وكليوباترة، قيصرون؛ أي المنافس الوحيد الذي تركه قيصر وراءه.
ويبدو عامل المركب في معركة أكسيوم حاسما مرة أخرى، وذلك لابتكار طراز جديد للمركب اسمه «ليبورنا» وهو مركب متحرك ذو مقعد اخترعه أغريبا لمرافقة ذوات الظهور العالية والبروج الصغيرة من مراكبه، وهو مثل معاكسة النسافات التي تلازم الطراد في زماننا.
ولم يكن فرار أنطونيوس المغلوب مع مراكب كليوباترة الستين خاتمة رواية غرامية فقط، بل كان نتيجة منطقية للتخلي عن التقاليد الرومانية من قبل روماني شهواني فاتر الإحساس أمام رجل أشد شبابا وأعظم طموحا مع تقيد تام بتلك التقاليد، ولم تقرر هذه المعركة من يكون سيد العالم من شعبين معينين، بل كانت خاتمة حرب أهلية بتعيينها أي الرومانيين يكون صاحب السلطان.
ولا شيء في ذلك التاريخ أدعى إلى الحيرة من خطأ كليوباترة في رهانها على أنطونيوس، ولم يكن لدى كليوباترة ما هو مشترك بينها وبين المصريين ما دامت منحدرة من أسرة مقدونية وما كان تفكيرها إغريقيا وما ظلت وفية للبحر المتوسط، لا للنيل، وكان يمكنها هي وآل بطليموس إيجاد قرطاجة جديدة قادرة على منافسة رومة، ولكن شيئا من هذا لم يقع. والحق أن أولئك الآل صاروا بيت ملك بعد موت الإسكندر وبعمل قائد، ولم يمكنهم أن يقاسوا بالرومان لا برا ولا بحرا، والحق أنهم قضوا بطالة نسبية في ثلاثة قرون شقت رومة فيها طريقا على رأس الأمم، وفي أكسيوم لم يقرر مصير حضارتين، بل قرر تملك مصر فقط. وقد تعقب أغسطس الزوجين
5
الفارين بأقصى ما يمكن من السرعة، وقد سقطت الإسكندرية بين يديه ثمرة ناضجة، ويمكنه بذلك أن يجلب قمح مصر إلى رومة مدة سبع سنين؛ أي سبع سنين سمان ينال فيها ربع مليون من الناس خبزهم مجانا، كما يمكن جميع شعب رومة أن يتغذى فيها.
ولم يحب الرومان منه أكثر من ذلك، ولكن من هو الذي كانوا يحبون؟ ومهما يكن من أمر فقد احتملوه زمنا طويلا بلا فتنة لما كان من حذره البالغ في أعماله، ومهما يكن من أمر فقد كان من غبطة الجمهور التعب من الفتن الداخلية أن يرى رجلا ممسكا دفة الدولة بيد متينة، ومهما يكن من أمر فقد كان يؤمل دوام نظام ملكي معتدل قد يقبض على زمامه خلفاء أكثر اقتدارا، وكان الشعب يسأل في نفسه: أليس هذا خيرا من أعضاء السنات المرتشين؟ وهل كان هؤلاء يستحقون أكثر من حق ضرب النقود النحاسية على حين كان القيصر يحتفظ بالذهب والفضة؟ ولم تنظم حكومة سابقة ألعابا حربية يمثل فيها ثلاثة آلاف أثني وفارسي معركة سلامين في ثلاثين سفينة على بحيرة مصنوعة، ولم يظهر رجل مثله تملق الجماهير بتنظيمه في الميدان مناظر يذبح فيها المجرمون تقليدا لمن قتل من مشاهير الرومان!
وكانت رومة مدينة قديمة مصنوعة من الآجر، فصارت في عهد أغسطس مصرا مبنيا من الرخام في الأماكن التي يجتمع الجمهور فيها على الأقل، ويبدو في وسط رومة، ذات نهار، قيام البانتيون الذي هو أروع المباني الرومانية حتى قبل إكماله، فتعبد آلهة رومة السبعة فيه بعدئذ، ويمكن أبناء العبيد وحفدة العبيد، ثم كل عبد عتيق، أن يصبح رومانيا ، وتزيد الولايات انتفاخا، وإذا ما ظهرت فضائح في آل الإمبراطور أذاعها مرجفو الرومان مكبرة.
ومن دواعي الدهش أن أغلقت أبواب معبد جانوس، وتمضي خمس عشرة سنة على قتل قيصر فيتم وارثه تحويل آخر بلد مستقل في منطقة البحر المتوسط إلى ولاية رومانية، ثم يستنبط درسا من مشاريع قيصر الفارسية فيعزم على حفظ السلم، وتقفل أبواب البرونز الكبرى ذات يوم رسمي من سنة 29 قبل الميلاد، فكان هذا دليلا على نهاية دور، فكان هذا نذير ختام الحروب التي دامت مائتي عام. حقا لقد أخبر العالم بالسلم شاب في الثلاثين من عمره ووفق لحفظها في داخل إمبراطوريته العالمية على الأقل لمدة ثلاث وأربعين سنة، حقا لقد تحقق طموح أغسطس، وساد «السلم الروماني».
وقد وسع أغسطس إمبراطوريته بالوعيد، لا بالحرب، فحصل على ما يدعى اليوم بالتيرول وعلى القسم الغربي من سويسرة وعلى ستيرية وشمال إسبانية، ثم ساد السلم والأمن في فواصل نادرة، وتحت سلطان واحد، فيما بين بريطانية والنيل، وفيما بين جبال درن وبادية الشام، وكان الخطر الوحيد يأتي من الشمال ومن الشرق حيث كان البرابرة يشنون غارات في بعض الأحيان، ووحد البحر المتوسط، الذي هو بحيرة هادئة، مع شواطئه وجزائره وموانئه أكثر من قبل ومن بعد، وظل موحدا ثلاثمائة سنة، ونقشت على النقود كلمة «السلم الشامل» التي كانت شعار أغسطس، ولاح طلوع الجيل الذهبي في الأفق.
وقد جاءت السلم مع النظام الإمبراطوري إذن، وقد ورث هذا النظام ما نالته الجمهورية في المعارك الضارية من السلطان، وقد عقب هذا النظام النظام الأول كالصيف الذي يعقب الربيع الزاخر بالزوابع، ولكن البذور كانت في فصل الربيع مع كل ذلك.
وإذا نظرنا إلى دوام كل نظام في رومة ثلاثة قرون وجدنا، من بعيد، أن الجمهورية كانت أكثر إنتاجا من النظام الإمبراطوري، ومع ذلك، ومع ما في الإمبراطورية الرومانية من غلو وضعف، أطلعت هذه الإمبراطورية بني الإنسان على إمكان دولة عالمية قامت تحت نظام ديمقراطي أن تدوم تحت نظام ملكي مطلق وأن تشمل ملايين الآدميين بحمايتها، ولم تبدع الإمبراطورية الرومانية حضارة أصلية، وكل ما فيه عظمة الرومان كان قد أنتج في العهد الجمهوري، وذلك من طرق ومبان وقانون وعظماء رجال.
وقد أسفرت دعاية الإمبراطور عن اختراع دور الفن الأغسطسي. أجل، كان الإمبراطور يود تقليد بركلس، ولكنه كان يعوزه، للوصول إلى ذلك، سوفوكل وأوريبيد وفيدياس وإختين وسقراط وهيرودوتس، وعظمة بركلس قبل كل شيء، ولم يتم عهده شيئا من الفن التمثيلي تقريبا، ولا يمثل تيت-ليف وبوليون وسترابون وكابيتو غير العلم، ويمكنك أن تعد أربعة من فحول الشعراء أيضا.
وكان أغسطس حاميا حقيقيا لفرجيل، وأراد أغسطس أن يعارض الأوذيسة بحماسية قومية فعهد إلى فرجيل في وضع الإنييد، وصار يسأل عن مبلغ ما يعمل منها في بعض الأحيان، ومع ذلك ظل هذا الأثر الشعري عمل تقليد، فإذا عدوت إيطالية لم تجد له صدى، وإذا عدوت دانتي لم تجد له قارئا موهوبا. وكان وفاء فرجيل لأغسطس، الذي أغناه، أمرا مفيدا لكل من هذين الرجلين، ومن المؤثر أن يعلم أن الشاعر أوصى بربع ثروته لإمبراطوره، ومن المحتمل أن كاد وداع الشاعر المحتضر، عائدا إلى منزله، لحاميه أروع منظر في حياة أغسطس الفاتر العاطل من العواطف.
وكان الشعراء الكبراء الثلاثة الآخرون، أوفيد وهوراس وكاتول معارضين للنظام الإمبراطوري، وما كان من غزل أوفيد أظرف للدولة التي ثبتت أصولها حديثا، وقد اتهم بمجاراة فضيحة وقعت في البلاط، ومن المحتمل أن كان سحر شعره هو الذي لوى رأس حفيدة الإمبراطور. والحق أن أوفيد كان يعرف، ككل شاعر حقيقي، أن يغذي أهواء قرائه، وقد منع أغسطس كتبه مع أنه كان يطالعها قرير العين، وقد نفي الشاعر ومات بعد حياة طويلة قاتمة على شاطئ البحر الأسود حيث أبعد.
وكان كاتول شاعرا غنائيا أكثر من أوفيد، وقد تغنى بالبحر وبالحياة البرية، وقد مات ابنا للثالثة والثلاثين من سنيه على بحيرة غارد تاركا للأعقاب قصائد غرام من أروع ما في اللغة اللاتينية.
وكان ابن العبد العتيق، والشرقي الدم على ما يحتمل، هوراس، قد حارب في شبابه أغسطس جنديا في الجيش الجمهوري ، وقد ترك البلد مع بروتوس بعد فليب فاقدا ملكه الأسري الصغير بذلك، وما كان من مغامرته السياسية الأولى، التي يمكن أن تؤدي إلى هلاكه، أخرجه من المجتمع حينا من الزمن، ويلوح أنه لم يسطع، بعد حين أيضا، أن يتغلب على بعض الخوف من الحياة العامة؛ وذلك لأنه لم يعاشر في سنين كثيرة برومة وما حولها غير الممثلين والمرابين والحلاقين، وأضف إلى هذا خجله واضطرابه عندما يظهر أمام الجمهور، وهو، وإن كان ذا موهبة فطرية في الهجو الاجتماعي، حافظ دوما على ضرب من خفة اللهجة لا يسيء معه إلى أحد.
وقد يكون العالم مدينا بهذه اللهجة الصافية في شعر هوراس لما مني به هذا الشاعر من حبوط في الميدان السياسي، فهو بعد أن دفعته الحوادث السياسية بجفاء لم يجد له ملجأ غير الشعر الرعائي، وما كان يصدر عنه في الحين بعد الحين من شرر تهكمي خبيث كان يسطع كالندى على بساط شعره الزاهر، ومما يدرك أيضا ما في وضعه من تقلب، فلما هوجم لعدم الأخلاق في أشعاره اتخذ لهجة خلقية من فوره، وما أكثر سعادته في عدم خروج بروتوس ظافرا من فليبي! ولولا هذا لغدا هوراس وزيره ولم يعش إلا لفرض المكوس على العطور الواردة من أنطاكية أو لتحديد الضريبة على البيوت المغلقة في الضفة اليسرى من نهر التيبر، ولو فتح ولاية جديدة أو صار إمبراطورا أو قهر الفرس لخسر العالم موسيقى أشعاره التي ظلت خالدة بعد جميع قواد عصره الذين نذكر منهم أغريبا الكبير أيضا، فما كان جمال اللغة اللاتينية ورقة العاشق ليجدا ما هو أروع من شعره:
ما دمت شاكرا لك
ولكن بما أن هوراس بقي شاعرا فقد اكتشفه فرجيل وقدمه إلى ميسين، وقد وهب هذا الأخير له عقارا صغيرا مع ثمانية عبيد فنال في مقابل هذا اسما خالدا أكثر شعبية من اسم الشاعر نفسه، ومن ذا الذي لا يعرف اسم ميسين؟! لقد شكر له هوراس ما صنع بأبيات رقيقة، ولم يعش بعده إلا قليلا.
وفي بيت ميسين لقي هوراس الإمبراطور.
عرف أغسطس العبقرية فيه، وحاول أن يجعل منه شاعرا متملقا، عارضا عليه منصب سكرتير في البلاط؛ أي مقاما ذا نفوذ وفاتحة للثراء، ويرفض هوراس ذلك، ومع ذلك يوافق على كتابة نشيد عن معركة أكسيوم التي لم تكن في الحقيقة غير قتال بين خلفاء قيصر المختلفين، ويتغنى هوراس بعد حين بما ناله أبناء الإمبراطور من انتصارات ويضع نشيدا للدور كله، فيمكن أن يقال مع التوكيد إنه صنع ذلك بأمر أغسطس، ويمكن أن تحذف هذه الأناشيد من أثره، وذلك كنشيدي النصر لبتهوفن وفاغنر. ولما وضع قصيدة في نهاية الأمر ملاشيا بقلمه كليوباترة التي هي عدوة الإمبراطور العظيمة صارت هذه القصيدة نشيدا سريا، وذلك لترجح واضعه بين الإعجاب بالبطلة والمناحي التي أوحي له بها، وكان على أغسطس أن يتبسم من ذلك لو كان يستطيع ذلك.
والحق أن أخلاق أغسطس كانت تجعله عاجزا عن نيل السعادة، وذلك على الرغم من انتصاراته الواسعة الكثيرة التي لم تتفق لأحد من أسلافه في منطقة البحر المتوسط. وقد كان هذا ثمنا للحياة الثنائية التي كان يقضيها، وقد كان هذا لتمثيله دور الخلقي ولتفويضه إلى خدمه اختبار جمال النساء اللائي كن يرقنه واستبار صحتهن، ولا ريب في أن الرجل الذي نفى الداعر أوفيد كان فاجرا، ومن الطبيعي أن كان يجد في آله ما يخفيه من العيوب، وقد اضطر إلى رفض ابنته التي كانت تقضي حياة فجور. وقد نشأت أحقاد وتبنيات ومآس عن دعوة الإمبراطور إلى خلافته واحدا بعد الآخر من الأبناء والأصهار والحفدة، ومع ما كان من محاولة الإمبراطور أن يوطد أمر ذريته كسر، كنابليون، قلب أقربائه ومن هم أعز الناس عليه، وقد ملأ الخوف والقلق نفس العاهل حتى موته حوالي الخامسة والسبعين من سنيه.
ولم تنجم تلك المشاعر عن مصاعب خلافته وحدها، بل كان أغسطس المحتضر ينظر إلى جبال الألب، فمن الجرمان كان يأتي الخطر، وفي زمن يسوع كان البحر المتوسط مهددا من الشمال للمرة الثالثة.
5
لم يكن معظم الأمم التي اجتذبها البحر المتوسط من الملاحين ، ويظهر أن الغوليين كانوا قبل ظهور الرومان قد وصلوا إلى شواطئ الجزر البريطانية بقوارب ذات أشرعة من جلد، ولكن الغوليين لم يغامروا في البحر المحيط، وأما الجرمان فكانوا بريين. وهذه الشعوب لم تجذب إلى عرض البحر إذن، وهي كانت تكتفي بالملاحة على طول السواحل، وما كانت أمم الشمال الغالبة لتتعود البحر حتى عصر النورمان، وهي لم تبق في الجنوب زمنا طويلا، وما الذي كان يجتذبها إذن؟ لقد كان عندها من الأرضين ما يكفي، وإن كانت تزعجها القبائل الآتية من الشرق.
والذي كانت تبحث عنه هو أن تصبح صاحبة لأرضين أحسن من تلك، وقد وصلت إلى جرمانية أسطورة الشواطئ الأكثر شمسا وخصبا والمملوءة حرارة تحت سماء زرقاء، وصلت إلى غابات البلوط والشجر المقطوع العقيم. وفي بلدهم؛ أي في البقاع الواقعة بين البحر البلطي وهنغارية الحاضرة؛ أي بين الفستولا والإلبه، لم ير بر ولا ثمار ولا كرمة، وقد زارها بوزيدونيوس حوالي سنة 90 قبل الميلاد فأضاف شرحا إلى وصفه البلد قائلا: كان يجب على أوميرس أن يذهب إلى هنالك ليصف الجحيم، وكانت شمس البحر المتوسط تلقي لونا ذهبيا جميلا على رخام معابد أثينة في ذلك العصر ومنذ ثلاثة قرون.
وكذلك كانت قد مرت ثلاثة قرون بين هجوم برينوس على رومة الصغيرة الناشئة وغارة الجرمان التي وقعت سنة 113 قبل الميلاد، وفي ذلك الحين تغدو رومة قاعدة فيستحوذ الذعر عليها، كما بعد ثلاثة قرون، لما ذاع من نبأ أتى من الشمال قائل إن جحفلا هائلا مؤلفا من البرابرة جاوز جبال الألب التي هي حصن طبيعي، ولم يكن ذلك جيشا، بل أمة، بل أمم بأسرها، جلبت معها نساءها وأولادها كما جلبت أدوات منزلية وخياما على عرباتها، وكان الرومان يسمون هؤلاء القوم ب «رجال لهم شعور الشيب»، وكان هذا هو تأثير شعورهم الشقر، وكان لهذا التأثير في مجموعه مثل تأثير الطوفان والزلزال والطاعون.
وكان طراز قتال هؤلاء الغرباء فاسدا ابتدائيا كطعامهم من اللحم الذي يأكلونه نيئا، وكان هذا الطراز وحشيا كأصوات نسائهم المعتصمات وراء العربات عندما يحرضن الرجال على النزال. وكان الرجال يحملون تروسا عالية علو الرجل ويتقلدون دبابيس وسيوفا طويلة فيتقدمون إلى المعركة مربوطا بعضهم ببعض بحبال، وكانوا ينقضون إلى الأمام ومن خلال البلاد والمعارك فيكتب النصر لهم على الدوام، وكانوا يذبحون أسراهم ويضحون بمن هم أكثر شبابا قرابين لآلهتهم، وكانت العجائز يجمعن دم هذه القرابين البشرية ويخبرن عن المستقبل بفحص أحشائها. وكان جميع هذا أمرا جديدا لدى الرومان وإن كانوا قد قاتلوا برابرة الشرق زمنا طويلا واقترفوا ضروب المظالم.
وكانت هذه الشعوب الجرمانية من سنبريين وتوتون (وهؤلاء التوتون هم أصل كلمة «الزعيم التوتوني» الحاضرة) قد تغافلت عن الزحف إلى رومة في أثناء غزوها الذي دام عشر سنين. وعلى العكس كان أولئك الأقوام يشاهدون مع الدهش في بلاد الغول وعلى طول نهر الرون ونهر السين وإلى ضفاف نهر الإيبر، وكانوا يستولون على الكروم فيحوطونها بعظام أسراهم محدثين منظرا أوحش من السياج الخشبي، وكانوا يرسلون بعد كل انتصار رسالات نصر إلى القنصل ضارعين إليه بكلام مؤثر أن يمنحهم أرضين قليلة، وكانوا، إذا ما بدئ بالمفاوضة، يهجمون على جيش العدو بغتة. وقد ذكر إسترابون ومؤرخون آخرون صدور هذه الحيلة وهذه الخيانة عن الجرمان. ولما غلبهم ماريوس بعد قتال دام ثمانية أعوام، أبصر كثيرا من النساء يقذفن أولادهن تحت العجل ويقتلن أنفسهن فرارا من السبي.
وذكرى هذا «الهول السنبري» التي تحولت إلى أسطورة نفرة في رومة، كانت إحدى العلل التي حفزت قيصر إلى احتلال بلاد الغول، وإذا استعملنا اللغة الحديثة وجدنا أن هذا يعني فتح إيطالية لفرنسة حتى تحمي نفسها من ألمانية. وقد هدد الجرمان فرنسة في القرن الأول قبل الميلاد لمثل الأسباب التي ظهرت بعد ألفي سنة؛ أي لكون فرنسة أغنى من ألمانية وأخصب منها. وكان الغوليون يجلبون منذ قرون ما يحتاجون إليه من الخمر والزيت من المستعمرات اليونانية في الريفيرا، وقد تعلموا من الرومان زراعة القمح وتربية الضأن. وقد ذهب قيصر إلى ما وراء الرين ثلاث مرات، ولكن لبضعة أسابيع فقط. وفي ذلك الحين زالت قبائل السلت التي كانت بين الرومان والجرمان، ولم تنشأ حصون الليم، التي هي ضرب من «خط ماجينو»، بين الأمتين إلا بعد ذلك بقرن واحد.
ولما وصل أغسطس إلى السلطة كان جاهلا للخلق الجرماني في أول الأمر، فعامل الجرمان باللين، فعد هؤلاء ذلك ضعفا، وقد منح بعض القبائل أرضين ومنافع، وقبل بعض أبناء الرؤساء في بلاطه حيث نال هؤلاء الوحوش، الشقر الشعور والزرق العيون والمفتولو السواعد، فوزا سريعا لدى النساء اللائي فقدن حس الاستيطاب، وصار الشعر الأشقر «على النمط التوتوني» موضة
6
في رومة فأخذت سيدات مجتمعها الراقي يجلبن من جرمانية خصلا مصنوعة. وكان الشاعر هوراس أبعد نظرا من الإمبراطور أغسطس الذي عد محيطا بالعالم، فقد تمنى لأغسطس نصرا على القبائل الجرمانية كأكبر فوز في حياته.
ومع ذلك فقد أفرط أغسطس في مراعاة الجرمان، وقد استخدمهم متطوعين في حرسه الخاص. ومما حدث في ليلة عاصفة أن سمعوا على بركان الإتنة، وحينما كانوا مادين تروسهم فوق الإمبراطور النائم، هديرا صادرا عن هذا الجبل، فساد أبناء الشمال هؤلاء هول قاتل، والمنظر رمزي، وهو يعبر عن أخلاق الجرمان الغرباء عن البحر المتوسط منذ الأزل، وها هم أولاء يسهرون على الإمبراطور الروماني النائم في إحدى جزر البحر المتوسط، وتزمجر قوى العناصر الطبيعية حولهم. وهكذا تتقهقر الدببة الشابة، التي لم تخفها أية زوبعة في غابتها المنيعة، أمام ذلك الذي لم يتعودوه والذي كانوا يودون حيازته. ومن المحتمل أن وجد بينهم في تلك الليلة من أبناء رؤساء الجرمان مربوت وأرمينيوس اللذان كانا يتجسسان بين حرس الإمبراطور لتسهل إبادة كتائبه في الغابة الألمانية بعدئذ!
والحق أن هذا هو الذي جعل سني أغسطس الأخيرة قاتمة، وأغسطس كان يرجو أن يتم عمل قيصر من جميع الوجوه، أو أن يقلد الرجل الذي ورث اسمه وسلطانه ومجده، وأغسطس قد حاول في مشيبه أن يفتح جرمانية حتى يجعل من نهر الإلبة ونهر الدانوب حدودا لرومة. وقد أراد أغسطس أن يقوي جميع المنطقة الواقعة فيما بين البحر الأسود وبحيرة جنيف، فأرسل أسطولا إلى البحر البلطي لإنزال كتائبه إلى البر، وهكذا يقضي 150 ألف رجل فصل الشتاء في الغابات الوحشية للمرة الأولى، ويخادع أرمينيوس الرومان في معسكر فاروس فيتنطس أدق الأمور. وما انتهى إلينا من التقارير عن معركة توتوبرجرفالد، التي وقعت في السنة التاسعة قبل الميلاد، قليل إلى الغاية؛ وذلك لأن الغالبين كانوا لا يعرفون الكتابة، ولأن المغلوبين لم يودوا تدوين ذلك. والواقع أنه لم ينج من الرومان غير القليل، ويضل الجيش الروماني الكبير في «ركن خامس» من أركان القرون القديمة، ويساق إلى بقعة مستنقعة بطرق ضيقة ضالة، وينتحر فاروس، ويصل رأسه المفصول عن جسده بلي عجيب إلى رومة بعد مروره من بوهيمية كما صار يسار بالغنائم المماثلة بين بزنطة وباريس فيما بعد.
ويهد خبر هذه الهزيمة الهائلة أغسطس، فلم يسطع أن يعيش من الزمن ما ينتقم فيه.
ولم يسيطر أحد، ولا إمبراطور، ولا بابا، على رومة زمنا طويلا كما سيطر أغسطس، ومع ذلك ساقه ضعف طبعه إلى اختيار سيئ قصير الأجل بين خلفائه ولمحاولته تأليف أول أسرة مالكة. ولم ينجم عن الأباطرة الأربعة الذين خلفوه في ال 55 سنة التي عقبت موته غير الإضرار بتراث أغسطس الكبير من غير أن يقضوا عليه. وقد جعلت زوجات هؤلاء المنحطين، أو ذوي الأخلاق المنحلة، هؤلاء الأزواج مشهورين، ومنهم ثلاثة هلكوا قتلا أو انتحارا، وهذا مع هلاك رابعهم وأمتعهم، طيبريوس، بالسوداء في العزلة، وقد ظل صيت إحدى أولئك الزوجات، مسالين، باقيا على الدهر، وما أكثر ما تقهقر النظام الجمهوري منذ زمن طويل فلم يكن له السلطان بعد موت قيصر لنصف قرن! ويموت كاليغولا فيبحث مجلس السنات طويلا في اختيار خلفه فلم يصبر الحرس الإمبراطوري على ذلك فأخرج من العزلة عالما مسنا مرتجفا مناديا به إمبراطورا باسم كلود.
وكان نيرون ذا مواهب كثيرة، وكان مع جرائمه الكثيرة أكثر جاذبية من وزيره سنيكا الذي كان يستند في مزاعمه إلى بعض المبادئ الخلقية. وكان هذا الفيلسوف، الذي يشي بالبخل والذي ترك ثروة تعدل عشرين مليون دولار، أنذل من مولاه، ومولاه هذا كان ذا مناح إنشائية على الأقل فبدأ حتى بحفر قناه كورنث.
وما يكتنف خاتمة نيرون من أحوال ينم على صفتين للخلق الروماني الشعبي، فتجد إحداهما بين الطبقات العليا، وتجد الأخرى بين الطبقات الدنيا. أجل، صفح مجلس السنات المحافظ عن سفكه الدماء وعن جرائمه وحرائقه، غير أن عرض نفسه مغنيا وممثلا في الاحتفالات العامة كان ذا وقع شديد على كرامة ذلك المجلس الذي يعلم عدم عطل هذا الإمبراطور المهرج من المواهب، وفي أثينة برئ المتهم سوفوكل، بتلاوته أثره الجديد إديب الملك، وقد أبدت فيرنه فتونها للقضاة فأطلقت. وعلى العكس كانت السلطات الرومانية تعاقب على ما يقدره الأغارقة كثيرا، تعاقب على الفن والقريحة والجمال، ولم يلبث الشعب الروماني الذي كان يستمسك بالمحسن إليه وقت الأزمة، أن ترك هذا المحسن عندما أبصر مركبا مشحونا بالرمل لميدان المصارعة بدلا من أن يجلب برا من مصر.
ولم ينل الفلافيون الذين خلفوا نيرون غير نصر واحد من الوجهة الإمبراطورية، وكان هذا فوزا فاجعا، فقد سقطت أورشليم في أيديهم، ومع ذلك لم يأتوا بما يوجه النظر، وكل ما يستحق الذكر هو أن التاج زين رأس أحد العوام للمرة الأولى في التاريخ. وكان الصيرفي السمين، فسبازيان، الذي امتاز ضابطا، يتلهى بالفكرة القائلة إنه سيمجد ذات يوم مثل إله، وكان مكارا كفلاح سمينا ثقيلا، فيشابه ستالين من بعض الوجوه، ويظل دونه لعدم ثقافته. وقد حظر كل فلسفة؛ لأن زعيم المعارضة في مجلس السنات كان زنونيا، وقد كشف، أيضا، عن خلقه بلفتة عاطفية نحو الشعب، وذلك عندما عرض عليه مخترع، ذات يوم، آلة تسهل شحن المواد الضرورية للمباني، فهو، وإن كافأ المخترع، طرح الاختراع جانبا مصرحا بأنه لا يريد نزع الخبز من الشعب.
ولم يكن خلفه تيطس خيرا منه قط، ويمتاز أخو تيطس، دوميسيان، باتخاذه تدبيرا مهما، بتضييقه نطاق زراعة الكرمة في إيطالية وتوسيعه نطاق زراعة القمح، وقد ظل هذا القانون نافذا مائتي عام.
ومن يقرأ أخبار عصاة اليهود الحمس ضد الرومان في عشرين سنة يدرك مدى ما مني به فسبازيان وتيطس من نوازل في المعارك التي وقعت بين الفريقين، وكان اللهيب القوي يحول الجمهورية الدينية الصغيرة إلى جيش يزعزع سلطان الإمبراطورية العالمية، ولما حاولت السلطة الحامية أن تصادر باسم الضرائب أموال المعابد لم يكن عجيبا اتحاد الشعب المقهور لطرد الغالبين. وكانت فلسطين في ذلك الحين تشتمل على يهود أكثر مما في كل زمن آخر، كانت تحتوي ثلاثة ملايين. وتتعاقب الفتن في فلسطين والإسكندرية إلى أن صار من الضروري بذل رومة مجهودا كبيرا، ويهلك في أثناء حصار أورشليم أربعون ألف يهودي ويؤسر من اليهود رجلان فقط، ويغدو هذا الرقم المحير محتمل الوقوع ما دام مصدره أحد الأسيرين، ما دام مصدره يوسف الذي كان حاكما يهوديا وصديقا لأباطرة الرومان، والذي كتب قصة تلك المعركة بعد زمن.
ومع ذلك يطلع يوم على البحر المتوسط بالغ من الأهمية في التاريخ ككل معركة حاسمة، وما أسفر عنه من تخريب يصبح خصيبا إلى الغاية بعد حين، وذلك أن بركان فيزوف دمر مدينتي بونبي وهركولانم في 24 من أغسطس سنة 79 قبل الميلاد، ولم يهلك ضحايا هذه الكارثة نتيجة طموح بعض الملوك، بل نتيجة هيجان العناصر، وإن شئت فقل إنهم هلكوا بيد الله، وقد فاضت أرواح الجميع في بضع دقائق كضحايا قنابل العدو التي ألقيت على لندن. ولما قام العلم المحب للاطلاع بالحفر بعد قرون كثيرة اكتشف مدينة متحجرة من مدن القرون القديمة مع بيوتها المملوءة بالأواني والتماثيل والصور الجدارية، ومما رئي فيها كلب بوغت بالنازلة حينما كان يلتفت ليحك نفسه، وفي أثناء هذه القارعة هلك العالم الطبيعي بليني حينما كان يدنو من بركان فيزوف لدراسة فورانه.
حقا كانت تلك الكارثة هائلة، وإذا ما فكرنا مع ذلك في أمر ملايين الآدميين الذين قتلوا عمدا، ومن غير غاية، منذ ذلك الحين لاح لنا أن الطبيعة ضحت بأهل بونبي عن قصد معين، وكل ما استطاع عصرنا أن يميط عنه اللثام لم يعد حد الأطلال، وفي بونبي وحدها تدفقت الحمم بغتة فحافظت على مظهر كامل من الحياة باسم حافل بالأسرار.
6
كانت النجوم تسطع فوق أثينة عند اجتماع الحكماء الشيب على تل آرس بالقرب من الأكروبول، وكانوا يجتمعون لتأليف محكمة روحية تقضي في أمر أجنبي يزعج الجمهور في السوق منذ زمن. وفي القصة أن مجمع الحكماء هذا كان يتألف منه ضرب من الشرف الذهني منذ القديم، واليوم، في العهد الروماني، يتمتع هذا المجمع باعتراف الدولة، وقد حدث هذا سنة 51 بعد الميلاد، وكان سقراط قد حوكم منذ أربعمائة سنة فحكم عليه في تلك المدينة من قبل محكمة أخرى.
وليس الرجل الذي تسأله المحكمة الآن متهما بجرم، وكان كل ما يطلبه الأغارقة من هذا الأجنبي يوضع في قالب محاضرة من الاستعلام الممزوج بالمجاملة؛ ولذلك ليرى هل يؤذن له في مخاطبة الجمهور. وكان الأجنبي يعرف أنه لا يحكم عليه بشرب السم، وإن كاد يرجم ذات مرة، وكان هذا الأجنبي دربا بالسجون والأغلال، فيشك في أن ينال جزاء آخر، وكل ما كان يعلمه في الحقيقة هو مذهب الناصري الأكبر منه سنا ببضع سنين فقط.
ويمضي على صلب يسوع عشرون عاما فلم تؤد تعاليمه إلى حماسة عامة، وإنما كانت توجب ضجيجا ومعارضة، وكان المؤمنون يجمعون في بيوت الفقراء واحدا بعد الآخر، ومن هو، إذن، ذلك الرجل البالغ من العمر خمسين سنة والأشيب اللحية واللابس حلة فيمد ذراعه اليمنى متخذا وضع خطيب روماني؟ كان ذلك الرجل بالغا من الجرأة ما يتكلم به عن إله الروح الجديد في وسط أثينة حيث السخرية والغطرسة وحيث كان الرواقيون والإبيقوريون المتخاصمون يرون أنهم أعلى من كل من يجرؤ على إنكار أمرهم. وعلى الرجل الذي يود أن يأتي بمذهب جديد أمام مجلس الحكماء أن يكون ذا عرفان وإقدام وإيمان وعزم، وأن يكون جامعا في شخصه لليهودي من الوجهة الدينية وللإغريقي من الوجهة الثقافية وللروماني من الوجهة العالمية.
كان ذلك هو الرسول بولس الذي هاجم في تلك الليلة أهل أثينة المرتابين، وفي الرسول بولس كان يجتمع - كما في قليل من رجال عصره - ثلاث صفات ذكرناها، وكان في دور حياته الصاعد بالأثر الذي يحدثه وبالتراث الذي ينقله، وكان يسير ليصير من أقوى رجال القرون القديمة، وهو قد ترك في التاريخ من الطابع الدائم ما يعدل أثر بركلس أو الإسكندر أو قيصر. وهو الرجل الذي أخذ يحول النصرانية التي هي مذهب يهودي إلى ديانة عالمية. وهو الذي كان بأصوله وعمله يجمع في شخصه أقوى اندفاعات اليهود واليونان والرومان، فيطرح قواعد النظام المسيطر على معظم شواطئ البحر المتوسط منذ ألفي عام، وهنالك شخص واحد فقط كان يمكنه أن يستفيد من المصائب التي جاوزها، وهذا النشاط الباهر هو الذي يميز أخلاق بولس من أخلاق جميع الرسل الآخرين. ولو كان هذا الروماني الصاحب لنفس دنيوية ابنا لوثني لصار عضوا في مجلس السنات أو نائب قنصل في إحدى الولايات، ولكنه كان ذا رسالة أعظم من ذلك يقوم بها. وقد ولد في طرسوس بآسية الصغرى؛ أي في هذه المدينة التي كانت مع الإسكندرية وأثينة مركزا للحضارة اليونانية، وقد نشأ في بلده وفي أورشليم جامعا للحكمة اليونانية واليهودية، وقد كان ابنا لحائك بسط فزاول صنعة أبيه، ولما بلغ الثلاثين من عمره عاد إلى أورشليم. وفي أورشليم ناهض بما أوتي من قوة فريسي ذلك المذهب الناشئ الصغير الذي هو مذهب هؤلاء اليهود النصارى الذين كانوا يعدون مثل المسيح نبيا متهوسا ويلقون الشبهات حول شريعة إسرائيل القاسية، ولما قبض الجمهور على أحدهم (أسطفان) لدعوته إلى مثل هذه المذاهب اتبع بولس الجمهور وأشار عليه برجم أسطفان. وهكذا يبدأ تاريخ رسولي يسوع بإنكار المعلم، بخيانة بطرس إياه وقتل بولس تلميذه، ويلتقي الرسولان بعد حين ويعترف كل منهما للآخر بأقتم ساعة في حياته، وهنالك لم يبق لهما غير الانتحار أو الإخلاص التام للمذهب الذي كانا قد أنكراه، وقد اختارا الأمر الثاني فكفرا عن كفرهما الأول بعد إخلاص ثلاثين سنة أو تزيد.
وكان بولس أعظم الاثنين بمراحل، وكان بطرس قد خان معلمه فبدا مجددا أضعف الاثنين في كفاحه المشهور المشترك مع بولس، وهو قد أذعن وأذن للوثنيين في الأكل حول مائدة واحدة مع اليهود، وهو لم يسطع أن ينال مكانه في الأسطورة مع مفاتيح الجنة إلا بسبب القول المشهور المأثور عن يسوع الذي كان كثير الثقة به، وما صدر عنه من إنكار ليسوع قبيل موته كان ذنبا عظيما، مع أنه يدرك أمر تعصب بولس الذي لم ير يسوع قط، ولم يكن لدى بطرس ذلك الاطلاع الواسع على العالم الذي يعد بولس مدينا له بكل شيء، ولا يعرف كبير شيء عن العمل الذي قام به بطرس في الإمبراطورية الرومانية، ويشك أكابر علماء اللاهوت حتى في ذهابه إلى رومة وصلبه. وفي الحقيقة كان يجب أن تدعى كنيسة القديس بطرس كنيسة القديس بولس، كما كان يجب أن يحمل التمثال الذي يقبل الحجاج قدمه البرونزية كتابا وسيفا بدلا من مفاتيح بطرس.
والواقع أنه كان لبولس صفتان: صفة العالم وصفة المقاتل، وينم أسلوب رسائله التي قام عليها مجده وتأليف هذه الرسائل على أنه كان يونانيا عظيم الثقافة، وقد تعرف أيام صباه في طرسوس بأستاذ أغسطس وصديقه أتنودور الطاعن في السن، ومن المحتمل أن سمعه أيضا يوضح أمام تلاميذه، وفي شارع ظليل على ضفاف البردان،
7
المذهب المشهور القائل: «عش مع الناس كما لو كان الله يراك، وخاطب الله كما لو كان الناس يسمعونك.»
ولكن بولس كان رومانيا أيضا، وهذا ما أنقذ حياته في أمرين خطرين على الخصوص، وقد كان له بهذه الصفة ملجأ رجولي ووقار طبيعي ألقى بهما حيرة في نفوس أكابر موظفي الإمبراطورية بعد زمن، وهدى بهما إلى كنيسته ألوف الرومان الذين ما كانوا ليوافقوا على بدع دينية كثيرة كتلك أتى بها غير روماني؛ أي ابن من شعب في المرتبة الدنيا، ولو كان لوقا الإنجيلي قد عرضه باسمه التام، كايوس جوليوس بولس أو سولوس، لأدرك الأعقاب أمره جيدا. وما فتئت رومة تجتذب بولس مدى حياته؛ لأنه كان رومانيا، وهو لما بلغ عاصمة العالم هذه بعد جهاد عشر سنين وجد فيها أوسع مجال لنشاطه. وهو لا يعد مؤسسا للكنيسة الرومانية؛ لأن رأسه قطع في رومة، بل لنشاطه فيها سنين كثيرة، وجهاده مدى حياته، لا شهادته، هو الذي جعل منه أبا للكنيسة الرومانية، وما كانت هذه الكنيسة لتقوم بغير رجل يرى العالم وطنا له، وما الوجه الذي اعتنق به النصرانية إلا من صفات الخلق الروماني، فبعد رجم أسطفان بزمن قليل ذهب بولس إلى دمشق راكبا فرسا لرجم أتباع يسوع الآخرين، وإنه لفي الطريق إذ يرى يسوع في منامه ذي الصبغة الرومانية، وكان بولس وأصحابه ركبانا، وفي قصصه، وفي مختلف الصور التي تمثل هذا المنظر، يعرض فارس يسقط، مع ضوضاء، من ظهر حصانه السائر ذات اليمين وذات الشمال، ويطرحه على الأرض سهم ملتهب، وذلك كما في الأساطير اليونانية القديمة حين أبدت زوس للآدميين، ولم ينشأ ذعره عن أحد الأرواح، بل عن قدرة علوية، وهو قد أذعن لعجزه عن قهر هذه القدرة بالسلاح.
وينتهي هذا المنظر الدرامي،
8
الذي لا ترى له نظيرا في الأناجيل، ببأس روماني، والواقع أن بولس جرؤ على الذي قهره، بدلا من أن ينتف شعره تائبا نادما طالبا غفرانا، فوضع هذا السؤال الرجولي: «وماذا علي أن أفعل؟» وضعاف النفوس وحدهم هم الذين يصفون بولس بالواهم، والأطباء وحدهم هم الذين يصفونه بالمصروع. وكان بولس رومانيا رجوليا فطرح عنه جميع عوامل الانحطاط القاتمة، وصار من أنصار يسوع منذ أصبح نصرانيا.
وعلى ما كان من دفع بولس إلى الزواج بطبيعته المذكرة والتقاليد الربانية ظل عزبا مع أن بطرس قد تزوج، ولم ينفك بولس يحاط بالأصدقاء، ولكن مع مشاجرتهم في الغالب، وهو، إذا لم ينكر أصدقاءه الثلاثة الذين هم خير أصدقائه، فإنه أقصاهم على الأقل. وقد كان جميع هذا، وقد كانت صداقاته وتعصبه الحاقد في فتائه وإرادته المرهوبة دوما، مظاهر لخلق قوي أعد ليسيطر، وهذا هو السر في كون بولس قد بقي غريبا عن الطبيعة التي كان يسوع قريبا منها، وبولس كان حضريا حقيقيا، وبولس قد ولد في طرسوس وكان سعيدا في أنطاكية وأفسوس وكورنث ثم في عاصمة العالم.
أجل، لم تقع مغامراته ضد العناصر الهائجة والحيوانات الضارية، ولكن وراء جدر الحصون حيث كان ينزل في زنبيل، أو في ساحة المعابد وفي المجالس حيث كان يعرف اجتناب الضربات والحجارة كمناضل ماهر. وكان يعيش، في جميع نشاطه، من كد يده عندما أصبح هذا أمرا ضروريا، حتى إنه في أواخر عمره كان يكسب عيشه حائكا للبسط والخيام، وهذا إلى أنه لم يبد من الزهو ما يبديه من هم أقل منه ثقافة.
وكان بولس سياسيا ودبلميا في وقت واحد مع تدرج في المهارة، وكان يونانيا حقيقيا من هذه الناحية، ولما أبصر في تلك الليلة وجوها مستقصية من قضاة أثينة ظهر أستاذا حقيقيا عندما افتتح محاضرته مشيرا إلى العالم اليوناني، قال بولس:
تتهمونني بأنني رسول آلهة أجنبية، وبأنني أريد إدخالها إليكم! أفلا تعلمون الأمر الذي عجبت منه أكثر من غيره في أثناء بطالاتي بمدينتكم؟ وجدت مذبحا مكتوبا عليه: هدية إلى إله مجهول. إذن، أنتم تقدسون لما لا تعرفون؟ وكيف! أوعلي أن أثبت لأهل المصر الذي أنجب بأفلاطون وجود هذا الإله العلي الذي هو أعلى من الآلهة الألنبية الهزيلة؟! أنتم تحبسون أصنامكم في حجيرات معابدكم، ولا صور للإله الحقيقي، ثم إنه ليس إلها لأمة واحدة كزوس وأتينة اللذين يزدريان كل من هو غير يوناني، يزدريان كل البرابرة. إن جميع الأمم من أصل واحد، وقد وضع الرب شرارة نور في جميع الأمم لتستطيع أن تبحث عنه، وانظروا إلى ذوي البصائر منكم، انظروا إلى أوميرس وفيثاغورس وبندار، وانظروا إلى أصحاب الآثار الجميلة من متفننيكم، تجدوهم قد بحثوا عن الرب.
ومع ذلك لم تكف مهارته لإنقاذ النصراني في بلد إغريقي، ويعتريه وجد في نهاية الأمر، فيلوم هؤلاء الحكماء على جهلهم وعدم تأملهم وعلى ضلالهم ويهددهم بيوم الحساب الذي دنا وقته، ويقول: «وإني، أنا الماثل أمامكم، قد رأيت بعيني ذلك الرجل الذي عينه الرب، وقد اضطهده قومه، وقضوا بقتله كما فعل أجدادكم بسقراط النبيل، بيد أن الرب أيده كما أيده رسالته فبعثه بعد موته!»
وهذا يجاوز الحد، ويضحك القضاة ويغادرون مقاعدهم، ويسر الأجنبي أن يصل في ذلك المساء إلى مسكنه الهزيل في حي الخزافين من غير عائق وأن يصل في الليلة القادمة إلى كورنث، ويغدو المنظر الذي وصفناه من أساطير البحر المتوسط الكبيرة، منظر رسول يسوع أمام مفكري أثينة!
ومع ذلك لم يكن الأغارقة هم الذين اضطهدوا هذا اليهودي في أثينة أو كورنث؛ أي في المدن الرومانية، وإنما اليهود أنفسهم هم الذين كافحوا ذلك المذهب الخطر كما كافحه بولس فيما مضى. وقد أريدت معالجة الفوضى في الكنيسة الجديدة فكان في المجلسين المجتمعين في أورشليم مثل للمجامع الدينية القادمة بما وقع فيهما من خصام أزلي حول الأشكال، ثم عهد إلى بولس، بين نقاش عاصف، في حمل رسالته إلى شواطئ البحر المتوسط، فصار سفيرا لحكومة غير موجودة، وذلك كما يحدث في أيامنا، ويقضي السنين ال 15 الأخيرة من حياته مثل سفير حر، ويسجن في مشيبه بأورشليم سنتين مكبلا، ويسلمه اليهود إلى الرومان كما فعلوا بيسوع نفسه، وما كان من تشابه بين وضعه ووضع معلمه يظهر أنه وكد عزم هذا التلميذ المتعصب. ويزعم أن الحبر قيافا، الذي كان رئيسا للمحكمة التي حكمت على يسوع، قد لاح مجددا لهذه المحكمة فأرسل بولس إلى السجن الروماني في قيصرية.
وأثبت بولس الروماني في حالين مقدار جذب رومة له على الرغم من شعوره بأنه سيموت فيها، ولما سوغ أمر نفسه أمام اليهودي المثقف أغريبا قال هذا الأخير ساخرا: «كان يمكننا أن نطلق هذا الرجل لو لم يرفع دعواه إلى قيصر برومة.» ويبرأ بولس فيجتذبه ملك أو عفريت إلى العاصمة حيث يحكم عليه بالموت قاض تعب من جميع تلك المنازعات على أن يقتل بالسيف؛ أي كما يعدم الرومان.
ويلوح أن بولس كان خبيرا بالملاحة، والواقع أن الإصحاح السابع والعشرين من «أعمال الرسل» يبديه منقذا سفينة من زوبعة هائلة حين اقترابها من مالطة، وقد كان راكبا هذه السفينة مع مسجونين آخرين لينقلوا إلى رومة، ويعد الوجه الذي احترم به هذا الرجل المكبل واستشير به رمزا إلى توادع المعتقدات اليونانية والمعتقدات النصرانية للعمل معا على تسكين العناصر الهائجة، وعندما صار الإله الخفي مرئيا بين البروق والعواصف ركع الجميع على عجل وصاروا يدعونه من أجل حياتهم.
7
قدرت محاسن النظام الملكي من قبل الديمقراطيات دوما، وقدرت مساوئه من قبل الملكيات دوما، وينزع في كل وقت إلى لوم شكل الحكومة القائمة، ويبالغ في تقدير الحكومة الجارة التي لا ترى معايبها من بعيد، ولو نظرت إلى الأمر منذ عهد الفراعنة حتى عهد آل هابسبرغ لوجدت كل بيت مالك قد أنعم على شعبه بالديمومة وقد أساء إلى شعبه بما أنتجه من الوارثين العاجزين الذين تعاقبوا السلطان مع آخرين مقتدرين أنجب بهم. وأحسن حل للمسألة هو أن يختار العاهل من يخلفه، وإذا حدث أن تبناه، وإذا حدث أن دعاه ابنا له، فإن الأمر يكون قد تقدم خطوة إلى الأمام، بيد أن تفضيل غريب قدير على ابن عاجز أمر يتطلب قوة نفس بحكم الطبيعة.
وتؤثر أفكار ودسائس تأثيرا مزعجا في خيار أغسطس الذي توقفت وراثة عرشه على بضع عشرة ضباط نادوا بإمبراطور جديد في معسكر وبثلاثة أباطرة مختلفين في ثلاثة معسكرات أحيانا. ثم نودي بعضو السنات، نرفا، إمبراطورا فسهل عليه أن يتبنى خلفا لعطله من ابن، ويتعاقب السلطان بعد ذلك أربعة أباطرة عن تبن، ويبدو هؤلاء أباطرة ممتازين لا ترى مثلهم في سلسلة الملك المتصلة الوراثية. وقد قبض على زمام الدولة الرومانية كل واحد من هؤلاء الأباطرة الأربعة بعد الآخر في ثلاثة أجيال؛ أي من تراجان إلى مارك أوريل؛ أي من سنة 98 إلى سنة 180، فظهر من الخير سابق تدرجهم إلى السلطان، وقد انقطعت منازعات الأحزاب والجيوش الشخصية التي كانت تؤدي إلى سنوات فتن، فصرت لا تبصر تمردا ولا اغتيالا.
وكان تراجان عارفا بالبحر، وتتجلى سجيته الإنشائية الجدية في الأشغال التي كان يأمر بها، ومنها مرافئ على البحر الأدرياتي وعلى نهر التيبر، وإصلاح القناة في السويس، وجسر نهر تاجه المشهور المعدود من الأوابد والقائم على ست قناطر تبلغ كل واحدة منها 85 قدما. ومما يوكد طبيعة تراجان العسكرية ما وقع من غزوات ضد الفرطانيين، فقد سار على أثر الإسكندر وبلغ المحيط الهندي، ولكن مع علمه كيف يعود في الوقت الملائم، وفي عهده يكون قد مضى على قيام الإمبراطورية الرومانية مائة سنة فبلغت أوج عظمتها. وكان هذا الروماني، المولود في إسبانية والذي هو أول إمبراطور من الولايات، ولوعا بالمطالعة، فيذكرنا ما كان بينه وبين بليني الشاب من رسائل بأعاظم ملوك القرن الثامن عشر، وقد شمل تاسيت وبلوتارك وبليني وجوفينال بعين رعايته فوضعوا آثارهم في عهده، على الخصوص، كما وضع يوحنا الإنجيلي. أجل، لم يبلغ عهده من الأبهة ما بلغه عهد أغسطس، غير أنه ينم على العصر الذهبي الحقيقي الذي امتزج فيه السلطان مع السلم فبلغا ذروتهما.
وكان تراجان جنديا حقيقيا، وكان ذا وجدان وحذر فتردد كثيرا قبل أن يتبنى خلفا له، قبل أن يتبنى أدريان الذي كان على النقيض منه بطبعه المتوقد وألمعيته. وكان أدريان أول من شجع على الالتحاء تقليدا لفلاسفة اليونان ودلالة على ميله إلى الحضارة اليونانية، وكان أدريان إسبانيا أيضا، وهو، على ما فيه من مزاج جندي، انتحل سياسة دفاعية وأنشأ حصونا ضد الجرمان والبريتان الذين كان لا يرى عمل شيء تجاههم. وهو قد كان عالميا في آرائه وفي فهمه أمر مختلف العروق، فاتخذ من التدابير ما يلائم العبيد. وهو قد استطاع أن يحفظ الأمن مع غرابته في بعض الأحيان، وهو قد جهز الجيش بإلهة جديدة، جهزه بالنظام. وهو قد قضى نصف عهده في الأسفار، فكانت أثينة محل إقامته المفضل؛ حيث توحي بقايا معبده عند سفح الأكروبول في أيامنا بمنظر ذي طابع يوناني، وهو قد نقش على ناحية من باب منزله الجديد بتلك المدينة قوله: «هنا أثينة، مدينة تيزه القديمة»، كما نقش على الناحية الأخرى: «هنا مدينة أدريان، لا مدينة تيزه.» وهو قد وسع نطاق التبني مشترطا على خلفه أن يتبنى بدوره ابن أخ نابغة له.
وكان ابن الأخ هذا غلاما وسيما حنونا جديا مغامرا بالغا من العمر سبع عشرة سنة، وكان اسمه مارك أوريل، ويجعل أنتونن التقي ابن أخيه الغلام الطالب قريبا منه، ويسفر ذلك عن تعاون بين الإمبراطور ووارثه يندر وقوعه في الأسر المالكة التي تهزها الدسائس ، ولم تمس تلك الصلات العجيبة بأي كدر مدة ثلاث وعشرين سنة حتى بزواج الفتى بابنة عمه. وقد حافظ صاحبا ذينك الطبعين الكريمين، في الخارج، على السلم التي تجمع بينهما؛ ولذا كان من الإصابة قول أحد الخطباء: «ليست الإمبراطورية غير بلد واحد.» ولما أصيب أنتونن بالحمى قريبا من العاصمة، واضطجع على سرير موته، لم يكن حارس الليل ليعرفه فسأله عن كلمة السر، فكان جوابه؛ أي آخر كلمة نطق بها الإمبراطور: «الإنصاف».
وكان مارك أوريل في الأربعين من عمره حينما صار إمبراطورا، ولكنه كان له في ثماني سنين أخ بالتبني فاسد فاحتمله صابرا، ومع أنه كان فيلسوفا طبيعة وتربية وبيئة فإنه كان نشيطا بمزاجه وأكثر استعدادا لتحمل المسئولية وللجلوس على العرش من معظم أمراء القرون القديمة. والواقع أن المذهب الذي يدعو إلى صفاء الروح قد اعتنق من قبل صاحب نفس صافية مصادفة، ومن قول رينان عدم اشتقاق ديانته من عرق أو عقيدة، وإنما كانت مظهرا لخلق عميق، وقد وضع مارك أوريل السؤال الآتي: أويمكن التوفيق بين الحكمة والحقيقة؟
ومن المحتمل أن تعلم الاعتدال والاتزان من تربيته الطويلة كأمير فعرف قدره بما قام به من أعمال في أثنائها، ولم يكن فن الحكم غريبا عنه، والمسئولية وحدها هي التي كانت جديدة عليه. وكان مارك أوريل قد درس، في زمن طويل وبنشاط، مبادئ الأخلاق والنظم ورومة وولاياتها وأمراء الإمبراطورية، التابعين وأعداءها ومطاليب الجماهير والطبقات الموسرة والدولة والرجال على العموم، فاستطاع إذن، أن يبدأ عهده سيدا من فوره، وإلا صعب إيضاح ما بين الأفكار والأعمال، وبين العزم والتأمل، من توازن يدل عليه عهده الذي دام عشرين عاما.
ولا ننسى أن جميع هؤلاء الأباطرة كانوا طغاة جبابرة من الطراز القديم فيكترثون لنيل الحظوة لدى الشعب والجيش أكثر مما لمنافقي السنات والقناصل، وأكثر من ذلك ميلهم إلى الحكم المطلق وسيرهم مع الأهواء وولعهم بالنساء وحبهم للزهو والانتقام.
ولا ينم تمثال مارك أوريل النصفي حين شبابه على زاهد أو حكيم، بل يدل على خيالي، ويعرضه تمثال الكابيتول رجلا ملتحيا متزنا حازما. ومن ينظر إلى الوجه الذي كان يرى به الواجب، فتلقاه من حفيد لبلوتارك، وإلى صفائه وعزمه وحذره، يجد كل ذلك مبادئ بادية في كتاباته، وقد سيرته هذه المبادئ قائدا كما سيرته قطبا سياسيا مع تذكيرها إياه بأنه فيلسوف.
ومن يود إدراك اتحاد الفكر والعمل في مارك أوريل فليتمثل ذوي المناحي الفلسفية من الأمراء، فليتمثل فردريك الكبير مثلا، ليرى أن هذا العاهل كان يفرق بين عالم الفيلسوف وعالم رئيس الدولة، فيخصص ساعة فراغ لدراسة الحكمة كما يخصص ساعة للموسيقى من غير أن يدع هذا ينفذ في غرفة عمل الملك. وعلى العكس، كان الروماني كالبروتستاني راغبا كل يوم في نيل عفو من السماء عن كل عمل يأتيه، وهو لم يكن تعبا أو فاقد الصبر قط، ومن المحتمل أنه لم يكن ملتهبا غيظا قط. ويلوح أن القدر كان يريد ابتلاءه؛ وذلك لأن عهده فتح بالحرائق والطاعون والفيضانات والزلازل والاغتيالات؛ ولأن عهده دام مع الحروب الطويلة، ومن ذلك أن قبائل جرمانية أتت من منابع نهر الدانوب وتقدمت مرة أخرى فاضطر الإمبراطور إلى القتال عدة سنين في كارنسية والتيرول وصربية، ومن ذلك ما كان عليه أن يكافحه من فتن اليهود والمصريين والفرطانيين ثم الغوليين، وقد نصر في معظم معاركه.
وكل شيء يصبح مصدر تأمل له، ولم يقتصد في أمر اقتصاده في وقته، فكان، إذا ما اضطر إلى حضور الألعاب في الميدان الإمبراطوري، يجعل من يقرأ له بصوت خافت أو يقيد أمورا بنفسه. وليس لدينا من الوثائق ما يركن إليه عن حياته الزوجية مع فوستين التي كانت دونه سنا بدرجات، ومن الصعب تفريق ما بين لغط البلاط والأحاديث الصحيحة تاريخا، ويظهر أن الزوجة كانت على نقيض زوجها، الذي أنجبت له بأحد عشر ولدا، بوجهها المختال الطريف العصري، ومن المحتمل أن كانت مغامراتها الغرامية نتيجة اختلافات كاذبة، وأما زوجها الإمبراطور فلم تعرف له مغامرة.
وظهر مارك أوريل خصما للنصرانية لأسباب كثيرة، وأهمها شعوره بأنه روماني تماما، وكان رومانيا أكثر من جميع الأباطرة بعد قيصر على ما يحتمل. وكان يجهل الانتقام كقيصر، ومن ذلك أن أحد القواد رفع راية العصيان ونادى بنفسه إمبراطورا معارضا مارك أوريل بذلك، فلما مات التمس من مجلس السنات أن يلاطف زوجه وأولاده، ولما أحضرت إليه رسائل القائد المغلوب ألقاها في النار من غير أن يقرأها.
ومع ذلك فقد مات مارك أوريل ابنا للثامنة والخمسين من سنيه، وذلك في المعركة بفينة على ما يحتمل، وذلك بعدما أبدى ضعفا غريبا، وذلك أنه رجع إلى مبادئ العرش الوراثي مع أنه أبصر وقوع التبني الحر مرتين. وعلى الرغم من كونه فيلسوفا ورجل واجب مغضيا عن أخلاق ابنه كومود، وتقطع بهذا الأخير تلك السلسلة التي أحكم صنعها عظماء الأباطرة.
وكان كومود صورة مصغرة عن نيرون، فأمر بنقش صورته في الرخام على نمط هركول فنال بها مظهر برجوازي ذاهب إلى حفلة رقص مقنعة، وكان يحب المصارعة كالمسايف ويحب ذبح بقر الماء في الملعب، وأخيرا خنق في حمامه من قبل سائس خيله. ثم يلعن مجلس السنات ابن الرجل الذي كان يؤلهه والذي وضع أهل رومة تمثاله النصفي بالقرب من آلهتهم المنزلية، وتعود المنازعات الهوج بين مرشحي مختلف الفرق والأحزاب، ويختار أباطرة القرن الثالث والقرن الرابع من صغار الضباط ومن القتلة ومن ذوي الخنزوانة
9
الذين شادوا مباني فخمة أو أدخلوا عبادات آلهة أجنبية مع خمريات جنسية، ويموت كل واحد منهم مقتولا من قبل الآخر، ولم يمت أي واحد منهم على فراشه! وعاد لا يبحث في مسألة التبني، وعاد لا يذكر احتمال تمرد مجلس السنات، وعلى العكس بلغ جنون العرش الوراثي من الشدة في مائتي سنة ما صار يختار معه أبناء الأخ والأخت وأبناء الإمبراطورات الذين ولدوا من أول فراش بدلا من انتخاب رجال مقتدرين.
ولم يكن أفول الأباطرة غير رمز للوضع العام، ومن يدرس منطقة البحر المتوسط؛ أي الإمبراطورية الرومانية، في ذلك الزمن الذي كانت تبدو فيه علامات العيش البالغ الغنى؛ أي الانحطاط، يقض العجب من تعاقب الجبابرة الذين عانت الإمبراطورية خنزوانتهم أقل مما يقضيه من اختيار أربعة أباطرة لقيمتهم في القرن الثاني؛ أي في أثناء تلك الفترة، وأدعى من ذلك إلى العجب قوة سجية مارك أوريل، وذلك عند النظر إلى ما كان يقدمه المجتمع الروماني من المغريات في ذلك العصر.
8
يمكن تشبيه الإمبراطورية الرومانية في ذلك الدور بتلك الكنائس المبنية على طراز غريب غير منتظم حيث يؤدي الجلال الفاتر والخارج الزاهر إلى إعجاب الزائر بما حققه الإنسان أكثر من إعمال باله بالله. وكان هذا البناء العظيم الذي أقامه أكابر مهندسي الدولة، وإن شئت فقل مهندسي المجتمع البشري، مركزا ساطعا يمكن ألوف الناس أن يجتمعوا تحت قبته، كما تحت قبة كنيسة القديس بطرس، وأن يتمتعوا بالحماية المعروضة الناشئة عن تنفيذ تصميم المهندس الرائع. وكان من يود العيش في الإمبراطورية الرومانية يجد فيها كل شيء، يجد السلام والنظام والأمن والكرامة، وذلك من دون الرب الذي كان يتوارى، كما في كنيسة القديس بطرس، تحت الكتل القوية التي رفعت تمجيدا له، والرب قد ترك الأفئدة ومناظر الروح الهادئة وتحجر في الذهب والرخام، ولم يبق منه شيء سوى طبع متجبر وصورة عدل.
ومع ذلك لم يزل المعتقد والجمال والحكمة أمورا حية في الإمبراطورية الرومانية في ذلك الحين، وذلك أن هذه الأمور كانت تشع من شفق العصر اليوناني الذي لا حد له في نور العالم الروماني البارد. وكان كل ما يضفي لونا على إمبراطورية عالم البحر المتوسط الموحدة لا يزال يصدر، بعد ستة قرون أو ثمانية قرون، عن تلك الأمة الصغيرة الجزرية المقسمة التي نقلت الفن والأدب إلى سادة العالم الجدد. وكان كل من الرومان والنصارى الذين ترانا مدينين لهم بكثير من الأشكال والأفكار وارثين للأغارقة. أجل، إن كل ما نحوزه من جمال وخير يأتي من البحر المتوسط الأزرق لا من شهبة
10
الشمال، غير أن البحر المتوسط اقتبس هذا التراث من اليونان.
وكانت الإمبراطورية الرومانية بناء باردا ثقيلا، وكان يعيش ضمن حدودها ستون مليونا، وقيل ثمانون مليونا، من الآدميين، فيسودها نظام جليل، ويشعر كل واحد فيها بأنه مستعمر ثم وطني روماني، وكنت في كل مكان تجد أبناء رومة، تجدهم على الرين والدانوب وعلى شواطئ الدردنيل. وكان عدد سكان كل من أفسوس وإزمير وفرغامس يزيد على مائة ألف شخص، وكان يسكن الإسكندرية مليون إنسان، وكان يسكن رومة مليونا إنسان. وكان أكثر البقاع كثافة سكان هو القسم الساحلي الذي مال إلى الانحطاط منذ زمن طويل، هو شمال أفريقية، وهنالك، بين تركية والأطلنطي، بلغ عدد الرومان عشرين مليونا.
وكان كل شيء يصور ويرسم بروح قومية رومانية؛ وذلك لأن أغسطس هجر مشاريع سلفه العالمية وفتح باب سياسة قومية بدلا من خطط الإسكندر وقيصر الشاملة. وقد خلد بناءون من الرومان عبقرية أمتهم في قناطر قنواتهم الفخمة التي تنقل ماء الجبال البعيدة إلى المدن، ومما يثير عجبنا تلك القناطر المهمة التي تقطع الأرياف لعدة كيلومترات في نيم ومرسيلية وشقوبية وأماكن أخرى من شواطئ البحر المتوسط. وكان يصل رومة بجبال الألب وبزنطة وأثينة طرق لم يعرفها غير عالم القرون القديمة، فكانت تمكن من التجارة مع الهند والصين وإن عبدت لمقاصد عسكرية. وكان جميع هذه الطرق ذا صوى
11
رمادية اللون دالة على حدود كيلومترية رومانية صغيرة. وكان يوجد على طول هذه الطرق فنادق قذرة لا ريب؛ وذلك لأن الأغنياء كانوا لا ينزلون بها، وإنما كانوا يجلبون في عربتهم خيمة ليقضوا الليلة فيها كما يصنع ذلك مسافرونا في «عطلة آخر الأسبوع»، وما كان الفقير الشريف ليستطيع السياحة، فقد وصف المؤرخون تلك الفنادق بأنها كانت آهلة باللصوص والقوادين ومروضي الحيوانات؛ أي بزبن أكثر لفتا من زبن فنادقنا.
وقد نظم البريد الروماني على مثال البريد الفارسي فأصبح نظاما نموذجيا في نهاية الأمر، وكان كل شيء لدى الأغارقة يسير سريعا غير منظم كما لدى فرنسي زماننا، ويذكر هيرودوتس بردا بالغة السرعة، ولكنك لا تجد أحدا يذكر انتظام وسائل النقل. وقيصر هو أول من أدخل نظام منازل الجند ومرابط الخيل على مسافات منتظمة، ولم تلبث أن صرت تبصر مرور عربات ذات أربع عجل في أيام معينة، وصارت الخيل تغير في كل خمسة وعشرين كيلومترا، وأصبح من الواجب على الفلاحين أن يعيروا خيلهم في دور الحصاد ليمكن البريد السريع ورسائل الإمبراطور ديوكليسيان أن ينقلا إلى الولايات الرومانية، ومن العبيد من كان يجب عليهم أن يقطعوا في اليوم الواحد أربعين ميلا، أو ستين ميلا عقوبة، فينجم عن هذا وهنهم أو موتهم في الطريق فلا تصل الرسائل إلى محالها.
وكانت الرسائل السرية تخبأ في هيكل أرنب مبقور، ومما كان يحدث أن يكتب شيء على رأس عبد بعد أن يحلق، ثم ينبت الشعر، فما على المرسل إليه إلا أن يحلقه ثانية، وكانت هذه وسيلة أمينة ولكنها بطيئة.
وما كانت تنطوي عليه تلك الإمبراطورية العالمية من حركة دائمة بادية للمتأمل أعرب عنه العالم الكنسي ترتوليان في عبارات تستحق أن تكتب سنة 1939 بعد الميلاد، لا سنة 200 بعد الميلاد، فقد قال: «يصبح العالم أكثر ثراء وثقافة يوما بعد يوم، وتفتح الطرق للتجارة، وتغدو الصحارى خصيبة، وتحول الغابات إلى حقول بذر، وتجفف المناقع، ولا تخشى المواشي ضواري الحيوان، ولا توحي جزيرة ولا صخرة بالهول، ففي كل مكان ترى بيوتا وشعوبا، وفي كل مكان ترى حياة.»
ولم يمكن قيام النظام الذي امتدح في تلك الجمل إلا بفضل أداة حكومية تصلح نموذجا لغيرها فتئول إلينا كما آل القانون الروماني إلى قوانيننا. وكان كل شيء قد نظم ورقم ووضع ضمن منهاج، حتى إن المذهب الرواقي الذي هو من الفلسفة اليونانية قد تحول إلى مذهب روماني، وقد وحدت النقود والأوزان والمقاييس والدراهم في جميع الإمبراطورية، وقد وزعت الحنطة والمواد الأولية بإنصاف. وإذا نظر إلى أن البحر المتوسط كان يعني الإمبراطورية الرومانية في ذلك الزمن وأن هذه الإمبراطورية كانت تمثل جميع العالم الغربي تقريبا، أمكننا أن نبصر إمكان تحقيق وحدة أوروبة كما نتمناه في هذه الأيام.
ولا بد من أن يؤدي ذلك إلى زيادة سلطان الولايات، وكان الأباطرة يتيحون لها إمكان الازدهار ضمن «السلم الروماني». وقد خلف تراجان، وهو الإمبراطور الأول الذي كان من الولايات فدخل رومة الحائرة، أباطرة آخرون من أمم كانت معادية فيما مضى، وبما أن الأباطرة كانوا لا يبالون بالوجه الذي يطاعون به فإنهم كانوا يضحون بالعنجهية الرومانية في سبيل سلامتهم الخاصة ومقتضيات خزينتهم. ولما منح كاليغولا جميع رعاياه صفة الروماني، مثلا، صنع ذلك فرضا لضريبة إمبراطورية خاصة؛ ولذا يكون الشعار القائل: «إن جميع الناس إخوة» قد دوى لأول مرة وصولا إلى إصلاح ميزانية الدولة. وكان الأباطرة محتاجين إلى مال كثير من أجل جنودهم، وهم قد تحول حبهم عن الجماهير إلى المرتزقة من الجنود بعد أن صاروا ينتخبون به من قبل الجيش لا من قبل الشعب.
وكانت الإمبراطورية الرومانية مؤلفة من اثنتين وعشرين ولاية منذ عهد أغسطس فتمتد، مع الدول التابعة، من اسكتلندة إلى جبال درن، ومن القفقاس إلى أسوان، ومع ذلك لم تكن هذه الولايات لتقضي ما تحتاج إليه رومة المترفة التي لا يروى لها غليل. وقد أحصى بليني الملايين التي أسرفها القوم ثمنا لما كانوا يدخلونه من حرير الصين وحلي الهند وأبازير العرب، ومع ذلك كان معظم الثروة القومية يبقى داخل الإمبراطورية، ولا سيما بعد أن فتح أغسطس مصر التي كانت من أغنى بلاد البحر المتوسط، ولم يكن الرومان ليدخلوا القمح فقط، بل كانوا أيضا يستوردون المصنوعات الزجاجية والنسائج والغرانيت والرخام الأبيض والبزلت والأدوات البرونزية والآلات الموسيقية، وذلك إلى ما كان من إرسال ولاية آسية، المشتملة على آسية الصغرى تقريبا، برا وصوفا ومحاصيل صناعية ما دام يسكن هذا البلد التجاري الكبير حفدة الفنيقيين والأغارقة الماهرون على الدوام. ومما حدث أن رجلا من أرباب الصناعة في أفروجية جعل من ينقش على حجر قبره أنه دار حول رأس متابان اثنتين وسبعين مرة، وذلك ليذهب إلى إيطالية، وذلك كتجار أوروبة الذين يتوجهون إلى ما وراء الأطلنطي مراهنين على أيهم قد قام بأسفار طويلة في البحر غالبا.
وكانت المدينة الكبيرة الزاهية، أنطاكية، الواقعة في مكان ممتاز حول إسكندرونة، ترسل أنواع السلع الثمينة إلى رومة، وكانت تغتني مقدارا فمقدارا فتجتذب إليها حتى نقد الدولة وتغدو ألمع مدينة في الإمبراطورية حينا من الزمن. وكانت أروقة شارعها الرئيس تمتد ثلاثة فراسخ حفظا للمتنزهين من الشمس والمطر، وكانت تشتمل من الحمامات الرخامية الساخنة ما يضمن ضروب المتع. وكانت حدائقها العامة تحتوي من المياه الفوارة مثل ما في فرساي، وكانت شوارعها المهمة تنار ليلا مثل رومة، وما كان فيها من تشخيص مضحك ورقص إيمائي وخليلات سوريات كن يسمين عازفات المزهر يجعل منها بخارست القرون القديمة. ثم يؤدي طيشها إلى خرابها، وذلك أن ملك الفرس وصل إليها في القرن السادس ليفاوض أهلها فيتسور هؤلاء المتاريس ويسخرون منه، ويغضب الملك ويحاصر المصر ويستولي عليه ويبيع جميع سكانه عبيدا، ويجمد المقطع الأخير من الأغنية التي سخروا بها من الملك على شفاههم.
وكانت أنطاكية قد أشرفت على شفا الخطر من جميع الوجوه، وذلك لسوء مينائها ولكون مهندسيها أقل صلاحا من المشخصين فيها.
وكانت الإسكندرية تزدهر في طرف البحر المتوسط الجنوبي الشرقي في الوقت نفسه، ولكن على شكل آخر، وكانت كأنطاكية مركزا تجاريا يطفح بالمال، وكانت كأنطاكية تقوم بخدمة رومة النهامة، وكان أهلها من الساخرين الأراجين،
12
وكانت الثقافة اليونانية تتجمع فيها بأشد مما في أثينة التي غدت مدينة من الولايات. وكانت عوامل مجد الإسكندرية؛ أي الأكاديمية والمكتبة والمتحف، قد أنشئت في عهد البطالمة الأولين الذين هم من قواد الإسكندر الشبه المتبربرين. وقد بلغ علم التاريخ والجغرافية في الإسكندرية مستوى لا ريب في سموه، وقد أنجبت الإسكندرية بأكابر الأطباء لما كان من السماح بتشريح الأبدان. وفي الإسكندرية كان يدرس أقليدس، وفيها حسب إراتوستين أبعاد الأرض فانتهى إلى نتائج لا نزال نقول بها في أيامنا تقريبا، وفيها أنشأ هارون أول آلة بخارية، وفيها جمعت مجلدات من صحف البردي، وفيها صنفت آثار أوميرس تصنيفا انتقاديا للمرة الأولى، وهنالك، على جزيرة قريبة من الإسكندرية، ترجم العلماء الاثنا عشر الأسطوريون كتاب التوراة إلى لغة أوميرس التي هي لغة نصف الإمبراطورية الرومانية.
ولم يكن العرفان أمرا جديدا على التجار الأغنياء، وكانت تلك المدينة تعين أعضاء مجمعها العلمي، وذلك لعلمها أن الفلكيين ينقلون اكتشافاتهم إلى الملاحين، وهكذا نال ربابنة الإسكندرية شهرة عالمية ووفق المهندسون لتنظيم فروع النيل تنظيما جديدا. وقد أدت تجارب المجمع الفنية إلى نماذج جديدة للسفن، ومن ذلك أن كان لأعظم سفن القرون القديمة؛ أي لسفينة «إيزس» ذات الصواري الثلاث، من الطول ستة وخمسون مترا ومن العرض اثنا عشر مترا، وإذا عدوت باريس، على ما يحتمل، لم تجد مدينة اتفق لها في أوج ازدهارها من اجتماع الروح والغنى والفن والصنعة معا في مستوى عال كما اتفق للإسكندرية.
وتجد سبب ذلك في كون الإسكندرية أكثر يونانية من جميع المدن الأخرى وفي بقائها كذلك زمنا طويلا، أجل، كان خلفاء الإسكندر الأولون يودون تمثيل دور الفراعنة، غير أن دستور الدولة ولسانها لم يكونا مصريين ولا لاتينيين، بل كانا يونانيين، وكان أول البطالمة مؤسسا لهذا المركز الثقافي، ولا ريب في أنه أدام فيه من التقاليد ما كان أرسطو قد سنه في البلاط المقدوني من أجل الإسكندر.
وكانت بلاد اليونان أكثر ما يطلب نيل الحظوة منه من بين جميع الولايات الرومانية، وكانت جميع طبقات المجتمع الروماني تبجل أم حضارتها في كل دور. وكان الأباطرة يتسابقون في بذل الجهود لجعل الأغارقة ينسون ما يشعرون به من ألم بسبب تخريب كورنث، ورأى يوليوس قيصر أن يكفر عن جرم أجداده بإقامته قبل موته بزمن قليل كورنثا جديدة لتكون عاصمة، وقبض أغسطس على ناصية بلاد اليونان بعد حرب دامت ستين سنة ومع وضع بالغ الخطورة فحولها إلى ولاية أكايي، وفي هذه البلاد بدأ بالطريق التي زحفت منها جيوش الرومان إلى بزنطة بعد زمن. والطرق الرومانية هي الطرق الصالحة الوحيدة التي عرفتها بلاد اليونان في ألفي سنة، وبهذه الطرق كان يعرب عن شكر رومة الوضيع تجاه صنيع أثينة الذي لا حد لخيره وفضله، ورومة هي التي لم تعرف غير التفكير في تعبيد الطرق وسن القوانين.
ومع ذلك كان الأغارقة قد نسوا ما هي الحرية في عهد نيرون الذي كان يظن نفسه شاعرا؛ أي سليل الأغارقة الروحي، فحاول أن يفوق أغسطس بأن يعيد إلى ولاية أكايي استقلالها، واضطر فسبازيان إلى إعادة تمثال هذا البلد التابع ، ثم وحد أدريان جميع الأغارقة محدثا بذلك وحدة لم يستطيعوا نيلها حتى في زمن عظمتهم.
وذلك يحمل على التفكير في أمر ابن السبعين سنة الذي يتزوج مؤخرا خليلته المملوءة فتاء، والواقع أن أثينة ظلت فقيرة على ما بذل لها من تكريم، ويا للرمز في قيام دخل الأغارقة على إصدار الرخام والأرجوان؛ أي على إنتاج ما هو نفيس! وكان يستعطى في البيرة أكثر مما في أيامنا! وكانت البلاد ترجع القهقرى من كل ناحية، حتى من حيث عدد السكان، وقد قص جد بلوتارك على حفيده هذا كيف ألزمه أنطونيوس مع أبناء وطنه بحمل آخر وسق من القمح على ظهورهم لعدم الخيل والعبيد، وذلك إلى الميناء وحتى مراكب الجنود، وعلى العكس حمل قيصر على توزيع الحبوب في أثناء تلك الحروب بين الأغارقة الجياع، وينم ذانك الأمران على ما بين الطبعين من تفاوت.
واستولت قبائل جرمانية وحشية على بلاد اليونان في القرن الثالث، وكان هذا سنة 269، وكانت سنة هول، وقد ظلت هذه السنة قائمة في ذاكرة الإنسانية كما ستظل سنة 1940 ماثلة في ذاكرة الأجيال القادمة. نعم، سطع نجم المجمع العلمي بأثينة مرة أخرى في القرن الرابع، غير أن أثينة نفسها لم تكن حرة، وقد دام سلطان رومة عليها بين سنة 300 قبل الميلاد وسنة 300 بعد الميلاد، ثم سيطرت عليها بزنطة خمسة عشر قرنا، فبذلك تراها عبدت من قبل دول وأمم دونها مرتبة مدة ألفي سنة. ولكنك إذا نظرت إلى كل ما هو غريب عن أرض اليونان لم تجد نفعا في غير اثنين، في البرتقال الذي جاءها من آسية في القرن الحادي عشر، وفي العنب الذي أدخل إليها من إزمير في القرن السادس عشر.
9
المال والقوة المسلحة هما العاملان اللذان كانت تعتمد عليهما الإمبراطورية الرومانية، وقد تضاف الملاحة إليهما أيضا، غير أن هذا العامل كان يتوقف على المال تماما. وكان لا يسافر بين نوفمبر ومارس بحرا؛ أي بعد انقضاء فصل القرصنة الكبير، وعلى العكس كانت الأسفار سريعة في الصيف فيقطع بين نابل وكورنث في خمسة أيام عند ملاءمة الوقت، وكان يقطع ما بين رودس والإسكندرية في ثلاثة أيام، ويقطع ما بين مسينة والإسكندرية في ستة أيام. ويروي ديودورس خبر سياح في عصر يسوع كانوا يقطعون ما بين بحر آزوف ومصر، أي ما بين أبرد منطقة وأحر منطقة في أربعة وعشرين يوما. والشرر الكهربي، لا البخار، هو الذي حول الوزن العالمي، وبما أنه كان لا يوجد سفن ركاب، وبما أنه كان لا يوجد غير قليل من المراكب التجارية المعدة لقبول السياح، فقد كانت هذه السفن غاصة في الغالب، فمما قصه الرسول بولس مثلا أنه سافر إلى الإسكندرية مع 276 راكبا.
ولكن ما أكثر ما كانت تجلبه تلك المراكب إلى المخازن الكبرى في رومة! كانت تجلب إليها قطاع وجبن من بلاد الغول وبريتانية، وجبن من جبال الألب السويسرية، وتن من كلسيدونية، ومحار من تارانت، وسمك من الرين والموزل والدانوب، وكان الزجر
13
يأتي من البنطش في قلله، وكان الخرشوف يرد من قرطاجة والعدس من مصر والإجاص من سورية والمشمش من أرمينية والدراق من فارس، وكانت الخمر تصل من كل مكان، وكان لراح بوردو حق الحفظ في مخزن خاص بالميناء منذ القرن الثالث، وكان قيصر يوزع الزيت القائم مقام الصابون في الحمامات العامة مجانا، ومما كان يرد أيضا ملح المناجم والينابيع والصوف من إسبانية والجلود والفراء من الشمال والثياب الأرجوانية والأحذية الذهبية من فنيقية في كل وقت كما قبل ألف سنة. وقد بلغ النقد من قوة الشراء ما كان ثمن الحمل معه نصف دولار وما كان ثمن كل أربع لترات من الخمر معه سنتا، وعند الفيلسوف المليوني سنيكا أنه كان يمكن الفيلسوف أن يعيش بأربعة سنتات في كل يوم، وتدلنا هذه الأثمان على عظم رواتب الجنود، فقد كان راتب الجندي نحو مائة دولار في كل سنة، وكان الإمبراطور إذا ما رد الجندي إلى بلده يعطيه ألف دولار فضلا عن ذلك. وكان في دور الانحطاط يرى في الكتيبة أحيانا طهاة ومشخصون أكثر من الجنود. وكان يمكن العبيد أن يشروا حريتهم بعد خدمة طويلة تحت السلاح، وأن يغتنوا فيتملقهم الأشراف مع ازدرائهم في الوقت نفسه، وكثيرون من هؤلاء من تزوجوا بنات من الأشراف كما يفعل أغنياء اليهود في زماننا، ويروى أن العبد بلاس الذي أعتق قد جعل العلماء الخضع يضعون شجرة نسب له فجعلوه سليل ملوك الإغريق.
وتتجلى درجة انحطاط الرومان في أمرين قاطعين كما في كل مكان، تتجلى في الرشوة والرق.
ومن المحتمل أن كان من الإصابة قول كاتون صارخا: «ماذا يحدث لرومة إذا لم يبق من الدول ما تخافه؟» حتى إن الربا أخذ يظهر في زمنه، ومن ذلك أن بعضهم نال من الفوائد 48 في المائة في سنين كثيرة فاستطاع أن يشري لقب فارس في رومة، ومن ذلك أن شركة مغفلة في عهد سيلا أقرضت الجمهورية الرومانية ثلاثين مليون دولار فطالبتها بأن تدفع 150 مليونا بعد عشر سنين، ومن ذلك أن أقرض الشريف بروتوس مدينة سلامين بفائدة 48 في المائة، وبلغ هذا التعامل في عهد الأباطرة، كما في الأزمنة الحديثة، مبلغا ينزع معه ملك الزراع المدينين وتنهب معه مستعمرات وتشن معه غارات تجارية وتقام معه أسواق نخاسة، إلا أن المال الزائد كان لا يوظف ثانية وإنما كان يسرف في النفائس فيصبح البرطيل السياسي أمرا لا مفر منه لقضاء حياة زاهية.
وكان يمكن أغنى الناس أن يبتاع الجمهورية منذ زمن قيصر أيضا، وكانت الحكومة الثلاثية تصادر أموال خصومها، ومثل المرابي كراسوس في تلك الأعمال دورا كبيرا، وبلغ ما وهبه قيصر لكل واحد من العوام خمسة وعشرين دولارا فضلا عن القمح والزيت؛ أي ما يعدل في الوقت الحاضر هدية ألف دولار تقدمها الحكومة إلى كل واحد من أبناء الوطن. وكانت النقود الفضية تعد للشعب، وكانت النقود الذهبية تعد للكتائب، وكانت وفود الولايات التي تأتي إلى رومة للمفاوضة في مقدار الجزية السنوية تبرطل أعضاء مجلس السنات، فلما دفع سبيون «حلوانه» إلى الخزينة الحربية عد رجلا غريب الأطوار. وفي الغالب كان يستدعى وكلاء القناصل الذين يقومون في ولاياتهم بأحكام القانون قياما وثيقا؛ وذلك لأنه كان من العادة أن يستوفي القنصل من الولاية؛ أي من الوكيل في السنة الثانية، نفقات انتخابه لمنصب القنصلية الرفيع الشأن، فيكري، في سبيل هذا الغرض، بعض الملتزمين حق جباية ضرائب من الولاية فيجمع هؤلاء الملتزمون تلك الضرائب ضعفين لحسابه الخاص.
وفي الإمبراطورية زاد الرق، الذي كانت تستند إليه جميع الدول القديمة، وفق محط
14
أعلى من زيادة السكان. وكان الرق يناقض أدبيا، وعلى وجه يقف النظر، ذلك المجتمع الروماني البالغ الغنى والليان والذي لا عهد لأثينة به في الدور الكلاسي.
15
وكان الملايين من العبيد الرومان يجمعون من أبناء البلاد المقهورة، وكان معدلهم الثقافي المتوسط على النقيض من ثمنهم. وكان في الغالب يوجد في منازل الرومان الجديدة عدة مئات من العبيد ليسوا من الخدم والطهاة والأجراء فقط، بل من المربين والموسيقيين والأطباء أيضا. وكان للأسير اليوناني أن يبتسم غالبا عندما يرى مستوى سادته الثقافي المنحط، وقد يسمع فيلسوف شاب صيرفيا يتكلم حول مائدة! وهو، مع وقوفه خلف كرسي مولاه، يفكر لا ريب في أبيه الذي لم يحتفظ ببعض العبيد إلا عن ولع بالفلسفة.
وقديما كان لا يضطر إلى عمال إلا لصيانة البيت والحديقة، وأما في هذا الدور فقد أخذت المعاهد الرومانية الكبرى تستخدم عمالا بأجور ضئيلة لمزاحمة العبيد، شأن «فقراء البيض» في جنوب الولايات المتحدة، وكان يمكن تسريح هؤلاء العمال في فصل الشتاء على حين كان يجب إطعام العبيد وتشغيلهم في صنع النسج الصوفية والأواني الخزفية. ومن فائدة رأس المال إيقاد نار حروب جديدة يتسع بها نطاق الديون ويهبط بها ثمن العبيد، ومن الواقع أن من نتائج الفتوح الموفقة إمكان اشتراء العبد بمبلغ كان يترجح بين أربعة دولارات وثمانية دولارات بدلا من الثمن المعتاد الذي كان يترجح بين 25 دولارا ومائة دولار، وذلك على حين كان يدفع مائة دولار ثمنا للجواد. ومع الثمن هبطت حرمة الحياة البشرية والكرامة الإنسانية أيضا، فكان يدعى العبيد ب «الآلات الناطقة» في مقابل الآلات الصامتة، وكان أكثر من يرغب فيهم من الناس على الرغم من رقهم هم الحسان الشرقيات البارعات في أمور الغرام والعبيد الماهرون في إعداد السموم أو العارفون برسم الصور الداعرة على جدر رداه طعام الأغنياء.
وكان الحصفاء وحدهم، هم الذين يبصرون، كما في زماننا، عدم دوام الأمور على ما هي عليه زمنا طويلا، فمع أن بوليون كان يقذف العبد ليصير طعمة للسلور
16
في حوضه عقابا له على كسره إناء بلوريا، كان أدريان يحاول إصلاح حال العبيد، وكان بليني يمتدح حكمتهم؛ لأن رئيسهم سبارتاكوس حظر عليهم لبس الذهب والفضة في محلتهم.
ولم تطفأ فتنة العبيد التي قادها سبارتاكوس إلا بعد عامين. وكان أحسن الأغنياء في حال نفسية من العدمية فيبحثون عن عقائد جديدة ولو جلبت ضرا إلى ثروتهم، وفي الغالب تقع حوادث مماثلة أيام الانقلابات الذهنية، وأحدث الأمثلة ما نراه من وضع بعض الأغنياء الملائم للبلشفية. وهكذا لاحت النصرانية في شفق الآلهة، لا كمفاجأة، بل كإكمال لأمر شعر به منذ زمن طويل وشغل بال الأذكياء كما شغل الأفئدة المملوءة وجدا.
ومن دواعي الحيرة أن النصرانية لم تتخذ وضعا عدائيا ولا ثوريا ضد الدولة، ومع ذلك فقد كان لها أكبر الفوائد من معارضتها الدولة. والواقع أن النصارى لم يضطهدوا على مقياس واسع في القرنين الأولين من الميلاد، وما كان من شهادة بعض الأشخاص وجه الأنظار إليهم. وبينما كانت الدياميس
17
والموت ببراثن الضواري يثيران فضول الشعب وحنانه، كان عدد الكنائس يزيد في ذينك القرنين على مرأى الحكومة والأباطرة فزاد على أربعين في رومة وحدها، وذلك إلى أن الكنيسة وكدت منذ البداءة زعمها في السلطة على وجه لا يخالف الحكومة، ولكن مع محاولة نزع سلطانها من النفوس. وكان الرسل الأولون، وهم من ذوي الجد، يعرفون الاستفادة من الطموح الديني لتأليف جمعية موحدة وتحويل اللحن إلى سنفونية، فصاروا يعملون بما عندهم من مواهب المنظمين وعزم الزعماء الثوريين الحقيقيين، وهم على ما ليس لديهم من نية تنظيم ثورة كان حب السلطان يخامر نفوس الأساقفة الأولين أكثر من مخامرته نفوس كهنة طيبة ودلف.
وبدت النصرانية قوة غضة في عالم تعب وصاحبة مبدأ حديث الصوغ على الأقل إن لم يكن جديدا، مثبتة للناظرين الحائرين كيف يمكن فلسفة قديمة أن تتحول إلى ديانة جديدة، وتحاول أحدث السلطتين، الكنيسة والدولة، أن تحالف أقدمهما، وعلى العكس تتخذ أقدمهما وضعا سلبيا، وذلك لتقرير ما يتخذ من التدابير على الأرجح، وما الذي يمكن أن يخيف الأباطرة؟ نرى أنه كان على الأباطرة أن يرحبوا بذلك الميل فرحين لاستبعاد خشيتهم من حلف دولي، وهو الفزع الذي يجعل كثيرا من رجالنا السياسيين لا إكليروكيين، وهنالك لم يكن غير إمبراطورية واحدة، وهنالك أصبح اتحاد أممها الكثيرة شغل رومة الحقيقي.
ولهذا السبب نظر في البداءة إلى النصارى بأحسن مما نظر إلى اليهود الذين كانوا يعدون أنفسهم شعبا مختارا ذا دين قومي بالغ من الزهو ما يزعم معه أنه وحده هو الدين الصحيح. بيد أن ما كان من قدرة اليهود على ملاءمة غيرهم ومن شكران قيصر وتقاليده ومن حكمة اليهود في عدم إعلان عقيدة الشعب المختار أينما كانوا أمور أدت إلى تسكين الأباطرة. والواقع أن اليهود كانوا ذوي نفوذ غريب، وقد جعل تفرقهم انتشار النصرانية السريع بفعل النصارى الأولين أمرا ممكنا، ودليل ذلك ما ينطوي عليه تصريح عالم الكنيسة ترتوليان من معنى يعد بعد سبعة عشر قرنا جديدا في أيامنا، قال ترتوليان: «لقد انتشرت النصرانية تحت ظل الدين اليهودي.»
وكانت المعاهد الفلسفية، التي تذكر في ذلك العصر بعالم أفلاطون أكثر مما تذكر في الوقت الحاضر، تسهل دخول النصرانية في ذلك العالم الحديث.
ويوجد في برلين نقش خشبي يرجع إلى القرن الرابع فتبصر الرسول فيه جالسا بالقرب من يسوع مشابها لسقراط، وترى بين فسيفساء رافين مسيحا أمرد له ملامح شاب روماني شريف. ولم يجد الأباطرة الأربعة العظام الذين نالوا تربية فلسفية ما يعترضون به على النصرانية من هذه الناحية، وإذا كان مارك أوريل قد بدا عدوا للنصارى فإنه فعل ذلك قطبا سياسيا رومانيا، ومهما يكن من أمر فإن وضعه تجاه النصارى كان وضع متملص تقريبا.
وقد استقر الأساقفة الأولون بكبريات المدن مع الحذر، استقروا بأنطاكية وقرطاجة وكورنث، للاستفادة من النظم التي كانت موجودة. وقد اضطهد النصارى في أفسوس، فكان ما أبدي نحوهم من عداء صادرا عن الصواغ الغضاب كما في الروايات الهزلية، وذلك لما طرأ على بيوع التماثيل والأشعرة من نقص منذ ظهور النصرانية.
وأضيف إلى العناصر الثلاثة (الإخلاص والفلسفة والدراية) عنصر رابع؛ ضمانا لفوز النصرانية الناشئة، والعنصر الرابع هذا هو الإيمان الذي يبذره الدين الجديد في نفوس البائسين، هو الأمل الذي يمن به على المضطهدين، هو السلوان الذي يلقيه في قلوب الفقراء ... وليس مجهولا أن كانت الإمبراطورية الرومانية تشتمل على كتائب من البائسين أكثر من اشتمالها على كتائب من الجنود؛ ولذا تجمع تلاميذ يسوع وأنصاره الأولون في جميع الإمبراطورية الرومانية، لا في بلاد الجليل وحدها، وذلك من السائلين والعمال والفلاحين والعجائز والفقراء والأميين الذين كانت الأناجيل ترن في آذانهم كالموسيقى الخالصة في أثناء التبشير. وفي البداءة كان الموسرون من أبناء الوطن يسخرون من مذهب الفقراء الجديد هذا الذي يعنى بالمرضى والبرص. وبما أن النصارى الأولين كانوا من الصعاليك، لا من المثقفين، فإن المصادر التاريخية عن بدء النصرانية قليلة إلى الغاية، والحق أن النصارى الأولين كانوا يعرفون أحيانا صوغ الكلام دون الكتابة، ولم يعتنق النصرانية في قرونها الأولى غير قليل من الأغنياء والشرفاء.
ولنتمثل كراما
18
من «كنبانية» وخزافا من فرغامس وحمالا من الإسكندرية وراعيا من رودس وبعض الصباغين والطهاة والحلاقين المقيمين بأحياء وراء الميدان الروماني المعروف بالفوروم، أولم يكن على هؤلاء الناس أن يبدوا راضين كالسعرى أو ضاحكين خفية حين سماعهم لوقا يرسل الفقير عازر إلى الجنة ويرسل جاره الغني إلى النار، لا لأن هذا الغني قد اقترف إثما، بل لأنه تمتع بأمواله في هذه الحياة الدنيا؟ أولم تقض الضرورة بأن يطبقوا على أنفسهم قول الأنبياء الجدد: «الويل لكم أيها الأغنياء؛ لأنكم نلتم عزاءكم، الويل لكم أيها المشبعون، فإنكم ستجوعون!»
وعندما كان الأغنياء يقرءون هذه النصوص ويعربون عن ذعرهم، كان الأساقفة الماكرون يحملون إنجيل متى الذي يعرف إظهار جميع ذلك بلياقة واحتشام. وكان أغنياء ذلك العصر يودون أن ينالوا ضمانا من كل ناحية فينيطون قرارهم بأغرب الطوالع، ومن ذلك أن تسابق حصان روماني وثني وحصان النصراني مارناس فسبقه حصان هذا النصراني فرضي كثير من الحضور أن يتعمدوا.
وبلغ العالم الوثني من الخرافية ما فتن معه المبدأ القائل بالآخرة، والذي بشر به بحرارة، كثيرا من الناس. وما كان النصارى الأولون ليبدوا في وقت أكثر من ذلك ملاءمة لأنفسهم وللقرون القديمة، وما كان من عمومية مناحيهم أنقذ الحياة المشتركة حول البحر المتوسط في عصر كادت تنحل فيه. ولو وجد الجرمان، الذين أغاروا على الإمبراطورية مرة أخرى في القرن الرابع، رومة وثنية ما لاقوا أقل مقاومة لتداعي حضارة القرون القديمة.
لقد هرمت رومة القوية العظمى، ومع أنها كانت تمطل سبحة مستعمراتها الساحلية في كل قرن صرت ترى اليوم تناقص هذه المستعمرات مقدارا فمقدارا، ولا صورة أكثر تأثيرا في النفس، حول ميل سلطان رومة إلى الزوال، من تقدم الصحراء المستمر على طول سواحل آسية الصغرى وشمال أفريقية منذ القرن الرابع لما ينطوي عليه هذا من تهديد العالم.
ومع ذلك كان الوضع التاريخي يكرر وفق منطق باهر، ومما حدث منذ خمسة قرون أن أجيرت حضارة اليونان الآفلة من قبل دولة رومة الفتية الباغية، واليوم تلقف النصرانية الصاعدة هذه الحضارة اليونانية من أيدي رومة التعبة، ولم يقم الرومان ولا النصارى بعمل في عالم البحر المتوسط القديم أعظم من إنقاذ حضارة اليونان.
10
أخذت غابات شواطئ البحر المتوسط تزول، ولهذه الظاهرة الألفية أسباب كثيرة، ولم تكن النصرانية غير واحد من هذه الأسباب. وكانت القرون القديمة قد حافظت على هذه الغياض المقدسة، وكان الكهان ينظمون ذلك ولكن مع الاستناد إلى عوامل صحية أيضا، وكانت الحكمة والفن أكثر صفاء في الأزمنة الأولى وأقرب إلى الآلهة والعناصر. وكان الناس يعرفون أن الغابات في الجبال تجعل الهواء أعظم رطوبة وتزيد المطر نزولا، وعلى العكس كان شعور اليهود والنصارى نحو الطبيعة يختلط بعبادة الرب الخفي فلا يدارون الغاب.
وكان من المحظور في سورية في قرون كثيرة أن تجاوز غابة أرز وأن تقطع أشجارها . وكانت توجد في إيطالية، الأقل خضرة في زمن الرومان مما في زمن الإتروريين، أجزاء كثيرة الغاب أيام المسيح، وعن صقلية كتب ديودرس قوله الجميل: «إن بساط الأزهار في الغابة كان من الكثافة والرائحة العطرة ما كانت الكلاب السلوقية تضيع معه أثر الطريدة.» وكان حس الطبيعة في الأمة يظل حيا على الرغم من كل شيء، فحفظت غابات مقدسة حتى القرون الوسطى، واليوم أيضا يمكن أن ترى على جبل أتوس شجرة سرو غرسها رهبان بزنطيون سنة 859، وحفظ نابليون بالقرب من سوما في لنباردية شجرة سرو قديمة أخرى تثني طريق سينبلون؛ لأن سلفه قيصر كان قد شاهدها على ما يحتمل.
وقد حفظ أروع مصير لشجرة السرو التي غرسها زرادشت في خراسان قبل الميلاد بستة قرون على ما يحتمل، ولم يزل يوجد لأشجار السرو في ذلك الزمن تيجان من فروع عريضة، ثم استطالت شيئا فشيئا وتعودت نورا أشد شعاعا. ولما فتح العرب فارس حوالي سنة 1000 أمر أحد الخلفاء بقطع الشجرة المقدسة فنقلت إلى بغداد على ملاسات
19
مقطعة الساق مع حمل 1300 جمل لأغصانها، فاستفظع الشعب ذلك وقتل الخليفة. ولا ترى بين جميع أنواع القتل والاغتيالات، التي أصيب بها ملوك أقوياء للبحر المتوسط في ألفي سنة، ما انتقم به من عمل تعصب بمثل ذلك الطراز الدرامي الباهر حول شجرة غرسها مؤسس ديانة أجنبية منذ خمسة عشر قرنا. ولم تكن الأديان التي ظهرت في الصحراء ذات رفق بالأشجار مع أن برابرة الشمال كانوا يعبدونها، والأغارقة وحدهم هم الذين كانوا يحترمون الطبيعة من غير أن يكونوا من البرابرة.
ومع ذلك فإن حبهم للمغامرات والتجارة واجتذاب البحر لهم قد حفزاهم مؤخرا إلى قطع شجر الغاب في سواحلهم كما حفز ملاحين آخرين. وما بين البر والبحر من صراع؛ أي ما بين أيدي الناس من اصطراع العناصر الفاجع، كان يعطي البحر ما يؤخذ من البر؛ أي إنه ينتفع بالخشب في صنع السفن، وما كان يمكن نقل ذلك الخشب من داخل البرور إلى الساحل، وذلك لعطل الأنهار، المتوسطة بين العنصرين، من الماء في الغالب، ويا لعيب الدائرة في كون الجفاف يزيد كلما قلت الغابات! وكان القرطاجيون أول من ضحوا بالظل والخضل
20
في شواطئهم لإنشاء أسطول، وهم إذ كانوا يبحثون عن فوائد جديدة باستمرار فإنهم كانوا يضحون بما هو قريب مؤكد في سبيل غايات بعيدة غير مؤكدة.
وقد نسيت أثينة أمر مستقبلها عندما جردت غاباتها كما نسيت أمريكة بعد زمن طويل، ومن الرمز قطع الأثنيين لغاب جزرهم حتى ينشئوا أسطولا ضد سرقوسة ما دام زهوهم القومي يقودهم إلى دمارهم، والواقع أنه قضي على أمل الأغارقة في سيادة العالم في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد بسبب قطع الغاب ذلك على ما يحتمل. واليوم لا تزال غابة سيلا في قلورية من الشواذ والرموز؛ وذلك لأن الغابات القديمة هنالك، بجوار كوزنزه، وعلى بعد 1200 ميل من المدن الكثيرة الأشغال، وحيث لا يستطيع أحد أخذ شجر، تظل سليمة دوما فيحفظ بعضها بعضا منعمة على التراب بالخصب، وما فتئ الطلاينة يجلبون خشبهم من الدانوب ومقدونية وبنطش حتى زمن متأخر.
وكل نظام للري في بلاد البحر المتوسط ذو صلة وثيقة بقطع الغاب ذلك مع اختلاف بين بلد وآخر. وتشتمل إيطالية على غاب قليل وحجر كثير، ومن ثم كان قيام القرى في إيطالية بالقرب من المحاجر، وذلك مع تفضيل السفح على السهل؛ وذلك لأن أمر الملايين من الناس يتوقف على ماء المطر الذي يجمع في صهاريج أو على السطوح. وفن إنشاء الأحواض أساسي في إسبانية، ويهدف هذا الفن إلى توزيع الماء توزيعا متساويا كما يهدف إلى طريقة جديدة في رصف التراب، وقد انتشر هذا الفن في شواطئ كثيرة من شواطئ البحر المتوسط، وقد أنقذت إيطالية الحجرية الجافة بفضله في زمن زادت فيه كثافة السكان، وقد أعطت الأرض التي بللت بلا مصنوعا بالقرب من ملشيا 37 حبة في مقابل الحبة الملقاة فيها، وقد أعطت حديقة البرتقال البالغة من المساحة هكتارا والمروية ريا مصنوعا بالقرب من بلنسية عشرة آلاف دولار. ومن يسافر من خلال لنباردية، من هذا البلد الذي زرعه قيصر بالأرز، يدرك بسهولة كيف أن الناس يتصورون إصلاحا جديدا في الأرض الفقيرة فقرا طبيعيا فيزيد فقرها هذا بسبب نقص السكان.
ومن الأمم من انتهت إلى الكمال في علم الري حين مكافحتها العناصر وعند مقاومتها أهواءها الخاصة. ومن ذوي الطبائع الفردية من هم مفعمون بالمتناقضات فاستنبطوا من ضعفهم وسائل دفاع وبلغوا من إنماء هذه الوسائل ما يتخذون معه نماذج لذوي الطبائع الأكثر موهبة.
وبما أن زيادة قطع الغاب من سواحل البحر المتوسط قد حملت السكان على تمثل علم للمياه مختلف عن النظم القديمة التي ينتفع بها في وادي النيل، فإن من الممكن، عند آخر تحليل، أن يرد فن الري إلى قطع الغاب ذلك.
11
تم حادث مهم حاسم، اتسع نطاق استيلاء البرابرة على شواطئ البحر المتوسط في ثلاثة قرون، ومن المتعذر أن يناط ذلك ببضع معارك وببعض التواريخ، كما يتعذر عزو ما يسمى سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى مثل هذه العلل. والحق أن الإمبراطوريات لا تبيد إلا نادرا وأن الأمم لا تفنى أبدا وإنما تختلط بأمم أخرى، والحق أن الرومان واليهود، والهنود أيضا، لم يزولوا، وإنما امتزجت الأمم الغالبة بالأمم المغلوبة مستغرقة آدميين وتقاليد مجاوزة دور انتقال تدريجي حيث يسجل المؤرخ بدء العهد الجديد راسما خطا أفقيا، وليس في غير الحياة الروحية ما ترى للمبدأ الجديد تأثيرا مبتكرا من فوره. أجل، يمكن دماغ عالم وحده، يمكن دماغ شاعر وحده، أن يبرز سقوط جيل وقيام جيل آخر، ولكنك لا ترى فاتحا، أو رحيل شعب، يستطيع صنع ذلك.
وقد غاب بسرعة عظيمة كل ما حاوله القوط والوندال والفرنج وقبائل الألمان والهياطلة
21
واللنبار بالتعاقب، أو عن تنافس، لفتح البحر المتوسط، ولم تزل الأمم التي قهروها قط، وبما أن الغزاة لم يأتوا بشيء معهم تقريبا، وبما أنهم انتحلوا كل شيء، فإن تمدنهم ودمهم امتزجا بتمدن القرون القديمة وتمدن النصرانية ودمهما. وما يحدث عنه في الغالب من سقوط الإمبراطورية الرومانية لم يكن في الحقيقة غير مشيب بطيء لبنيان سياسي انحل إلى عناصر أكثر فتاء، وما أمر الإمبراطورية الرومانية بين القرن الثالث والقرن السادس إلا كملك الأسطورة الغني الذي زوج بناته العشر بأمراء عشرة من الأجانب محاربين مهددين تاركا أقساما من مملكته لورثته المتطلبين مع إبقاء الجميع مجتمعا بفضل حيويته.
وأول المدعين بالإمبراطورية الرومانية كان أخطر الطامعين، وكانت قبائل القوط قد وصلت من إسكندينافية كما وصل النورمان بعد زمن، وكان القوط من الملاحين في بدء الأمر، ثم صاروا يسافرون على طول الأنهار في جنوب روسية فأصبحوا ملاحين على البحر الأسود، ويرجع تقسيمهم إلى فيزيغوت وأستروغوت (أي قوط الغرب وقوط الشرق)، تقسيما كرر بعدئذ في إيطالية وإسبانية، إلى دور هجرة الروس التي قسم نهر الدنيبر في أثنائها هذه القبائل البدوية. وكان إمبراطور رومة من أصل عربي للمرة الأولى حين وصولهم إلى مصاب الدانوب حوالي سنة 250 وظهورهم جيرانا للرومان، وكان اسمه فليب العربي. وقد بدأت غزوات العرقين الكبرى التي كدرت سلم البحر المتوسط نحو ألف سنة بصراع رمزي.
وكان يوجد قبيل ذلك الدور ستة أباطرة للرومان في سنة واحدة، وقد ادعى في القرن الثالث أكثر من خمسين رجلا، ومعظمهم من الجنود، بحق السيطرة على الإمبراطورية الرومانية، وإذا عدوت اثنين منهم وجدتهم قد ماتوا موتا فاجعا.
وينم اثنان من النقوش البارزة التي تعود إلى ذلك العصر تقريبا على درجة ارتجاج الإمبراطورية بفعل اندفاع غزاة من البرابرة، وقد صور البرابرة على ناووس بأنهم ملتحون غير مسلحين لابسون دراريع معتمرون بمثل قلانس اليعاقبة، وبجانبهم يبدي وجوها حائرة شبان من الرومان حسنو المنظر لابسون بزات أنيقة وخوذا، وتبدو على هؤلاء الشبان ملامح رجال «ديوان الخارجية» الأماجد في الوقت الحاضر فيظهرون ضالين بين عمال. وأما النقش الآخر فمنقور على صخرة فارسية، وهو يعرض إمبراطورا رومانيا أسيرا عبدا لملك الفرس. وقد غدا الارتباك الذي نجم عن انتخاب الأباطرة من قبل الكتائب الرومانية في البلاد البعيدة من الشدة ذات يوم ما فوض معه الجنود الحيارى أمر اختيار الإمبراطور الجديد إلى مجلس سنات رومة القديم الذي لم يكن له من الوجود غير طيف منذ ثلاثة قرون.
وقد تعاقب العرش حتى أواخر القرن الثالث رجلان قويان؛ أي ضابطان إيليريان من أصل وضيع، وقد مثل أحدهما، أوريليان، دور الملك الشمس لاتخاذه الشمس إله الإمبراطورية وانتحاله على النقود لقب «الإله والسيد مولدا»، وقد حول رومة إلى قلعة فلم يسبقه إلى ذلك أي روماني كان، وما رفعه في ذلك الحين من سور يمكن أن يرى تحت أشجار السرو عند باب سان باولو مشابها نقشا قديما. وإذا نظر إلى أوريليان كقائد وجد محافظا فأطفأ في الولايات فتنا كثيرة، وإذا نظر إليه كإمبراطور وجد مبدعا، فهو إذ رغب في اتخاذ مظهر فخم كمظهر الفراعنة وملوك الفرس فقد لبس تاجا شرقيا وثوبا زاهيا مطرزا بالذهب، وكان أول من صنع ذلك.
وقد أتم الشعائر الشرقية خلفه ديوكليسيان فجاب رومة في عربة نصر تجرها أربعة أفيال، وقد رفع إلى العرش بعد أن شغل منصب ضابط في الحرس الإمبراطوري، وكان منافسه في العرش محكوما عليه بالسجن مع الشغل سابقا فلقب نفسه في بولوني ب «أمير بحرية رومة»، ثم صار مدافعا عن شاطئ المانش ونادى بنفسه «إمبراطورا لبريطانية العظمى»، وما انفكت النقود تحمل صورته إمبراطورا سبع سنين إلى أن مات مقتولا. وإذا عدوت هذا الحادث أبصرت ديوكليسيان قد سيطر عشرين عاما من غير أن يلاقي ما يكدر صفوه، هو طاغية بالمعنى القديم، هو جدير بهذه الكلمة، هو قد ألغى دستور أغسطس شبه الجمهوري والبالغ من القدم ثلاثة قرون، هو قد اختار بنفسه إمبراطورا شريكا (أغسطس) فكان لكل من الإمبراطورين مساعد في الحكومة، هو قد دعا جميع هذه الزمرة بالأسرة الإلهية جاعلا جوبيتر وهركول وآلهة أخرى آباء لها، هو قد أبدع في الوقت نفسه إدارة مع العناية بتقسيمها إلى أربع مديريات، وهكذا جدد نظام التبني، أي نظاما كان قد أسفر عن الأباطرة الأربعة الذين هم أحسن من عرفت رومة.
وكان ديوكليسيان أول اشتراكي حكومي، وكان ابنا لعبد، وبما أنه كان طاغية في الوقت نفسه فإنه يذكرنا ببعض سادة العالم في الوقت الحاضر، وهو كهؤلاء قد حرم رعاياه نعمة الحرية ضامنا لهم في مقابل ذلك ، وبواسطة الدولة، سلامة السكن والطعام. وكان على الابن أن يداوم على عمل أبيه في المصالح الضرورية كالجيش والنقل والغذاء، وكان كل مالك أرض مسئولا عن ضرائب رجاله، وعادت الطبقة الوسطى والتربية الكهنوتية غير موجودتين. وكانت قائمة السلع المسعرة، وهي الأولى في التاريخ، ناظمة للأجور ولأثمان المنتجات، وكان هذا التسعير يشمل ما بين الذهب والصبغ الأرجواني حتى بيض الدجاج، وكان هذا التعسير يفرق بين لحم خنزير مرسيلية ولحم خنزير بلجيكة، وكان هذا التسعير يتدرج من أجور العمال المياومين حتى أتعاب المحامين كما يتدرج من أجور جزازي صوف الغنم حتى أجور كاسحي البلاليع، وكان يعاقب بالموت كل من يخالف تلك الحسابات؛ ولذا كانت الدولة الشرطية والدولة الإصلاحية مع العاصمة رومة أمرا كاملا منذ سنة 300.
ولا عجب إذا ما أخضع ديوكليسيان الأديان لنظام وثيق وإذا ما هدم كنائس وهدد مجالس عامة وصادر أملاك الكنائس، وقد داوم، فضلا عن ذلك، على إبعاده من الوظائف العامة كل من كانوا يقولون إنهم نصارى وعلى جعلهم خارج حماية القانون، كما هي حال اليهود في الساعة الراهنة، ويقدر جبن عدد من قتل من النصارى في ذلك الحين بألفين، مضيفا إلى ذلك قوله إن من قتل من النصارى بأيدي النصارى في القرن السادس عشر أكثر من أولئك بدرجات، ويذيع صيت بعض الشهداء منذ ذلك الزمن، ومن هؤلاء نصراني طعن في مراسيم الإمبراطور العامة وأبادها فشوي على نار قليلة فصار شهيد نيقوديمية المجهول، وعلى العكس أصدر نائب ملك وهو على فراش موته مرسوما سمح فيه «لهؤلاء البائسين بأن يمارسوا دينهم وبأن يجتمعوا على أن يحترموا القانون، ونأمل مع ذلك أن يجد النصارى في رحمتنا ما يحثهم على الدعاء إلى ربهم أن يمن بالسلامة علينا وعليهم وعلى الدولة.»
ولم يكن ديوكليسيان سفاكا فاسقا خليعا مبذرا، بل كان عاهلا فاضلا عادلا، وذلك إلى أنه قام بعمل نادر في التاريخ حين تنزل مختارا عن السلطان كما صنع بعده شارل الخامس وإدوارد الثامن مع الفارق القائل إن هذين الأخيرين تنزلا عن السلطة نتيجة ضغط قوى معادية. والواقع أن ديوكليسيان كان ذا مبدأ جدي حول السلطة ضمن المعنى الذي نظر إليها به مارك أوريل فتنزل عنها ابنا للخامسة والخمسين من سنيه ملزما نائبه الضعيف بأن يسير على غراره فسحا في المجال لمساعدي الإمبراطور حتى يقوما بأمور الحكومة، ولا ترى بين الأربعة صلة قرابة، شأن الممول الفرنسي الذي يشري رحا مع كرم ليصطاد بالصنارة وليلعب بالكرات مع الجيران وقت المساء. وقد بنى ابن العبد ديوكليسيان في بلده الدلماسي قصرا يقضي فيه حياة الخلي كأمير إقطاعي، واليوم ترى نصف مدينة إسبالاتو تغطي أنقاض قصر ديوكليسيان.
ولم يطق زميله تلك الحياة، فلم يلبث أن أخذ يناضل في سبيل العرش، وهو لم يجد سلما، فقد تنافر هو وابنه وقام بكفاح جديد وعانى هزائم ليموت موتا غامضا في نهاية الأمر. أجل، حاول أن يخرج ديوكليسيان من عزلته الرعائية، ولكن على غير جدوى، لرفض ديوكليسيان ذلك مثبتا للعالم بأسره أن من الممكن أن يفضل العاهل، المعبود كإله، في مساء حياته صفاء النفس على شهوة السلطان.
12
إن من يسعده الحظ بأن ينعم النظر في استانبول بمنطاد يسير سيرا مترجحا وئيدا، لا بطائرة سريعة، يبصر مدينة لا مثيل لموقعها في العالم، فكأنها راكبة حصان على بحرين يربط بينهما شريط ملتو لنهر عريض. نعم، إن الخرطوم وليون قائمتان على منحن للنيل والرون فلهما مثل موقع استانبول، غير أنهما لا تسيطران على بحرين بمثل ذلك الجلال والمنظر الروائي. ويمكن نظرنا حين يتطور فوق استانبول أن يمتد بعيدا نحو الشمال ونحو الجنوب، ومن شأن هذا المنظر أن يقوي الانطباع الذي ينشأ عن اتساع الشريط المصغر الواصل بين البحرين، وإذا ما نظر بعد الظهر إلى الضفة الآسيوية أمكن أن يميز عن اليمين قتوم سطح البحر الأسود وزرقته الضاربة إلى سواد، وأن يميز عن الشمال بحر مرمرة الوديع الذي له انعكاس أبيض كالمرآة، وهنالك تعتقد رؤية رمزي العنصرين: الوحشي والصفي، مع الطريق الملتوية كجسر بين الخير والشر.
وتنتشر الحياة على البسفور، وضمن حدود معينة، بين عنصرين غضوبين ، وتشق المياه سفن، وتنتفخ مراكب شراعية، ويجري أسعد تلك الجواري نحو البحر الأبيض ويسير أكثرها مغامرة نحو البحر الأدجن، وتبرز بقع واضحة من تلال غمقة وتظهر فرض وراء صخور، وتتجه نحو الفلك المحترق قباب بفعل غروب الشمس، وترتفع أشجار سرو وقصور بين أخلاط من البيوت البيض، وتعلو مآذن مذربة نحو السماء، وتسمع دعوة المؤذن إلى صلاة المغرب من بعيد. وكان يعيش في القصر الرخامي القائم على الشاطئ خليفة شائب، وأخيرا مات فيه سيد تركية الفتاة. وهذه استانبول تهنأ كإمبراطورة بين بحرين، ويمتد البحر الأبيض أمام استانبول ساكنا خوانا كالهر الأنقروي ذي الأرجل المشرقية. ولم يسطع الرجل الذي أنشأ هذه المدينة أن يتمتع بعمله أكثر من تمتع البستاني بالأشجار التي غرسها، ومع ذلك فإن اسمه ظل باقيا كاسم الإسكندر، وهو معروف لدى الأعقاب أكثر من أسماء معظم أباطرة الرومان.
وبقسطنطين يبرز مثال جديد لعاهل، وقد اضطر كأغسطس أن ينال العرش ثمنا لسنين كثيرة قضاها في مكافحة مختلف الأحزاب، وقد كان عهده طويلا منتجا. وقد كان ابنا غير شرعي لضابط وابنة خمار، وقد ولد في صربية، ويربى تربية صالحة، ويصبح صهرا لإمبراطور، ويغدو وليا للعهد كأغسطس من بعض الوجوه، ويعنى مثله بالإصلاحات الداخلية عناية تامة، وما اضطر إليه من حروب أفاد في حماية حدود الدولة تجاه غارة البرابرة فقط.
وكان قسطنطين يشابه أغسطس بطول الجمجمة وبما تنم عليه الملامح من اتزان وملاحظة، ولكنه كان لا يقاسم أغسطس سر الطبع والرئاء الديمقراطي والنفاق. وكان أغسطس يجعل من قواعد الأخلاق حكما، وذلك مع قضاء أدب في حياته الخاصة مشكوك فيه إلى الغاية، وذلك بين أسرة ذات أخلاق منحلة. وقد قام قسطنطين بشئون الحكم بعيد اضطهاد النصارى، وقد جعل من النصرانية ركن الإمبراطورية مع عدم إبدائه أي اعتقاد باطني كان ومع سيره وفق مصلحة الدولة فقط، وهو لم يعمد إلا في آخر حياته، وهو لم يفعل هذا إلا ليكون مثلا، وكان يصدر عنه من قوى العزلة أكثر مما عن أغسطس الذي لم ينفك يرقب مقدار تأثيره في من حوله، وكان قسطنطين لا ريب أشجع العاهلين القويين اللذين حكما في العاصمتين.
ومع ذلك تبصر في حياة هذا الرجل العظيم أويقات أظلمت بالانتقام والوشاية، وعلى العكس ترى أن نائب الإمبراطور قسطنطين (وهو صهره القادم) قد تمرد عليه فغلب وسجن من قبل ابن الإمبراطور فعفا عنه الإمبراطور، ولا نظير لمثل هذا العفو تقريبا، وهو الوحيد في القرون القديمة الكلاسية على كل حال. وقد اضطهد ابن قسطنطين نفسه وسم من قبل حماته، ولما اكتشف بعد حين بهتان تهم الإمبراطورة صب عليها ماء غال في حمامها، وقد مات إخوتها وأبناء إخوتها معها في أثناء عملية تطهير دامية. وقد انتحل قسطنطين مبدأ الأسرة المالكة كما صنع أغسطس من قبل فعرض هذا المبدأ للخطر بتنازع أبناء الإمبراطور ووارثيه.
ولا شيء أدعى للحيرة من نشاط وثبات أولئك الأباطرة الذين كانوا يداومون على القيام بمشاريع جديدة كلما انهارت خططهم، ومن المحتمل أن كان قسطنطين في الخمسين من سنيه عندما أسس مقامه الجديد، وهو لما مات كان متما للعقد الثالث من عهده، وما كان من ترك الأباطرة رومة لأدوار طويلة أو من عدم إقامتهم بها كليا أفاد ميلان وليون ودراج
22
فيما مضى، ولكن الاتجاه نحو الشرق، ولكن نقل مركز الإمبراطورية الرومانية إليه على مقياس واسع، أمر تام الجدة، ولنا أن نسأل هنا: هل كان قسطنطين من الطموح ما يهدف به إلى تقليد الإسكندر أكثر من تقليد أغسطس؟
لقد اجتذبت الإمبراطور إلى تروادة بعض المناحي الروائية، وقد بدأ في الحقيقة بإقامة عاصمته في ذلك المكان الواقع في شمال آسية الغربي، وقد دفعته عوامل أخرى إلى مسقط رأسه نيش ثم إلى صوفية ثم إلى تروادة مجددا، وهو لم ينطلق إلى مكان بزنطة القادم، الذي اكتشف به موقع هذه المدينة وإمكان سده به كل مرور إلى آسية، إلا بعد مكافحته منافسه، قال نابليون: «من يملك القسطنطينية يملك العالم.»
وفي الأسطورة أن الإمبراطور بحث عن أحسن مكان يقيم عليه المدينة فبدأ بوضع أسسها في أسكدار على الساحل الآسيوي، غير أن النسور نزعت خيوط القياس وحملتها إلى ما وراء بحر مرمرة وأسقطتها على الشاطئ الأوروبي.
وتكشف هذه الأسطورة عن أخلاق قسطنطين الحائرة ما اشتملت الأساطير على أساس من الحقيقة دوما، وما أتته الطيور من إشارة حفز الحائر على العزم، والطيور قد بدت للإسكندر عندما شاد مدينته، ولكن الإسكندر اجتذبها ببسطه الدقيق على منضدة، وهو لم يوجه نفسه بها، وذلك إلى أن قسطنطين قد سأل هاتف دلف، كما سأل منجميه، قبل أن يتخذ قراره، وهو قد انتظر دخول الشمس في برج القوس حتى يضع أسس السور المستدير الكبير الذي يحيط بتلك المدينة.
وفي خمس سنين بعد ذلك دشنت تلك المدينة، التي تحمل اسمه، بأعياد لا حد لها نظمت على الطراز الروماني بدقة، وقد نظم أيضا ألعابا واسعة المدى. وكان من المفاجآت السارة أن نقل أعضاء مجلس السنات من رومة وقدم إليهم مغاني
23
رائعة على البسفور، شأن الفندقي الماهر الذي يداري زبنه القدماء مراعيا عاداتهم العتيقة في البيئة الجديدة. وكان على أولئك المحافظين أن يروا وينتقدوا كثيرا كنيسة الرسل الجديدة ومزار الإمبراطور وضروب السخاء نحو الشعب الذي يوزع عليه الزيت والخمر والتماثيل اليونانية الكثيرة المسروقة.
وإذ لم يكن لدى النصرانية الفتاة فن خاص بعد فقد انتحلت الفن اليوناني كانتحال أمريكة الفتاة للفن الأوروبي مؤخرا، ويرى في تلك الدولة النصرانية الجديدة قيام معابد جديدة تكريما لكاستور وبولكس. ولما صعد أعضاء السنات، للمرة الأولى، في السلم المؤدي إلى ردهة الاجتماع الجديدة وجدوا تمثال بلاس لندوس أمام الباب كتمثال زوس دودون وعمود أفاعي دلف في مكان آخر. وكان يرى في ميدان قسطنطين الواسع، في ميدان حامي النصارى هذا، هذا الإمبراطور على شكل أبولون، وذلك فوق عمود من الرخام السماقي، وما كان هذا الكيان الوثني سندا خفيا ولا حاميا خارجيا للكنيسة النصرانية الحديثة، ويبدو هذا الكيان قائما جانبا منفصلا عنها انفصالا يكاد يكون تاما.
وبدأ قسطنطين عهده بمرسوم تسامح، بعقد سياسي محض، أجل، إنه أمر بعد ذلك بأن ينقش على قوس نصره برومة أنه نال النصر بإلهام من الله، غير أن كلمة «الله» ظلت مبهمة في وثائق ذلك الزمن الرسمية. وقسطنطين هذا حافظ في حربه الأهلية الأولى على أعضاء السنات الوثنيين وعلى أريستوقراطي رومة دون النصارى، وقسطنطين هذا كان له بصر السياسي الحقيقي فيطلع على رغائب الجماهير وآمالها. وكانت النصرانية في عهد مولاه الخاص وسلفه: ديوكليسيان قد صارت ثابتة الأساس كثيرا نتيجة للاضطهادات، كما تغدو الآن وطيدة في ألمانية، ويدرك قسطنطين ضرورة منح هذه الجماعة كيانا قانونيا فيأمر بتصوير رموز نصرانية على تروسه وأعلامه مع عرض نفسه على صورة أبولون.
والواقع أن قسطنطين الذي عد أول إمبراطور نصراني كان غير صادق الإيمان كما تدل عليه أخلاقه وأخلاق مستشاريه، وقد أنجز نظام سلفيه الحكومي كطاغية مطلق، وقد عبد الفلاحين فحرم عليهم ترك أرضيهم لتناقص عدد العبيد، وقد جلس على العرش مثل الآلهة فوق الأساقفة في مجمع نيقية الذي قال بالثالوث الأقدس، فيا للغرابة في رئاسة الإمبراطور غير المعمد لهذا المجمع الروحاني الحكومي! وكان ذلك أول مجمع أوروبي ذي منزع أممي، وذلك كالمؤتمر الاشتراكي الأول الذي عقد بعد 1500 سنة.
واتخذ في هذا المجمع للمرة الأولى، كما في المجامع الثلاثة الأخرى التي عقبته في فواصل قصيرة، تلك اللهجة الاستبدادية التي انتحلها البابوات بعدئذ، وهو، بجلوسه على عرش من ذهب، وتوجيهه أمراء الكنيسة الأولين بدا إمبراطورا وبابا معا ممثلا لأول مرة ما يسمى «القيصرية البابوية»، وما كان أحد في ذلك العصر ليشك في أهمية اتحاد السلطة الروحية والسلطة الزمنية وما يؤدي إليه هذا الاتحاد من صراع. وقد استند مبدأ الحكومة الإلهية الأساسي، الذي عدت به الكنيسة في القرون الوسطى وارثة للإمبراطورية الرومانية، إلى ذلك الوضع الاستبدادي الذي ينطوي على حماية سلطان ولي أمر رفيع الشأن من قبل مذهب واسع الانتشار. ولما أبصر قسطنطين الأساقفة في نيقية، سنة 325، جالسين تحته متنازعين فيما بينهم وأدرك معنى كلامهم من حركاتهم ونبرات أصواتهم عد ذلك المجمع كمجلس سنات جديد يجب أن يجد فيه أصدقاء له.
وقد انتظر هذا الطاغية الكامل، الذي كان يداري زهوه بعادات وأزياء شرقية مع تقوية عاصمته بحصون جديدة، حتى الساعة الأخيرة ليركع أمام الصليب الذي اختاره شعارا لأعلامه، وقد مرض في بدء حملة ضد الفرس فأمر بتعميده على عجل، وقد جعل النصارى منه قديسا، وقد جعل الوثنيون منه إلها رومانيا.
ولقب قسطنطين ب «الأكبر»؛ لأنه اعترف بالرسالة النصرانية، والحق أن النصرانية مدينة له أكثر مما لأي رجل آخر منذ القديس بولس، ومع ذلك يجب أن يسأل: هل حقق هذا الإمبراطور مبدأ عظيما في الحقيقة أو ساعد الإكليروس النشيط على بلوغ السلطان؟ ومهما يكن من أمر فإن أسقف رومة فكر في ممارسة هذا السلطان بنفسه كإمبراطور، وما يبدو اليوم لنا غريبا كان ممكنا في القرن الرابع، فقد كان يمكن أسقفا جريئا أن يحمل لقب إمبراطور. وقد غدت «جمعية المؤمنين المكرمين الروحانية»، التي لم يلبث أوغستن أن وصفها مع الإصابة ب «مدينة الرب»، حلفا دوليا تعلوه الكنيسة. وكان يمكن الصراع، من أجل سيادة العالم، الذي سيهز الإنسانية مدة ألف سنة أن ينتهي بانتصار الكنيسة لولا انقسامها.
وقد زاد غزاة البرابرة هذه المسألة الجديدة تعقيدا، وقد جهل قسطنطين الخطر الجرماني مع أنه نبيها بصيرا على العموم. وقد كان أول من قبل في بلاطه ضباطا وموظفين من الجرمان ومنحهم مراكز مهمة، حتى إنه دعا قبائل جرمانية لتعبر نهر الرين وتجازي الغوليين، حتى إنه نظر بعين التسامح، ومع التشجيع، إلى الفرنج الذين يأتون من نهر الرين الأدنى، وإلى قبائل الألمان التي تتوجه من مجرى الرين الأعلى إلى الغرب والجنوب، وإلى الوندال الذين يستولون على هنغارية بعد عبور نهر الدانوب، وهذا إلى أن الموج المخرب الذي سار متدافعا إلى أوروبة مدة خمسة قرون مما كان يتعذر وقفه على الرغم من صاحب عزم؛ وهذا لأن ذلك التيار مما لا يقاوم.
ولم يتمالك خليفة قسطنطين أن أعاد النظر في سياسته تجاه النصارى، ولما قتل ابن قسطنطين فأمر بقتل نصف أسرته استطاع غلام أن يتفلت من الذبح ابنا للخامسة من سنيه، فرباه أسقف وخصي تطلعا إلى القسوسة، ولما مات قسطنطين وأخذ اثنان من أقربائه يحكمان معا كان الغلام المنزوي عازما على تعلم البيان في القسطنطينية ثم يعلمه فيلسوف يوناني حكمة الأفلاطونية الجديدة. وكان قد رأى في البلاط كثيرا من الكبائر النصرانية كما سمع حديثا عن الدم المسفوك بين آله الذين كانوا يزعمون أنهم نصارى؛ ولذلك صار ذا ارتياب حيال النصرانية مبديا تقبله لمعتقدات القرون القديمة التي تلقاها في منابعها كما تلقاها في أثينة بعد ذلك.
وإنه ليقضي حياة سعيدة ابنا للخامسة والعشرين؛ إذ ينتزعه من الدراسات الأفلاطونية إمبراطور معتزل، فيرسله إلى مقاتلة البرابرة مع أنه كان على النقيض من روح الجندي، ويصبح صهرا للإمبراطور ومساعدا له، ثم يعين قائدا عسكريا لجيش الرين، هذا النهر الذي عبره الألمان لغزو بلاد الغول ونهب كل شيء يجدونه في طريقهم وإحراقه.
وليس عن قليل أن كان الأمير رومانيا سليلا لأسرة جندي، فقد دلت حركاته العسكرية الأولى على عبقرية حقيقية فيه أسفرت عن نصر، وقد انكشف ضباب غاب البرابرة الابتدائية عن باريس وستراسبرغ للمرة الأولى. وقد كسب أولى معاركه الكبرى في ستراسبرغ، وقد جعل مقره في باريس كما يصنع ذلك جميع من يأتي بعده من القواد ورجال الثقافة تقريبا.
وكان اسم هذا الأمير جوليان، وكان قائدا وفيلسوفا معا لا ريب، وكان أول باريسي من ناحية، وذلك لاشتهار اسمه منذ أيام هذا المصر الأولى. وكان حاكما صالحا على الرغم من فتائه، ولا يخلو من متعة أن نتمثل جنديا رومانيا، ثوريا سرا، نائبا لإمبراطور بزنطة، عائشا في باريس القرن الرابع! ...
وقد بنى جوليان لنفسه قصرا في لوتس (وهي مدينة الباريسيين كما كان يسميها الرومان)، وهذه المدينة القديمة القائمة على ضفاف السين، وإن كانت معروفة عند قيصر، كانت مجهولة لدى الأباطرة تقريبا، ويبلغ جوليان من الحظوة لدى الجنود ما يثير معه حسد الإمبراطور، فيأمره الإمبراطور بأن يذهب إلى فارس التي كان من العادة أن يرسل إليها المنافسون غير المرغوب فيهم. وكان جوليان يطيع، ولكن الكتائب أبدت معارضتها لهذا التغيير فصارت في حفلة الوداع، وقد دخلت منزل قائدها ليلا فخيرته بين الأمرين: أن ينادى به إمبراطورا وأن يقتل فورا، وينتهي هذا المنظر الروائي الهزلي الذي تؤيده جميع المصادر إلى قبول جوليان أن ينادى به إمبراطورا. وبذلك يكون بعض الضباط، السكارى على ما يحتمل، قد أوجبوا دورا في تاريخ البشرية الروحي، وما كان من رفع الجنود الرومان لمولاهم الجديد فوق تروسهم وفق عادة البرابرة حدث للمرة الأولى، وكانت عادة الترس الرمزية هذه أول هدية من الأمم الجرمانية المحاربة في بلاد البحر المتوسط.
وقد جمع إمبراطور بزنطة جيشا ضد المتمرد الذي كان يتقدم مع كتائبه، غير أن موته بغتة حال دون اشتعال حرب أهلية في الإمبراطورية.
ولرأس جوليان على النقود معنى ساذج لتمثال إغريقي نصفي من تماثيل الدور الأول، وذلك بحملقته
24
وأنفه الكبير وفمه الصغير ولحيته الكثيفة، ولا يلوح أنه متعصب، وهو غير متعصب في الحقيقة، ومع ذلك تجد ما يوازن تسامحه الذي هو وليد خياله الأفلاطوني بغضبه الدائم على النصارى الذين أبصر تعصبهم منذ طفولته. ويثبت التاريخ أن حنق هذا الإغريقي قد أثير بهوى أسلافه اللايونانيين، وأن عزمه على إلغاء ما قضى به قسطنطين قد جعله متعصبا، وإلا لشابهت أخلاقه أخلاق مارك أوريل الذي كان أيضا عدوا للنصارى مع بقائه رجلا عظيما، ولكن جوليان كان يعوزه الوضوح والاعتدال، ولكن جوليان كان عصبيا عنيف اللسان.
وهو لم يمنع من النصرانية أكثر مما قوض، وهو قد اكتفى بإبعاد النصارى من جداول الارتقاء في الإدارة وبإغلاق المدارس العامة دونهم، وهو في الوقت نفسه قد رسم، كسياسي موهوب، نظاما شافيا إلى الغاية صالحا لكهان الوثنية مقتبسا من الإكليروس النصراني، وهو قد ولى فريقا من المفكرين الأفاضل مناصب عالية، وهو مع ذلك ليس سوى نصف إغريقي لدرسه بحماسة مذهب مترا (الإله الشمس)، وهو قد مارس كلا الديانتين من بعض الوجوه، وهو، قبل كل شيء، لم يكن لديه من الوقت ما يظهر معه قدرته، وتمضي ثلاثة أعوام على ارتقائه إلى العرش فيقتل في فارس بيد جندي نصراني منتقم على ما يحتمل.
ولم يبق شيء من سعيه المؤثر القصير في إحياء القرون القديمة، كسعي أمنوفيس المصري، غير صورة ثوري مثقف، غير الوصف الداوي الذي طبق منذ ذلك الحين على كثير من عصاة الدين، وهو المرتد!
13
حدث اجتياح الجرمان الأول لبلاد البحر المتوسط على نطاق واسع حوالي سنة 400، وقد اتخذت هجرة الأقوام، التي بدأت بالحقيقة في عهد مارك أوريل قبل قرنين، شكل جليد متدافع من الجبال في هذا الحين فيخرب كل شيء في طريقه، وقد جابت عشائر مغولية آتية من الشرق آسية راكبة خيلا طاردة أمامها حتى جنوب روسية قبائل وافدة من الشمال، وقد تقدمت هذه القبائل، بدورها، إلى الأمام، حتى سواحل البحر المتوسط، عن فضول وعن ضرورة معا، ولم تجئ القبائل الجرمانية بشيء، بل خربت كل شيء تقريبا، فكانت على النقيض من الأمم السابقة التي جلبت كل شيء معها وحرثت الأرض. ثم توارت القبائل الجرمانية في بضعة قرون غير تاركة أثرا، وما وجد على ضفاف النيل من نبذ توراة قوطية هو أهم كنز يمكن اكتشافه في قبر هذه الشعوب التي كانت عاطلة من كل عرفان وإيمان يغتني بهما من قهرتهم.
ويتقدم الفزيغوت نحو الجنوب ويرسلون إلى إمبراطور بزنطة رسلا ليرجوا منه خاشعين أن يعطيهم أرضين على طول المجرى الأدنى من نهر الدانوب، ولم يكد الإمبراطور فالنس يمنحهم قسما من تراكية الخالية من السكان تقريبا حتى أخذ هؤلاء المولودون جنودا ينازعون موظفي الإمبراطور مخربين البلد الذي ظن أنهم يزرعونه قاهرين كتائب الإمبراطور في معركة أدرنة العظيمة (378)، ويجرح الإمبراطور بسهم وينقل إلى منزل، ويجهل أولئك الرحل الغالبون ذلك فيحرقون جذلين ذلك المنزل مع جميع المنازل الأخرى حارمين أنفسهم غنيمة ثمينة جدا. ولم يبق للأباطرة المنهوكين إزاء ذلك غير قبول هؤلاء الجيران الجدد في جيشهم، حتى إن ثيودوز الذي لا يعد من ضعاف الأباطرة رضي أن يكون له حلفاء من القبائل الجرمانية، وقد كان آخر إمبراطور أمسك الإمبراطورية الرومانية موحدة من إسكتلندة حتى الفرات، ولكن لوقت قصير، فلما احتضر جعل شبه وحشي وصيا على بنيه الصغار، وهكذا يكون تقسيم الإمبراطورية إلى قسمين من قبل حفدة ثيودوز قد أعده ثيودوز نفسه.
وشبه الهمجي ذلك هو ستيليكون، هو وندالي غير معروف، وقد كان جنديا بسيطا فارتقى في ميادين القتال، وقد قدر عليه أن يزج بكل من نصفي الإمبراطورية في صراع طويل ضد الآخر ناقلا الحرب بذلك من رومة إلى القسطنطينية. وهكذا يعاني ستيليكون نصيب كثير من ذوي الطبائع الصارمة المولدين الذين يرون لدى اليهود في الغالب، ومهما يكن أمر هؤلاء الناس فإنهم يعيرون من قبل كل من العرقين اللذين ينحدرون منهما، ومع ذلك فإن ستيليكون يبذل وسعه مخلصا في مقاتلة رئيس الفزيغوت ألاريك الذي حاصر القسطنطينية حوالي سنة 400، ويطرد ألاريك القوطي فيصبح منقذا لإيطالية.
ويغدو ذانك الجرمانيان سيدين حقيقيين في ذلك الدور، يغدوان فوق إمبراطوري القسطنطينية ورومة اللعبتين، وهذا إلى اتخاذ هذا الأخير رافين مقرا له.
ولم يلبث ذانك الأفاقان أن اتفقا على محاربة قبيلة ثالثة من الجرمان النهابين، على محاربة الأستروغوت، ويطلب ألاريك مليون دولار ذهبي من مجلس السنات القائم رسميا برومة، ويوافق ستيليكون على طلب الفدية هذا، وهنالك تبدو مقاومة للمرة الأولى. أجل، كان أعضاء السنات قد أغضوا عن إحراق كتب السيبلين التي هي من أوابد الرومان، غير أن هؤلاء السادة الذين ظلوا رقودا قرنين بدوا أيقاظا عندما بحث في مسألة دفع النقود، ويأمر وارث ثيودوز، هونوريوس الفاجر، بقتل قائده ووزيره الجرماني، ستيليكون، المدين له بعظمته، وتعقب ذلك مذبحة؛ أي ثورة الروح الرومانية ضد الجرمان مرة أخرى، ويلوح أن ثلاثة آلاف جرماني التجئوا إلى ألاريك.
وبجوليان يذكرنا الأمير ألاريك، الذي يصعب تبين وجهه على خاتمه، وذلك بعينيه اللتين تشابهان عين الصبي باتساعهما، وبسذاجة ملامحه وفمه الصغير، بيد أن الذكاء لا ينير أسارير وجهه كما يلوح (ومن أين يأتيه ذلك مع ذلك؟!) وقد تعلم جوليان الإغريقي قواعد الحكمة في أثينة حين فتائه، وقد جعل ألاريك، الذي هو من البرابرة والذي كان لا يعرف حتى كتابة اسمه على ما يحتمل، من بلاد الإغريق مسرحا لتخريباته، ويزعم أنه ينال رضاء رب النصارى بتخريبه آثار الوثنيين وإتلافه الألنب وإلوزيس ثم كورنث والأركادية صانعا مثل ذلك صنعا منتظما دقيقا في كل مكان محطما في طريقه مئات من التماثيل القديمة.
وما صانه ألاريك كسره باسمه رهبان متعصبون، وقد خرب معبد أفسوس المشهور في ذلك الحين، ولم يجد ألاريك على الأكروبول تمثال أتينة الذي نحته فيدياس لنقل رجال بزنطة إياه منذ بضع سنين. وهكذا عادت بلاد الإغريق غير موجودة بصنع ذلك الجرماني، وأثينة وحدها هي التي أنقذت مصادفة، وما اتفق لأثينة من ازدهار روحي بعد نصف قرن مدين لابنة أحد الأساتذة في أثينة، ثيودورا، التي صارت إمبراطورة بعد حياة ذات صروف.
وانتهب قوم الأريك الرحل مدينة رومة في صيف سنة 410، وكان هذا أول سلب أصيبت به رومة، فسيعقب هذا السلب انتهاب ثان حوالي سنة 1500 من قبل قوم من الجرمان (الذين لم تكف عشرة قرون لإصلاحهم قط). وهكذا يوفق الجرماني الصغير حيث أخفق القرطاجي العظيم هنيبال، ولكن ألاريك مات فجأة حينما كاد ينطلق إلى أفريقية، ويشابه موت هذا الرجل الشاب موت كثير من رؤساء العصابات الذين كانوا يعيشون بلا هدف ولا خطة معينة، ويدفن بدنه من قبل جيشه في مجرى نهر جاف حتى يرقد في طراء السيل بعدئذ، أو لكي يتفلت رفاته من انتقام أعدائه، فمن شأن الروح الجرمانية أن تؤوي أقسى الاندفاعات وأكثرها غموضا مع ارتباك ضيق.
وتزوج خلف ألاريك، أدولف، بابنة من بيت رومة الإمبراطوري، غير أنه لم يعتم أن خان أنسباءه الجدد مع الإمبراطور المنافس، وقد اشتهر بأنه من أعظم المخربين في عصره، وقد مات مقتولا في أثناء حملات انتهاب ظافرة. وقد انطلق الوندال إلى الغزو على أثر الفزيغوت فنالوا ضربا من الخلود، وذلك أن أوحش التخريبات وأكثرها بعدا من نطاق الخيال صارت تدعى بالأعمال الوندالية. ومن الواقع أن اسم الأندلس قد حفظ لنا أيضا، ومن حسن الحظ أن السائح لا يجد أثرا لتلك القبيلة النهابة في أثناء مروره من هذه البقعة التي هي من أروع بقاع البحر المتوسط الساحلية.
ومن شواطئ البحر البلطي أتى الوندال وعبروا نهر الرين ووصلوا إلى جبال البرانس مارين من بلاد الغول، وقد ساروا منحرفين نحو الجنوب اجتنابا للقوط فبلغوا سواحل أفريقية، ولم يكن عندهم مثل قومي عال، ولم يكن لديهم ما ينعمون به على الرومان المغلوبين أو على البربر الأهلين، فكانوا يثيرون حقد عالم البحر المتوسط بالجرائم التي يكلل بها اسمهم، ومع ذلك ظلوا ظافرين بفضل علمهم بالملاحة الذي اكتسبوه في بلادهم الشمالية.
ودام سلطان جنسريك نحو نصف قرن فكان أول ملوك الوندال وآخر ملوكهم في الحقيقة، وهذا إلى أنه كان من ملوك البرابرة الوحيد الذي بقي قابضا على زمام السلطة إلى سن متقدمة، وقد وصفه أحد معاصريه بأنه «معتدل القامة، أعرج نتيجة لسقوطه من فوق حصان، صموت، عنيف، كاسر، مزدر لكل فجور، ماهر في إيقاد الفتن وإلقاء بذور الحقد والفساد»، وقد انتحل لقب ملك البر والبحر وأرهب جميع البحر المتوسط بأسطوله. وكان الوندال يصلون في مغازي النهب حتى مصر، حتى بلاد اليونان، وكان الوندال قراصين الشمال الأولين في الجنوب، وكانت الجزر الثلاثة الكبرى مع جزائر البليار جزءا من إمبراطوريتهم، وما هو غير ذلك كان ميدانا لمغامراتهم.
وقد دعي الوندال إلى مساعدة رومة من قبل أرملة أحد الأباطرة، فكان جنسريك أول أجنبي نزل إلى أوستي، ويجد هنالك قوتين متنافستين؛ وذلك لأن الأباطرة كانوا يقيمون برافين عادة فأقاموا فيها بلاطا ثانيا في ذلك العصر. وقد استقبل البابا ليون الأول رئيس الوندال عند أبواب رومة فعرف كيف يعامله بمهارة فحرم جنسريك على كتائبه إحراق رومة، وهنالك وجه جنود الوندال همهم، وذلك بعد نهب رومة من قبل ألاريك بنصف قرن، إلى آجر معبد جوبيتر الذهبية وإلى آنية اليهود الذهبية التي كان تيطس قد سرقها من هيكل سليمان منذ أربعة قرون. إذن، نقلت هذه الشماعد والذخائر من رومة إلى قرطاجة حتى جلبها فاتح إلى بزنطة بعد حين، ثم عادت إلى أورشليم كما يلوح، وذلك لما كان يصيب حائزها غير الشرعي من لعنة.
وكان أربعة شعوب كبيرة من الشمال في طريق الفتح في ذلك الدور؛ أي حوالي سنة 450، فأوغل التشك الذين هم من الصقالبة في بوهيمية ومورافية، وانتقل الإنكليز والسكسون والجوت إلى الجزائر البريطانية، وفر البريتون السلتيون إلى بريتانية عند دنو أولئك، وأقام الوندال والألين ممالك في صقلية وأفريقية، وتقدم الهياطلة نحو الجنوب.
ومن جميع البرابرة تبصر أمر الهياطلة أطرف الأمور، وذلك لوضوح غزوهم وبعده من طلاء النصرانية، وإذا ما وصف الهياطلة وجدوا قوما من الوحوش، ومن البدويين الفرسان، ومن العرق التركي المغولي، ومن ذوي العيون المزمومة والقامات القصيرة السريعة كالريح، وقد كانوا فاتحين لقسم من الصين في زمن المسيح. وقد ظلوا قرونا كثيرة وفق ما يحاول أصحاب نظرية العروق إحداثه اليوم من الأمم المختارة المصنوعة، وقد تركوا الضعاف في السهب الواسع وراءهم، وذلك على حين يتقدم فرسانهم الأقوياء إلى الأمام أسبوعا بعد أسبوع مخربين البلاد بأكثر مما يفعل الفاتحون، وذلك كالنسناس. ومن قول زعيمهم المشهور: «يتألف منا - نحن الغزاة نحن الفرسان - أمة تلقي الفزع في قلوب جميع الأجانب، حتى إننا إذا متنا بقي جاهنا بعدنا وظل أبناؤنا وأبناء أبنائنا على رأس كثير من البلدان.»
وكانت لهم في القرن الخامس إمبراطورية بدوية غير متينة ممتدة من سيبرية إلى دانيماركة، وكانت الريح تحمل صيتهم من سهوب روسية إلى البحر المتوسط. وكان اسم الهياطلة مقرونا بالفوز في أثناء الحروب الأهلية التي لا حد لها بين القسطنطينية ورومة، وبين المذاهب النصرانية، وبين القبائل الجرمانية. ومن قول قسيس في مرسيلية: «ينضم أبناء وطننا، حتى الأشراف إلى العدو، فبما أن أبناء وطننا عادوا لا يطيقون بربرية الرومان فإنهم يأملون أن يجدوا مشاعر إنسانية لدى البرابرة.» وقال يوناني في معسكر ملك الهياطلة: «هنا يسود العدل، مع أن الفقراء في الإمبراطورية الرومانية وحدهم هم الذين يلاقون ضروب العقاب.» وكان لأتيلا؛ أي «للأب الصغير»، قصر من خشب على صفة الدانواب، وكان ينام على فراش خشن ويزهد في الطعام، وكان بين فرسانه في الهواء الطلق دوما، حتى حين يعقد مجلسا. وكانت فرائص إمبراطور بزنطة ترتعد فرقا أمام هذا الجار الضاري، فعينه مريشالا وأعطاه جزية سنوية. وبينما كان الرجال الذين يسكنون القصور الرخامية على شواطئ البسفور يعدون أتيلا حيوانا وحشيا يجب تسكينه، كان أتيلا يبدو رئيسا شاعرا بتبعاته أكثر من شعور أباطرة عصره، ومن ذلك ما رواه سفير عن جلوس أتيلا حول مائدة من خشب في أثناء وليمة مستمعا إلى إشادة الشعراء بمآثره كما في قصائد أوميرس، فلما أتموا الأغنية الأولى التي كانت مؤثرة إلى الغاية أنشدوا قصيدة مضحكة تدرجت إلى أمر وحشي كلما زاد شكرهم، فظل أتيلا وحده متزنا على حسب عادته.
وحاول سفراء من بزنطة أن يقتلوا أتيلا، فتركهم أتيلا ينصرفون بعد اكتشافه ائتمارهم به، حتى إنه أعطاهم هدايا وخيلا، ولكن مع إرساله كتابا إلى الإمبراطور ثيودوز، الذي كان يلوح أنه المحرض على ذلك الائتمار، يلومه فيه على سلوكه الشائن، وتعد هذه الوثيقة رائعة لما تنطوي من بساطة الشعر الشعبي، وما كان مارك أوريل نفسه ليستطيع كتابة مثلها، ولا تأليف ما هو أكمل منها، وتكفي هذه الوثيقة وحدها لرفع أتيلا فوق ملوك عصره المتمدنين على الرغم من جميع أعماله الوحشية.
ومن الأقاصيص العاطفية ما يرتبط في اسمه، ومن ذلك أن إمبراطور بزنطة اختطب ذات مرة إحدى أخواته لرجل في البلاط على الرغم منها نتيجة لمغامرة غرامية، وتضطرب الفتاة وتطلب العون من صديق الإمبراطورية وصاحب المقام الرفيع فيها أتيلا، وترسل إليه خاتما رمزا إلى عقد خطبتها معه، ومما لا ريب فيه أن صيت النبيل النهاب أتيلا هو الذي حفز الفتاة إلى اتخاذ تلك الخطوة المحيرة. وقد أدرك ملك الهياطلة، الذي كان عنده عدة أزواج، من فوره، ماذا يمكنه أن ينال بذلك من شرف ونفع، فأرسل إلى الإمبراطور سفراء خاطبا أخته ومطالبا بنصف الإمبراطورية مهرا، ويرد هذا الطلب، ويؤدي الرفض إلى الحرب، ويغادر أتيلا بلاد البلقان مع كتائبه وينتقل معها إلى بلاد الغول، ويقهر في المعركة الكبرى التي وقعت في حقول كاتالونيك بشنبانية، وليس من الصحيح ادعاء بعضهم أن الحضارة الأوروبية أنقذت من المغول في تلك المعركة، كما هي الحال أمام فينة بعد أربعة عشر قرنا، وكان يحارب جنود من الفرنج والسكسون والفزيغوت بجانب الرومان على حين كان يحارب جنود من الأستروغوت بجانب الهياطلة، ومع ذلك لم تكن تلك المعركة نصرا رومانيا وإن كانت أول حبوط مني به الهياطلة الذين عد قهرهم متعذرا حتى ذلك الحين. أجل، طعن أتيلا في عزته، ولكنه ظل من القوة ما ترتعد معه رومة خوفا منه في السنة القادمة بإيغاله من لنباردية، وهنالك يظهر البابا ليون في معسكر الهياطلة ويثني ذلك الهمجي عن عزمه كما استطاع أن يثني جنسريك في الدور نفسه، ويمضي وقت قصير، فيموت أتيلا بغتة في إحدى عربداته الخمرية الليلية الكثيرة مقتولا، لا ريب، من قبل المرأة الجرمانية التي ستظهر في نيبلنجنليد بعد حين، وهو لم ينفك يتكلم، حتى آخر عمره، عن الأميرة التي أرسلت إليه الخاتم على أنها خطيبته، ومما لا مراء فيه أن عوامل القسوة والانتقام كانت تمتزج بمشاعر الشرف والنبل في نفس هذا الفارس الوحشي امتزاجا يثير العجب، ولا شك في أنه لم يكن مصابا بالخنزوانة،
25
وقد انحلت بموته حالا إمبراطوريته التي كانت ممتدة بين الرين وسفوح القفقاس، وقد قتل وارثوه.
14
كان غرب البحر المتوسط وجنوبه بحيرة جرمانية ونصرانية حوالي سنة 500، وكان الزعيم الجرماني، أدواكر، على رأس جيش مختلط فصفى الإمبراطورية الرومانية بالعنف في سنة 476. وكان من عادة الكتائب أن تأخذ ثلث البلاد التي تزعم أنها محررة لها، فطالبت هذه الكتائب بثلث إيطالية التي لم تزل تعد ولاية، وكان المغامر الحامل لاسم أوريستي اليوناني قد نادى بابنه القاصر إمبراطورا، فلما أيد مزاعمه تجاه الجرمان قتله جنوده، وهنالك اختص الجرماني بالبلد الذي كان قبضته واستعد لقتل آخر وارث للتاج. وكان هذا الوارث يرمز باسمه رومولوس أوغستول إلى اسمي أول الرومان وأقواهم، وما كان عليه من ملاحة صبيانية أثر في الهمجي فأبقى له هذا الهمجي حياته، وبذلك يكون ذلك الوجه الغريب قد ختم سلسلة أباطرة الرومان، وتغدو إيطالية مستعمرة جرمانية.
ومع ذلك لم يكن الفاتح، بل عدوه المقهور في رافن، تيودوريك الأستروغوتي، هو الذي أصبح مؤسسا لدولة البحر المتوسط الجرمانية التي كان يحلم بها جميع الغزاة من البرابرة، التي كان يحلم بها جنسريك بأفريقية وألاريك بإيطالية وأتيلا بفرنسة، وتيودوريك هذا وحده هو الذي وفق لوقت قصير أن يحمل الجرمان الآخرين على الاعتراف بمملكته، وقد عرف في الوقت نفسه، وبفضل أسطوله، أن يحول دون عمل بزنطة. وقد حافظ هذا الجرماني، الذي دام سلطانه أكثر من ثلاثين سنة، مع شيء من الغموض، على سيادته في إيطالية وإسبانية وجنوب فرنسة وفي رتية ودلماسية، وقد كان مدينا لثقافته الرومانية بنجاحه حيث أخفق أسلافه في القرن الرابع والقرن الخامس. والواقع أن هذا المقاتل الجرماني تعلم كثيرا حينما كان رهينا في القسطنطينية، ويجمع آثار الفن اللاتيني ويعنى بالأدب اللاتيني، وما أقامه من كنائس وما شاده من ضريح له في رافن ينم على روح رجل من الشمال صار «رومانيا»، ويعترف بإمبراطور القسطنطينية مولى له رسميا ويفوض إدارة شئونه إلى روماني حقيقي.
ويبدو الرجل الذي عقبه كأقوى ملك للبحر المتوسط، لا كملك للقوط، بزنطيا فينتصب ضد الجرمان مرة أخرى، ويعرف أن يلطف ضغطهم في أثناء عهده الساطع الذي دام نحو أربعين عاما، ويبدو ابنا حقيقيا للبحر المتوسط، ويردع بحزم مهاجري ممالك الأستروغوت واللنبار، ومع ذلك فإنه لم يكن لاتينيا ولا إغريقيا، وإنما كان إيليريا تراكيا؛ أي ألبانيا وفق تسمية الوقت الحاضر، ويختار جوستينيان (527-565) من قبل دانتي رمزا للإمبراطورية الرومانية أكثر من اختياره قيصر أو أغسطس. ويحتمل أن هذا كان؛ لأنه جمع بين الإمبراطورية والكنيسة، أو لأنه سمى القانون «سلطانا منزها عن الخطأ» فوضع نفسه تحت سلطانه، أو لأنه كان آخر من أمسك المجموع ملتحما. أجل، إنه عرف بعد قرنين من قسطنطين أن يمسك البحر المتوسط موحدا ضمن الإيمان النصراني، الذي ثبتت أصوله في هذه الفاصلة، بأسهل مما عرف قسطنطين هذا، غير أنه كان مثل سلفه ولوعا بالسلطان قبل كل شيء. أجل، كان يعد نفسه حبرا إمبراطوريا ومبشرا عمد أمراء الهياطلة وأمما وثنية أخرى في القسطنطينية، غير أنه كان يتصرف في الأمور تصرف طاغية روماني، لا كنصراني مؤمن، وهو لم يرغب أن يكون سلطانه على قلوب رعاياه، بل على شواطئ البحر المتوسط. وكان الجيش والأسطول غايته، وكان الإنجيل واسطته، وكان القانون قوة بين الحدين، وبالقانون كان يسعى أن يجمع بين رسالتيه.
وكان ابنا لوالدين من فلاحي إيليرية، ولكنه كان ابنا لأخ ضابط كبير بزنطي فيربى في الجيش ويحافظ في جميع حياته على صفات الجندي والفلاح. وكان يريد أن يصنع كل شيء بنفسه، كأن يضع تصميما لبرج جديد، وكأن يدعك بيديه نسيجا جديدا ليقابل بينه وبين نسيج حريري من الصين، وكأن يجرب مركبا حربيا خفيفا أو مركبا حربيا يجري بالمجاديف أو سرجا من طراز حديث. وكان الأغارقة يلقبونه ب «العاهل الذي لا ينام أبدا». وكان مستبدا بفطرته، فنظم بمراسيمه جميع أعمال رعاياه من العماد حتى التوبة النصوح، وإلا عرض أبناء الوطن حقوقهم وأموالهم للضياع. وقد أعاد للإمبراطورية فخامتها مفرطا على الطريقة الشرقية مع محافظته على بساطة زاهد شخصيا، وقد كان سمحا أنيسا، وقد كان في الوقت نفسه معجبا بصفاته، وقد كان عازما عزما قاطعا على أن يكون خير الناس؛ أي عادلا.
وما كان عليه جوستينيان من كلف بالعدل يعد من حيل الطبيعة لتسكين نشاط هذا الطاغية الذهني، ولما أصبح نابليون قنصل فرنسة الأول سن قانونه المدني من فوره، وقل مثل هذا عن جوستينيان الذي نشر قانونه معبرا عن سلطانه، ولم يبق من عهده الطويل غير قانون جوستينيان الذي تم وضعه بعد جلوسه على العرش بعامين، فزيد بعد ذلك. ولم يكن نظامه الاستبدادي محتاجا إلى قانون ليمارس؛ ولذا أبصر عن ضرورة داخلية عميقة تأليف لجنة يعهد إليها في وضع مدونة جوستينيان؛ أي متن قانونه، وقد أنجزت هذه المجموعة الأولى بأسرع مما أنجز به قانون نابوليون؛ أي في أربعة عشر شهرا، واليوم يقضي التلميذ المجد وقتا كبيرا ليتعلم ما تحويه من مبادئ أساسية ويتخذ هذا القانون الذي هو متن أساسا للقانون الغربي حتى أيامنا.
والحق أن جوستينيان قد انتفع بميراث رائع، انتفع بتراث عشرة قرون، والحق أن مبادئ القانون الروماني ترجع إلى ألواح المملكة الأولى الاثني عشر، وكل شيء في قانون جوستينيان منطقي وعملي معا، على حين ترى القانون الجرماني قد فسح فيما بعد مجالا للمشاعر الشخصية والعوامل الفردية أكثر مما لغيرهما فصعب على الأمم الأجنبية أن تنتحله لهذا السبب، ويعد كلا المنهاجين القانونيين مرآة لوضوح الروح اللاتينية وغموض الروح الجرمانية. وكان تريبونيان المشهور الذي عينه جوستينيان رئيسا للجنة وضع قانونه فيلسوفا، ولكنه كان أيضا رجلا متحرزا غير غافل عن مصلحته الخاصة، وما كان عليه من براعة في التنظيم ينم عليه رأيه في النشر القادم لمجموعة الأحكام والفتاوى المعروفة ب «الديجست» وب «الباندكت»، ينم عليه حسابه، كوكيل النشر الأمريكي، في تكثيف ألفي كتاب في خمسين كتابا وفي تكثيف ثلاثة ملايين سطر في مائة وخمسين ألف سطر، وإذا ما أريد إبراز أخلاق هذا الإمبراطور بالبحث في قوانينه وجد في إعلانه مساواة الغني والفقير أمام القانون مساواة تامة مع أنه كان يوجد فرق بين بين فريقي أبناء الوطن هذين، ومن الممكن إظهار حلمه البعيد من الخلق الروماني بتسامحه الإنساني وبما قيد به حقوق الأب فكان على النقيض من مبادئ الشريعة اليهودية.
ويظل قطب الدولة المشترع يقظا في شخص جوستينيان على الدوام، ومن ذلك أن كان يوجد شغب بين فريق «الزرق» وفريق «الخضر» في ميدان السباق، فهو، مع فرضه عقوبة عن حب للعدل، قد حال دون اتحاد هذين الحزبين ضده، واتحاد مثل هذا كان موجودا في السنة الأولى من عهده مع ذلك. وقد اعتقد الإمبراطور ضياعه، وذلك أن سار الحزبان المتحدان إلى قصره الذي خربوه مع الهتاف: «كن غالبا!» ويا للعظمة في هذا النداء الثوري! وهو لم يسبق أن صرخ به في وجه مليك من قبل الجماهير، والواقع أنه لم يكن هنالك حرب، وليس هذا الصراخ غير ترديد لاستفزاز جنود الرومان الاستهزائي في وجه يسوع حين كانوا يدعونه وهو على الصليب إلى إنقاذ نفسه إذا كان ابنا للرب حقا.
وكان جوستينيان مدينا بسلامته في ذلك اليوم لامرأته تيودورا التي لم يعرفها إلا في الأربعين، وهي التي نراها في فسيفساء رافن جالسة على العرش كملكة علوية، وقد كانت ابنة ملعب، وقد كانت ابنة لعارض دببة ولعاهرة، وتدخل فرقة رقص إيمائي قبل الأوان، ثم تقف نظر الإمبراطور في ملعب، وتعود إلى هذا الملعب بعد سنين كثيرة لابسة تاجا من ذهب ملكة لإمبراطورية عالمية. ومن الشعب خرجت بنات كثير قبلها وبعدها متخذات مثل حرفتها في القسطنطينية، ولكن تيودورا كانت على العكس من النساء اللائي هن من طرازها فمثلتهن مسالين؛ وذلك لأن تيودورا عرفت أن تستفيد من نصيبها.
وتوصي تيودورا زوجها بأن يكون رابط الجأش في ساعة الذعر وحين محاصرة الجمهور للقصر، ويكون لها وقت بذلك فتنقذ العرش بأمرها قائدها الخاص أن ينحاز إلى حزب «الزرق» ضد حزب «الخضر»، وأهم من قائمة عشاق تيودورا ما كان من حب جوستينيان العظيم لها وتكريمه إياها ما دامت حية؛ أي مدة عشرين سنة، فلما ماتت حد من أجلها حتى وفاته.
وتخيب الثورة فيقضى على جميع حقوق الشعب، وما فطر عليه البزنطيون من طبع حاد، أثبتوا به أنهم وارثو الأثنيين في معارضتهم المتأصلة، تجلى فيما قاموا به من فتن مستمرة في غضون القرون القادمة. ولم يقع في عهد جوستينيان من الفتن بعد ذلك ما يقمعه، فلما وطد نظامه الاستبدادي صار من الممكن أن يبدأ بحروبه ليوحد الإمبراطورية، أن يبدأ بتلك الحروب التي دامت عشرين عاما. وكان الأسطول سلاحه الرئيس، وهو إذ لم يكن جنرالا ولا أميرالا فقد فوض أمر أسطوله إلى رجل قوام به كما كان أغسطس قد صنع، وكان قائده بلزير من سرعة الحركة مثل أغريبا منذ ستمائة سنة فقهر ملك أفريقية، وقد أراد أن يكون تناسق بين سفن الأسطول فأمر بصبغ جميع الأشرعة باللون الأحمر، ويدخل قرطاجة فتزول إمبراطورية جرمانية قديمة من البحر المتوسط كما يزول آخر ملك وندالي، ويكون هذا إنقاذا حقيقيا.
وأصعب من ذلك بدرجات أن يغلب القوط في إيطالية وإسبانية، ولم يتم نصره إلا بعد حروب دامت عشرين عاما وبفضل تفوقه في الملاحة ، وتغدو رومة مسرحا لاعتراك القوط والبزنطيين في تلك الحروب الطويلة، وتحاصر رومة ثم تحرر ثم يعاد فتحها إلى أن دخل أحد قواد العاصمة الجديدة، نرسيس، تلك العاصمة القديمة التي عرف كيف يحترمها.
وتحيق كارثة كبيرة بالرومان الذين كانوا مع أشرافهم وأعضاء سناتهم يحبون أن يرسموا سلسلة نسبهم إلى رومولوس، فقد جعلت من إيطالية ولاية بزنطية وجعلت من رومة عاصمة لهذه الولاية، فتكون بذلك تابعة للإغريق، وبذلك يكون العالم اليوناني قد انتقم من اللاتين انتقاما عظيما، وذلك بعد خمسة قرون من الزمن الذي حول أغسطس فيه بلاد اليونان إلى ولاية.
ولم يمض زمن قصير حتى قضي على آخر أثر جرماني في البحر المتوسط، وكانت الإمبراطورية الرومانية تنهض ثانية حين سقوط عاصمتها القديمة، ومع ذلك فإن رمزها الذي كان دائرة مركزها رومة حتى ذلك الحين يتحول إلى شكل إهليلجي ذي محترقين.
ويلوح أن البحر المتوسط، الذي كان مقسوما إلى نصف غربي ونصف شرقي فاتحد مدة خمسة قرون، قد قسم مجددا، ويظهر أن الدردنيل وجبل طارق؛ أي المضيقين اللذين حرراه من الحواجز جاعلين منه بحرا داخليا، يغدوان تابعين لشعبين مختلفين وحضارتين متباينتين. وما وفق له جوستينيان في الغرب بدا متعذرا في الشرق تقريبا، فهو قد عاد غير قوي في الشرق لمقاتلته ملوك الجرمان المحتلين للقسم الغربي من البحر المتوسط، وصار لا مناص له من الإذعان منتصرا على فريق من البرابرة متسامحا تجاه فريق آخر منهم، ويدفع وفق المعنى الحرفي؛ أي يضطر جوستينيان إلى إعطاء الفرس جزية، ويدنو الخطر من القسطنطينية كلما قضت الضرورة بأن يبعد جوستينيان منها كتائبه، ويهدد الهياطلة والصقالبة عاصمته حوالي سنة 559 على حين يزحف شعب البلغار الفتي متوجها إلى كورنث، ويبرز الصرب والكروات على مسرح التاريخ للمرة الأولى متدفقين على طول حدود الإمبراطورية من الشمال، وتكلف هذه الحرب التي دامت عشرين سنة ثمنا غاليا من الأرواح والأموال، وينفق الإمبراطور فيها ملايين الذهب التي كان قد ورثها.
وينشئ جوستينيان في كل مكان طرقا وقنوات وحمامات عامة وأديارا ومكتبات، ويشعر بأنه أنجز هذه المشاريع عن علم وحماسة أكثر مما أبداه في حروبه، وتصفه التواريخ منهمكا في تربية دود الخز بما تحرر به أبهة بزنطة من الصين للمرة الأولى، ويجد حارس العدل هذا أن من الطبيعي أن يسرق بزر حرير من الصين بواسطة راهبين فيؤتى به في عصي مجوفة، وإن شئت فقل إنه كان يقدر أن من الجائز أن يخادع قسيس خادم للقوة والمال قسيسا آخر. «لقد فقت سليمان!» هذا ما قاله جوستينيان صارخا عندما فرغ من بناء كنيسة أيا صوفية وقصره الخاص، وقد ضاعف جهده نتيجة لاحتراق المباني في أثناء الثورة، وقد مضت خمس سنين فقامت الكنيسة الجديدة، التي شيدت بمواد غير قابلة للاحتراق أتي بها من كل مكان، أعظم اتساعا وأكثر جمالا من الكنيسة القديمة، ووجب على أعمدة معبد أفسوس أن تحمل القبة التي رفعت تمجيدا ليسوع، وأمر بتحويل كرة الرخام الكبيرة الخاصة بأفروديت فرغامس إلى جرن ماء مقدس. ومن الجلي أن هذا الولع بالبناء، الذي حفز كثيرا من الطغاة في جميع الأدوار، ضرب من وسائل الصيت مصدره شعورهم بأن الدول تنهار بأسهل من انهيار القصور.
وكان جوستينيان كثير العناية بالجزئيات على الدوام، وكان في رافن وأورشليم يرسم ويغير نسب كنائسه الجديدة شخصيا، ومع ذلك فإن اليد التي رسمت تصميم قبة أيا صوفية الواسعة قد أمضت مرسوما أثقلت به ذكرى صاحبها بأكثر من كل حكم بالإعدام، وذلك أن جوستينيان أغلق مجمع أثينة العلمي، ولا مراء في أن هذا تدبير نصراني لما كان من منعه دروس أولئك الذين «يؤمنون بالحماقة اليونانية». وكان هذا أيضا انتقام بزنطي ازدرى علماء أثينة مدينته مدة قرنين، ويضطر علماء الأفلاطونية الجديدة، بعد أفلاطون بثمانمائة سنة، إلى الهجرة عند حفدة البرابرة في بلاد فارس مع أن أجدادهم كانوا يستريحون في ظل السيجان
26
التي كان يتنزه أفلاطون تحتها.
ومن ينظر إلى هذا العمل من بعد يجده همجيا كانتهاب رومة من قبل القوط، ويصعب تسويغه ما استندت الكنيسة في ذلك الحين إلى أرسطو الذي صار في القرون الوسطى قديس علم اللاهوت، وعن تبني أرسطو هذا يقول أغستن كلمته الرائعة: «علينا أن نصنع كما فعل العبريون حين خروجهم من مصر حيث تركوا أصناما، ولكن مع جلبهم فضة وذهبا، وذلك بأن نستخرج كنوزا من كتب الوثنيين.» وعن اعترافات القديس أغستن؛ أي عن كتابه الذي هو أشهر كتب القرون الوسطى، كان النصارى يقولون: «كان يبدو كما لو كتبه سقراط.» وفي الغالب يظهر الأساقفة والبابوات، حين يدخلون الإصلاحات شيئا فشيئا، يظهرون أكثر حكمة من إمبراطور مثل جوستينيان الذي زعم تأسيسه دينا للدولة بمرسوم بسيط، وهو لم يوفق في ذلك كعدم توفيق كل ملك في مثل ذلك، وما كان يمكن تحقيق قيام دين للدولة مثل ذلك الدين في الإمبراطورية الرومانية، ففي القرن الخامس كانت تمارس الوثنية بلاد بأسرها في شمال أفريقية، وقل مثل ذلك ما كان بإسبانية ولا كونية في القرن التاسع، وهكذا كان يتعذر تداخل العالمين بغير الإدغام، وهذا لم يكن بغير قسر وجور، ومما يروى أن أسقفا بأفريقية قد أكره سبعين ألف شخص على المعمودية في بضعة أشهر، ومن جهة أخرى استعار النصارى أنفسهم بعض العادات من الوثنيين كالإيواء وكالقبول في صف الإكليروس وكذخائر القديسين وإدراج طوباوي في عدادهم، أولم يؤله قيصر من قبل فرجيل فيسمى «سوتر»؛ أي «المنقذ»؟ أولم يجعل أدريان في بضع سنين أنتينوس الذي غرق في النيل إلها معترفا به في الإمبراطورية؛ لأنه كان وسيما عزيزا على الإمبراطور؟ وقد أعلن أن قسطنطين قديس، وكان يمكن جوستينيان أن يأمل مثل ذلك.
ولم يصدر الخطر الذي كان يهز النصرانية منذ القرن الرابع بلا انقطاع عن الوثنية مع آلهتها القديمة التي كان يرجو خيالي مثل جوليان إحياءها ذات حين، بل كان صادرا عن تعدد المذاهب وعن حسدها المشترك للإمبراطور.
وقد نشأت المذاهب نتيجة لنزاع حول حرف من الأبجدية، حول حرف
į ، وهل كان يسوع مساويا للرب أو شبيها بالرب؟ وما عبر عنه في اليونانية ب
o
تجاه
įo
من الاختلاف كان أكثر من حرف في الحقيقة. وكان أحد آباء الكنيسة (أنسطاس الإسكندري) قد أثبت اتحاد الأب بالابن، فأدرك جميع المؤمنين الغربيين ذلك إدراكا جليا، ومع ذلك كان الناس في الشرق يستمعون مختارين إلى مذهب أب آخر من آباء الكنيسة، إلى مذهب أريوس، فكانوا يدعون آريين، ولم يكن يسوع في هذا المذهب غير مخلوق من الله؛ أي ليس واحدا مع الله، ولم تحل المعضلة بذهاب مؤتمر نيقية إلى قول الأنسطاسيين (الكاثوليك) ضد الآريين، بل اشتدت المسألة أكثر من قبل وغدت موضع نقاش عنيف في قرون كثيرة، وقد صار هذا النزاع عاما بين الأمم واستحر مع الزمن مقدارا فمقدارا. ومن مظاهر الحياة الروحية في ذلك العصر أن كان الناس يتنازعون حول مسألة لاهوتية بدلا من الموضوعات الاقتصادية، ولم ينشأ هذا النزاع في الشعب عن أية مصلحة شخصية كانت، وعلى العكس كان النزاع في القصور يدور بين البطاركة والبابوات، وبين البابوات والملوك، حول أمور الصدارة؛ وذلك لأن حق تقدم أسقف رومة على جميع أحبار العالم كان غير مسلم به بعد، وتثير كلمة «أنت بطرس» المشهورة التي وردت في إنجيل متى وتفسيرها الروماني أهواء أساقفة أنطاكية والإسكندرية وغيرهما من المراكز الدينية.
وبما أن المجامع الدينية كانت متخالفة فقد كان القرار حول علاقات يسوع بالرب الأب يتوقف في الغالب على الأميرة، أو الخصي الذي كان يؤثر في إمبراطور القسطنطينية أيام انعقاد المجمع الديني، وما كان من نزاع حول الحرف
į ، الذي كان في البداءة رمزا بسيطا ذا قيمة عميقة مثيرة للوجد، تحول بالتدريج إلى وغي حرب بين الأحزاب التي دافعت بدورها عن حقها الإلهي بهذا الحرف، وكانت تقع انفصالات في الكنيسة التي لا تزال فتية، فانفصل نصارى سورية ومصر عن العقيدة التي اعتنقت على العموم، ولا يزال الأقباط ونصارى الشرق منفصلين حتى زماننا، وكان للأباطرة خيار في أن يكونوا من الملحدين في مصر أو رومة، وقد صور الأباطرة في ذلك الحين بأكاليل حول رءوسهم مع مطارنة خاشعين وراءهم، وقد انتقم البابوات من أولئك بأن صوروا جالسين على عرش مع تقديم تاج إلى إمبراطور قصير، فعن هذه الألواح المختلفة غاب الرب منذ زمن طويل.
وكان الكرسي الأسقفي يرمز إلى ارتباط أساقفة رومة بقيصر وإلى أنهم نالوا سلطانهم منه كما نالوه من الرسل، وكراس رخامية مثل ذلك، كما لا يزال يرى مثلها في سان غريغوريو، كانت تصور عرشا زمنيا موزعا لحق السلطة، لا للحب والخضوع.
أولم يكن أحد الأساقفة جابي ضرائب وموزع وظائف معا؟ وكانت مطاليبه تهب له سلطانا، وقد صيغ هذا السلطان بانتقال الملوك وبقاء يسوع، وقد زعم أسقف رومة أنه ممثل الروح والإيمان وأنه فوق الأمم، وكانت رومة حيث وجد القياصرة والرسل، وهكذا كانت رومة العاصمة لولاية ضعيفة، والمعبدة أيضا، تصبو إلى السمو فوق المدينة الإمبراطورية بزنطة، ولما أراد سان أنبواز الميلاني معاقبة الإمبراطور ثيودوز لمذبحة أمر بها ورضي الإمبراطور بهذا العقاب بدأت صفحة تاريخ جديدة.
واكترث جوستينيان لجميع هذه المسائل اكتراثا فعالا، ويموت في الثانية والثمانين من سنيه بعد أن قضى نصف حياته في الحكم، ويراد قياسه بملك الوندال جنسريك الذي طال عهده مثله، غير أن هذا القياس غير سائغ، وماذا بقي من الجرمان بأفريقية في الحقيقة؟ بقيت ذكرى للفوضى والقسوة التي كانت أجدر بالغابات الابتدائية في جرمانية، ولم يحفظ التاريخ من عهد جنسريك غير ظهور الوندالية
27
فيه. أجل، إن جوستينيان ضحى أيضا بجموع من الرجال في حروبه وفي الثورة، وإنه حاول تقويض تراث أفلاطون الأثني، وإنه أغلق أبواب مجمع أثينة العلمي فاضطر آخر علماء اليونان إلى الفرار لدى الفرس كما ذكرنا آنفا، وإن اسم اليوناني صار لا يدل على غير دور طويل من تراث الأفلاطونية الحديثة المزدراة، وإن البارتنون حول إلى كنيسة نصرانية، وإن معبد تيزه حول إلى كنيسة خاصة بسان جورج، بيد أن جوستينيان كان يبذل جهدا كبيرا في توحيد السلطة الرومانية وإعادتها إلى سابق حالها، وكان يميل إلى خدمة الكنيسة والسيطرة على البابا معا، وكان دائم الجد في الإنشاء والتعمير وتشجيع الفنون والمهن والاختراعات، وقد افتتح جوستينيان كنيسة أيا صوفية الثالثة قبيل موته بعد أن هدمت الثانية زلزلة.
ولكن القانون الذي وضع أسسه يبقى فوق كل شيء ، وما كان من ضعف غريب في الرجل قائم على توزيع جاه بين القواد أكثر من توزيعه بين محسني البشرية وجد في كل نشاط اجتماعي له خلا نشاط المشترع فيه، ويلوح أن المعنى القانوني متأصل في الرجل بأعمق من تأصل الثقافة والديانة؛ وذلك لوجود كثير من الفلاسفة والأديان؛ ولأنه لا يوجد سوى عدل واحد يجمع على مبادئه جميع الأمم تقريبا ... وقد أقام جوستينيان مبادئه بأثبت وأنمى وأوسع مما صنع سولون وليكورغ ونابليون، وما أوجبه قانون جوستينيان من السلام والسعادة بين الآدميين مدة خمسة عشر قرنا أكثر مما جاء به أي دين كان؛ وذلك لأنك لا تجد من ناهض ذلك القانون حتى سنة 1933؛ ولذا يعد جوستينيان من عظماء الإنسانية ضمن هذا المعنى.
15
تشرف نوافذ القصر الجديد، الذي شاده جوستينيان على القرن الذهبي، على قبة ذات بياض لامع فتسطع أمام عيني الإمبراطور كما تسطع أمام عيون خلفائه فيما بعد، وجوستينيان هو الذي بنى هذه الكنيسة، وجوستينيان هو الذي أهداها إلى الحكمة، إلى صوفية كما في اليونانية، ولا ريب في أن المنظر قد أفسد بكثير من المباني التي أقيمت حولها، وذلك لعدم قيام أيا صوفية على مكان مرتفع أو طليق ككنيسة كولونية، وتستر أسوار عالية خارجية وطائفة من القباب المنخفضة الناشبة بها كالطفيليات نصف الميدان المرئي، ولم تكن المآذن الأربع الرائعة التي نعجب بها اليوم موجودة في ذلك الحين.
ويسطع جمال الكنيسة من الداخل، وتبدو القبة رصفة عظيمة مسيطرة على جميع من ضغطوا بتقسيمات أروع الكتدرائيات، ومن العبث أن يبحث في مكان آخر عن أثر له ما لتلك الكنيسة من ارتفاع واتساع مع سقف خفيف، ولا يزال عدم الصور، كما كان شائعا بين نصارى ذلك الزمن إلى حد ما، يلقي في الروع طابع الوحدة في القبة، ويبلغ الصحن البيضي الواسع الطويل مائة وعشرين قدما والعريض مائة قدم، من الارتفاع مائة وثمانين قدما إلى ذروة القبة، حتى إن كنيسة القديس بطرس في رومة البالغة من العرض والارتفاع والعلو ضعفي ذلك لا تشتمل على صحن له مثل ذلك الاتساع، ويقف النظر فيها صفان أو أربعة صفوف من أنصاف الجدر كما في جميع الكنائس الأخرى، وليست أيا صوفية أثرا فنيا فريدا بمئات الأعمدة المصنوعة من الرخام الأخضر ولا بفيض الأقواس وتيجان الأعمدة الرخامية ولا بالرتاج ذي الأبواب التسعة، ولا بالطيقان المزدوجة، ولا بالرواق الرائع الخاص بالنساء، ولا بالفسيفساء الرخامية والصدفية والذهبية، فجميع هذه الأشياء موجودة في الغرب أيضا، وإنما تستحق هذه الكنيسة اسم «الحكمة العليا» بقبتها الطليقة وحدها، ويدخلها النور من أربعين نافذة، فإذا ما ارتفع البصر إلى ضياء تلك النقطة من الفضاء الواسع الذي لا يقاس وجد في الوسط شمسا. وترى من الحمام مائة تجوب الفضاء طائرة إلى جهة العرض، ولا ريب في أن جوستينيان هو الذي أطلق أجدادها، ويجد بعضها في أثر بعض ساجعا تحت تلك الشمس، وترخم في نواح خفية، وتموت وتكثر من غير أن يطعمها أو يعنى بها أحد، ويتألف من تصفيق أجنحتها في ذلك المكان ضرب من الموسقى التي ترتفع صامتة.
وكان جوستينيان أول من جعل من القسطنطينية عاصمة للبحر المتوسط؛ أي للعالم الغربي، وقد ظلت هذه المدينة تابعة قبل الميلاد بثلاثة قرون وبعده بثلاثة قرون، أجل، إنها كبرت بعد تأسيسها الثاني، غير أنها ما انفكت تكسف من قبل رومة وأنطاكية والإسكندرية، وثيودوز الثاني هو الذي بنى سورها المستدير العظيم المشتمل على مائة برج، واليوم نستريح تحت أشجار السرو بين أطلاله كما لو كنا في حديقة خربة. وإذا عدوت الحروب الصليبية لم تجد باغيا استطاع أن يقتحم تلك الأبراج المرتفعة على صفوف بسيطة من ناحية البحر وعلى صفوف ثلاثية من ناحية البر، وقد حاول الفرس والهياطلة والبلغار أخذها عنوة فلم يوفقوا، وهكذا استطاعت القسطنطينية أن تظل باقية أحد عشر قرنا؛ أي من سنة 300 حتى سنة 1453؛ أي إلى حين وصول الترك؛ أي مدة أطول مما اتفق لأية دولة من دول البحر المتوسط خلا مصر البرية. وتذكر بزنطة، التي كانت تسيطر على إيطالية وإسبانية وأفريقية الشمالية وفلسطين وآسية الصغرى والبلقان حتى نهر الدانوب، بإمبراطورية الإسكندر أكثر من أن تذكر بإمبراطورية قيصر، والواقع أن الإمبراطورية البزنطية كانت إمبراطورية إغريقية، وأن بعض علمائها عرف ضمن نبوءة هيرودوتس المشهورة لا ريب، ومع ذلك فإن قسطنطين الذي هو أحد عاهليها العظيمين كان لا يتكلم اللغة اليونانية وإن العاهل العظيم الآخر جوستينيان كان لا يتكلمها إلا بلهجة رديئة، ويمكن قياس هذه النقيصة بما نجده أحيانا لدى الفاتحين الذين حققوا خيالهم، وتبدو هذه النقيصة هزلية كلهجة نابليون الفرنسية السيئة.
وإذا ما نظرت إلى إمبراطورية بزنطة من حيث طبيعتها الخاصة لم تبصر ما هو مشترك بينها وبين إمبراطورية الإسكندر وإمبراطورية قيصر، وهي قد ظلت وحيدة في التاريخ لتقمصها الطقوس في شكلها الأعلى، وليس تاريخ بزنطة من الأساس سوى تاريخ طقوس ورموز شعر بها شعورا عميقا فتعبر عن القوة والإيمان في نفس الإنسان وأمام الأمة أيضا، والفراعنة وحدهم هم الذين ألهوا الطقوس بهذا المقدار، ولكن الفراعنة كانوا أبسط طوية فينادون بأنفسهم آلهة ويتلهون أحيانا ببساطة قلوب الشعب لا ريب، وعلى العكس كان أباطرة بزنطة يعدون أنفسهم ممثلين ليسوع دوما.
وبما أن كلا من السلطان والإيمان كان يدعم الآخر مبادلة فإن بزنطة لم تعرف ما بين البابا والإمبراطور؛ أي ما بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، من نزاع، فقد كانت تانك القوتان قبضة أيد واحدة، كما لدى الخلفاء، وذلك مع انفصالهما بطقوس وثيقة تبديهما كنصفي الرب، وإذا كان الإمبراطور هو الذي يعين البطرك فإن البطرك هو الذي كان يتوج الإمبراطور، وإذا كان العملان يعدان دينيين فإن أمرهما كان يستقيم بالسلطة الزمنية، وإذا ما انتهت التولية في الردهة الذهبية بين الأجواق المنشدة، هللوليا، رفع الإمبراطور الصليب بيده اليمنى رفعا بسيطا، وإذا نظرت إلى الخارج وجدت حصانا مطهما ينتظر أمير الكنيسة ووجدت أعضاء السنات ينتظرونه ركبانا ليرافقوه إلى قصره. وكان جميع موظفي الإمبراطورية أجزاء لرمز المجموع المقدس، وذلك كالهرم المدرج الذي يبدأ من أحقر خفير، وكان لا يوجد في بزنطة وظائف زمنية صرفة، وكان هرم الموظفين يرمز إلى شكل الحياة الأخرى، حياة الفردوس، ولا تجد مذهبا آخر للنصرانية، ولا دورا آخر من أدوارها، أسفر عن توسيع للسلطان مشبع من علم اللاهوت كما أشبع ذلك. وكان على الإمبراطور وبلاطه أن يظهرا قدوة لغيرهما تقوية لأساس الدولة هذا، وكان لا يمكن عمل شيء ارتجالا، وكان يجب قضاء ساعات من كل يوم في التمرين ولو حول وضع الأصابع، فأدى ذلك إلى اكتساب أرباب الطقوس نفوذا كبيرا وإلى توجيههم أمور السياسة في الوقت نفسه، وكان هؤلاء من الخصيان المعقمين على الموضة
28
الحاضرة في الغالب، لا من المسلولي الخصيتين، وكان من بينهم من بلغوا الغاية من الرقي كنرسيس الذي عد أعظم قواد القرون الوسطى فغلب القوط ابنا للخامسة والسبعين، غير أنك لا تجد من الخصيان من استطاع أن يصير إمبراطورا، وقد أصبح حفظ التوازن بين السلطان والإيمان هدف السياسة الداخلية الأساسي مع الزمن، فحل الشكل محل الروح في نهاية الأمر.
وكتب شاهد عيان يقول عن مجمع نيقية الديني: «كان يمكن المرء أن يرى أمامه صورة عن مملكة يسوع الإلهية، ولم يبد هذا حقيقة، بل كان حلما رائعا.» وبهذا يفسر سبب كون الأبدان في الفن البزنطي مستورة تماما على بعض الفسيفساء، حتى إن أرجل الأباطرة وأزواجهم كانت مغطاة بالديباج فلا ترى، وكانت تغطي رءوسهم برانس كبيرة بدلا من التيجان المكشوفة، وكان لا يبدو من تلك الوجوه المتكرشة غير قسم قليل، وكانوا من الدنو من يسوع الجالس على العرش فوقهم ما تكاد قدماه تمسان معه صدورهم، وهكذا تبصر الحركة والعرية والجانبية مجهولة في الفن البزنطي، ويوجد على تصاوير صغيرة وزراء جالسون على نوع من العرش لابسون ديباجا رائعا مزخرفا برءوس أسود، وينظر هؤلاء إلى كتاب القداس الذي يقدمه إليهم صبي من الجوقة مملوئين عنجهية. وفي ذلك العهد، وفي الشمال، تبصر الإمبراطور الآخر، تبصر هنري الثاني الألماني، قد صور هو وزوجه على رافدة وراء مذبح في بال فيبدوان من التحدب والصغر ما تظهر رجل يسوع معه أكبر من كل من الوجهين، ويلبس كل منهما تاجا على رأسه مع ذلك.
وكان يعرب عن زعم الإمبراطورية النصرانية الأولى بالعزة التي لا تكون إلا بقوة التقاليد المتأصلة، وكان الإمبراطور الرصين، حينما يقوم بصلوات المساء، يتنور بروحه صورة ألوف الجنود على الدانوب والنيل والفرات وهم يعلقون شموعا على رءوس حرابهم قبل المعركة ويشعلونها منشدين عين النشيد النمطي الذي ينشده في رواق قصره في الوقت نفسه، وتزيد عبادة الشكل شيئا فشيئا، وتبلغ شهرة هذا البلاط الفخم ما وراء البحر، ويقع ما لا يصدق، يحدث خضوع قبيلة روسية للبزنطيين؛ لأن الإمبراطور أكرم سفراء هذه القبيلة بأن أقام لهم قداسا احتفاليا ذا تلحين في أيا صوفية، وكان كتاب الطقوس ينص على قتل كل من يسقط طبقا في وليمة بالبلاط، وعلى ذهاب بصر من يكون شاهد هذه الحماقة.
ومن الطبيعي أن نشأت مدرسة كبيرة للدبلميين
29
نتيجة لملاحظة أدق الحركات والسكنات فنجم عنها حذق الفنيسيين والعرب السياسي، وكان يعلم شباب الموظفين روح الأمم الأجنبية، ولا سيما البرابرة، ويذيع في العالم بأسره صيت الأطوار الصالحة التي هي جزء من تربيتهم، والحق أن الوقار والاتزان والأنس فضائل نعزوها إلى الشرق على العموم مع أن بزنطة كانت تمارسها على حدود أوروبة، وكان مثل الكمال يتجلى في الرجل الذي لا يتخطى غيره والذي يظهر الإعجاب بكل غريب والذي تظهر رزانته بنظره ووضعه أكثر مما بكلماته، وكان ذلك الكمال يتجلى في التسامح المزعوم أيضا، فقد أنشئت مساجد عربية للأسرى، وقد أعيد إلى أمير أقريطشي بلده وقصره بعد أن أخزي. وكان من تربية البلاط أن تقام ألعاب عسكرية يمتاز الإمبراطور في أثنائها، وكان من تلك الدروس أن يراسل فلاسفة في الخارج مراسلة أدبية، وتصف بنت كومنين الأول عهد أبيها بأسلوب جميل، وبينما كان النصارى يحرقون في الإسكندرية امرأة من أكثر نساء المجمع العلمي ثقافة كانت بزنطة تمن على المفكرين والشعراء بالنعم ما أطاعوا القانون الأعظم.
وكان منظر عظمة العاهل يتطلب حضارا، وكان أحسن الفرص لذلك يتجلى في حفلات التتويج ومواكب النصر، وكانت هذه المظاهر تدوم عدة أسابيع فيرسل مفوضو البلدان الأجنبية تقارير إعجاب إلى أوطانهم، ولم يكن الثراء والأبهة وحدهما هما اللذان يثيران العجب، بل كان يثيره وقار الأطوار أيضا، أي هذا الأمر الذي لم يبلغ من العظمة عند أمة بلوغه عند هؤلاء القوم. وفي بزنطة استبدل شخوص الإمبراطور بما كان يقع من تأليه في طيبة القديمة، حيث كان الفراعنة يجوبون الشوارع حاملين سمات الإلهين: النيل والشمس، وبحماقات سكارى الانتقام والشهوات من القياصرة، ولا شيء في الغرب كان يمكن قياسه بتلك الطقوس خلا ما كان من الرسميات في البلاط الإسباني ومن حفلات تتويج الرؤساء في البندقية على ما يحتمل.
وتبصر بين صوت الأبواق، الذي يقطعه ترتيل القساوسة باستمرار، كتيبة رائعة مؤلفة من ألف فارس نازلة تحت شمس الظهر إلى الشارع الساحلي الكبير، وتبصر حصنهم مستورة بأغطية طويلة من ديباج، وتبصرها ذات متدليات درية مع زخارف على الرأس والصدر، وتسطع قواري
30
الحرس وأحذية الفرسان بما تحتويه من الحجارة الثمينة، وترى دروع ذهبية وخناجر فارسية قديمة، وتشاهد النساء الموكب جالسات في محامل جميلة على حين تبصر قوارب محدبة ذات ديباج متموج تأتي بأعضاء السنات وبالحكام إلى الشاطئ، ويتقدم الجميع موزون الخطا كما يرى على الفسيفساء الذهبية، وترى رجالا ونساء لابسين تيجانا مرصعة بالحجارة الكريمة وثيابا ذات أكمام طويلة مشابهة للأجنحة وساترة لأيديهم تقريبا، وها هو ذا البطرك يتبعه مئات من القسوس الحاملين شموعا متقدة على الرغم من الشمس، ويرن الأرغن وينتشر البخور في كل مكان، ويساعد البطرك الإمبراطور فيستبدل التاج بالإكليل والسيف بالصليب ويمتقع الأسارى المركومون فزعا، وتعرض على ظهور الجمال التي تمشي مشيا وئيدا خيام غنمت من العدو، ويحمل واليان إكليلي زهر ويقدمانهما إلى الإمبراطور فيمد ذراعيه، وتجد في الوقت نفسه أشراف الأسرى جالسين مجرورين إلى أسفل الصليب المنصوب قريبا من الإمبراطور، ويسجد أعلى الأسارى مرتبة ويضع رأسه الحليق تحت حذاء قاهره الأرجواني، ويرفع هذا الغالب عينيه إلى السماء ليكون نسب بين النصر والرب معبر عنه بثلاثة رموز: بالرقبة والحذاء والنظر، ويجعل أمير الإصطبل رمحه على قفا الأسير، ويسجد الأسرى الآخرون كلهم وتطرح الأسلحة التي كانوا يحملونها قبل التسليم على الأرض ، وتصحب ذلك كله أناشيد دينية، ويخفي الحضور وجوههم خلف أكمامهم كما لو كانوا أمام الرب وينطق البطرك بأدعيته، ويرفع الإمبراطور رجله وينهض جميع الأسرى ويرجعون القهقرى، وفي الغد يأتي الإمبراطور إلى الميدان راكبا عربته التي يجرها أربعة جياد، وتتقدمها عربة أخرى يجرها أربعة جياد أخر سائرة بصورة العذراء، ويلقى إلى الجمهور ألف قرص من الخبز مشتمل على قطعة من النقود الذهبية، ولا ينبغي إنفاق هذه القطعة حتى عند أشد درجات الفاقة، وتتفجر ينابيع من الخمر حول القصر، ويظهر الأسرى، الذين حرروا أمس، جالسين على مقاعد بين الجمهور مراهنين على أفراس وفرسان، ويجب أن تكون جميع ثياب الطبقة الأريستوقراطية وجميع هدايا الإمبراطور من الإبريز،
31
ومما حدث أن جوستينيان أنفق في سبيل هداياه دخل مصر بأجمعه في سنة واحدة.
وهل يمكن ملوكا من الناس أن يحافظوا على صحوهم بين مثل ذلك الشطط؟ لقد وجدت بزنطة توازنا بإقامتها، مع الطقوس الاحتفالية، ملاعب يستطيع الشعب بها أن يداري أهواءه وينهمك في ألعابه وأن يشتغل في السياسة ويتلهى بالمهازئ كما في آغورا أثينة أو في الملعب الأكبر برومة، وكان الشعب يعبر عن رغائبه في الولائم والمباريات بالأغاني والهتافات، وكان الإمبراطور يسمع فيعرف بذلك مخادعة الوزراء إياه، وكان يطلب إليه، مثلا، أن يأمر بزيادة المياه في الحمامات العامة وبتنظيف الشوارع من الوحل، وكان لفريق من الممثلين والراقصين والفتيات والسحرة فتنة في قلوب الجمهور، وكان الجمهور مؤلفا من عدة عروق؛ وذلك لأن فريقا من الأسرى كان قد استقر ببزنطة للتجارة فيقع تبادل في اللغات والعادات والسلع بين شغب كبير، وللجمهور أيضا أن يترنم بأغان حول الإمبراطورة ومغامراتها الغرامية السابقة.
وما أكثر من سخروا حينما بعث البطرك بأوراده إلى الميدان ليهرع إلى الإصطبل حيث وقع جواده المفضل على الأرض! وكان البطرك يملك أحسن خيل للسباق، فيطعمها عنبا وكشمشا
32
موضوعين في معالف من رخام، وتعين الخيل مصير الجواد لقض عظامه في أثناء سباق ذي عوائق، وكان يتألف من السباق والرهان وتنازع الزرق والخضر ألهية الشعب، وكان الأباطرة يعرفون ذلك فيستمعون إلى صوت الجمهور الساخر مع ما كان عندهم من محاربين وقسيسين، وبينما يبدو الأباطرة للجمهور كالقديسين كانوا يوحون بأنهم يعيشون مع الشعب ضمن أسرة، وإذا وضعت الإمبراطورة ولدا شرب جميع حرس القصر من حسائها لعدهم ذلك شرفا!
وقد عانت بزنطة خمسا وستين ثورة في أحد عشر قرنا؛ أي فيما بين سنة 300 وسنة 1400 تقريبا، وقد قتل ثلثا الأباطرة ال 107، ولم تدم سلطة معظم البطاركة أكثر من سنة، ومع ذلك لم يثر الشعب ضد النظام قط، بل ضد الأفراد، وإذا عدوت مصر وألمانية لم تجد مملكة ألفية لم تغير نظامها، ولم يفكر أكثر محطمي الأصنام تعصبا في القرن الثامن والعاشر في قلب النظام، ويجب أن يبحث عن سر هذا الاستقرار في ثالوث الطقوس والشعب والجنود الثابت. وإذا استثنيت الأباطرة الأخيرين لم تر من الأباطرة من أهمل الجيش والبحرية كما كان الفرس والقرطاجيون والرومان يصنعون في دور الثراء وعدم الاكتراث الذي عقب الأيام الكبرى، ولم يقع الانحطاط إلا متأخرا، وقد أنشأ أباطرة بزنطة وصانوا في حلب (؟) وأفسوس وإزمير أصلح مرافئ البحر المتوسط، وما فتح من أسواق كبيرة في هذه الموانئ كما فتح في سلانيك كان يتردد إليه المصريون والهندوس والصينيون والإسكندينافيون والروس كثيرا.
وقد قام البزنطيون بدور الشرطي البحري ضد القراصين في الوقت نفسه، وقد عد البزنطيون في مائة سنة أن أهم عمل يقومون به هو أن ينزعوا أقريطش من نهابي البحر هؤلاء. وكان القراصين في القرن التاسع والقرن العاشر يخرجون من حصونهم وموانئهم ومخابئهم في أقريطش، وكانت أشرعة سفنهم سودا، وكان يسير كل واحدة من هذه السفن مئتا أسير أفريقي طويل، وفي سنة 960 فقط استعد أسطول مؤلف من ألفي سفينة للانطلاق من القرن الذهبي حاملا تجريدة وآلات حربية ونارا يونانية اخترعت حديثا. وكان يوجد على ظهر هذه المراكب أناس من النورمان والروس والأرمن والدانيماركيين، وكان لأشرعة مركب أمير البحر ألوان قوس قزح، وكانت هذه الأشرعة تنتفخ بفعل الريح، وكانت أعلام من الحرير تتموج مع صور القديسيين وراء المقدم المذهب.
ويكتب الفوز لتلك الحملة، وتنجح بزنطة حيث أخفق الآخرون، وتسقط أقريطش التي كانت مأوى القراصين وتزول الأشرعة السود من البحر المتوسط.
16
لاح شراع جديد منذ زمن طويل، وجاء هذا الشراع من جزيرة العرب التي لا تلمس البحر المتوسط، والتي كانت لا تستطيع الوصول إليه بالقناة المرمولة في ذلك الحين، فقد خرجت قبائل بدوية، لم تجاوز شواطئ المحيط الهندي والبحر الأحمر، من الظلام بغتة لتدخل مسرح التاريخ. والعرب، على خلاف جيرانهم الفنيقيين الذين لم يكونوا غير ملاحين، وعلى خلاف اليهود الذين لم يكونوا ملاحين قط، بلغوا البحر المتوسط بما تم لهم من فتوح في البر، والعرب قد فتحوا بلادا ساحلية كبيرة في زمن بالغ من القصر ما لا يصدق، ولم تكن الفترة بين ظهور العرب في سورية وفتحهم الإسكندرية غير بضع سنين.
ومع ذلك فإن هذا الغزو الأجنبي الجديد، الذي يشعر بنتائجه في ألف سنة تقريبا، قد بدأ بمقاصد ووسائل تختلف عن مقاصد الجرمان ووسائلهم اختلافا تاما، ويتردد في وصف العرب بالبرابرة لمساعدتهم على قيام الحضارة في البحر المتوسط مساعدة مثمرة، وكذلك ليس من المناسب إطلاق كلمة «الكافرين» عليهم ما استعملوا هذا الوصف نفسه تجاه النصارى، وعالم الذهن هو الذي كان يفصل بين الأمتين، بين العرقين: غزاة الشمال وغزاة الجنوب.
كان كلا الشعبين بدويا، غير ذي كلام مكتوب تقريبا، غريبا عن تمدن البحر المتوسط الذي كان يجتذبه، ومع ذلك كان يظهر من العرب دوما شعراء ورجال قريض حماسيون حتى قبل أن يستطيعوا تسجيل شعرهم. وكان العرب يفدون ليقتبسوا طبائع جديدة وليتعلموا أمور الذهن، وكان البرابرة، على النقيض، يزدرون هذه وتلك، وفتح العرب بلادا وشادوا ممالك، وجلب العرب معهم لسانهم ودينهم إلى بلاد مجهولة حيث اختلطوا بأهلها، فظهر في التاريخ عنصر منتج إذن.
ولم يستطع الجرمان غير نشر توحشهم، ولم يسطع الجرمان نشر لغتهم، وقد زالت ممالكهم بسرعة كالتي أقاموها بها؛ وذلك لأنهم لم يأتوا بشيء جديد من الثقافة ولم ينتحلوا شيئا مفيدا، وبهذا يفسر أمر ما لا نزال نراه من الآثار العربية التي لا يحصيها عد على شواطئ البحر المتوسط الشرقية والجنوبية والغربية على حين لا ترى أثرا من أصل جرماني.
ويولد محمد بعيد موت جوستينيان، وهو يشابه جوستينيان أكثر من مشابهته ألاريك وجنسريك، وكان كجوستينيان مفكرا وجنديا وفيلسوفا وقطبا سياسيا، وكان ذا نفس وجدية مع ما عليه من حكمة شاملة، ويشابه جوستينيان أيضا في كونه جامعا لمبادئه الخلقية أكثر من أن يكون مبدعا لها، وتضيف تعاليمه، غير المنجزة، قليل شيء إلى ما استعاره من النصارى واليهود، ويوكد صلته الوثيقة بإبراهيم وموسى وعيسى الذين رأى أن يديم عملهم، وكانت أفكاره الجديدة أقل مما لدى عيسى، ولا تجد في مواعظه ما هو حديث جوهرا، ولا تتألف نحلة من تعاليمه بل أساس لقواعد حكيمة حول الحياة العملية.
وإذا ما أغضينا عن الشكل مقابلين بين التعاليم الخلقية، وجدنا، مع الدهش، أن كلتا الديانتين، الإسلام والنصرانية، متحدة كيانا تقريبا؛ ولذا يصعب علينا أن ندرك أمر ما كان من حماسة الصليبيين ومن تلاعن الخلفاء والبابوات ومن تنازعهم حتى الموت نصرا لمبادئهم المتماثلة جوهرا حول الألوهية، وما المبادئ الأساسية - «الله واحد، أحب قريبك، ساعد الضعفاء، احتقر الغنى، ستحاكم وتجازى في الآخرة» - إلا واحدة في كلا الدينين، حتى إن محبة العدو قال بها النبي المجاهد كما قال بها النبي المسالم. والواقع أن محمدا ذهب إلى أن أعظم الفضائل في زيارة الرجل من همزه، وصفحه عمن سبه، وإلى أن المؤمنين إخوة، وإلى أن العبد مساو للخليفة في الجنة.
حتى إنك تجد في الرواية الإسلامية أبوية تكاد تكون كاملة، أفلا يشابه عرش الخليفة الخزفي رمز الخشوع في النصرانية؟ وهل عيسى أو محمد هو الذي قال: «إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي: يا فاسق إلى أين تذهب؟»
أوتوجد كلمة أجدر بموسى وعيسى من هذه: «إنما الأعمال بالنيات»؟
ويمضي ألفا عام على موسى وألف عام على أفلاطون وستمائة عام على عيسى فلا يأتي محمد بجديد كهذه الصيغة جزالة، وأقل من ذلك ما أتاه عن الرب مبدأ جديدا.
وفيما ترى أصل الثلاثة الآخرين من بلاد البحر المتوسط جاء محمد من البادية، وقد عرف موسى وعيسى البادية أيضا ما دامت البادية قريبة من وادي النيل والأردن، وفي البادية تاه موسى زمنا طويلا، تاه نحو أربعين عاما، ومحمد وحده هو الذي لم يغادر البادية ولم ير البحر، ومحمد قد عاش في مكة خمسين سنة، وبين مكة والمدينة اثنتي عشرة سنة تحت شعاع الصحراء المحرقة، وقد جعله شفيف الأمسية الأحمر والأصفر وجفاف ذلك الهواء الخالي من الملح أكثر منطقا واعتدالا من الأنبياء الثلاثة الآخرين.
ويوضح ذلك قلة حس الطبيعة لدى موسى ومحمد وفيض الأخيلة التي كان يوحي بها البحر إلى أفلاطون وعيسى، وتجد موسى ومحمدا متماثلين مزاجا كرئيسين بدويين، وذلك من حيث كونهما عمليين، صائلين، حاكمين مطلقين، زعيمين، نبيين، يحفزهما الغضب والانتقام، وعلى العكس كان أفلاطون وعيسى المخاطران بالنفس يحبان التحذير والإقناع، فكانا أدنى إلى الفلسفة مما إلى النبوة.
وتلك الصفات هي رموز الأخلاق القومية، والواقع أن جواب اليهود والمسلمين عن الحياة كان إيجابيا على الدوام، منكرين النسك بشدة إنكارا واضحا مادحين الخصب، وكان كلا النبيين يعرف النساء، حتى إن موسى عاش مع أجنبية، وكان لمحمد ما طاب من الأزواج، وعلى العكس كان النصارى الأولون والأغارقة المتأخرون يقولون بالزهد، فسار نبياهم وفق مذاهبهم، فمن جهة تبصر بحثا عن الدنيا ومن جهة أخرى تبصر زهدا في الدنيا، ويجد المؤمنون هنا جنة معمورة بالنساء الجميلات، ويجد المؤمنون هنالك جنة مملوءة بالأجواق الفخمة.
ويميز اليهود والمسلمون من النصارى الأولين والأغارقة المتأخرين، الذين ابتعدوا كثيرا عن العالم حتى يختصموا، باعتقاد الربانيين وسفسطتهم مع علماء العرب الذين هم في خصام مستمر حول تفسير الأسفار، ولما قرب الحقد والحب بعض أولئك من بعض أثر كل من النصارى والعرب في بعضهما بعضا مقدارا فمقدارا.
ويرجع القرآن إلى التوراة والإنجيل باستمرار على أنهما أثر وحي سابق من الله، وليس مما يخالف العقائد الإسلامية إذن أن يقتبس العرفان من المصادر الأجنبية، ولم يصنع اليهود والنصارى الذين اعتنقوا الإسلام في أوائل القرون الوسطى عن قناعة أو عن منفعة ولم يصنع ألوف العرب الذين صاروا يهود أو نصارى، غير تقليد ما فعله الرومان واليونان من تبادل خصيب، وأولئك المسلمون المهتدون هم الذين وفقوا بين دينهم الصحراوي المنفرد وحضارات البحر المتوسط، ومع ذلك فإن بعض أتباع الأديان الوثيقة القربى قد انقض على بعض في حروب دامية فأدى هذا إلى قتل ملايين من الآدميين باسم الرمز حين كانت القرون الوسطى تمثل حضارة موحدة في الغرب.
وقد أثار حادث فاجع هزلي، كرر في التاريخ كثيرا، حقد التلميذ النشيط على أستاذه، وذلك أن الراعي الفتي محمدا كان يألف العرافين وشعراء العرب مع الحجارة الساحرة وعبادة الشجر والنار، وأنه استنبط معارفه من أحاديث اليهود المنتشرة في بلاد العرب الغربية أكثر من تعاليم عيسى وزرادشت، من أحاديث اليهود الذين كانت توجد جماعة منهم في المدينة، وأن المبدأ اليهودي القديم قد أوحى إلى ذلك التاجر المكي الذي كان غنيا في الأربعين من عمره والذي كان سعيدا في حياته المنزلية، فكان الإله اليهودي الذي هو قاضي الدنيا ذلك الرب الواحد الذي قام عنده مقام الأصنام البدوية، ويا للسهولة التي يحول بها مثل هذا الإلهام إلى وحي في الحس النبوي الذي اختير صاحبه لينقل إلى العالم ما تلقى من رسالة!
وكان ذلك الوحي يجعل حديث الهداية، المحاط بحلقة صغيرة من المستمعين، متصلا اتصالا وثيقا باليهود، والحق أن الهجرة لم تكن فرارا، بل كانت معدة في سنتين ومعجلة عن تهديد، وهي قد أتت بمحمد إلى يهود المدينة الذين سألوه أن يكون حكمهم في خصام مع ملاحدة، وما كان من ادعاء محمد أنه خليفة لموسى أثار سخرية اليهود، لا ريب، كما أوجب حقدا على الغريب.
ولو رضي يهود المدينة بهذا الرجل المجهول تقريبا؛ أي بمحمد الذي دعوه إلى المدينة، رئيسا سياسيا ما عرفه التاريخ غير منظم نقل العرب من الإشراك إلى اليهودية في القرن السابع، ولكن بما أن اليهود سخروا منه ونبذوه فإنه، وهو تلميذ لليهودية، تحول إلى أعظم لاسامي في التاريخ، ويسلك مثل سبيل زعماء الشعوب المعاصرين فيكدر المنبع الذي كان قد شرب منه، ويصف كل ما لا يروقه في اليهودية بالمزور. ومن عادته في البداءة أن كان يستشهد بالتوراة والإنجيل لما فيهما ما يؤيد تعاليمه، ثم زاد رغبة في السلطان، واغتم من الوضع العنجهي الذي اتخذه اليهود برفضهم الاعتراف به كما اغتم من اعتزال النصارى، وهو إذ كان يرى أن الفوز يكون حليف النبي بحكم الضرورة فقد صرح بأن صلب عيسى من اختلاق اليهود.
ويصبح النبي فاتحا في السنوات العشر الحاسمة الأخيرة من حياته، ويصبح رسول الله الواحد سياسيا عاملا بين الزمر، وهو في ذلك كرؤساء أحزابنا المعاصرين الذين لا يترددون في تغيير مراسيمهم عند الضرورة، ومع أن الإسلام كان في بدء الأمر معادلا «للتسليم إلى مشيئة الله» عرفه محمد بعد حين «بالتسليم إلى مشيئة الله ورسوله». وقد صار محمد قائدا وحاكما ودبلميا وزعيم حزب وغنيا مع نعيم في الغزوات التي وجهها إلى الأعراب واليهود وفي منظمات أتباعه الذين كانوا يزيدون عددا وفي أثناء مفاوضات السلم التي تتابعت في سني نصره العشر سريعا، وهو؛ لأنه عميق الحسية، كان يطيل الفكر في مسائل الطعام والشراب وغيرها من الاحتياجات البدنية، وهو قد سن دساتير ومحظورات بالغة الحكمة ملائمة لمبادئنا في التناسل وعلم الصحة. والواقع أن القرآن كتاب عملي للحياة يطفح حيوية وتنوعا فينظم الحياة اليومية في جميع جزئياتها المترجحة بين وضع الشعر واستعمال السواك. وتنم أحكامه حول الأسرة والميراث، في بعض الأحيان، على عدل البدوي الطبيعي المغيار، ويعنى كثيرا في مسألة المرأة كنبي ومجاهد، ولكن من غير أن يصنع أكثر مما صنعت النصرانية في سبيل حلها.
وكان ابن الصحراء محمد يحب الأسرة والقبيلة، فيرى أن «ريح الولد من ريح الجنة»، وأن اثنتين من صلوات المتزوج خير من سبعين من صلوات العزب. وبينا ترى النصرانية الأولى قائلة بالزهد سائرة إلى تسوية مكتفية بطهر القسوس في نهاية الأمر، تبصر محمدا مرتابا في أمره حول الوفاء الزوجي، وقد أثبت هذا الشك في كثير من الأحاديث، كقوله: «اطلعت على النار فإذا أكثر أهلها النساء»، و«مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأغصم من مائة غراب.»
ثم يأمر بالتسامح نحو المرأة في مثل قوله الجامع الرائع: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا.» وهو مع سماحه للرجال بأن يضربوا نساءهم غير الوفيات بالسير،
33
قال: «واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا»، و«لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد فلعله يضاجعها من آخر يومه.»
وإن هذا الإدراك المرن للطبيعة البشرية، وإن أخلاق الأعراب، وإن الحرية والهوى والكرم، أمور أدت إلى ذلك التسامح الذي لم يقل إلا مؤخرا نتيجة لاعتداءات النصارى.
والإسلام هو أكثر أديان التوحيد الثلاثة تسامحا، والإسلام هو الدين الوحيد الذي سمح لأتباع الأديان الأخرى بأن يحفظوا معابدهم الخاصة في غضون الأجيال وفي مختلف البلدان، والإسلام هو الدين الوحيد الذي عامل الأمم المغلوبة معاملة إنسانية، والإسلام لم يمنح الفاتحين حقا آخر غير انتحالهم وضع الهداة غير الخاضعين للضرائب، وما كان من رغبة في نيل الغنائم ومن ميل إلى الانتقام لم يتحول إلى جور واسع إلا نادرا، وما كان الهتاف «القتل أو الإسلام» إلا في بدء الفتح وفي جزيرة العرب وحدها، ثم لم يرد فاتحو العرب غير السيطرة السياسية دون سواها، أجل، فرضت الجزية مع الطاعة على المغلوبين، ولكن من دون فرض ديانة جديدة عليهم، ومع ذلك فقد اعترف القرآن بأديان أخرى، وقد سمح ببغداد والقاهرة بالأعياد النصرانية والاحتفالات المأتمية على الدوام، وكان يوجد في كل مكان موظفون مسيحيون من الدرجة العالية حتى الحروب الصليبية.
وإذا سألت عن سبب ذلك السمو وجدته في ذلك الاطمئنان النفسي الذي مارس به أولئك الموحدون إيمانهم الكامل ضمن الطبيعية البشرية كما فعل مشركو اليونان.
17
لاح أسلوب على شواطئ البحر المتوسط في القرن السابع.
وكانت معابد اليونان قد خربت أو انهارت أو تحولت، وكان البارتنون قد حول إلى كنيسة في القرن الخامس، وفي هذا المكان كانت تماثيل زوس وأتينة تنتصب نحو السماء وإزاء أعمدة من رخام، وذلك حيث كان يحتفل بالجسم العاري لجماله الخاص، وذلك حيث كانت أسرار الآلهة القديمة قد تحولت إلى رموز منقوشة على الرخام أو قد عبر عنها بصفوف من القرابين، وكان يصلي قسيسون لابسون برانس راكعين أمام الصليب في هذا المكان، وكانت زاوية البناء الواسع التي يستترون فيها تنار بنور الشموع الشفقي إنارة خفيفة، وليست شمس بلاد الإغريق، ولا الرخام البنتليكي، بل الكنيسة المغلقة والصور الفسيفسائية الساكنة هما اللتان كانتا تتخذان رموزا لدين الألم والنسك. وكان مضيق البناتينه الرخامي مع جياده وفتيته مبرقعا عن عفاف من قبل من كانوا يريدون إنكار الغلمة، ولكنهم كانوا يودون إخفاء أشخاصهم وأرواحهم ما صار ذلك غريبا عنهم تماما.
وبدت القباب بعد الأعمدة، وكانت القباب تنعكس على البحر أمام الملاح حين دنوه من ساحل بزنطة حيث ترتفع الكنيسة الجديدة، وكان كل من هيكل سليمان الأرزي وأعمدة البارتنون الرخامية وقبة بزنطة الحجرية يمثل الزهد والجمال والإيمان المطمئن بالتتابع؛ أي كانت هذه الآثار تمثل الصفات البارزة للأديان الثلاثة. وكان جميع المؤمنين الذين يصلون هنالك متحدين في رغبتهم العامة أن يقهروا الموت في حياة أخرى، وكان هذا مصدرا شاملا للسماحة والرحمة، وكانت تضرع ألواح مكتوبة بالعبرية أو باليونانية أو باللاتينية إلى الرب الواحد أو إلى أحد الآلهة الوثنية أن يبدو في الآخرة رحيما تجاه المحسنين، ثم أتت المآذن، ووطد الميل الأزلي إلى الدنو من الرب في الدين الجديد بأسلوب ذي طلاوة طريفة بعد أن ثقلت وطأة المعابد والكنائس على الأرض، والآن تناطح أبراج العرب الهيف السماء فتلوح صائلة في الهواء كأسهم نارية ثابتة، وكذلك تبصر مباني عالية رشيقة منفصلة عن المسجد قائمة على أسس ثابتة كأنها تنطح السماء أيضا.
ويظهر مسلم لابس جبة بيضاء وعمامة في الأعلى وعلى الذروة تقريبا وفي رواق ذي منافذ للنور، فيوجه وجهه نحو السماء معلنا جلال الله ونبيه محمد ثلاث مرات، ويلقي ذلك البرج وحيا في قلوب المسلمين الذين زاد عددهم بأسرع مما زاد به عدد أتباع أي دين آخر حول البحر المتوسط.
وقد وجدت وحدة الإغريق بسرعة كبيرة كما عرضت للخطر؛ وذلك لأن الفلسفة لا تنطوي على «نداء حرب» للجمهور، وقد عاش الرومان زمنا طويلا بفضل قانونهم المشترك وبفضل دولتهم القوية التنظيم، وقد وحد الإسلام، الذي فرض بغتة بدستور كفريق جديد، عروقا وشعوبا كثيرة بما هو أبقى مما صنعته النصرانية، ومع ذلك فقد انقسم الإسلام كما انقسمت النصرانية، وكانت الحبة التي يجب أن تنبت وتنشئ إمبراطورية من بذر مفكر، وقد تمثل هذا المفكر الفكرة ثم حققها بالفتح. وقد ترك محمد وراءه جزيرة العرب موحدة، ولما اقتسم قواده، بعد زمن، وفيما بينهم، فارس ومصر وبلدانا أخرى سيطر عليها حديثا عقب فتوح سريعة كان يمسك دين جديد هذه الأقطار موحدة، ولم يكن هذا الدين رمزيا ولا مبهما كدين الأغارقة، وإنما كان منهاجا ناظما للحياة ودستورا للأخلاق والصحة. ومع أن النصرانية ساعدت على بقاء الإمبراطورية الرومانية المسنة ثلاثة قرون أخرى، لم ينم الإسلام نموا تاما إلا بإقامة ممالك عربية يرتبط بعضها في بعض بديانة واحدة ولغة مشتركة. وقد انتشرت النصرانية ببطوء وهدوء، وقد انتشر الإسلام بسرعة وجهاد، واليوم يدين بكل من الدينين مئات الملايين من الآدميين.
ولم تكن فتوح العرب من الحروب الدينية، بل كانت نتيجة انتصارات شعب مقاتل شديد الشكيمة، وهي تختلف عن فتوح الجرمان حول البحر المتوسط اختلافا أسياسيا من حيث الثقافة والاجتماع، وما كان من تحول هذه الحروب إلى حروب ضد النصرانية هو معلول سياسي لا علة أولية، وهكذا بدا هذا الحادث الغريب، وهو أن القبائل الجرمانية، حين غزت بلاد البحر المتوسط فيما بين القرن الخامس والقرن التاسع واعتنقت النصرانية التي كانت دينا تهاجمه، لم تظهر من غير البرابرة ولم تعد من غير البرابرة على الرغم من ذلك، وعلى العكس واصل العرب بما فيهم من قوة إدغام، كما عند اليهود والفنيقيين، ما وجدوه حول البحر المتوسط من الحضارات الراقية جدا، ولما فتح الخليفة الثاني عمر مدينة القدس بعد وفاة النبي بخمس سنين لم يعامل النصارى بسوء قط، ولكنه طرد منها الفرس، وكان البطرك النصراني الذي سلم إليه القدس لا يزال من رعايا بزنطة كما كان أسلافه، وكانت القدس رومانية مدة ستة قرون بلا انقطاع تقريبا؛ أي من زمن عيسى حتى زمن محمد، وهي لم تنفك تكون مسلمة منذ سنة 637 حتى سنة 1918، وذلك خلا فترة قصيرة.
ولم يدنس مسلم قبر عيسى، وعيسى ممن يؤمن بنبوته المسلمون، ويمضي زمن فتشتعل الحروب عن تطرف وتوقد نار الحروب الصليبية عن إفراط، وكان لا بد من ظهور أذكى رجال البحر المتوسط، فردريك الثاني، حتى ينظم في أثناء حديث سريع مع السلطان جميع الوظائف الدينية في القدس بروح من التسامح، وقد بلغت هذه النتيجة مع الترك بعد حين.
وإذا ما تركنا جانبا حروب الإسلام ضد فارس ومصر لعدم وجود علاقة مباشرة لهما بحياة البحر المتوسط، وجدنا العرب يحاربون فريقين من الدول فيما بين القرنين السابع والتاسع، يحاربون بزنطة والجرمان، وما اتفق لسلطان أبناء الصحراء من سرعة نشوء في قوتهم البحرية يقضي بالعجب، ومن قول محمد: «نصر فوق البحر يعدل عشرة انتصارات فوق البر.»
34
ومن الواقع أن العرب غلبوا أسطول بزنطة عدة مرات فتقدموا حتى رودس وقبرس، ووجدوا طريق بزنطة مفتوحة أمامهم، وهم لم يوقفوا إلا أمام هذه المدينة نتيجة لمقاومة أسوار ثيودوز وبفعل «النار اليونانية» التي اخترعت حديثا. وكان حصار العرب لبزنطة الذي دام سبع سنين أطول حصار تم في تلك الزاوية من العالم منذ عسكر أشيل أمام تروادة؛ أي أطول من حصار صور وكورنث وقرطاجة وسرقوسة، ومع ذلك فإن بزنطة قاومت، فأنقذت أوروبة كما يقال عادة، ومن أي شيء أنقذت في الحقيقة؟ لو صارت أوروبة مسلمة منذ اثني عشر قرنا ما أصبحت أقل حضارة، ولا أقل سعادة، فلم تكن أفضلية أوروبة قاطعة في ذلك الزمن كما أضحت في القرن السابع عشر حين حصار فينة من قبل الترك. وكان تأثير الإسلام الثقافي خصيبا من كل ناحية، فتعلم الفرس والمصريون لغة العرب، على حين كان العرب يدرسون الرياضيات اليونانية والطب اليوناني ، وقد أقامت الإسكندرية والبصرة والقاهرة وقرطبة جامعات عربية نشرت معارفها حتى باريس وأكسفورد وبادو بواسطة طلاب من النصارى، وذلك إلى أن جميع البحر المتوسط كان يحيا بحركة ثقافية. وما كادت مئتا سنة تمران حتى كانت الأمم المسنة قد تلقت من العرب علم الجبر والحساب العشري والرقاص واستعمال الآلات الفلكية والأدوية المخدرة، كما تعلمت منهم الصباغة والدباغة والوشي وصنع الزجاج والخزف والبسط والورق، كما تعلمت منهم البستنة والري وزراعة الأثمار الجديدة، وفي فن البناء اقتبست أوروبة من العرب الأقواس المصنوعة على شكل نعل الفرس، والنقوش على هيئة النباتات والحيوانات وفن الترصيع، ثم إن العرب فجروا الماء داخل البيوت وفي الساحات والحدائق وفي كل مكان.
وهنالك عنت لرجل خطة التوفيق بين الديانتين القريبتين بدلا من أن تتنازعا عن نفرة، وذلك أن الإمبراطور ليون الذي هو سوري يوناني، والذي شجع بحركة غير مكرمة للصور والتماثيل كاسرة لها، حاول أن يجد في وحدانية الله وفي عدم الأصنام أساسا للتوفيق ممكنا صالحا للجميع، غير أن الرهبان عارضوا، غير أن البابا قاوم مثيرا مصالح إيطالية السياسية في سبيل أغراضه، ولما أدرك أسطول بزنطة الغرق لم يكن يسوع ولا الرب حاضرين، أو إنهما كانا حاضرين في الزوبعة ليحولا دون التوفيق.
ويتصادم الغازيان الأجنبيان في إسبانية للمرة الأولى، ومن المحتمل أن بدأ هنالك تمازج العروق العظيم بما يصلح به النوع البشري؛ أي حدث ما ينم على أكبر الفروق بين الإنسان والحيوان، ثم تقع توالدات مهمة في صقلية على الخصوص.
وكان جوستينيان في القرن السادس قد قضى على الأستروغوت والوندال، وعن العرب قطع أسطول بزنطة اللنبار الذين استولوا على إيطالية مؤخرا، ولكن الفزيغوت، الذين لم يزالوا مستقرين قريبا من جبل طارق حتى ذلك الحين، ظلوا مواجهين للعرب الذين فتحوا شمال أفريقية حوالي سنة 700. وكان في ذلك البلد فريق من البربر والبزنطيين؛ أي من الأفريقيين والأغارقة، قد قاتل في سبيل السلطان زمنا طويلا. ولما جاوز الأمير العربي الأول مضيق جبل طارق سنة 771، كان، على ما يحتمل، أول آسيوي ظهر فاتحا في غرب البحر المتوسط بعد الفنيقيين بخمسة عشر قرنا، وكان جيشه مؤلفا، على الخصوص، من مقاتلة من بربر جبال درن اعتنقوا الإسلام، وبالمغاربة سميت ذرية هؤلاء البربر الذين امتزجوا بالعرب وبرومان إسبانية وجرمانها.
ويمتاز بجمال البدن هؤلاء القوم الذين يدعون تارة بالمغاربة وتارة بالبربر دعاء غير صحيح، والذين يبلغ عددهم اثني عشر مليونا في الوقت الحاضر، وكان أجدادهم قبل الميلاد بثلاثة قرون يعدون من شقر الشعور وزرق العيون فيهدم هذا نظرية اختلاط الدم الجرماني، ومع ذلك فإن من الغريب أن ترى كثرة القربى بين أخلاقهم وأخلاق العرب. وكان عندهم مزاج المحارب الخيالي أيضا، وكانوا مختالين محتالين متعصبين، وكانوا مشهورين بأنهم من السحرة الماهرين إلى الغاية مع الشرف البالغ، فاتفق لهم بذلك صيت ذو غرابة عند البحث المقارن في أحوال الأمم، وكانوا في ذلك الدور أيضا مزارعين وبستانيين ماهرين في أعمال الري عارفين كيف يحولون المنحدرات البرية إلى رياض زيتون وتين، ومنهم تلقى بدويو السهوب فن البستنة الذي صاروا متخصصين فيه أخيرا فملئ به شعرهم.
وأوغل العرب والبربر في إسبانية في عشرين عاما متحدين طورا متقاتلين طورا آخر، وجاوزوا جبال البرانس وبلغوا نهر اللوار في فرنسة مع استمرار المعارك ضد النصارى، ثم تصادموا هم والجرمان بين تور وبواتيه سنة 732 وقهروا، ويمكن عد هذا التاريخ قاطعا من حيث مصير النصارى والمسلمين. والواقع أن هذه المعركة وضعت حدا لتقدم العرب، وذلك كما حدث منذ ثلاثمائة سنة حين وضعت معركة شنبانية، غير البعيدة من هنالك، حدا لتقدم أتيلا، وانتهى العرب بعد أن طردوا، أو دحروا، إلى إسبانية، وبعد أن هزموا على شاطئ دجلة من فورهم، أو انتهى أحد رؤسائهم، إلى السير مع كتائبه نحو الغرب، فنادى هذا الرئيس بنفسه أميرا على قرطبة مؤسسا في إسبانية منطقة لحضارة العرب. ومن حسن الحظ أن شارلمان الذي دعاه النصارى إلى مساعدتهم قد اضطر إلى تحوله عن ذلك نتيجة لفتن اشتعلت لدى السكسون، فدام بذلك ازدهار حديقة العرب هنالك، وقد غدت تواريخ الخلفاء التي ملأت خيال الناس في الأغاني ودور التمثيل مصادر روايات لشعراء الغرب، كما أن جميع الأمم لا تزال تقلد بسط العرب وحليهم وأدويتهم وعطورهم حتى أيامنا.
وقد غمر سيل من الجمال والمبادئ منطقة البحر المتوسط بعيد ذلك الفتح، وقد بلغ اختلاطه بذلك البحر من القوة ما يلوح معه تغييره لجريانه من بعض الوجوه، وهو في ذلك كالذي يأتي من البحر الأسود فيزيد ما يحويه ملحا في الدردنيل.
والحق أن العرب تلاميذ بزنطة في غير حال، تلاميذ بزنطة في صناعة السفن مثلا، فجعلوا قناة السويس صالحة للملاحة مدة قرن، والحق أن العرب لم يتعلموا العلم اللازم من مواطئ جمال جزيرتهم، وما فطر عليه العرب من الروح التجارية يذكر بالفنيقيين، وقد نما بسرعة فارتقى بعد بلوغهم البحر المتوسط كما يلوح، وقد قبضوا على زمام جميع التجارة مع الشرق الأقصى ولم يلبثوا أن وصلوا إلى روسية والبحر البلطي، ومع ذلك فإن أهم ما أتى به العرب إلى البحر المتوسط كان ذهنيا، كان ثقافيا تهذيبيا، ومن العرب في أشبيلية وقرطبة كان قد تلقى الحكمة، حقا، البابا سلفستر الذي عزي علمه المشهور إلى السحر.
وقد بهر بلاط شارلمان بالوفد الذي أرسله الخليفة هارون الرشيد إلى هذا العاهل النصراني حوالي سنة 800، وقد نقل فريق من الشعراء والمؤرخين قصة ذلك إلى العالم، ولم يحدث أن رأى الغرب مثل ذلك، حتى في زمن الفرس الذين كانوا قبل ذلك أسبق إلى الحضارة من العرب في بعض النواحي، وما كان من أقاصيص التجار والعلماء، حوالي سنة 1000 على الخصوص، حول أبهة الفاطميين في مدينة القاهرة التي أنشئت حديثا وحول بلاط ملوك حلب وبلاط دمشق الشعريين يحيط بإكليل أسطورة العرب وخلفائهم الذين كان يلوح بين الأمم الحديثة أنهم وحدهم جامعون للحكمة والبسالة والعزة والجمال.
وفي ذلك الدور بدأ دور الجامعات في الفن بقرطبة حيث أسس الأمير الهارب أسرة مالكة دام سلطانها ثلاثة قرون، فنالت من السؤدد ما لا يقاس بغير جاه الإسكندر، وقد بهت الغرب النصراني من ثقافة الكفرة وتسامحهم. وكان تعاون المسلمين واليهود قائما في صعيد واحد ، وكان كل منهما من فرار آسية المعارضين للنصارى في الحقيقة، وتبدو إسبانية الجنوبية مركز الثقافة في العالم فيما بين سنة 800 وسنة 1000.
ونظام الري الجديد يجعل من الأندلس أخصب بلاد البحر المتوسط، ويقتبس أحد المؤرخين كلمة أشعياء فيقول: «لقد تحولت السيوف والحراب في عهد الخلفاء بقرطبة إلى معازق
35
ومحاريث»، وهذا هو أروع مديح يمكن أن يقال عن نظام. وكانت تلك المملكة تشتمل على سبع عشرة مدرسة وعلى سبعين مكتبة يلازمها علماء النصارى في العالم بأسره، وبلغ عدد أهل قرطبة مليونا حوالي سنة 1000 فكانت أكثر بلاد الغرب سكانا، وقد احتوت أكثر من ستمائة مسجد وتسعمائة حمام عامة ونصف مليون كتاب في مكتباتها.
وأنجبت الروح اليهودية هنالك - كما في المدن العربية الأخرى بالأندلس - بفلاسفة وشعراء وأطباء اشتهر منهم في عالم القرون الوسطى يهودا هليفي وابن جبيرول والحريزي.
وعلى ما كان من فتور بين إسبانية العربية وخلفاء الشرق، استندت إسبانية العربية هذه إلى الدولة الإسلامية التي كانت تضم شمال أفريقية ونصف آسية بالغة جنوب فرنسة، وكانت هذه الإمبراطورية الحامية للثقافة ممتدة إذن فيما بين الخليج الفارسي والمحيط الأطلنطي، ومن ينظر إلى الخرائط القديمة يجد هذه الإمبراطورية أكبر من دولة بزنطة الجامعة للبلقان وآسية الصغرى وإيطالية الجنوبية وصقلية، ولو رجعت البصر إلى جميع المغازي التي تعاقبت على شواطئ البحر المتوسط ما رأيت ما هو أكثر ثمرا من غزو العرب.
18
ذاهبين إلى الإبير قياما بمغامرات، وهم كانواأوصى الملك الجرماني كونراد الثاني لنفسه بتاج في مايانس سنة 1000، وكان التاج مؤلفا من ثلاثة أجزاء، وكانت قوس الوسط، وهي أكبر الأجزاء، تدعم صليبا مربعا تقريبا، ولم تكن اللآلئ العظيمة والحجارة الثمينة التي رصع بها التاج موزعة توزيعا منتظما تماما، وقد زخرف الصليب الذي يعلو التاج علوا خفيفا بمثل ذلك الطراز، وقد انتقل هذا التاج في قرون من أيدي الملوك إلى أيدي البابوات ثم آل إلى الملوك ما كانت ضخامة الحجارة وثمنها يجعلان التاج أكثر قيمة من الصليب، وما بين الإمبراطور والبابا من صراع ملأ جميع القرون الوسطى رمز إليه بتلك النسب، ولم يقبلهما صائغ مايانس عن مبادرة منه لا ريب.
وقد تخلل تاريخ جميع الأجيال وجميع البلدان ما تم بين الملوك والكهان من محالفات وما وقع بينهما من مصادمات مناوبة، وقد اتخذت هذه الصلات شكلا معقدا ببلاد البحر المتوسط في القرون الوسطى. وكانت السلطة الزمنية مقسومة منكرة مع بقاء الدين قوة وحيدة ظلت الكنيسة الرومانية بها أهم المذهبين النصرانيين، وكان البابا يقيم برومة، وكان الأباطرة يقيمون بألمانية وببلاد الفرنج منذ أواخر الإمبراطورية الرومانية. وكان هذا التباعد الجغرافي بين ممثلي السلطة الزمنية والسلطة الروحية يحمل على التفكير في غول ذي رأسين يلبس أحدهما برطلا
36
ويلبس الآخر تاجا، وكان لابس البرطل يضع التاج على رأس الإمبراطور أو يرفض ذلك على حين كان الإمبراطور لا يمنح البابا أي رمز. وكان الوهم القائل إن الرب هو مصدر التاج وإن البابا هو وكيل الرب من اختراع القساوسة، ويلوح أن أمر الملوك كان يتوقف على القساوسة أكثر من توقف أمر هؤلاء على الملوك.
وكان الجرمان يختارون ملوكهم من بين رؤساء القبائل المقاتلة، وهكذا أمكن الفرنج والسكسون واللوران وكل قبيلة أخرى أن يكونوا على رأس الآخرين، وكان الرجل الذي يمنحه البابا برومة بركته معطيا إياه اللقب والتاج يمثل قوما من عرق آخر. وقد مارست الكنيسة الكاثوليكية، كسلطة روحانية دولية، نفوذا قسم أوروبة بقاطع عمودي، ويقطع هذا القاطع الخطوط الأفقية وحدود الخريطة كدرجات الطول والعرض المتقاطعة.
وصرت لا تجد هواتف يفسرها الكهان تفسيرا منزها عن الخطأ، كما ظل الأمر في طيبة ودلف زمنا طويلا، وكان صاحب الحكمة الربانية، البابا، يظهر على خلاف دائم مع الملوك، ومع الأمم أيضا، حين محافظته على مصالحه، وقد أدى الكفاح في سبيل السلطة الزمنية إلى خسران الكنيسة ملايين من المؤمنين في القرون الوسطى. والواقع أن من نتائج الشك والنقد زوال كل إيمان بالعصمة، والواقع أن ادعاء البابوات بالسلطة الزمنية أدى إلى نقص سلطانهم على النفوس فيما بين سنة 500 وسنة 1870، حتى إنه كان من شأن دويلة الفاتيكان التي يقبضون على زمامها منذ سنة 1929 أن تضعف سلطانهم الروحي.
ولا تمكن دراسة تنازع الأباطرة والبابوات، الذي كدر بلاد البحر المتوسط خمسة قرون، بالتفصيل هنا؛ ولذا نبحث في أسسه الفلسفية، وذلك لقيام تراث الإمبراطورية الرومانية عليها، ولم تزل الإمبراطورية الرومانية بغزو البرابرة ما كانت دولة وهمية في ذلك الحين.
وكانت النصرانية قد تسربت في الجرمان على وجه خاص، ولما جمع ملك الفرنج، كلوفيس، الجرمان والرومان على أرض فرنسة حوالي سنة 500 وتعمد مع ثلاثة آلاف فرنجي بين شغب عنيف كان قد حسب النتائج بعناية، وكان هذا الرجل، الذي هو من البرابرة، يعرف أن غريزة رعاياه الجرمان الابتدائية تحبب الحرب إليهم، وأنهم عطاش إلى الدم والانتقام، وكيف استطاع إذن أن يفرض بين عشية وضحاها على هؤلاء القوم الوحوش، الجاهلين ما عند أمم البحر المتوسط من تقاليد حكمة وفن جهلا تاما، عبادة إله يطلب من المؤمن أن يقوي الروح، لا البدن، وأن يمارس العدل بدلا من الحرب والاتضاع بدلا من الزهو؟
وهل كان ذلك الملك عالما نفسيا أو أن المستقبل وحده هو الذي زكاه مصادفة؟ إن التضاد التام وحده هو الذي كان يمكنه أن يباغت تلك القبائل التابعة لهواها وأن يفوز بها.
كانت طبيعة الجرماني الغريزية المفرطة وثقله الطبيعي وعنصر كيانه الغائم الوجدي وخضوعه للقدر أمورا تحتاج إلى ما توازن به أعمال شجاعته، وإذا كان الجرماني لا يستطيع غير مخافة آلهته القديمة فإنه كان يمكنه أن يتوكل على الرب الجديد، وهو قد استطاع أن يحترم هاتفه كما كان يحترم داعي العجائز؛ لأنهن كن بلا قوة، وإنه لكذلك إذ يجد نفسه تجاه إله يعفو بدلا من أن ينتقم ويبارك بدلا من أن يجازي، إذ يجد نفسه تجاه محكمة تؤثر في مشاعره بدلا من أن تأمر بالانتقام والتكفير، وهكذا يبدأ اعتراك نفسي واسع المدى بهز هذه الملايين من الآدميين الذين دعوا إلى الرب الجديد. ومع ذلك فقد مضت سبعة قرون بين ذلك العماد الكثيف وعماد آخر ألماني، ولولا هذا الوجد العميق الذي أسفر عنه اعتناق البرابرة للنصرانية ما أمكن إدراك أمر الهوى الذي نشأ عن تخاصم الكنيسة والدولة، وما كان نزاع بعض الملوك والأمراء الطامعين، لانتزاع بعض الأسقفيات والأديار، ليمكن بلا شعور شعبي كالذي كان في الشمال يفصل المؤمنين عن الماجنين.
وكان الأباطرة يسيرون كممثلي مزاج عقلي وثاب تواق إلى الاندفاع نحو الجنوب، نحو البحر المتوسط الدفيء الخصيب الذي هو هدف أحلامهم، وكانت رومة المفتاح التقليدي الذي يفتح به الباب المؤدي إلى تلك البقاع المرغوب فيها، وكان في رومة يوجد لحد الإمبراطورية الرومانية من بعض الوجوه، ويعد فرسان الجرمان أنفسهم حجاجا كالصليبيين، وينتصب بعض رموز قيصر ويسوع بجانب بعض في رومة، ويجلس البابا على عرش القياصرة السابق وتحوم حمامة الأردن المقدسة فوقه، وهكذا ينتعش خيال رجال الشمال انتعاشا مضبا.
ويرى أحد ملوك الجرمان أن رومة جامعة للسلطة الزمنية وللنصرانية معا، وكان يمكنه أن يبصر من فوق الكابيتول المكان الذي خر فيه قيصر صريعا بين أيدي قتلته وأن يبصر المكان الذي نال الرسول الأول فيه الشهادة والواقع على بعد نصف ساعة من هنالك. وكان مزج السلطة الزمنية والنصرانية ملائما لخلق الجرمان القومي أكثر من ملاءمته لخلق أي شعب آخر، وهكذا نشأ مبدأ «الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة» غير المحتمل؛ أي المبدأ المغلوط فيه الذي أدى إلى نتائج عظيمة عاطفية. وقد نشبت فوق هذه القوى الغامضة التي تشبه بهدير بركان، وفي الميدان السياسي، منازعات بين البابا والإمبراطور في سبيل السلطة، وقد حدثت هذه المنازعات باسم بعض المبادئ الخلقية مع تفاسير وتهم كانت تصدر مدوية خاطئة عن الفريقين.
وكان الفرنج، الساكنون بلاد الغول والذين دعوا بالفرنسيين فيما بعد، من أكثر أمم البحر المتوسط حسن شمائل. وكان الفرنج أول البرابرة وصولا إلى شواطئ هذا البحر، ويعرض رئيسهم الغاصب بيبن النصراني على البابا، حوالي سنة 750، أن ينجده إذا ما وافق على رسمه ملكا، ويسوق حصان البابا من لجامه رسميا ويركع أمام هذا البابا الذي يدهنه ويتناول منه التاج الملكي الذي لم يكن في ذلك الحين غير إطار من ذهب، وهكذا أطلق هذا الملك العنان لنزاع يستعصي حله .
وقد اضطر الملك إلى التنزل للبابا عن مدينة رومة مع دولة الكنيسة المزعومة في مقابل تلك الرسامة، وقد أيد خلفاؤه هذه العطية مع الزيادة، وتبرز لبلوغ ذلك وثيقة مزورة في مضمونها يرجع فيها إلى هبة مزعومة للكنيسة من قبل الإمبراطور قسطنطين، ومن أحكام هذه الوثيقة إحداث حق صار به خلفاء القديس بطرس مالكين لأرض رومة، ويبقى هؤلاء الخلفاء تابعين لملوك الفرنج على الدوام.
وكانت هذه العلاقات الشرعية المبهمة بين البابا والملك تمزج اللبان بصليل السيوف وتتم الصلات التي تهدف إلى عدم الاعتراف بإمبراطورية الملك الجرماني الذي انتخب «إمبراطورا» إلا إذا توج من قبل البابا مع كون هذا تابعا له في الحقيقة، وبهذا يرتقي الجرماني إلى تراث قيصر ويصبح سيد الإمبراطورية الرومانية الجليل، وما كان له من حق تاريخي بهذا التراث أقل من حق البابا في امتلاك رومة، ويؤيد كل من السلطتين، أو الشخصيتين، مزاعم الأخرى إذن، ويمزجان التقوى الزائفة بالخديعة الواقعة إذن، وهذا كله على حساب أهل إيطالية الذين كانوا لا يطلبون في الحقيقة إمبراطورا ولا بابا، بل كانوا يطلبون توحيد بلادهم، ويمكن البصير أن يبصر مجرى تاريخ إيطالية من الحين الذي صار فيه الألماني الأول إمبراطور البحر المتوسط.
19
لا يبدو شارلمان الذي هو أحد أباطرة الجرمان المهمين الثلاثة إلا على هامش تاريخنا، ومن ينظر إلى صورته، كما عرضت في تمثاله الصغير بباريس تبد له ملامح المولود عاهلا، وهو ذو رأس مستدير وقفا قصير وأنف معقوف مع انحناء في شفته العليا، وتلوح الكرة التي في يده اليسرى والممثلة لإمبراطوريته أنها من عطاء الطبيعة، وتدل حياته العملية على ميل جرماني أصلي إلى السيادة العالمية كما في أيامنا صادر نصفه عن إرادة السيطرة وصادر نصفه الآخر عن اندفاعات تصوفية، وكان أول سلسلة الأباطرة الذين بحثوا عن الوحدة وعن التمكين أو عن التوسع الطبيعي نحو البحر المتوسط لا نحو الشرق.
وكان هذا الرجل يحاول أن يتعلم على الدوام، ولم يكن هذا الرجل فخورا بمقامه ولا بعرقه، وتدل المئات من أوصافه على أنه كان يود أن يجاوز مرحلة كونه من البرابرة، أجل، إنه فرض النصرانية على شعوب أجنبية، ولكنه أظهر تسامحا عظيما في المسائل الثقافية والمسائل الحسية في الوقت نفسه، وهو، وإن كان شديدا تجاه طبقة الأشراف، رفع العتقاء إلى مناصب عالية، وهو قد تعلم القراءة أيام وخطه الشيب
37
فلم يلبث أن سعى في تعليم أولاده هذه المعرفة، وهو قد منحهم مثل الحرية التي كان يتمتع بها في حياته الحسية الوافرة، وهو، من نواح كثيرة، قد سبق قومه عدة قرون بعدا من التوحش والحماقة.
وقد حدث أدعى الأمور إلى الحيرة في عهده الطويل على البحر المتوسط، في رومة، ولا تجد لهذا المنظر مثيلا في التاريخ.
كان حسن الصلات بالبابا الذي بحث لنفسه عن ملجأ في ألمانية، ولم تقل عزة هذا العاهل الفرنجي بركعات ولا بإمساكه ركاب البابا، ولما ذهب إلى إيطالية ليقيم فيها «سلما رومانيا» على طريقة أغسطس لم يكن قاصدا أن يقوم بفتوح في بلاد البحر المتوسط؛ أي وراء بلد النورمان في الشمال، ويحل عيد الميلاد لسنة 800، فيود هذا الملك النصراني حضور القداس مع فرسانه في كنيسة القديس بطرس القديمة برومة، ويقيم البابا القداس، ويتظاهر بأنه مستغرق في صلاته عندما ركع الملك أمام الهيكل، ولا يعرف هل كان الملك يفكر في مخلصه أو في أعماله، ولكن الذي لا ريب فيه هو أنه لم يدر في خلده أمر المفاجأة التي كان البابا قد أعدها له.
والواقع أن البابا أخرج فجأة تاجا كان قد أعده سرا للوقت الملائم ووضعه على رأس الملك الراكع، وأن كتيبة من فرسان الرومان تقدمت في تلك الدقيقة وهتفت باللاتينية، أو الإيطالية، قائلة: «عاش إمبراطور الرومان، شارل أوغوست، المتوج من الرب!» وتضاف الموسيقى إلى المنظر، ويهتف الجمهور الهائج مسرورا مقدرا أن حادثا عظيما وقع على مرأى منه، ويبدو شارل الذي كان مجاوزا الستين من سنيه دهشا أسفا، ولكن مع تعذر الرفض، ثم يأتي البابا حركة لا تقاوم، وهي أنه ركع أمام الإمبراطور المتوج من قبله.
ويعود شارل إلى قصره صامتا ، وفي الغد يعلم شارل من بلاغ رسمي أن البابا «نقل إليه سلطة الإمبراطور الروماني وسلطة اليونان والفرنج ورفع الملك شارل إلى مرتبة الإمبراطور الثالث والستين من الإمبراطورية العالمية الرابعة.»
ويروي مترجم شارل المعاصر أن شارل ظهر غضبان حائرا معا، وشارل كان قد رأى في شبابه أباه بيبن يمسك حصان البابا من عنانه فيرسمه البابا ملكا، وشارل كان خاليا من كل طموح إمبراطوري فيتوج إمبراطورا بغتة، ويؤدي تتويجه القسري هذا إلى عدم تزوجه أميرة بزنطية. والواقع أن القسطنطينية عارضت في قرون بقاء رومة مركز العالم، والواقع أن وازن لقب رمزا في القرون الوسطى وكان أهم من عمل أحيانا، وبما أن شارل لم يكن فاتحا من الأساس، وبما أنه كان راغبا عن محاربة بزنطة، فإن رغائبه حول البحر المتوسط قد ربكت بتتويجه أكثر من أن تكون قد أنشطت.
وبهذا العمل الأخير تبعث الإمبراطورية الرومانية بعد ثلاثة قرون من انقراضها في سنة 476، وتعيش ألف سنة أخرى كرمز أجوف، وشارلمان وحده هو الذي لم يرغب في التاج، وأما ملوك ألمانية الذين خلفوه فقد جدوا في طلب التاج، في تراث قيصر، مضحين في سبيله بحياة الألوف من الناس وبمصالح ألمانية وبعقائدهم الشخصية، ويمكن أن يقال مع التوكيد إن شهرة قيصر لم تكن لتبدو عظيمة لولا حماقاتهم، والجرمان هم الذين أوجدوا هذا الصيت.
ويسافر ملوك الألمان بعد ذلك الحين في مواكب لا حد لها من خلال جبال الألب قائمين بحروب كثيرة في عشرات السنين، وذلك فتحا للنباردية قبل تتويجهم أو فتحا لإيطالية بعد تتويجهم، وهم لم يسيروا وضفاف نهر التيبر ليستولوا على رومة، بل ليتوجوا في كنيسة القديس بطرس كما توج شارلمان، وقد بلغ هذا المبدأ من قوة الإغراء ما انتفع معه نابليون، الذي كان يزدري كل رمز إلى الحسب، بالتاج اللنباردي ليمنح توليته سلطان قيصر كإمبراطور للفرنسيين.
وقد طبق البابا والإمبراطور صلات العصر الإقطاعية على سلطانهم الخاص كعلامة خارجية لنظامهم الشرعي. وكان الرجل الذي هو أقوى من في بلده، أو الفاتح الذي يأتي من الخارج ، إذا منح في ذلك العصر من هو دونه قطعة أرض، أي إذا ما أعاره إياها، حق لهذا الأخير أن يتمتع بها وأن يتركها لورثته، وذلك مع المحافظة على مصالح متبوعه دائما، وهكذا نال أبناء الأسر القديمة الفتيان في فرنكونية «بفارية»، كما في مقدونية سابقا، أرضين وقصورا وأعمالا رسمية؛ أي جعلا وحماية من الدولة، وذلك مع التزامهم بأن يدافعوا عن متبوعهم إذا ما هدد بالفتنة أو اختلاف الأحزاب، وهكذا ترى طغيان الحق الخاص على الحق العام في الدول الإقطاعية، ومما أدى إليه إحداث طبقة شرف شاملة لجميع أوروبة الغربية حتى الأزمنة الحديثة، رابطة للخدمة المسلحة وللتملك والأرض بشخص ولي الأمر، اتساع نطاق شبكة من الأموال الإقطاعية في البلاد خاصة بالأشراف من الفارس حتى الملك.
والملوك إذ يتركون الأرض الثابتة والمقسومة، والملوك إذ يصرحون بأنهم نالوا إقطاعاتهم من الله، يكونون قد قاموا بوثبة في الخواء؛ ولذا كان التتويج، الذي باغت البابا ليون به شارلمان، هدية طمع، وقد أحدث هذا التتويج سابقة حول تعذر قهر رومة، كما جعل الصراع ضد السلطة الزمنية أمرا مستمرا بحكم الضرورة.
وما الذي لم يوجبه هذا الصراع من خطط غير طائشة؟ ومن ذلك أن عرض أوتون الأول أن يجعل من البابا إمبراطورا عالميا شريكا بجانبه، وأن يكون الإمبراطور رقيبا على انتخاب البابا وأن يكون حاميا للدولة الكنسية في مقابل ذلك، وقد عاكسته في ذلك طبقة الأشراف الرومانية التي خلعت بابوات كثيرين؛ وذلك لأنها كانت تود أن تنصب واحدا.
ويخلع أوتون الثاني أحد البابوات فيفر هذا البابا إلى بزنطة ليقتل في رومة أخيرا على الرغم من كل شيء، ويوجد بين القسطنطينية والعرب محالفات لمحاربة الإمبراطور النصراني، ويتقاتل أساقفة بزنطة ورومة ويحرم بعضهم بعضا في ذلك الحين، وذلك مع وضعهم على مراقي كنيسة القديس بطرس ودرج كنيسة أيا صوفية مراسيم الحرم مقابلة.
ويمضي قرن على الأباطرة، الحاملين لاسم أوتون، فيستعير أحد البابوات الأقوياء مبدأ الإمبراطورية الرومانية ويحالف أمراء الجرمان ونورمان نابل لمقاتلة ديمقراطيي ميلان. وكان غريغوار السابع، وهو حفيد قبيح لصانع ، هو الذي حاول قهر الملك هنري الرابع الرائع الممتاز على غير جدوى.
ويقضي هذا العاهل تائبا مرتجفا من البرد ثلاثة أيام في الساحة المغطاة بالثلج لقصر كانوسا، لقصر لنباربارديه، والذي كان يقيم به البابا سنة 1077، ويلوح أن الكنيسة نالت نصرا لا جدال فيه، وأنه انتقم من غزو البرابرة بعد قرن، وأن الجرمان أخزوا، وأن سلطان رومة بعث تحت التاج البابوي، أجل، بدا غريغوار مثل أباطرة بزنطة الذين كانوا يضعون أرجلهم على قفا الملك المقهور، غير أن هذا الفصل ختم بفرار غريغوار وخلعه وموته وحيدا مع تتويج هنري من قبل بابا آخر.
وما كان يمازج أسقف رومة من شعور بالقوة في ذلك الدور يبدو في صفحة أملاها غريغوار كمذكرة لاستعماله الخاص، وهو لم ينشرها قط، وإنما كان يتبع ما فيها من توجيه، واليوم يمكن أن تقرأ نسختها الأصلية في الفاتيكان، وهي تشتمل على سبع وعشرين فقرة مرقمة بأرقام رومانية حمر مع خط لاتيني جميل ومع فصل بعض الكلمات عن بعض ومع حروف كبيرة وصغيرة، ولا تجد كاهنا مصريا كان ذا شعور بسلطانه مثل شعور هذا البابا الوضيع الأصل والذي قال عن نفسه: «إن على جميع الأمراء أن يقبلوا قدم البابا، ولا ينبغي أن يذكر في الكنائس اسم غير اسمه، وهذا الاسم وحيد في العالم، والبابا وحده هو الذي يجب أن يحمل الأشعرة الإمبراطورية، وللبابا حق خلع الأباطرة، ويمكن البابا أن يحل الرعايا من يمين الولاء لولي أمرهم، ولا يجوز لأحد أن يرد حكم البابا، وهو يستطيع أن يرد أوامر الجميع.»
ومع ذلك ليس لنا أن نتمثل أولئك القساوسة بين الملاذ في القصور على الرغم من تعطشهم إلى السلطة، فقد كان غريغوار، مثلا، حنبليا
38
قائلا بإصلاح دير كلوني، ومن تعاليم هذا المذهب الذي يعظم شأن الروح والطهر تحرير الكنيسة من السلطة الزمنية، وكل ما يهدف إليه هذا المذهب هو تحويل المقصد الديني وجعل الصدارة للكنيسة على الممالك الزمنية.
أجل، عاشت الخيلة
39
التي «كان البابا يمنح الملوك بها السيف»، غير أن النزاع الأكبر الذي خلده دانتي في «مهزلته الإلهية» انتهى، كما يلوح، بعد صراع ثلاثة قرون، بسلم أمضي بين الإمبراطور والبابا في فورمس سنة 1122 من غير أن يعد أحدهما غالبا، ولم تستقل الكنيسة الألمانية عن رومة، ولم يستقل انتخاب البابا عن الإمبراطور، وأكثر من بابا قوي يحارب إمبراطوره أو يلعنه أو يبعده أو يخلعه، وأكثر من إمبراطور يصنع مثل هذا تجاه باباه، والواقع أن مسألة تفوق القوة لم تنقطع قط.
وكان يوجد في ذلك الدور نوعان من الدين والحياة في بلاد البحر المتوسط، والحق أن الأباطرة لم يحاربوا البابا وحدهم، بل انفصلت عن البابا جمعيات الإخوان أيضا متوجهة نحو نصرانية حقيقية كما وجدت منذ قرون على طرف الصحراء، أي في الأديار الأولى التي تحولت إلى حصون مع أسلحة وكتب وأزودة.
وعاش كل من البابا إينوسان الثالث وسان فرنسوا بجانب الآخر في رومة وأسيز في ذلك الدور؛ أي حوالي سنة 1200.
وبينما كان فرنسوا الأسيزي تام الفتوة منهمكا في الملاذ إذ يطلب الله مداويا المرضى معتنيا بالفقراء، وكان يشابه النصارى الأولين منهاجا، فتبلغ تعاليمه ما وراء البحر المتوسط، ويرقب الغطريس إينوسان ما أدى إليه هذا المجذوب الغريب من رد فعل. وكان هذا البابا من أسرة كونتي الرومانية القوية، وقد رسم على فسيفساء بملامح تذكر الناظر بالمثال الصقلبي، وكانت له هيئة المسيطر، وكان في هذا على النقيض من سان فرنسوا الذي تنم صورته على رجل مأخوذ. وكان إينوسان من اللباقة ما يعترف معه بالجمعية الرهبانية الجديدة التي نالت حظوة لدى الشعب سريعا، ولكن إينوسان أبطل عملها بفرضه عليها نظاما دقيقا وإطاعة وثيقة، وهنالك عدل فرنسوا عن توجيه تلك الجمعية الصاحبة لأملاك كبيرة، وقد مات مؤسسها هذا معدما إلى الغاية.
واتفق لفرنسوا ما اتفق ليسوع وغيره من الأنبياء والفلاسفة الذين تدخلوا في سير التاريخ على الرغم من إرادتهم أحيانا، والذين شوهت تعاليمهم وأسيء تفسيرها فلم يلبثوا أن خاب أملهم عندما أبصروا نتائجها، والذين تمثلوا مذهبهم منعزلين عن العالم على خلاف ما وقع، ولم تعتم هذه المذاهب أن شابهت زورقا روائيا غامر في منطقة زوابع البحر المتوسط بين رأس ماتابان وأقريطش.
20
ينتصب في البيره التي هي ميناء أثينة أسد قديم ظل سليما مدة خمسة عشر قرنا، ولما نقش نوتي اسمه عليه فعل ذلك بحروف يونانية أو لاتينية، وتوجد على الأسد، ذات يوم من سنة 1040، كتابة غريبة لم يسطع أحد أن يفكها، وتلك الكتابة هي رونية كان يستعملها في الشمال، وعلى مسافة ألوف الكيلومترات من البحر المتوسط، أناس شقر الشعور زرق العيون لتسجيل أساطيرهم. ولما بدت هذه الشعوب الشمالية في الجنوب للمرة الأولى نظر القوم، ولا سيما النساء، بعين الحيرة إليها، ولم تكن الجاذبية الجنسية للشعوب الأجنبية في زمن أكبر مما في الزمن الذي ظهر فيه النورمان من أهل الشمال على شواطئ البحر المتوسط.
وكان هؤلاء الآدميون حائزين ما كان يعوز أهل البحر المتوسط من الهيف والجمال؛ أي كانوا ذوي قدود ممشوقة وأبدان ملزة
40
وأوراك ضيقة وشعور شقر ذهبية وعيون لامعة حادة.
وكان العرب قد بلغوا البحر المتوسط في ذلك الحين؛ أي في القرن الحادي عشر، وكانت صفات هؤلاء القادمين الممتازين الجدد البدنية تفوق صفات الأغارقة والإسبان الجثمانية، ولكن مثالهم كان شرقيا. والواقع أن العربي كان ذا عينين ثاقبتين مشبعتين كشعره، والواقع أن العربي كان أقصر من أهل الشمال مع هيفه، وكان العربي ماهرا في حمل السلاح وفي الصيد، وكان العربي يحب الخيل والثياب الجميلة، وكان خطيبا مداريا بفطرته، وكان أستاذا في العدل والشكل، ومجمل القول أن العربي كان على النقيض من الجرماني الفظ القليل العقل الذي وصل إلى شاطئ البحر المتوسط قبله.
وكان النورمان أول من عندهم قدرة على الادغام من أهل الشمال، وكان الجرمان قد ظلوا من البرابرة حتى ذلك الحين، وقد استقر أناس من إسكندينافية بنورماندية في القرن العاشر فتعلموا لغة هذا البلد وانتحلوا دينه، ثم ادغم من جاوزوا المانش ليقيموا بإنكلترة في أهل البلاد في مدة قرن، ولكن بينما تراهم قد وجدوا في إنكلترة شعبا ذا طبائع استطاعوا أن يلتئموا بها سريعا لم يقع هذا الالتئام إلا ببطء بالغ في صقلية.
وصارت صقلية ملتقى الحضارتين في القرن التاسع كما في عصر بركلس وعصر برس، وهنالك، حيث ملك العرب طيلة القرنين السابقين، تقابل أبناء الصحراء هؤلاء وأبناء بحر الشمال مقابلة تمثيلية، وهنالك قصائد وأساطير تحدث عن اصطدام هذين العرقين اللذين خلقا ليتجاذبا بدنيا، ويمكن جمال المولد أن يكون لنا فكرة عن الذي حدث في ذلك الحين نتيجة للغريزة الحسية أكثر مما للزواجات، ولم يتفق للنغيل الذي تغنى به شكسبير من الحظوة ما اتفق لتوالد العرقين المختلفين الذي ليس عندنا سوى صور قليلة عنه والذي لدينا عنه قصائد وقصص وأخبار كثيرة.
وفي بلرم يدلنا قصر روجر النورماني المزخرف بفسيفساء ذهبية على روعة ذلك الامتزاج النورماني العربي كما تدلنا عليه القباب الإسلامية التي تبدو لنا من فورها بين بساتين البرتقال في صقلية قريبة من الكنائس الابتدائية ذات الخطوط الجافية.
ومن يمكن أن يكونوا أبطال أحلام نساء الحريم الروائية السمر الفواتن الغيد إن لم يكن أولئك الفرسان أو قطاع السابلة الشقر الملازمون للبحر المتوسط زمرا صغيرة على حين يجول العرب كتائب كثيرة؟ أولم يجب أشهرهم، روبرت غسكار، من آل هوتفيل، بلاد إيطالية لابسا معطفا مخفيا سيفا تحت حلته؟ ومن أبولي طلب العرب العون منه ومن فرسانه. وكان هؤلاء الرجال ذاهبين إلى الإبير قياما بمغامرات، وهم كانوا قد اختاروا بزنطة كالعرب، وهم لم يستطيعوا أن يستولوا على بزنطة، وإنما انتزعوا صقلية من العرب؛ أي وفقوا لأمر لم يتفق لبزنطة قط. وبما أن فتح إمبراطورية بزنطة الشرقية كان متعذرا على غسكار فإنه ساق كتائبه إلى رومة حيث مثل مهزأة الأباطرة المعتادة مكرها البابا على إقطاعه دوكيته، حتى إن أحد خلفائه، روجر، حمل على تتويجه ملكا لنايل وصقلية.
وشعب ملاح وحده هو الذي كان يمكنه أن يقوم بجميع تلك الفتوح سريعا، وكان جميع هؤلاء الرجال، وهم من جرمانية الشمالية وإسكندينافية اللتين لم تسطع الإمبراطورية الرومانية أن تصل إليهما، قد تعلموا الملاحة في بحر الشمال وفي البحر البلطي. وكان أناس من الأنغلوسكسون والجون ، ثم من الدانيماركيين، قد جاوزوا البحر إلى الجزر البريطانية، ثم أتى الويكنغ من روسية إلى القسطنطينية حيث صاروا جنودا وربابنة مشهورين. وكان النورمان قد ظهروا في القرنين التاسع والعاشر على البحر المتوسط كجنود وكحجاج، وكقراصين على كل حال، فشابهوا عرب البحر المتوسط بنشاطهم هذا مشابهة كثيرة، وكان يوجد في الغالب جذافون من العرب في سفينة نورمانية فيتحد الشمال والجنوب بذلك على مراكب واحدة.
وكان دور القرصنة الروائي قد انقضى منذ زمن طويل، وعاد لا يعد في البحر المتوسط عملا بطوليا، وكانت القرصنة تعلم كما كان التجار يتعلمون الملاحة فيما مضى. وكان قوم الصحراء، العرب، قد بلغوا المحيط الأطلنطي منذ القرن الثامن، حتى إنه يعتقد نزول العرب إلى البرازيل سنة 1150، وقد غدا العرب في القرن التاسع مصدر هول في البحر المتوسط، فانتهبوا مرسيلية ونيس وأوستي. وقد تعلم الوندال الملاحة في البحر المتوسط أيضا، ويلوح أن البرابرة كانوا أمة بحرية وأمة فرسان معا، لمجاورة ملكهم للبحر وللصحراء معا.
والنورمان وحدهم هم الذين بدوا ملاحين حقيقيين منذ البداءة، والنورمان قد جلبوا إلى البحر المتوسط طرازا جديدا من السفن كما يلوح، جلبوا إليه نوع السفينة المعروفة بالغالير والتي ظلت تقتبس عدة قرون، وكانت هذه السفينة المغطاة مجهزة بالمقاذيف بالغة من الطول خمسة وخمسين مترا أحيانا مصنوعة من الخشب تماما، وكان يمكن هذه السفينة أن تحمل حتى أربعمائة رجل، وكان جدافوها يوضعون بجانب بعضهم بعضا، لا في طبقات، وكان طول مقاذيفها اثني عشر مترا فيحرك الواحد منها تسعة رجال، ويذعن الرجل منهم لرجل جهير الصوت مشرف على الحركة في فينات ثلاث مقطعة هكذا: «ارفعوا، مدوا الذرعان، اجذبوا وعودوا إلى المقعد!» وكان يمكن أن يؤتى ما بين ال 22 وال 26 جدفة في الدقيقة الواحدة فتتقدم السفينة عشرة أمتار إلى الأمام بالجدفة الواحدة وتنجز عشر عقد في كل ساعة، وذلك في مساوف قصيرة وفي أثناء الهجمات، وكان من المعتاد أن تنقص السرعة في الساعة الواحدة إلى خمس عقد، وإلى عقدتين أيضا. وكانت السفن تجري بلا أشرعة في الغالب ، وكانت السفين، في غير أوقات، تجهز بشراع يعرف باللاتيني، فيتدلى على طول سارية طويلة، وكان لا يتنفع بهذا إلا عند تقدم الريح، وذلك لقصر مقدار ما يدخل من المركب في الماء ولجهل تدوير المركب.
وكان النورمان والعرب يجعلون البحر أقل أمنا من فوق مراكبهم التي لم تلبث الشعوب الأخرى أن انتحلت طرازها، وكان هذان الفريقان يتحالفان تارة ويقتتلان تارة أخرى كما تصنع المصارف الكبيرة ذلك في الوقت الحاضر. وكان النورمان والعرب يتخذان الصليب والهلال ذريعتين للاقتتال كما تنتفع هذه البنوك بالنعرة الوطنية. وكان البابوات يدفعون جزية إلى قراصين العرب، طويل زمن، ليصانوا، ولا عجب، في مثل هذه الأحوال، إذا ما تحالفت المدن التجارية وأنشأت أساطيل للدفاع وزادت سلطانها على هذا الوجه، ويعد هذا مصدرا لما يكون للتجار الإيطاليين من قوة في المستقبل.
وأول خطة هجوم التزمتها المدن المتحالفة على ما نعلم هو ما صنعته بيزه وجنوة سنة 1015 عندما اتفقت هاتان المدينتان على نزع سردينية من القراصين.
وقد نشأت فكرة حرية البحار حوالي ذلك الحين، وقد بدأت المدن: غايت وأمالفي وساليرم ونابل وبرنديزي وأترانت وباري في الجنوب، وبيزة وجنوة في الشمال، ثم البندقية التي لم تلبث أن فاقت الجميع، تأخذ مكان بزنطة بالتدريج حوالي عصر النورمان والصليبيين الأولين. وقد تحولت وسائل دفاع هذه المدن إلى قوة بحرية متزايدة سريعا، ومع ذلك لم تكن خلف هذه القوة أية خطة للسيطرة العالمية، ثم أخذت سفن المدن المتحالفة تطوف في دوائر أكثر اتساعا وتتاجر مع تونس وطرابلس والإسكندرية ومع النصارى والمسلمين من غير نظر إلى المزاعم الدينية.
ووضعت جامعة أمالفي قواعد قانون للبحرية حوالي ذلك الدور للمرة الأولى، وكانت كلية الطب في ساليرم تجتذب طلابا من كل أمة، وكانت كنيسة بيزة الرخامية تستند في وسطها إلى ثمانية وستين عمودا قديما يونانيا أو رومانيا اشتري أو حجز من قبل أهل هذه المدينة، وهكذا ترى التجارة والثقافة، في سواء القرون الوسطى التي نصفها بعدم التسامح، تشقان طريقا لهما بين الأمم والأديان بروح كبيرة من التسامح ، ولما نشب الصراع كان بين النصارى أو بين الطلاينة، فخربت أمالفي من قبل بيزة كما خربت بيزة من قبل جنوة، ولما تنازعت المدن حالفت إحداها العرب ضد أبناء وطنها من النصارى.
ولا أحد يستطيع أن يقول أي الأمور كان سائدا للبحر المتوسط: آلقانون أم الفوضى، آلأمن أم قطع السابلة، آلعقود الحرة أم العنف، والواقع أن جميع هذه العناصر كانت بادية في مختلف الشواطئ معا، وإذا ما بحثنا في تاريخ جنوة وجدنا الجرمان قد خربوا هذه المدينة في القرن السابع، ووجدنا كونتا من أصل جرماني كان يملكها في القرن الثامن فخر صريعا في معركة ضد قراصين العرب، ووجدنا عربا من أفريقية نهبوها بعد مائة سنة، ووجدنا هؤلاء قد استولوا، في الوقت نفسه، على مرافئ نهر التيبر وانتهبوا ضفته اليسرى وكنيسة القديس بطرس، وقد جرد قراصين دلماسية مدينة أبولي من خمرها وزيت زيتونها، ثم طرد النورمان العرب من صقلية، وتصبح التجارة حرة زاهرة على شاطئ البروفنس من فورها، وينظم أسقف فريجوس أسواقا في سان رفائيل على الطراز الحديث اجتذابا لتجار من الأجانب.
وتضطر البندقية في ذلك الدور إلى تسكين قراصين الساحل الصخري القريب منها بأن تعاهدهم على أن تعطيهم جزية عظيمة وعلى أن يجهزوا البندقيين بعبيد لتجارتهم، وتضطر جنوة ومنظمة الهيكليين في ذلك الدور إلى التحالف ضد قراصين البربر والعرب المتحدين، ولم ينشب كل أمير نصراني يريد محاربة رئيس مغربي أن صار يحالف أميرا مغربيا آخر ضده قبل كل شيء.
وهكذا صار يتدفق الأجانب على الشواطئ بلا انقطاع، وقد أخذت كل زمرة جديدة تحرم الزمرة السابقة حقوقها، وقد امتزجت الزمر امتزاجا عرقيا، وكما أن الفنيقيين، الذين بدوا تجارا أكثر منهم قراصين، كانوا يسافرون على زوارقهم الهزيلة إلى سورية وسرت وجبل طارق وصل العرب الآتون من الجنوب والنورمان الآتون من الشمال إلى الموانئ الفنيقية والإغريقية القديمة على سفنهم بعد ألف وخمسمائة سنة، ولم يكن قد تغير شيء غير مقاييس هؤلاء النصارى وهؤلاء المسلمين الخلقية، وذلك لما حدث من انحطاطهم بأن صاروا قراصين أكثر منهم تجارا.
21
من النادر أن جرب تحريك الجماهير نحو هدف مثالي في غضون التاريخ، ويعد الدفاع عن الوطن محركا طبيعيا غير مشتمل على مزية خاصة وإن كان ينعت بكلمة «البطولة» المصنوعة، وأما حرب الفتوح فقد صورت مثالية تصويرا خاطئا، فالواقع أن أحد العدوين في الحرب يريد أن يكسب أموالا وأملاكا وأن العدو الآخر يرغب في الانتقام من ظالمه أو في المحافظة على أمواله بمقاومته، وتجتمع غريزة القراع والطمع وحب نيل الإعجاب لإلهاب ما يسمى الحماسة نحو حرب فتوح.
ومن المحتمل أن كانت الحروب الصليبية وحيدة في التاريخ من حيث حفزها جمهورا إلى الدفاع عن ذخيرة مقدسة نتيجة لإلهام ديني، وفي هذه الحوافز الوجدية يشعر الرجل العادي بأنه ارتقى فوق قدره وبأنه ملئ قوة جديدة، وفيها يستطيع ابن الوطن البسيط أن يحمل سيفا لا يصلح لغير الفرسان، ومع أن هذا الرجل كان يبصر في الماضي ما يحمله الجنود من الأشعرة الزاهية تراه الآن مدعوا، عن مثالية، إلى عمل يكافأ صاحبه بالشرف وحده، وهنالك ترتقي حماسته إلى درجة الوجد. وفي الحروب الصليبية كان العمل كل العمل في التقتيل نهارا وفي الركوع ليلا شكرا للرب مع دعائه أن يوفق في الغد لمثل ما صنع بالأمس، وهكذا كان يتحول السكاف إلى بطل.
ولما اجتمع مجمع كليرمون الديني سنة 1095 صرخ البابا أوربان الثاني قائلا عند ختام خطبته النارية: «تلك هي إرادة الرب!» ويلتهب الجمهور حماسة ويعزم على الذهاب إلى القدس من فوره لحماية القبر المقدس، وتهز الجماهير رؤى خيالية في ذلك الحين عن آمال مسيحية، وكان معظم المشاغبين من الفرنسيين، وكذلك البابا الذي ذهب إلى فرنسة ليلقي تلك الخطبة، وكذلك الناسك الذي فوض إليه أمر الدعاية للحرب الصليبية، وكان وغي الحرب اللاتيني الجديد هو: «صوت جديد نحو السماء وغفران خطايانا»، ويضاف إلى هذه العوامل الدينية الصرفة ما كان من إيقاظ غرائز عالم فروسي كحب المغامرات وكالبسالة وبذل النفس، والواقع أن الرجال الأصحاء، الشبان في الغالب، هم الذين زحفوا في نهاية الأمر مسلحين لابسين خوذا خائطين صلبانا على أرديتهم.
وما الذي كان عليهم أن يدافعوا عنه؟ وهل كانت القدس والقبر المقدس بين النيران؟ وهل ذبح الكافرون المؤمنين؟
وإذا نظرت إلى القرون الثلاثة؛ أي إلى ما بعد فتح القدس من قبل عمر سنة 637، وجدت سادة الأرض المقدسة العرب قد ظهروا أكثر حلما وتسامحا من معظم الفاتحين، ومن ذلك أن سلم الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان مفاتيح القدس ومنحه لقب حاميها كما منحه حق امتلاك القبر المقدس، وكان ملوك الجرمان والإنكليز على صلات ودية بالعرب فيقيمون مباني ويقومون بأعمال بر وإحسان.
غير أن الوضع تغير حينما احتل الترك السلجوقيون تلك المدينة سنة 1071، ومن الطبيعي أن يكون قد وقع ارتباك كثير عندما أعادت دول نصرانية فتح أقسام من العالم الإسلامي في صقلية وإسبانية ثم خسرتها ثم استردتها مجددا حتى لقب نورمان صقلية ب «الصليبيين قبل الحروب الصليبية»، ويستولي الترك نهائيا على آسية الصغرى تقريبا، ويشعر كل من النصارى والمسلمين بأنهم مهددون مقابلة مع أن كلا منهما كان يهدد الآخر، فتنشأ حال نفسية تؤدي إلى اشتعال حرب في البحر المتوسط كان أقطاب السياسة قد اجتنبوها عن تسامح وحكمة عدة قرون.
وكانت تضاف إلى الوجد الديني والزهو العرقي والرغبة في المجد جاذبية الشرق المعروف قليلا والملازم لخيال الغرب، وكان يعبر عن هذه الجاذبية في الأقاصيص والروايات الكثيرة التي تجعل أمر الشرق ماثلا في الأذهان، وهذا إلى ما كان من مغريات الكسب والصيت والأمل في الثواب من الرب، وهذا إلى ما كان من استيلاء الطاعون بشدة على ما بين الفلاندر وبوهيمية وإكراهه ألوف الناس على مغادرة بلادهم، وقد حلم هؤلاء الذين لا مأوى لهم بسورية على أنها جنة تثمر تفاحا ذهبيا تحت سماء دائمة الزرقة، وهنالك أناس آخرون كان يساورهم أمل الفرار من الاضطهاد أو من النذور الدينية أو من نسائهم، وهكذا كان كل ما في الإنسان من ضعف وفضائل يدفع الألوف من الآدميين إلى ترك وطنهم الأمين ووسائل عيشهم وإلى ترك أسرهم متوجهين إلى ما هو مجهول وراء البحر المتوسط.
وسمعت شكاوى منذ البداءة، حتى من أفواه الأساقفة المقيمين ببلاد الرين، حول ما عد «لصوص» الصليبيين مسئولين عنه من إهانة اليهود واضطهادهم.
ولاح للبابا أنه تمثل مبدأ عظيما عندما قذف كلمة «الحرب الصليبية» في العالم، ومع أن البابا لم يقصد أن ينتقل من رومة إلى القدس فإنه كان يود أن يسيطر على القدس من رومة. ومن شأن ذلك المبدأ أن يجعل البابا صاحب سلطة فوق الدول وأن يدعو الرجال الأقوياء الشجعاء في جميع البلاد من فوق مولاهم إلى إخضاع بطاركة الشرق لمقامه الرفيع، وأن يشري شكر كثير من الأمراء والإقطاعيين بأن يسلك بأبنائهم الفتيان سبيل المجد والشرف والثراء.
ويا لحماسة الصيارفة الذين يمدون هذا المشروع بالمال! ويا لضخامة ما تتلقاه مدن إيطالية من طلبات وسائل النقل وطلبات الإصدار والإدخال! وبينما كان الغرب يهتز بصراخ المحرضين اللابسين ثياب الكهنوت والقائلين مع التكرار إنه لا بد من حماية القبر المقدس. وبينما كانت الاجتماعات العامة تختم بالصلوات والتراتيل، كان يطوف بين الحضور البالغي الوجد تجار حاملون أقلاما بأيديهم جامعون لأعمدة من الأرقام، وبينما كانت الأحوال تضطرب اضطرابا لم يسبق له نظير، كان التجار في رداه مرفأ جنوة ذوات القباب الدكن وفي أروقة البندقية الأكثر نورا ومرحا يعقدون اجتماعات لا حد لها للبحث في الوسائل التي ينالون بها أعظم ما يمكن من المكاسب، أجل، كان بعض ألوف الصليبيين يبحثون عن نجاة روحهم، غير أن معظم الصليبيين لم ينشد سوى الثراء، ومن المحتمل أن كانت تلك أول حرب في التاريخ لم تقم بها جيوش، بل قامت بها شعوب بأسرها، وقد كان بروز الجمهور المغفل عامل التاريخ الحاسم في ذلك الدور أكثر من أن تكونه المعارك الصرفة.
وبالشكل والدوام والنجاح اختلفت الحروب الصليبية الأربع أو الخمس التي ملأت القرن الثاني عشر والتي لا محل لتحليلها هنا، ويكفي لتمثلها أن تفحص تلك البسط الشرقية التي أتى الصليبي بها إلى بلده والتي وصف بها عالم الشرق الأبلق لأسرته، وكانت ترى على تلك البسط صور حيوانات ونباتات عجيبة وصور فرسان غنية بالزخارف، وصور سيدات وسفن وخيل وجمال مع رسوم خيالية، ولو لم يجئ الصليبيون بشيء غير أساطير الشرق لكفى هذا وحده للاعتداد به، والواقع أن كل ما كسبته النصرانية هو تلك الكنوز من الفن والشعر والأغاني وأساطير المغامرين، فشوكة الإسلام لم تكسر قط.
وكان يوجد لصوص أغنياء ورهبان متعصبون، وكونتات طالبون إمارة، ونغلاء ملوك أتقياء لا يعرفون هل يباهون بأصلهم أو لا يباهون، وخطباء جائلون موهوبون ووزراء بخلاء، وأساقفة أخذوا عن العرب نظام الحريم، ومرابون أغرقوا سفنا نيلا لمبلغ التأمين، ومقامرون وطلاب، وجوابون مغنون وكاتبو أشعار بلغة لاتينية رديئة، وشعراء دوارون منشدون تحت نوافذ نساء الترك المحجبات أو ساخرون منهن إضحاكا للناس، ومخترعو سفن جديدة، وتجار ذخائر زائفة. وكان يوجد من أغنياء جنوة من يرسلون أبناءهم حاملين أسلحة ذهبية ليقاتلوا، في كتائب الأريستوقراطيين، فريق الكافرين الذين يبيعونهم خشبا ومعادن في الوقت نفسه كما لا يزال يصنع كبار المستصنعين في أوروبة.
وينقضي دور الحماسة الأول فيشاهد بين الرؤساء المتحالفين مثل ما يشاهد في أيامنا من سوء الظن، ويكفي أن تقرأ قصة الفزع الأكبر الذي استحوذ على إمبراطور بزنطة ألكسيس، وعلى ابنته، حينما دخل الصليبيون المرفأ نهائيا، فقد آذوا مزاج أهل بزنطة من شعب وأهل بلاط، وانتهكوا حرمة تقاليدهم وعاداتهم. وإذا نظر إلى الأمر من حيث هو مشروع استرداد فلسطين التي كان قد خسرها البزنطيون، وجد هؤلاء كارهين لهذا المشروع ما دام وليد خيال منافسهم، بابا رومة، وما كان قواد الجيوش المتحالفة المتباغضون ليسيروا في آسية الصغرى مع كتائبهم إلا بعد مفاوضات شاقة إلى الغاية كادت تتحول إلى اصطراع. وكان الإمبراطور قد طلب من الصليبيين أن يتلقوا الأرضين التي تؤخذ من الترك بلادا تابعة لبزنطة، فرفض أحد الأمراء أن يحلف اليمين، وكذب أمير ثان في يمينه، وباشر أمير ثالث الأمر طليقا غير ملتفت إلى ذلك.
وكانت تدوي معجزات تورائية في تلك الأماكن الكثيرة، فينتفع الرؤساء بكل مصدر للخرافة والإيحاء إثارة لحماسة الجنود، وقد قاومت أنطاكية حصار عدة أشهر، وقد أبصر الصليبيون أنهم مهددون من قبل جيش تركي جاء لمساعدة المحصورين، وهنالك أنقذ فلاح بروفنسي ذلك الوضع الموجب لليأس، وذلك بأن رفع رمحا قائلا إن يسوع كان قد طعن به على الصليب، وتحرك هذه الظاهرة المسيحيين فيكسبون المعركة، ومع ذلك فقد تبسم نائب البابا من هذه الأسطورة مرتابا وكتب يشك في موضوع ذلك الرمح.
وأخيرا تسقط القدس في سنة 1099، ويزيد شوق الفاتح إلى الانتقام، وإذا ما قرئ في تقرير قديم: «أن الصليبيين ملئوا ساحة هيكل سليمان بالدم حتى ركب الفرسان وعدد خيولهم» أثلج حتى الفقار عند تمثل تحرير تلك المدينة الأول من قبل جنود الرب الأتقياء أولئك. وكان النبي الذي يرقد في القبر المقدس نبيا يعترف به دين الأعداء أيضا، وكان كلا الدينين يأمر بالتسامح، وما كان من اقتتال أتباعهما على الرغم من كل شيء يثبت أنه يمكن سلطان الرموز والأشعرة أن يحيط حس العقل والعدل بطبقة من الظلام، ويقتل الألوف من الفريقين بعد سقوط القدس مع أن أجدادهما كانوا يدعون إلها واحدا بأسماء مختلفة، ويدل هذا على جاذبية النداءات الحربية والأشعرة وعلى تأثير الخطب في الجماهير.
أجل، بقيت مملكة القدس اللاتينية التي أقيمت بين ما لا حد له من الدسائس والمنافسات ثلاثة قرون مبدئيا، ولكنها دامت قرنا واحدا فعلا، ويرفض غودفروا البويوني، الذي هو أول فارس اختير ملكا، هذا اللقب بإباء مفضلا إقامة دولة دينية، ويعلن أنه تابع للبطرك الجديد و«قيم على القبر المقدس»، وعلى العكس يسمي أخوه، الذي خلفه بعد عهد سنة، نفسه بودوان الأول، ولا يكون إذن غير إمارة صغيرة زائدة بدلا من دولة دينية واحدة، ولم يسفر هذا الإنشاء الذي ظن أنه يكون نموذجا للملوك والقساوسة عن غير إثارة ما لا نهاية له من صراع بين ملوك القدس وقساوستها، وبين النورمان والفرنسيين، وبين اللوران والطليان، من صراع عن حب للسلطان ومن غير أي نفع للأعقاب ومن غير أي تأثير في نفوس العالم الحديث وأفئدته.
وتتحول الحرب الصليبية النصرانية ضد الكفرة إلى قتال بين خمسة أو ستة من الأمراء والشعوب ، ويحارب النورمان بزنطة، وتقاتل منظمتا الهيكليين وفرسان مار يوحنا ملوك القدس، ويقاتل أباطرة ألمانية وبزنطة ملوك فرنسة والنورمان، ومن ينظر إلى الأساس يبصر اقتتال جميع النصارى، والفرنج والعرب وحدهما هما اللذان عقدا معاهدات دولية مثبتين مخالفة الحروب الدينية للعقل، ويمضي زمن، فيقترح سلطان مصر، حوالي سنة 1220، على أمراء النصارى أقرب الحلول إلى الصواب؛ أي يعرض عليهم جميع الأرض المقدسة على أن يتركوا مصر، غير أن الكردينال بيلاج، الذي كان يفضل استغلال مصر الغنية على تملك الأرض المقدسة الفقيرة، رفض ذلك فلم ينل هذه ولا تلك في نهاية الأمر.
22
صدر ما بين ملوك العرب والنصارى من تضاد أيام الحروب الصليبية عن تاريخ رجلين بما يقف النظر، وقد تقاتل الرجلان من غير أن يقهر أحدهما الآخر، وقد تفاهما في نهاية الأمر، وقد انتقل اسمهما إلى الأعقاب مع تماثل في المجد، والرجلان هما قلب الأسد ريكاردوس والسلطان صلاح الدين.
تفصل قارة وبحر محيط بين مسقطي رأس هذين الرجلين المختلفين عرقا ودينا، ومع ذلك كان كلاهما جنديا وفارسا بفطرته، ومع ذلك كانا متساويين ثقافة ومقاما واستعدادا عندما التقيا في معركة قصيرة، ومع ذلك كانا يختلفان شخصية بفعل ما نالاه من تربية فضلا عن اختلاف العرق والدين.
صار ابن ملك إنكلترة دوكا فرنسيا في الخامسة عشرة من سنيه، ونشئ ليقبض على زمام الأمور، وكان يتيه زهوا بإقدامه الرائع فارسا، وهو لم يعتم أن اشترك، كأمير من بلد أجنبي، في مؤامرة ضد ملك فرنسة، وتكتشف المؤامرة ويخزى الأمير، ثم يعفى عنه، وتعاد إليه حقوقه، ويبلغ من العمر ثماني عشرة سنة، وينقذ متبوعه من تمرد كونت آخر، ويخاصم أخاه الأكبر الذي اقتدى بأخيه الأصغر في مهنته عن حسد، ويموت أخوه هذا فيغدو ولي عهد إنكلترة ونورماندية، ويحفزه نشاطه ومواهبه وآماله، كمقاتل لا يشبع من القتال، إلى البحث عن مآثر جديدة، ويجد، كشاعر جوال وموسيقي، في نيل المجد بالفن والقتال معا.
وفي الدور نفسه يبدأ ابن كردي من أرمينية، يبدأ القائد والحاكم، يبدأ ابن الأصل الوضيع، بعمله وفق خطة حياة ناشئة عن حماسة عميقة، ويكون بسنوات صبر وتأمل صامت.
ومن سوء الحظ أنه ليس عندنا صورة صحيحة لكل من الرجلين، خلا خاتم لريكاردوس ورسيم لصلاح الدين، وكلا الرسمين خفيف؛ ولذا ترانا مضطرين إلى تنور سيماهما بما انتهى إلينا من أوصاف، فنبصر الصليبي النشيط العصبي الصوال بجانب الكردي الصموت الفاتر المتبصر، ويبدو الأول لنا أكثر قسوة من الثاني.
وينم اسم «صلاح الدين» على تدين عميق في هذا المسلم، وينم اسم «قلب الأسد» على قوة المشاعر، وكان الاسمان لقبين، ومن ثم كانا جزأين من شخصية البطلين، وقد ربي ابن الملك بين الألعاب العسكرية وشجاعة الفرسان، وما كانت التوراة لتدل قلب الأسد على شيء كبير، وكان صلاح الدين الذي تخرج في مركز الثقافة الإسلامية دمشق يحمل القرآن مدى حياته.
وكان صلاح الدين يمقت النصارى ولكنه كان يعاملهم كفيلسوف، وكان قلب الأسد لا يمقت المسلمين ولكنه كان يقتلهم، والحكمة هي التي كانت تتغلب على ذلك الشرقي، والجبلة هي التي كانت تتغلب على هذا الغربي، ولو نظر إلى الأفكار الشائعة لوجب أن يكون قلب الأسد هو الشرقي.
وما كان البقاء ليكتب لمملكة القدس اللاتينية في وسط العالم العربي إلا لما بين الأسر المالكة الإسلامية، ولما بين خلفاء بغداد وفاطميي القاهرة، من شقاق؛ ولذا كان على قائد الخليفة صلاح الدين أن يقهر المصريين في بدء الأمر حتى يقضي على تلك الجزيرة النصرانية، وقد وفق صلاح الدين لذلك بعد جهاد عشر سنين مع عزم وثبات شرقي، وقد بدد قلب الأسد نشاط نفسه في مئات المعارك المحلية، وقد استولى صلاح الدين على مملكة قوية، ونادى بنفسه سلطانا في الثلاثين، وجمع تحت سلطته جميع تراث الفاتحين الأولين تقريبا، واسترد القدس بعد أن أضاعها الترك بنحو قرن، وحول هيكل سليمان إلى مسجد، ولكن مع حقن دماء النصارى جهد المستطيع، ويصبح بفتوحه أقوى من جميع أمراء المسلمين.
وكان يكبر الإنكليزي بعشرين سنة، وكان مجاوزا الخمسين من عمره؛ أي كان في أوج سلطانه، حينما قبض الآخر على زمام الحكم ابنا للثانية والثلاثين فقط ولبى نداء حرب صليبية جديدة. وكانت فتوح صلاح الدين قد دفعت أوروبة إلى قتال جديد شعاره «يجب استرداد البلاد المفقودة!»، فكان من شأن مثل هذه الرسالة إثارة خيال قلب الأسد وطموحه وخلق المغامرة فيه.
ويصل إلى صقلية، وتشتعل المعارك حيثما يرد، وكانت أرملة ملك صقلية أخته، وهذا لم يمنعه من حصار مدينة مسينة النصرانية وانتهابها نتيجة لخصام لا أهمية له، وكان هذا حربا صليبية مصغرة.
وكان ريكاردوس فارسا فرنسيا حقيقيا، وقد تهدد الإنكليز ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد كان كريما وطماعا فروسيا وغضوبا مدللا وتابعا لهواه معا، وتمنحه هذه الصفات روحا متناقضة قاتمة، وتجعله عرضة لمتاعب مباغتة ولسوداء يعقبها حميات نشاط جديد. وعلى ما كان من صدق رغبة قلب الأسد في تحرير القبر المقدس نسي ما أعطاه من موعد أمام حصن فذهب لفتح قبرس في طريقه وتزوج أميرة فيها، ثم يصل وليد الحظ المفضل هذا إلى عكا متأخرا ستة أشهر فيستقبل كمنقذ مع ذلك.
ويبدو أمام القدس مرتين من غير أن يأمر بحصارها، وذلك لخوفه من قلة الماء لكتائبه وما يؤدي إليه هذا من حبوط الحصار ومن خسره نفوذه ومجده تجاه الأعقاب، ويحاول صلاح الدين أن يكسب وقتا فيعده بإعطاء جزية ولا يدفعها صلاح الدين، فينتقم ريكاردوس بقتله ألفي رهين لعدم قبضه مائتي قطعة من ذهب، ويعرف العالم بأسره ما أبداه صلاح الدين من حلم تجاه أسرى النصارى، حتى إنه أضاع بحلمه هذا قلعة عكا التي صانها زمنا طويلا فتنال مددا في نهاية الأمر.
وما كان يقضيه قلب الأسد من حياة تجوال بين بلد وآخر يبعده من مملكته زمنا طويلا ويوجب محاولة أحد إخوته أن يخلعه في لندن، وينتهي خبر ذلك إلى ريكاردوس فيغادر سورية من فوره إنقاذا لعرشه، ويعقد صلحا على جناح السرعة عن اضطراب نفسي أو عن تعب فيكلفه ذلك كما يكلف النصرانية معظم ما كان قد اكتسبه في جولته الأولى، ولا يبقى لاتينيا غير طرف من الساحل وغير ممر إلى القدس، ويظل القبر المقدس قبضة الكافرين، ولا يستطيع الحجاج أن يصلوا إليه إلا عزلا من السلاح، وينصرف قلب الأسد كقائد مقهور، فلما بلغ بلده كان غير ذي جيش.
وما فطر عليه قلب الأسد من عناد خلقي أدى إلى حقد نصف أروبة عليه، وعاد قلب الأسد لا يستطيع المغامرة وراء البحر، حتى إنه لم يقدر على المرور من فرنسة التي كان قد أهان ملكها، ولما أراد أن يجازف بشق طريق له من خلال ألمانية سقط بين أيدي جواسيس يعملون لحساب دوك نمسوي كان قد شتمه أمام عكا في ساعة نزق، ولما وقع أسيرا وجد في القلعة الشاعر الجوال بلوندل الذي هو أحد تابعيه، ويسلم إلى الإمبراطور خلافا لحق الصليبيين في الإكرام، ويحتفظ الإمبراطور به أسيرا ولا يطلقه إلا في مقابل فدية عظيمة يدفعها أبناء إنكلترة من أموالهم، ويعود إلى بلده فلا يعتم أن يسترد سلطانه، ويغفر لأخيه خيانته، ويعود إلى فرنسته محبوبا، ويلاقي زوجه التي تركها في أثناء فراره، ويسكن حصنا جديدا، ومن الطبيعي أن يبحث من فوره عن سبب تافه لمقاتلة كونت. ويموت قلب الأسد ريشارد بطعنة رمح، ويلوح أنه أراد معالجة الجرح بالاستخفاف فلا يطهره ويلتهب الجرح ويوجب موته.
ويعقد الصلح مع صلاح الدين فيرسل إليه قلب الأسد هدايا ملكية، وما فطر عليه من القرى وحب الأولاد وحماية النساء ونظرة أنس، ومن حلم في الأوضاع، جعل منه قديسا بعد حين، وهو لم يكن قديسا في الحقيقة، وإنما صار قطب دائرة من الأساطير كما حلم به. وكان صلاح الدين رمز حصن الإسلام وآسية ضد أوروبة النصرانية، وكان قلب الأسد مثل القرون الوسطى الأعلى وبطل أحلامها، وكلا الرجلين جاوز مقياس التاريخ، وعاد لا يكترث أحد لحروبهما التي انتهت فور وفاة صلاح الدين، وعلى العكس تراهما قد بلغا أعلى مناطق الأقاصيص، فصار صلاح الدين بطل أسطورة وصار قلب الأسد بطل نشيد حماسي، وعد كل منهما مجاهد القرون الوسطى على البحر المتوسط.
23
حان وقت زوال القسطنطينية، وإذا ما وجدت إمبراطورية في بلاد البحر المتوسط أضاعت سلطانها نتيجة لانحطاط أسطولها كانت تلك الإمبراطورية بزنطة التي بدت ذات طيش في عيشها والتي صارت كثيرة الاطمئنان إلى نفسها.
ولم يزل آل كومنين في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر أصحاب بلاط كثير الترف غافلين عن السلامة الحقيقية منهمكين في أمور الجمال والطقوس فقط. وبينما كان كثير من الفرسان والأمراء والشعراء والسحرة يتدفقون في هذه المدينة التي ظهرت أجمل مدن العالم ليشتركوا في أعياد تجدد دوما أو ليثروا أو ليعرضوا غناهم، كانت ريح البحر تأتي بأخطار متزايدة من كل ناحية، وكانت تهدد هذه المدينة الإمبراطورية أساطيل وجيوش، ومن الجنوب غلب كتائب الإمبراطور المغامر النورماني والجالب مقاتلين وقراصين ضد بزنطة، روبرت غسكار، ومن الشرق هدد الترك بحر إيجه، ومن الشمال هدد المضايق بجناحهم قوم البلغار الذين انتحلوا النصرانية حديثا وبلغوا البحر الأدرياتي، ومن الغرب كانت سلطة البندقية القوية تزيد أسطولها.
وتغير كل شيء منذ حرم العرب أوروبة سفنا مملوءة بر آسية وأفريقية مكرهين أمم أوروبة على زراعة الأرضين بنفسها، وما كانت بزنطة لتستطيع إنقاذ نفسها إلا بعزمها على إنشاء أسطول قوي جديد مشابه للأسطول الذي جمعته رومة ضد قرطاجة، والفارق هو أن رومة كانت جمهورية في دور الارتقاء وأن بزنطة كانت إمبراطورية بهرج ذات سفن راسية في القرن الذهبي مغطاة بالديباج خافقة الأعلام على صوت الأبواق، وكان يلوح بعث روح الجمهورية في البندقية مع عبقرية تجارية قوية غير مسبوقة، وذلك إلى أن إمبراطور بزنطة، الذي كان أغنى من في العالم والذي كانت بناته تطلب للزواج بأباطرة الألمان، صار يعطي البندقية والبلغار جزية وأصبح وضعه يزيد سوءا في كل جيل، ولما استولى ألوف الصليبيين على القسطنطينية وانصرفوا من غير أن يؤدوا ما عليهم ثار الشعب، وتحاك مؤامرات وتقع اغتيالات، ولم يكن لدى إمبراطور بزنطة، إسحق الثاني، الذي أمضى هو وزميله النصراني بارباروس معاهدة، خيار غير مصالحة سلطان الكافرين صلاح الدين سرا مع محاربة كلا الإمبراطورين إياه.
وفي الغرب، برومة، وحد إمبراطور ألماني، وحد ابن بارباروس، إيطالية للمرة الأولى، وقد تزوج أميرة صقلية ، وهكذا أخذ يحقق الحلم الألماني حول السيادة العالمية للمرة الأولى، وهنالك تحمل خزانة تاج نورماندية على ظهر البغال من خلال جبال الألب وفي فصل الشتاء، وذلك رمزا إلى أن وارث قصر هوهنشتاوفن الألماني بسط سلطانه من البحر البلطي إلى الشاطئ الشمالي الأفريقي، والواقع أن سيطرة الجرمان على البحر المتوسط صارت حقيقة، ولم يبق لتمام الصورة غير حملة حربية شبيهة بحملة الإسكندر، وكان الألمان يحيطون بالبابا إينوسان الثالث الأكبر، فأبصر هذا البابا أن من عدل الرب موت الإمبراطور الألماني فجأة حينما كان يتسلح إيقادا لنار حربه العالمية.
بيد أنه كان يقبض على زمام الحكم في البندقية بين جميع أولئك رجل في الثمانين من عمره حديدي الأخلاق، واسم هذا الرجل هو أنريكو دندولو الذي كان من قوة العزم ما هيأ معه مصير القسطنطينية في جميع حياته، والآن يحل وقت الضرب، فلما بدا جيش الصليبيين غير ذي مال للذهاب بحرا أنبأه بإمكان نقله على أن تدفع أجرة النقل من غنائم الغزو، وكان هذا الشيخ الحامل قلبا فتيا دوما يعلم أن مثل هذه الغنائم لا يكون في فلسطين، بل في بزنطة، وهكذا كان يرى أن يتمكن من منافسيه الكبيرين، إمبراطور ألمانية وبطرك القسطنطينية، فيجمع النصرانية تحت وصاية أسقف رومة ويغدو صانع ملوك وصيرفي البحر المتوسط.
ويوفق في خطته، وذلك أن بزنطة، التي حاول الهياطلة والمجر والقوط والعرب في قرون كثيرة فتحها على غير جدوى سقطت في نهاية الأمر مع أسوارها المنيعة ونارها اليونانية، وذلك بضربات الصليبيين الذين همزتهم البندقية، لا بفعل جيش وثني من البرابرة، وقد ختمت هذه الحملة الصليبية حتى قبل بدئها، وقد انتهى كل شيء في سنة 1204 بعد حصار دام عاما تقريبا، وقد تداعت عاصمة الدنيا بين اللهيب والدم والقتل.
ويقول الرئيس البندقي الغالب للإمبراطور ألكسيس صارخا: «من الوحل أخرجناك وفي الوحل نقذفك يا مسكين!» ويخنق الإمبراطور في السجن، ويبيد الفاتحون الأتقياء جميع الأوابد القديمة التي جمعت في بزنطة في سبعة قرون، ولم ينقذ شيء تقريبا، وذلك خلا أربعة أحصنة من برونز يوناني تزين اليوم قبة كنيسة مار مرقص، وأعجب ما في الأمر أن البندقية هي المدينة الوحيدة التي لا تجد فيها خيلا.
ومع ذلك طلب الرئيس البندقي المتعطش إلى الانتقام أكثر من أربعة أحصنة، فزاد حصته من الغنيمة التي كانت ثلاثة أثمان في بدء الأمر فاحتفظ بثلاثة أرباع الإمبراطورية البزنطية فيما بعد، وقد أوجب أيضا احتلال جميع المرافئ المهمة وجزر بحر إيجه والجزيرتين: أقريطش وأوبه، وهو لم يترك للفرنج، (وبالفرنج كان يعبر عن جميع الشعوب الجرمانية) غير فتات من هذه الوليمة الملكية، وذلك مع محافظة بزنطة على لقب الإمبراطورية الذي قضت به شبه حياة مدة قرنين آخرين.
ختمت الحروب الصليبية مع الحبوط، ولم يقتصر الأمر على عدم احتلال الشرق من قبل النصارى، بل حدث العكس بغزو الإسلام للغرب عندما استولى الترك العثمانيون على حوض الدانوب، ولم تقدر النصرانية ولا سلطان أوروبة على النصر في آسية، ومع ذلك وجدت التجارة لنفسها مستعمرات ومنافذ رائعة، وصارت العلوم والفنون الحربية والملاحة تتقدم بما لم يعرف منذ زمن الأغارقة، وظهرت فرنسة والبابا على رأس الحضارة والتجارة، وأسفر الشعر والفن الشرقيان اللذان وصلا إلى الغرب عن كنوز لا تحصى.
ولكن دولة خيالية ظهرت من البحر المتوسط في أثناء الحروب الصليبية وبعدها كولادة أفروديت: ظهرت البندقية.
الجزء الثالث
إلى المنار
لا يرجع الحارس إلى كتابه إلا عند الصباح، وكانت الضباب قد غمرت الليل، وكان شعور الحارس بما ألقي عليه من مسئولية قد بلغ من التأصل ما حال معه دون دوامه على مطالعته، وكان يلوح أنه لا يسمع صوت الصفارة التي تصفر مرة في كل خمس ثوان، وفي ساعات، صفيرا طويلا فيعد في الخارج أنينا أكثر من أن يعد تحذيرا، وما كان أحد في الجزيرة لينتبه إلى ذلك النداء، فقد صار أمرا عاديا لدى أسر الحراس ولدى سكان البيوت الصغيرة التي تحيط بها الكروم، وقد عاد لا يلاحظ أكثر من أن تلاحظ الشمس في رائعة النهار. وكان حارس المصلحة يعرف كل صخرة وكل أرض نائتة على بعد خمسين ميلا من شمال جزر إيرس الشرقي نحو سان رفائيل ومن الجنوب الشرقي نحو قورسقة، وقد سأل: ما هو الزمن الذي مر منذ صدم ذلك المركب الصغير الشاطئ وغرق هنالك؟ ولم ينقطع نظره عن جهاز اللاسلكي كما لو كان ينتظر صوت استغاثة، ثم يصعد في السلم الحديدي الحلزوني ليختبر الصفارة أكثر من أن يصحح المصباح، وكان المصباح، الذي أصبح اليوم غير ذي نفع، يدور وفق نسق ثلاثي مع انتظام نمطي كما في النفس المعبدة.
ولم يكد هواء تلك الليلة الصيفية المضب
1
يحرك بنسيم مدار، ويلطم الهواء الحار الندي وجه الحارس، ويلون الزجاج الأحمر والأخضر الذي يناوب الأبيض تلك الضباب الرمادية المشربة برسوم شبحية فينير من فوره جزءا غير منتظم من كتلة، كما لو وقع الأمر بقوة ساحر، وكما لو أثار عبقري جمهورا ببضع كلمات.
وكانت أذن الحارس مرهفة في تلك الليلة، وصار الحارس لا يبصر شيئا، ولم يأل الحارس جهدا في ميزه وسط الصمت الغريب صوت صفارة بعيدة كان من المحتمل أن تخبر عن مراكب أخرى ضمن نطاقه فتظهر هذه المراكب للمنار إذا ما كانت قريبة منه بعض القرب، ويعرف الحارس أن المصباح ينشر نوره من فوق البرج البالغ من الارتفاع مائة قدم فقط، لمسافة ثلاثة عشر ميلا، غير أن مدى أثر الصفارة كان غير ثابت لتوقفه على كثافة الضباب، وحس الواجب في الأزمنة الأخيرة يغم ذلك الرجل فيسأل في نفسه أحيانا عن وجود نقص في سمعه، حتى إنه طلب من ابنه ذات يوم أن يجوب الحديقة وأن يذهب إلى صخرة بحرية متذرعا بضرورة بحثه عن شيء هنالك قاصدا في الحقيقة سؤال ابنه عن أمر بصوت عال طمعا في سماع جوابه، كلا، إنه كان حسن السمع، وهو إذا ما شك في ذلك فلما يقضيه من حياة عزلة تجعل الإنسان كثير الحس تارة وغير مكترث تارة أخرى.
ويظل كل شيء صامتا، وترتفع الضباب في أول النهار سمطا عريضة من الجنوب ومن الجنوب الشرقي، ويعود الحارس إلى قاعة عمله التي هي غرفة انتظار تقريبا، وتساوره مشاعر مؤمن ثابت الإيمان بأدعيته الحارة التي يتلوها في كنيسة دجناء، وهو، كنوتي أفنى حياته في الملاحة، يخشى كل شيء دوما، وهو لم يغفل عن عادته ليلة واحدة، وهو قد داوم على المطالعة في الليلتين الماضيتين، فأنجز قراءة الجزء الثاني من الكتاب في ساعات الصباح الأخيرة، وهو، حين وجوب نهوضه، قد طلب من زميله صارخا أن يصبر بضع دقائق ليتم قراءة الفصل.
ويحب الحارس أن يقضي وقتا قصيرا في حديقته بعد النوم وقبل الغداء وهو يتنزه بخطا رزينة خلف زوجه الجادة في قلع الأعشاء الرديئة من حديقة لوبياء وفي جمعها داخل سلة، ثم يفرغ السلة على كومة زبل يدوسها، ويرجع بالسلة، ويعود إلى تنومه،
2
وقد كبرت البراعم وسيتفتح أحدها في النهار نفسه كما يلوح، وينعكس هدوء الحياة على وجهه انعكاسا صافيا حينما يبصر التماع البراعم الأصفر، ولا عجب، فرجال البحر ينتظرون عشرين عاما بين ضباب الزوابع ليقضوا مثل تلك الأويقات في بستان ساكن، ومن النادر أن تجد بينهم من يحلم أن يشيب ربان مركب غنيا قويا ...
ثم يجلس الرجل على مقعد تحت ظل صنوبرة كبيرة قائمة بين المنزل ورقاع التنوم، وكانت زوجه قد نقلت اللوبياء إلى المطبخ، فيسمع صوت طهيها، ويهدأ الحارس نصف ساعة وتعود أفكاره إلى الكتاب، ويقول في نفسه: إذن، كانت توجد أسواق بفريجوس في ذلك الدور، وكانت سان رفائيل موجودة أيضا، ومن الرزايا عدم ذكر المؤلف شيئا عن جزرنا، والقارئ، إذا ما طالع قصة عن السواحل البعيدة، كان له من المتعة كما لو وجد اسم شاطئه الخاص أيضا، والحق أنه كان يجب عليه أن يتكلم عن البحر أكثر من حديثه عن السواحل، ومما لا ريب فيه أن تاريخ بحرنا لا يختلف كثيرا عن تاريخ المحيط الأطلنطي، والواقع أنه لا تاريخ للبحر، والبحر هو هو على الدوام، وأسأل عن كون المؤلف عالما بما في أعماقه، وهل كان يعرف تاريخ السروة التي كان الملك قد قطعها؟ وهذا أمر طاب للملك، والملوك يعاملون الشجر بتوحش كما يعاملون الناس ، لا فرق في ذلك بين ملوك الماضي وملوك الوقت الحاضر، ويا لأسوار القسطنطينية! ويا لتلك الليلة الحمقاء التي قضيناها هنالك حيث جر فرنسوا الأشقر فتاة إلى برج فسقطت الخشبية وأعيدت على حسابه! ويا لشدة ما سخرنا منه! وقد التهبت الفتاة غيظا فحاولت أن تضربه، ولم يستعمل المؤلف كلمة بزنطة على الدوام؟ وأسأل: أولا يزال المنار الخرب قائما في الشمال الغربي من طرف السراي هنالك؟ ويرغب المرء أحيانا أن تطأ قدماه أرضا جديدة ...
ويبلغ الحارس هذه المرحلة من التأملات فيبصر رجوع الأولاد من المدرسة على الدراجات، وتخبر الأم بأن الغداء معد، وليس في غير جنوح النهار، حين يمكن انتظار ليلة جديدة نيرة، ما يستطيع الحارس الوحيد في حجيرته الهادئة بين جداوله وأجهزته أن يعود إلى تاريخ البندقية الذي وعد به عشية.
آخر الليل
1
يعتقد السائح أنه يدنو من سراب، لا من مقر ولاية هادئ، وذلك عندما يصل إلى خليج البندقية الواسع ويوغل فيه فيبصره مبللا بنور أزرق أخضر، وقد جاوز السائح، الآتي من الإسكندرية، البحر المتوسط في ثلاثة أيام على باخرة فاخرة عصرية، وينظف الخدم الحانة التي أتلفت ليلا والموائد التي لونت بالرماد وغطيت بالأقداح، ويصب الأولاد دلاء على جسر النزهة، وتكدس الأمتعة فتبدو كالجبل عشية لتؤخذ ضحى، ويرى السائح من هذه الصور أكثر الأمور روائية حوالي منتصف القرن العشرين، وأن دور النسناس قد مضى، وأن هذا الدور لم يكن غير أسطوري على ما يحتمل.
وكلما اقترب من تلك المدينة الوحيدة وجد كل شيء فيها مبللا بنور قوي غير حقيقي مع ذلك، وجد كل شيء غارقا في نور من الأحلام، ويزيد هذا الانطباع في كل سفر بدلا من أن يزول، ولا ريب في أنه سيبدو بعد قرون كما هو الآن؛ وذلك لأنك لا ترى مدينة في الدنيا تشابه مصرا بني على البحر، وتلوح جزر منخفضة، تميز بقباب أجراسها وشبح قصورها، أنها عائمة على البحر الذي لم يكد يلون بلون وردي بعد، وليس من العجيب أن تتوارى كما لو جرفت بجريان .
وتبرز الأبراج من بين ضباب الصباح مقدارا فمقدارا، ويبدو أعلاها في البداءة، ثم تظهر الأبراج الكثيرة الأخرى، وتبرز من بين الضباب في الأسفل قبتان ضاربتان إلى خضرة، ثم تبرز خمس قباب أخرى، ولسرعان ما تكثر الصور والأصوات حول الباخرة التي تنساب شيئا فشيئا تقريبا، ويبدأ ظهور النهار مع أنواع حركته على الأرصفة العريضة، وتؤدي في كل مكان قنوات ضيقة وسود إلى الحوض الكبير اللامع كأنها لم تزل مثقلة بالليل مع أن النهار صار مسيطرا على الخارج، وتصبح مقدمات البيوت أكثر سناء وهيفا، ويرتفع من هذه البيوت قصر رخامي فيهيمن على البحر الرائع بشكله البسيط مع عدم انتظام، ويؤلف هذا البناء زاوية حادة فيمتد إلى ميدان مربع ذي أبعاد منسجمة، ويبدو قصر الرؤساء هذا مكسوا بمرمر وردي مع شرف غيد
1
بيض قائمة على صف مضاعف من الأعمدة، وذلك كالراقصة اللابسة ديباجا تحمله ذرعان قوية، وكل شيء مستو، ولا ترى ما هو ناتئ بارز نحو السماء، وتقف الزوارق عند أسفل المراقي الطويلة، ويجعل ما لا يحصى عدده من دعائم تربط بها الزوارق ذلك الشاطئ كصف من رماح كما يلوح، وتبصر على عمودين يزينان الميدان فارسا وأسدا يرقبان من يصل من الملاحين، وذلك على حين ترى القصور ممتدة فوق القناطر، ويرمز ذلك في مجموعه إلى القوة والسلطان؛ أي إلى الجمهورية.
ومع ذلك يختلف الطراز ويتنوع فيما وراء الباب الرخامي الثخين المؤدي إلى القصر، ويرتفع بالقرب من تاج المدخل شبه القوطي مقدم كنيسة القديس مرقص القائم على الطراز الشرقي الخالص، ومما لا مراء فيه أن البيزا التي هي ضرب من رداه الرقص الكبيرة قد أنشئت ليرقص فيها ألوف الأزواج معا، وهي محاطة بمبان طويلة أخرى تدعمها أعمدة قليلة الانتظام مجتنبة بذلك كثرة النمطية موكدة رسمها بقيامها عند مقدم الكتدرائية ذات القباب الكثيرة، وينتصب عموديا في نقطة واحدة بناء ميدان القديس مرقص، المستوى الأفقي، وذلك أن قبة الجرس الصغيرة تعلو نحو السماء أمام إحدى زوايا الكتدرائية، وفي أيامنا يمكن أن يصعد في البرج بمصعد، وفي الماضي كان ذلك يبلغ بالفرس على ميل لولبي داخلي، ولا تجد برجا آخر ينعم على ذروته بمثل ما لهذا البرج؛ وسبب ذلك أن البندقية هي المدينة الوحيدة القائمة على البحر والواقعة أمام انحدار جبال الألب، وأنها بعيدة بعض البعد منه فيستطيع الإنسان أن يحيط بجميع المنظر كما في إطار واسع.
وتجاوز السقوف ألوف المداخن كما لو كانت أبراجا صغيرة معدة لحماية الأهالي، وتتشابك خطوط سود كثيرة فيتألف منها تيه، وهذه هي قنوات ضيقة تقوم فوقها جسور حجرية صغيرة صاعدة هابطة كظهر الحمار حتى يمكن السفن المشحونة أن تمر من تحت قناطرها، ولها بهذه الضرورة العملية خلاص من نمطية الخطوط المستقيمة. والآن، خارجا، تبدو الجزر لأعيننا في وضح النهار، وللسائح أن يجد في تعلم أسمائها المنسجمة مع الأهداف الخفية التي سخرت لها، وذلك لما يلوح من تأليف جميع ما تقدم جزءا من أسطورة قديمة.
ومع ذلك ليس جميع ذلك متحفا ولا معرضا، وتنعش نفحة حياة عصرية كل ذلك، على أن يقع بأبطأ من هزجنا المعتاد، فالحياة في تلك المنطقة الوحيدة من الدنيا تأبى تلك السرعة الخادعة التي تحرم عصرنا سمته الروحانية، ومن شأن الأوتاد التي تغرز في الماء لتبنى عليها البيوت أن تولد في الروع ذلك الانطباع، وهذه الأوتاد، المحاطة بنباتات مائية ضاربة إلى خضرة ومثبتة لها من غير أن تكسرها، قائمة تحت البيوت، وأمام القصور الكبيرة، جملا مترجحة بين الأربعة والعشرة، فتمثل دور التماثيل الداعمة. وهكذا يتجلى تاريخ البندقية مقدارا فمقدارا فيذكر ما ازدهرت به في قرون رخائها من سناء وثراء وسلطان وجمال، ويخيل إلى الناظر أن البحر مع أعماقه يرمز إلى كيان مجتمع قائم هنالك، كما في كل مكان، على أركان فاترة محتبكة بنباتات طفيلية خضر كثيرة، إلى مجتمع يمكنه أن يقاوم زمنا غير قصير مع سرعة عطبه.
وإذا ما خرج من تيه القنوات ووجد في ميدان الأعياد الكبير بعد مجاوزة كثير من الجسور المحدبة، سهل التنفس ونسي الثمن الذي أداه أحد شعوب البحر المتوسط في ذلك المكان قاصدا التمتع بالحياة.
وتتكاثر الطيور بين جميع تلك الأبراج وبين جميع تلك الجسور والقباب والقنوات، ولا أحد يعرف في هذه المدينة البحرية، التي لم تكن جزيرة، هل الحمائم التي تأتي من البر أكثر سعادة هنالك من النورس
2
الذي يجيء من البحر، وإذا ما ضل نورس سمين بين الحمائم الزرق السمر التي كانت أجدادها تبني وكنات
3
لها منذ عشرة قرون في تلك الزوايا تجمعت هذه الحمائم في الساحة مذعورة مهانة حتى يبتعد الطائر الكبير الغريب خافقا جناحيه نحو البحر.
2
لم تنشأ تلك المدينة العجيبة عن اصطراع العناصر فقط، بل نشأت عن انتصار الإنسان على العناصر أيضا، وتؤلف الأنهار دلتات على كثير من سواحل البحر المتوسط، وقد تكون شاطئ البحر الأدرياتي الشمالي الغربي من رسوب غرين الأنهار التي كان مجراها الأدنى يتغير بلا انقطاع فلا يزال يزيد الأرض اليابسة، وقد بلغ البو والتسان والأدا والبرنتا والبياف وبضعة الأنهار الصغيرة الواقعة بين تلك الأنهار من تحويل الساحل بين فيوم وريميني بنقلها كتلا ترابية من الشمال ما تغيرت الخريطة معه منذ عهد الرومان وفي غضون بضعة القرون الأخيرة، ويتقدم الساحل في بعض الأماكن من لنباردية أربعة أميال في كل مائة عام.
ويوضح خصب تلك البقعة من بعض الوجوه بامتداد الأدرياتي في أزمنة ما قبل التاريخ عميقا بعيد المدى نحو الغرب، وبفصله جبال الألب من جبال الأبنين في المكان الذي تقع فيه لنباردية في الوقت الحاضر، ولم يحدث قط أن أضاع مزاياه العظيمة نهر البو الذي يقطع ذلك السهل مع أضواج
4
منسجمة بين جبال الألب البيمونتية ورافين، حتى إنه لقب من قبل الأهالي ب «النهر المحبوب المرهوب»، وينتفع بأمتار الرمل المكعبة، البالغة أربعين مليونا والتي ينقلها كل عام، في أعمال صناعية وفي إنشاء أسداد وحواجز، أجل، إنه يأتي بالخصب، ولكن «ويل للجميع إذا ما اقتلع حواجزه!» كما يقول الأهلون. ويقاس هذا النهر بالطغاة الخطرين الذين ترتجف الشعوب في عهدهم مع انتصاراتهم، ومع ذلك توجد قوة ثانية تعارض بها الأولى، وهي غزو البحر للساحل غزوا يمكن تشبيهه بما تبديه الجموع الشعبية من مقاومة، ولا تزال الريح القوية الكثيرة الهبوب تزيد قوة المقاومة هذه في شمال الأدرياتي، ومع ذلك فإن بعض الحساب يدل على أن ساحل الأدرياتي الشمالي الغربي سيصل بتقدمه الدائم إلى ساحل إسترية المواجه في مائة وعشرين سنة، فبذلك يتحول خليج البندقية إلى بحيرة برية على نمط بحيرة ماجور، ومن الممكن أن نفترض عند ذكر بحيرة ماجور، وقوع تحول هذه البحيرة وبحيرة كوم في أزمنة ما قبل التاريخ، وقد رأينا في آسية الصغرى أن تقدم نهر المندرة حول الخليج الواقعة عليه مدينة ميله القديمة إلى بحيرة.
وتبصر تاريخ الناس المتقاتلين أكثر إثارة من تاريخ العناصر على الرغم من كل شيء، ويتعلم أهل تلك السواحل من العناصر كيف يكونون ماكرين فيحولون الأنهار عن مجاريها، ومن المحتمل أن يكون أصل مذهب الدبلميين الشهير من البندقية؛ وذلك لأن روح سكانها أرهفت بأهواء الملك البو.
ويرتبط تاريخ المرافئ والمناقع والضحاضح في تاريخ الإنسان بالبحر المتوسط ارتباطا وثيقا، وهو يجعل الفلاح عالما بأحوال الجو ككل نظام للمياه كما يجعل ابن المصر خبيرا بالعلوم الطبيعية قادرا على تفسير ما في الطبيعة من شذوذ وإفراط، فيستنبط نتائج منه، ولما يمض قرن على الزمن الذي كان الفرنسيون الساكنون دلتا الرون يخسرون في كل سنة منه ثروات بسبب تطين الشاطئ، وما انفك الطلاينة منذ القرون القديمة يحاولون، مع نجاح زائد، تضييق نطاق الخلج والمناقع غير المقري
5
الذي يفصل أحيانا داخل الأرضين عن البحر على مسافة عشرين ميلا.
ودام الكفاح بنجاح متقابل، وتحولت المناقع بالقرب من فرار ورافين إلى حقول خصيبة، ووفق البندقيون، بعد جهود عظيمة، لتحويل البرنتا إلى الجنوب منعا له من تطيين ذلك المصر. وعلى العكس جاهد أهل الخليج الشمالي غير موفقين ضد الإيزنزو، فلم ينتهوا في شمال تريستة الحاضرة الغربي إلى إنقاذ المدينتين القديمتين: غرادو وأكيلة، والتهم النهر والبحر ناحية البر في مصب البياف مناوبة فابتلعا مدينة هراقلة القديمة، وكانت المدينتان، تريفيز وبادو، واقعتين على البحر في القرون الوسطى مع أنه لا يمكن بلوغ هاتين المدينتين في أيامنا بغير سفن صغيرة ومن قنوات مصنوعة.
والقدر هو الذي وسم حياة تلك البقاع بسمته فتنصر هذه الحياة حينا وتقهر حينا آخر معانية صولة العدوين الممزوجة في بعض المرات، ظافرة بسلامتها من هذه الحملات، ويا للمنظر الفاجع الذي تعرضه رافين علينا! ويا ليمن المنظر الذي تعرضه بادو علينا! فكأن هذين المصرين يتقبلان نصيبهما المتماثل على وجه مختلف تبعا لما لكل منهما من سجية خاصة. والواقع أن كل واحد من مئات المناقع تلك، أو البحيرات المفرطحة تلك، الواقعة على طول الشاطئ، يختلف عن الأخرى بنية، وتدل كل واحدة من الكلمتين: «المنقع الحي» و«المنقع الميت» على أن قسما من تلك المناقع يتجه إلى البحر فيبقى سليما بفعل المد والجزر، وعلى أن قسما آخر يتحول عن البحر فلا ينتفع بالمد والجزر فتغزوه الحشرات ويصير مصدرا للحميات، ويكون له من المنظر الموهن ما لطرف الأرض الصغير بين مستر والبندقية.
ويشبه نهر البو بالنيل على مقياس صغير من حيث قوته المولدة، فهو قد أوجد أرض الخليج الكبيرة ونصر على الشاطئ الغريني الذي كونه البحر، وساحل مثل هذا يدعوه علماء الأرض ب «الشاطئ الغريني البحري الذي يعين مجراه قوى البحر الشاطئية بأقواس مستوية»، وقد جد الأهلون في قهر هذا النهر الظافر فأنشئوا أسدادا وحواجز متزايدة معارضين بها تلك القوى الطاغية، وهم ما انفكوا، منذ أوائل القرون الوسطى، يقيمون هذه الحواجز المتباعدة في مجرى النهر الفوقاني على مسافة 250 ميلا، ومما زاد الطين والتراب اللذين حولا إلى البحر على تلك الصورة ما كان من كثرة إزالة الغابات.
وإذا ما قيست الخرائط القديمة بالخرائط الجديدة دهش الإنسان من اتساع مدى عمل أجيال بأجمعها نيلا لأرضين صغيرة، مع أن هنالك من الأرضين الكبيرة الصالحة للزراعة ما ترك بورا، ويشعر الرجل العاقل هنا بمثل ما ينطبع في ذهنه عندما يقرأ في البلاغات الحربية استماتة جيوش بأسرها للاستيلاء على قلعة بدلا من حصرها ومجاوزتها. أجل، إن الأحوال هي التي تحمل الإنسان على بذل جهده في كلتا الحالين ، غير أن للكرامة عملا في كلا الأمرين، والواقع أنه يرغب في استخلاص الحق من العدو جيشا كان أو بحرا. والواقع أن المشاعر التي تساور القائد الذي يقرر الاستيلاء على مكان حصين هي كالتي تساور المهندس الذي يقدم على إنشاء أسداد بعد أسداد، ويفضل مجتمع الأجداد، الذين عاشوا في هذه الجزر وجذفوا واصطادوا في هذه القنوات، أن يقتحم الطبيعة في محله على الاغتراب.
ولعمل الإنسان تقريبا مدينة دلتا نهر البو الذي ينقسم إلى سبعة فروع في نهاية الأمر فيؤلف مروحة يزيد طولها على ثلاثين ميلا، ومع ذلك يظل هذا العمل ناقصا لعدم ثبات مجرى الفروع السبعة ولتقلب سرعة الكتل الطينية، وترانا تجاه حال نادرة؛ وذلك لاستطاعتنا أن نتعقب على الخرائط والوثائق ظهور إحدى الدلتات منذ سنة 1200 فنحسب المدى الذي حالت به قوة البحر الصائلة دون تدرج هذه الدلتا نحو التقدم بزلق جانبي.
وما كان من كمال جمال وجهد بشري في تاريخ البندقية عين بكيان هذه الدلتا، وما كان من سرعة زوال الإمارات ودويلات المدن المجاورة حدث بفعل موقعها، وقد قامت مدن جديدة باتجاه البحر مع زوال مدن وشعوب قارية مقدارا فمقدارا، كأفول الطبقات في تاريخ الأمم العظيمة الاجتماعي، وكانت تقوم على هذا الشاطئ مدينة ستينا الغنية قبل العهد الروماني، كما كانت تقوم في زمن يسوع مدينة أدرية التي غدت اليوم فاقدة القيمة بعد ازدهار كبير، وعلى أبنائها الذين يسمعون هدير الأمواج بفعل الزوابع من مسافة خمسة عشر ميلا أن يذكروا، مع سخرية، أن مدينتهم الصغيرة هي التي أعطت ذلك البحر العنيف اسمها.
وقد اختار البندقيون أسوأ موقع بين جميع مناقع ذلك الشاطئ لإقامة مدينتهم، ولم يكن لدى المستعمرين هنالك مراع، ولا مروج، ولا ماء صالح للشرب غير ماء المطر، ولا طعام غير السمك، وكانت مصاب الأنهار المجاورة تجعل الجزر المنخفضة عرضة لخطر كبير بنسبة عدم انتظام جريانها، ولا ريب في أن الذي تحول إلى «القناة الكبرى» كان نهرا يصب في البحر بالقرب من ميستر، ولا ريب في أن القناة الحاضرة الواقعة أمام جيودكا كانت نهر البرنتا، وقد كانت الجزر الخارجية المهجورة مستورة بأعشاب طويلة وعامرة بالطرائد وبالذئاب أيضا.
ويظهر أن صيادين كانوا يقيمون بتلك البقاع البحرية منذ القديم، فنسجت أغرب الافتراضات حول أصلهم، فيرى إسترابون أن أهل تلك الناحية الأولين جاءوا من بريتانية، ويزعم روماني آخر أنهم أتوا من البلاد البلطية، ويؤيد معظم العلماء دوحة بافلاغوني، ويعتقد آخرون أنهم وردوا من إيليرية، ومهما يكن من أمر فإنهم حضروا قبل القرن السابع؛ أي قبل لاجئي أكيلة الهاربين من الهياطلة والقوط واللنبار، ويلوح أن البناء بالآجر المصنوعة من طين تلك المنطقة قد بدئ به في ذلك العصر حين إقامة أول كنيسة، ويظن أنه كان للقسان تأثير كبير في ذلك.
وهنالك نشأ مجتمع حر على شاكلته تحت سلطان الكنيسة فدام ألف عام، وما كان من عزلة تلك الجزائر التي يجعل الماء من المتعذر كل استيلاء عليها بأسلحة ذلك الزمن الابتدائية، وما كان من فقر السكان ومن حياتهم القاسية المنعزلة ومن عطلهم من التقاليد، أمور أعانت على نمو روح الاستقلال عند أولئك الصيادين بما يستحيل وجوده في المجتمعات الإيطالية القارية المعرضة لهجوم الجيران ومغازي أخلاط البرابرة دوما، ومن الطبيعي أن يصبح مثل هؤلاء الجزريون من الزهاد والطلقاء والحرصاء. ومن المحتمل أن كانت البندقية دولة العالم الوحيدة التي لم تحاول إنتاج أبطال، وبما أن البندقية مؤلفة من جزائر، ولم تكن مملكة جزرية مشابهة للأرخبيل الإيجي، فقد كانت، كدولة، تقضي حياة برمائية، أي كانت نصف بحرية ونصف برية، وهكذا كان لها بمزاجها الفاتر وقاية من المخاطر التي حالت في القارة دون ارتقاء البلدان الصغيرة الأكثر حدة.
وإذ وجد تجار البندقية المقتصدون في البحر ما يشغلهم فإنهم لم يبدوا مبذرين في غير أمور الأسطول وفي غير أمور المباني التي تبهر المسافرين من الأجانب، وبينما كانت مراكبهم ال 3000 مجهزة ببحرية نموذجية أعدت وفق نظام متأصل كان من السهل قهر جنودهم المرتزقة في البر. وكانت البندقية تعيش مثل منقع حي ... وهي قد انطلقت من جزيرة لتمتد نحو سواحل بعيدة، وهي قد تشبه بإنكلترة المستعمرة أكثر مما بأثينة وقرطاجة، وكما أن الشعب الإنكليزي التاجر أنجب بشعراء ومفكرين، أنجب الشعب البندقي المقدام التاجر الجزري بمصورين ومثالين ممتازين بقيت آثارهم بعد دور ازدهار البندقية.
وقد اضطرت البندقية، كالإنكليز والفنيقيين، إلى اكتساب سلطان بحري عن تقدير لموقعها وعن خوف من القراصين، وقد حمل ضيق الجزيرة أهلها البندقيين على التوسع صوب البحر، وقد حول أول نجاح كبير أصابوه هذه الضرورة إلى حميا وحفزهم إلى محالفة أي كان وإلى معاهدة أي عدو للدين والحضارة ما وجدت مستودعاتهم ملجأ في الشواطئ البعيدة، وهم لم يسيروا قدما عن حب لنفائس الأمور كالفنيقيين، ولا عن انجذاب إلى الشرق، ولا عن رغبة في السيطرة العالمية، وكلا الشعبين كان مقداما جسورا فأنتج تجارا وساسة وبلغ أوج درجات الازدهار في ظل حكومة من الأعيان خضع لها مختارا، والأغارقة وحدهم هم الذين سبقوهما في هذا المضمار، ولكن ما فطر عليه الأغارقة من عبقرية تفوق عبقرية البندقيين والإنكليز بلغ من السمو ما ظل معه شعورهم التجاري ممتازا.
3
يبرز من البحر ميناء آخر كبير وعر حجري داجن ناتئ من الجبل المتوعد قريب من المصر وفرضته، ومن المحتمل أن كانت جنوة أكثر مدن البحر المتوسط رجولة، وهي في ذلك على خلاف البندقية الأنثوية، وهي، كما يظهر، وليدة شعب راغب في القوة أكثر مما في الجمال متصف بالحذر أكثر مما بالقرى، ومع ذلك كان هذا الشعب البحري شديد الارتباط في الأرض حيث تمكن إقامة حصون وجمع ثروات، وكان دانتي قد عرف قوة جنوة فهاجمها في «مهزلته الإلهية».
وتقوم على طول الميناء مبان ثخينة عظيمة وبنوك وبيوت تجارية تشابه الحصون، ومع ذلك كانت الشوارع الرئيسة من الضيق ما يمكن الأشراف ونساءهم وخدمهم أن يتحادثوا معه من بيت إلى آخر بالانحناء من نوافذ قصورهم، ولا تجد لما يدعى اليوم فياغاريبالدي نظيرا حتى في إيطالية من حيث جمال مقدم المباني، ومع ذلك لا تمتد الشوارع والمنازل طولا، فهي تنتصب متعاظمة من أساسها كالجبال الواقعة وراءها.
وقد اجتذبت جنوة، التي يبدو اشتقاق اسمها من كلمة «جنو»
6
وفق شكل شاطئها المنحرف، شعب الإتروريين والأغارقة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وقد اضطر القرطاجيون والرومان إلى الإبحار على طول هذا الساحل أيضا، وقد أبصر هذا المكان، الواقع بين مدة جبال الألب البحرية وجبال الأبنين والضيق عند سفوح هذه الجبال، نشوء شعب من التجار معد لتوحيد أمم فرنسة وإيطالية تارة وفصل بعضها عن بعض تارة أخرى، ممثلا دور حارس الحدود، ومن شأن موقع جنوة الجغرافي أن جعل من أبنائها أناسا مناضلين، ومع ذلك فإن أهل جنوة لم يبلغوا كمستعمرين ما بلغه أهل البندقية مرونة، ومع أنه كان للبندقية من المناقع والقنوات ما تحمي به نفسها تجاه جيرانها فإن جنوة كانت مضطرة في جميع الأدوار إلى الدفاع عن نفسها ضد ملوك فرنسة وأباطرة ألمانية، وهي قد بلغت من شدة كلف غيرها بها ما صارت لا تبالي معه بأن تقوم مرسيلية مقامها في أوروبة الغربية منافسة.
وقد سيطرت الجمهوريتان القويتان: جنوة والبندقية، على ملاحة البحر المتوسط، وكيف اتفق لبلد صغير أن يفتح مستعمرات عظيمة غير مسكونة بزنوج قليلي التمدن؛ أي إن يفتح سواحل البحر المتوسط القديمة وموانئه وجزائره التي كانت مستعمرات يونانية ثم غدت معاقل للحضارتين الفارسية والعربية؟ وما هو سبب توفيق الدويلتين، البندقية وجنوة، في الشرق حيث أخفقت دول الغرب العظمى؟
تجد لذلك عدة علل، والعلة الأولى هي أنه أمكن الدول الصغيرة المتحدة، والمتفاهمة على العموم، أن تعمل ثابتة وصولا إلى هدف معين وذلك على عكس الدول الكبيرة التي تمزقت بالمنازعات الأسرية قبل أن تلتحم دولا قومية، وذلك إلى أنه لم يكن لدى الدول البحرية غير جبهة واحدة، غير البحر المتوسط، مع أن فرنسة وإسبانية والإمبراطورية الجرمانية كانت محاطة بأبحر أخرى، وذلك إلى أن تينك الدويلتين لم تولعا بمظاهر السلطان ولعها بحق التجارة، فلم يكن في تينك ملوك أو أباطرة راغبون في إقامة بلاط في جزائر بحر إيجه، أو في زواج أبنائهم بأميرات وارثات، أو في الإنعام على تابعيهم من الأشراف بإقطاعات.
ولم يدفع هؤلاء التجار ، الذين لقبوا خطأ ب «التجار الملكيين»، إلى العمل قط عن طموح إلى رفع راياتهم فوق مشارف المدن الأجنبية، أو عن حرص على اضطهاد سكان السواحل البعيدة، أو عن ميل إلى اعتقال هؤلاء لعدم تحيتهم تمثال الفاتح، فهم قد وجدوا سعادتهم في الميزانية التي يضعونها آخر كل سنة عن ازدهار بنكهم ومدينتهم، وفي توريثهم أبناءهم ما كانوا قد ورثوه عن آبائهم؛ أي توريثهم احتكارات وسفنا تجارية وأكياسا مملوءة ذهبا، لا مدافع وأكاليل ملكية، وهم لم يحلموا بالسيادة العالمية وبقهر البابا، وهم لم يسيروا مع خيال فرض الدين القيم على الكافرين عند المغامرة فوق البحر المتوسط العاصف، وهم قد انقادوا لرغبتهم في تقديرهم بأعينهم وشمهم بأنوفهم ولمسهم بأيديهم سلع أسواق طنجة وطرابلس ورودس وساقز وسينوب وطربزون؛ أي النسائج الحريرية والموشيات والشفوف والقلائد والأغماد والبسط والأفاويه والعطور التي يشحن بها وكلاؤهم سفنا كبيرة لتقايض في الغرب بالذهب وبسلع أخرى.
ولم يود هؤلاء «التجار الأمراء» غير الحكم في بلدهم وغير تبجيل العالم إياهم وخوفه منهم، والواقع في بلدهم أن الأوضاع والألقاب والسلاسل الذهبية والثياب المخملية الثمينة التي يسخو بها الرؤساء والشيوخ على أنفسهم وعلى أصدقائهم، كالاحتكارات في الولايات، كانت تساوي ألوف الدوكات،
7
وما كان بين حكومات الأعيان في البندقية وجنوة في القرون الوسطى من تحاسد طبيعي كان يحول دون سمو بعض الوجهاء فوق المجتمع، وما كان من عدم الميل إلى الفتح أبعد من تينك الجمهوريتين حكومات انقلاب كالتي أقامها رؤساء الأتباع في مدن إيطالية صغيرة، وكان هذا مدار شعورهم الجمهوري الوحيد ما ازدروا الجمهور كما ازدري من قبل دوكات البلاد المجاورة وأمرائها.
وكانت تانك الجمهوريتان مختلفتين دستورا، فبينما كانت البندقية تتدرج إلى الأريستوقراطية، كانت جنوة تصبح ديمقراطية في الحين بعد الحين، ومن شأن وضع كل منهما تعيين تاريخ كل من المدينتين تعيينا مختلفا، وانظر إلى جنوة، انظر إلى موقعها المفتاحي، تجدها قد ملقت
8
وهددت معا في كل زمان، وهي قد أبدت شقاقها الداخلي، ولا سيما تنافس أسرتي سبينولا ودوريا الكبيرتين، أمام الأمم الأجنبية التي كان كل من هاتين الأسرتين يستعين بها على الأسرة المزاحمة الأخرى، وهكذا فرض كونتات من الفرنج ودوكات من ميلان وملوك من فرنسة ونابل نفوذهم بالتتابع على جنوة كما بسطوا سلطانهم الكامل عليها في بعض الأحيان، وهكذا جرت هذه الجمهورية إلى الصراع بين الغلف والجبلن، وبين البابوات والأباطرة، ولم يبق سليما في غضون القرون غير أمرين، غير بنك سان جيورجيو الذي كان يمد الصليبيين وأمراء المسلمين بالمال مناوبة، وغير الأسطول المرهوب في جميع البحر المتوسط، وفي جميع هذه المغامرات انتزع شعب جنوة حقوقا جديدة من الأشراف وعرف كيف يحافظ عليها.
وفي البندقية ظل بنك سان ماركو والأسطول من العوامل الثابتة أيضا، ومع ذلك فقد أضيف إليهما عامل ثالث موطد لهما معين في نهاية الأمر للمخرج من تنافس المدينتين الطويل، وهذا العامل الثالث هو حس الاستقلال الذي تأصل في روح أهل البندقية ورسخ فيها بأسهل مما هنالك نتيجة لموقع هذا المصر المنعزل وقلة تطيابه، وعلى ما كان من قيام هذه المدينة فوق أوتاد قصفة كمصر مؤقت فإنها بقيت أقوى من الميناء المتوعد الذي كان قد أنشئ تحت حماية الحصون ذات الأسس المتينة، ولما طلبت بزنطة، وقد كانت في أوج مجدها، من البندقية أن تعترف بسيادتها، أرسلت هذه المدينة الفتاة القائمة على المناقع وفدا ليبلغ رفضها بهذه الكلمة الرائعة: «لم يسطع أي إمبراطور أو أمير أن يصل إلينا هنا، ونحن الذين أخرجوا هذه المدينة من المناقع.»
ويمضي زمن، فيهدد اللنبار والفرنج البندقية برا فيتلقون مثل ذلك الجواب.
وذاع منذ القديم صيت هؤلاء الصيادين الجذافين فطرة، فطلب نرسيس الذي كان أعظم قواد عصره من هؤلاء الملاحين الماهرين أن يكونوا ربابنة لنقل جيشه من غرادو، ومن ناحية أخرى أغرى الإمبراطور فردريك الثاني مفضلا أهل جنوة بأن يقودوا مراكبه، وبهذه المراكب وفي هذا المكان دافع أهل البندقية عن أنفسهم ضد أتيلا برا وضد بيبن بحرا، ومع ذلك فإن البندقيين لم يبدءوا بتجهيز مراكبهم لمكافحة قراصين دلماسية إلا حوالي سنة 1000 فقط، ثم بلغوا من الشهرة الكبيرة في الملاحة ما منحتهم بزنطة معه بعض الامتيازات في مقابل مساعدتهم البحرية تجاه الخطر النورماني، ثم بلغت سفن أسطولهم التجاري عددا لا يصدق، بلغت 3300؛ أي رقما يثير العجب في هذه الأيام أيضا.
وكنوز الشرق هي ما جلبه، منذ أيام الحرب الصليبية، هؤلاء الملاحون الذين كانوا في الغالب ملك بنوك وشركات في البندقية وجنوة، وكانت أدوار الحرب تزيد الفوضى العامة، وعاد بعض الجزر غير تابع لأية سلطة كانت، فبدا الوقت صالحا لمحاولة بعض الرؤساء المقاديم إقامة الحكم المطلق، ومع ذلك فإن ما فطر عليه أهل البندقية من روح الاستقلال انتصب ضد مثل هذه المغامرة، وقد أريدت موازنة طموح الأسر الثلاث التي كان أبناؤها يسعون تبادلا في نيل مناصب الرئاسة فأقيم مجلس وأنشئت قنصلية ذات رأسين، وقد عرف الأمراء التجار الذين كانوا سادة الجمهورية الحقيقيين أن يثلموا بذلك حد استبداد الرئيس وسلطات المجلس المنتخب معا، وقد قام بشئون الحكم في البندقية في عصر ازدهارها وبعد سقوط بزنطة ثم في جميع القرن الثالث عشر أريستوقراطيون ماليون؛ أي طبقة من الأعيان فخور بدمها وشجرة نسبها، وقد أقيم لهذه الطبقة نوع من مجالس الشيوخ لم يعتم أن تغلب الرؤساء عليه وأن صار يعين من قبل المحكمة العليا، ومع ذلك لم يكن أهل البندقية ليطيقوا نظاما استبداديا، فلما حاول الرئيس فالير أن ينادي بنفسه «أميرا للبندقية» نتيجة لانقلاب قام به سنة 1355 قطعوا رأسه على درج «سكالادي جيغانتي»، وقد خنق بعض المؤتمرين قريبا من عمودي «البيازتا» مواجهة للبحر، وذلك إلى أن فتنتين اشتعلتا حوالي سنة 1300 فأطفئتا سريعا.
وبلغ الحقد على جنوة أقصى حده لزيادة سلطانها الاستعماري، وكانت جنوة تأمل، حتى بعدما نالته من ضروب الفوز في الغرب، أن تفتح مراحل البحر المتوسط الشرقية حيث كانت وارثة بزنطة البندقية تسيطر بتجارتها على شواطئ بلاد اليونان وآسية، ومما اتفق لجنوة أيضا أن غلبت بيزة، أن غلبت هذه الدولة التجارية الثالثة الكبيرة في إيطالية، بعد صراع عدة قرون.
ولدينا بالوصف الرائع لمعركة ملورية الحاسمة التي وقعت في عرض بيزة سنة 1284 صورة عن إحدى المعارك البحرية في القرون الوسطى، وما كان يمازج جنوة من تقاليد حربية طويلة ومن شعور بالشرف أكثر تأصلا مما في البندقية حفز رئيسها دوريا إلى قيادة المعركة وإلى جلب جميع أسرته إلى المركب حتى النصر أو الهلاك معا، ويعد هذا مثالا من أمثلة التضحية التي لا تجد لها مكانا عند رؤسائنا في الوقت الحاضر.
يلقي أسطول بيزة المهدد لأسطول جنوة مراسيه في مصب الأرنو ذات صباح من شهر أغسطس، ويبصر الملاحون، في أثناء الصلوات العامة، سقوط تمثال قديس في الماء عرضا وتواريه فيفزعون، ويقطع الصمت مع الارتعاش بغتة بالصراخ: «لا تقنطوا! فإذا كان يسوع حليفا لجنوة فإن الريح معنا!» وتسير سفن بيزة مختالة بعد الظهر وتقع المعركة التي أعدت في أجيال، وينفخ في الأبواق والنواقير، وتسد فتحات المؤخرات، ويسقط وابل من النبال والمعادن والحجارة، ويضطر مقدم المراكب إلى مواجهة العدو منعا له من الإيغال في الجوانب، وبما أن مقدم المراكب أقوى سلاح لمن يستفيد من ريح ملائمة فإنه يمكن أسطولا حسن الاتجاه أن يقضي، أو أن يعرقل على الأقل، نصف أسطول العدو.
وإليك المراكب المصفوفة المتأهبة للصراع، ويحاول كل من الأسطولين أن يصاول الآخر وأن يهاجم مؤخراته وأبراجه، ويجندل المقاتلون في أثناء الصراع بضربات أعدائهم وبما يرمى عليهم من دهن وزيت يقذفهما الأعداء من المجانق على مراكبهم، وترمي السفن الرئيسة رصاصا ذائبا وماء حارا، ويتعارف القادة من مركب إلى مركب، ويؤتى بحاكم بيزة مجروحا جرحا خطرا في رأسه، وينزع علم بيزة مع بقاء مساكه
9
على السارية جامعا لشمل الملاحين القانطين، فلما سقط المساك ضاع كل شيء، وقد غنمت وأغرقت ست وثلاثون سفينة حربية بيزية ونقالتان بيزيتان مع خمسة آلاف قتيل وثمانية آلاف أسير، وترتد طائفة صغيرة من السفن إلى الميناء الأصلي مقفلة إياه بالسلسلة الكبرى، وتختم المعركة بالليل، ويعرض علم بيزة، الذي كان قد مزق وبصق عليه، في كتدرائية جنوة يوم الأحد القادم، وهكذا تكون جنوة قد قضت على منافسة بيزة في يوم واحد.
ويمضي قرن فتقهر البندقية منافستها الأخيرة جنوة، وأقوى الأسطولين هو الذي تم له النصر.
ولم يكن الأسطول الحربي في ذلك الدور مختلفا عن الأسطول التجاري، وكان من العسير تمييز السفن الشراعية من السفن ذوات المقاذيف، وكان يمكن أكبر مركب نقال أن يحمل، وهو يطلى بلون رمادي أزرق في مثل هذه الحال، وإذا كانت السفينة حربية رفعت راياتها الصفر أو البيض مع صلبان حمر، ولم تكن الأسلحة لتخفى في ذلك الحين كما في أيامنا، بل كانت تبدى بما يستفز به بدلا من أن تنكر، وكان من الممكن أن تستوعب هذه المراكب الكبيرة ألف رجل أو أن تشتمل على الأعمدة الرخامية الاثني عشر التي أخذت من قصر ملك اليهود يهوذا الميكابي، ولم تصل هذه المراكب مع ذلك وإنما ظلت ضاجعة في قعر البحر.
وكان أكثر المراكب شيوعا هو المركب ذو الأشرعة والمقاذيف الذي ظل يبنى على طرازه حتى القرن الثامن عشر، وكان هذا المركب يحمل على جوانبه أسماء جميلة مرقومة في سجلات السفن ك «غازيلا» و«فالكو» و«دولسيس» و«براديزيس». وكانت هذه السفن ذوات المقاذيف، التي لا تجهز بالأشرعة إلا حين ملاءمة الهواء، تغادر المرفأ مع مرقاة خارجية مشابهة لجسورنا الضيقة، وكانت ذات مراس معلقة بحبال بدلا من المراسي ذات السلاسل في القرون القديمة، وكان هذا الأسطول شبه الحربي في ذلك الحين يحمي التجارة وفق أسلوب مماثل لمنهاج مراكب الحراسة في الوقت الحاضر، وذلك حين عودة السفن من الشرق مشحونة بأوساق ذات قيمة، وكان يوجد لهذه السفن الضخمة في الغالب مالكون كثيرون فيكون أحدهم راكبا فيها.
ولم يكن من النزه الجميلة أن يسافر في البحر المتوسط في القرون الوسطى، وقد أبحر الصليبيون كالحيوان ووجدوا أنفسهم من السعداء لمعاملتهم على هذا الوجه، ومما جاء في تاريخ قديم أن ملك فرنسة أمر الجنويين بأن يضعوا في المراكب علفا للخيل لمدة ثمانية أشهر، وخمرا لمدة أربعة أشهر فقط، وإذا ما حمل تاجر غني معه دواجن حية كان مؤرخو ذلك العصر يسجلون هذا الترف كما تسجل جرائد أيامنا فارسا سنمائيا يبحر مع خيله المسرجة.
وقد نشأ المركب الحربي وفق مثالين أصليين، ولم يكن أحدهما، ويعرف بالغليون، غير سفينة شراعية، وكان ذا طبقات كثيرة، وكان أعرض وأعلى من المركب العادي، وكان يبلغ من الطول ثمانية وعشرين مترا ومن العرض تسعة أمتار، وكان هذا المركب ثقيلا غير سهل الاستعمال ولكنه من المتانة ما يستطيع أن يحمل معه مدفعين. وأما المثال الآخر، ويعرف بالغلياس، فكان يبلغ من الطول خمسة وخمسين مترا مع دخول أربعة أمتار في الماء، وكان أبطأ من الغليون، ولكن مع قدرة على إطلاق النار أكثر منه، وكان ما تصيب مدافعه به الهدف من القنابل يزن 36 رطلا؛ أي ما يقتل جمعا من الناس في سفينة العدو، وقد ظل طراز المراكب هذا مستعملا في المعارك البحرية حتى سنة 1800.
وكان أهل جنوة يرسلون قناصلهم إلى الحرب منعمين عليهم بلقب «أمير البحر» أحيانا؛ أي بهذه الكلمة العربية التي بدئ باستعمالها في أثناء الحروب الصليبية بدلا من الكلمات اللاتينية: «كابيتانوس» و«دوكس» و«ركتور». وفي البندقية وحدها كان يحق لأحد الأشراف أن يقود سفينة حربية كبيرة وأن يحلف مقدما أنه يقاتل وحده خمسة وعشرين مركبا من مراكب الأعداء، وهذا ما وقع في ليبانت فعلا.
وكانت تلك المراكب تنتهي إلى أسواق ومتاجر في نهاية أسفارها الهادئة، لا إلى مستعمرات، ولما نقش أسد مجنح على حجر فوق رتاج كره الجنويون ذلك ما دام الأسد يرمز إلى رتاج القديس مرقص في البندقية. وقد وسعت كل من جنوة والبندقية نطاق تجارتها حتى الفرات، حتى البحر الأسود حيث هلك نصف الأسطول البندقي ذات مرة نتيجة اختلاف في إصدار فراء من روسية، ومن المحتمل أن كانت تلك الحرب التي وقعت سنة 1353 حول الفراء أول حرب تجارية حقيقية في التاريخ الحديث.
وما اشتعل حول بزنطة في بدء الأمر، وما كان من اصطراع في سبيل السلطة بين أرباب المصارف بجنوة والبندقية، أدى في قرن واحد إلى سفك دماء أكثر مما إلى إنفاق مال. وفي بزنطة كان الرومي ميشل باليولوغ قد ارتقى إلى العرش الإمبراطوري فحالف جنوة ضد البندقية، ويسلم، بعد انتصار جنوة، إلى الجنويين أحياء البندقيين ومحتكراتهم، وتقابل الضربات بالضربات ويعقب النصر الانكسارات، وكان يمكن هذا أن يدوم إلى ما لا نهاية له لو لم يظهر الترك ويقبضوا على ناصية سورية قبل استيلائهم على بزنطة بزمن واضعين، آليا، حدا لمحتكرات مدن الغرب البحرية، ولم تعتم البندقية، التي كانت تمد بالمال إحدى الحروب الصليبية، أن انحازت إلى الترك فأغلقت جنوة مضايق الدردنيل من فورها، أفلا يشابه هذا ما قرأناه أمس في الجريدة؟
ويفرض حل نهائي بعد كثير من الهدن المؤقتة، وذلك أن البندقية كانت تبدو للعالم بالغة السعادة والغنى منذ قرنين، فتحسد وتمقت، ويغدو جميع العالم إلبا واحدا عليها؛ أي آل هابسبرغ الذين كانوا يدنون من تريستة، والهنغاريون الذين اتحدوا في مملكة بلقانية قوية واحدة تحت تاج أنجوي، وأهل جنوة، ويوغل هؤلاء في مناقع البندقية ويحاصرون هذه المدينة فيلوح أنها محكوم عليها بالموت جوعا لعجزها عن الامتراء
10
برا أو عن الاتصال بالبر، ويسجن أهل البندقية أمير بحرهم المقهور بيزاني، ويطلقونه في الساعة الأخيرة، فيوفق في تحويل المحاصرين إلى محاصرين دفعة واحدة في جزيرة كيوجا المجاورة، ويكره مراكب دوريا الاثنين والثلاثين ورجاله ال 5000 على التسليم بعد وقت قصير، وتعد هذه من الضربات الرائعة التي يسفر عنها وضع مقطوع الرجاء منه لا يلبث أن يثير حنق شجاعة فيقهر به ضابط مقدام - وفق أسلوبه الخاص - عدوا كان يعد نفسه منصورا منذ هنيهة.
وتثبت البندقية تفوقها على جنوة في الساعة الحرجة حين كان كل شيء يتوقف على سرعة ثلاثمائة جذاف أو على هجوم جرئ وعلى تهور عشرة ربابنة وتضحيتهم كما يحتمل، وقد وقع ذلك بعد قيام البندقية بسبعمائة سنة تماما، وقد قال أحد المؤرخين قبل ذلك بزمن طويل: «إن أهل البندقية الذين يقيمون بين الماء هم فوق جميع الأمم الأخرى في أثناء معركة بحرية تقع.»
وقد تعلم أهل البندقية من هول ذلك الحصار القاتل أنهم لا يستطيعون الركون إلى قاعدتهم العائمة العاطلة من الخبز واللحم وأنه لا مناص لهم من حيازة ممتلكة واسعة، ويتحول التجار إلى مقاتلين بنشاط فائق، وينزل هذا الشعب البرمائي إلى البر ويثبت أن ركوب البحر ليس وحده هو الذي يعرف صنعه، أجل، فضل أرباب رءوس الأموال اشتراء بنادق من فضة وجعل مرتزقة سويسريين وغيرهم يطلقون قذائف منها، ولكنهم جندوا أبناءهم أيضا.
وتصبح الدولة البحرية الهادئة، التي أرسلت من مناقعها الأسطورية ثلاثة آلاف مركب تجاري للاتجار مع العالم بأسره، شعبا بريا فاتحا، وتنصر البندقية في حروب متعاقبة، وتقهر دوكية ميلان على الخصوص، فتوجد في شمال إيطالية ممتلكة واسعة لها ممتدة إلى برغام وبريسيا من ناحية الغرب، وإلى كادور من ناحية الشمال، وإلى دلماسية من وراء البحر الأدرياتي حيث كان البندقيون قد ذهبوا ذات مرة في بدء تاريخهم؛ أي منذ سبعة قرون، والآن تدنوا البندقية من أوج سلطانها.
ويقضى على شوكة جنوة بعد معركة كيوجا في سنة 1380، وتداوم جنوة على حيازة أسواق مهمة وعلى ممارسة نفوذها في الغرب، وتوجه سلاحها ضد الفرنسيين مرة، وضد الترك مرة أخرى، ومع ذلك فإن البندقية وحدها هي التي تستأثر بسوق الشرق الكبرى، والبندقية هي التي تعيش بعد سلطان جنوة مدة مائة وثلاثين سنة.
وإن الأمر لكذلك إذ يلقي أمر هائل جرانه بين الأمم المتنازعة، إذ تظهر تلك القوة المشئومة التي كان الناس يدعونها في القرون الوسطى «بلاء الله»، ومن المحتمل أن كان الناس على حق عندما أبصروا في الطاعون الذي يهلكهم عقابا ربانيا، ويلوح أنه هلك حوالي سنة 1350 خمسة وعشرون مليونا من الآدميين في عامين بفعل هذه الجائحة فكان نصفهم من بلاد البحر المتوسط.
ومن نتائج تلك الكارثة أن انتشر مذهب الفلاجلان الديني القائل بإمكان غفران ذنوب الإنسان إذا ما عذب بدنه الخاص، وقد بلغ عدد أنصار هذا المذهب من الكثرة في أثناء ذلك الوباء الجارف ما اضطر معه البابا إلى منع أولئك الفلاجلان، الألمان في الغالب، من السياحة نحو البحر المتوسط.
4
يبدو لنا أن دانتي وسان توما الأكويني أعمق مفكري البحر المتوسط في القرون الوسطى، وقد تعاقب الرجلان ، فكان الشاعر في التاسعة من سنيه حين وفاة القديس، وكان كلا الرجلين خياليا، عالما، لاهوتيا، فيلسوفا، وكان تأثير الدومنيكي في أثناء حياته أعظم من تأثير الشاعر في أثناء حياته، ثم حدث العكس، ولم يستطع أحد أن يقول أي الرجلين كان أعظم من الآخر.
ومع ذلك يمكن أن يسجل أمر رمزي، وذلك أن سان توما الأكويني الذي زار نصف أوروبة في حياته القصيرة ظل بعيدا من السياسة بعدا تاما، وأن دانتي لم يغادر إيطالية خلا ما كان من سفره إلى باريس على ما يحتمل، وأنه عاش أكثر من القديس مدة عشرين سنة وستة أشهر، وقد نشأ أكبر حافز لنشاطه السياسي عن نفيه الذي لم يبعده غير عشرين ميلا تقريبا، والذي لم يحرمه استعمال لغته الأصلية، ولا الاتصال بقومه، ولا دينه، ولا دراساته، ولا أصدقاءه.
ولولا كلفه السياسي، ولولا حقده، ولولا رغبته في الانتقام، ولولا تقلده منصب قاض ما ارتقى، على ما يحتمل، فوق شعراء الموضة الذين كانوا رفقاء شبابه، وعلى العكس، وعلى الرغم من كل شيء، كان توما يبقى مطابقا لنفسه بغير سياحاته وصلاته بالأسر المالكة ومناظراته، ومن توما تتألف، بين البابوات المتحللين والأساقفة الراغبين في الملاذ والصليبيين الأفاقين، صورة قادرة على الإيحاء إلى الأعقاب.
وقد اعتزل توما المجتمع كسان فرانسوا، وكان توما سليل أسرة قديمة، سليل كونتات أكوين الذين يرجع أصلهم إلى ناحية نابل، وولد توما في حصن على الجبل، لا في السهل كفرنسوا وأغستن؛ ولذا كان يسهل عليه أن يزهد في الدنيا، وهو، مع سيره على هذا الوجه، حافظ على جميع منافعه، فاستطاع أن ينصح ملك فرنسة وأن يسافر من كولونية إلى باريس مع ألبرتوس مغنوس وأن يقوم بأعمال مالية من أجل بيته، ويرفض توما أن يكون رئيسا للأساقفة؛ أي إن يقبض على زمام منصب يعد سبيلا طبيعيا للارتقاء إلى البابوية على الأرجح، ولكن توما وحده هو «الأمير الكبير» بين القديسين كما يبدو.
وعندما نقرأ أن معاصريه كانوا يسمونه «العلامة الملائكي العام»، نفكر في أمر إراسم الذي نال هذا اللقب بعد ثلاثة قرون، ولكن مع رفضه باسما نعت «الملائكي»، وما كان من سعي توما في إدخال أفكار أفلاطون ومناهج أرسطو إلى علم اللاهوت، أو في التوفيق بين علم اللاهوت وهذه الأفكار والمناهج على الأقل، يثبت أنه كان يعلو عصره. ومن تعاليمه أننا لا ندرك من الوحي ومن العقل غير أدنى الدرجات، ولكن بما أن الله الواحد هو مصدرهما فإن حاصل علم اللاهوت هو حاصل الفلسفة في وقت واحد، وتعليم مثل هذا ينطوي على شيء من الثورية، فيمكن في أدوار أخرى أن يؤدي إلى وصف الإكليريكي بالملحد بدلا من وصفه بالقديس. وقد عاش توما بين الوجد الديني والمنطق البارد فكان يألم من ذلك لا ريب، وقد فسر هذا بالأسطورة القائلة إن توما رأى قبل موته بثمانية أشهر أو تسعة أشهر من الرؤيا ما انقطع معه عن الكتابة، ويكفي هذا الانقطاع وحده لعده من ذوي العقول الكبيرة.
وكان لدى دانتي من موهبة الشكل ما كان يعوز توما، وعلى ما كان من تشابه الرجلين في بعض ما كتبوه فإن محور آثارهما لا يدور حول هذا، وقد كتب دانتي كتابه باللاتينية على أساس اللغة الشعبية، وكان يمكن توما أن يكتب قصائد بالإيطالية لا ريب، وكان كل من الرجلين قريبا من الآخر في أفكاره حول المثالية الأفلاطونية، والواقع أن كان دانتي يعد نفسه تلميذا لسان توما.
ويمكن تفسير عدم كتابة توما قصائد غرامية بثوبه الكنسي الأبيض خلافا لدانتي، ومع ذلك لا نرى كبير أهمية لذلك. وكان دانتي من أكابر الموظفين في مدينة فلورنسة أيام ازدهار عمره ابنا للسابعة والثلاثين، وكان، على خلاف توما، راغبا عن الزهد في هذه الدنيا حين نفي مع أربعة عشر وجيها لأسباب حزبية عامية. وإننا عندما نبحث في جدول هؤلاء السياسيين المبعدين فيقع نظرنا على اسم صاحب الرقم 11؛ أي على دانتي أليجيري، نعترف مرة أخرى بأن السلطة الزمنية تمحي، وبأن السلطان الذهني وحده هو الذي يستطيع أن يحافظ على سنائه في غضون القرون.
ولم يتجل معنى نصيب دانتي ولم تظهره سجيته إلا بعد ذهابه إلى منفاه، فهنالك أخذت عبقريته تتفتح، وبينما كان توما يزداد اتزانا ابنا للخامسة والثلاثين كان دانتي يعاني أعظم انفعال نفسي في حياته في مثل هذا العمر، وقد انتحل شعر الشعب ولسانه الذي كان عليه أن يكونه في بدء الأمر توسيعا لخيال العالم في تصويره التيتاني،
11
وليس من العجيب أن وصف الرب ويسوع كما صنع العالم اللاهوتي توما، وعلى العكس لم يبد ميولا عالمية في العالم السياسي حتى عصره، بل أظهر منازغ قومية، فقد كان دانتي يريد توحيد إيطالية، لا دولة للكنيسة، والمنفى هو الذي جعل منه شاعرا عالميا، وكان هذا حوالي الخمسين من سنيه، والذي يميزه من غيره، من أولئك الذين لخصوا في الشعر علمهم بالأمور البشرية والإلهية، هو هواه الحزبي الذي أرسل به أصدقاءه إلى الجنة وساق به أعداءه إلى جهنم ... وينفيه البابا فيحقد عليه أميرا للظلمات، ويغير عصره ومصيره الشخصي فيما وراء ذلك، ويجعل من نفسه، إذن، قاصا وبطلا لشعره، وهكذا يرتفع مبتعدا من الإنصاف الواجب الذي يكون المؤرخ به مملا لحمل الإنصاف هذا المؤرخ على الفتور والنمطية وعلى إخفاء وحيه متخذا وضعا خلقيا لقاض عالمي. وكان هذا اللاهوتي المزعوم، الذي نسي حكمه على الأمراء منذ زمن طويل فعاد لا يبالي أحد بهذا الحكم، من اضطراب القلب المخلص عن وجد إنساني ومن الاعتراف المؤثر بمزاياه ومعايبه ما يؤثر معه توجيه نظره إلى الله تأثيرا عميقا فينا.
ويقضي دانتي في منفاه أربع عشرة سنة، فيخبر بأنه يستطيع أن يعود إلى فلورنسة على أن يتوب من خطاياه علانية بأن يلبس في الكنيسة ثوب التوبة، وينم جوابه الجريء على ما فيه من عزة شاعر، وما كان ليعود إلى وطنه إلا عزيزا، وهو يمكنه، إلى أن يبلغ ذلك، أن يتأمل في الشمس والنجوم وأن يسبح في أفكاره العميقة، ويموت بعد خمس سنين في رافن من غير أن يرى مسقط رأسه مرة أخرى، وتكون الرابطة الوحيدة بين فلورنسة ومنفاه هدية من ذهب أرسلتها مدينة فلورنسة، بعد حين، إلى ابنته التي بقيت في رافن، وكان اسم هذه البنت بياتريس، وهو كاسم معشوقة دانتي المثالية، وكان الرجل الذي جاءها بهدية فلورنسة يدعى بوكاس.
وقليل ما قرئت آثار الفيلسوفين، اللذين هما من أبناء البحر المتوسط، خارج شواطئ هذا البحر، وقدر سان توما من قبل علماء اللاهوت على الخصوص، ولم يعرف دانتي بأكثر مما عرف فرجيل، وقد عرف دانتي أقل مما عرف أوميرس كثيرا، ولا يذكر العالم لتوما غير ردائه الأبيض وما يحمله من إكليل قديس، وفي العالم يبقى من دانتي ذلك الرسم الجانبي الخالد وتلك الصورة المشهورة لالتقائه بفتاة حسناء على جسر، ومع ذلك فإن كلاهما، كرجلين من أبناء القرون الوسطى، ظل حيا بعد ذهاب الملوك والحروب ومعاهدات السلم؛ وذلك لأنهما تقمصا أفكارا لا سلطانا.
ولا تجد غير عاهل واحد جمع بين الأفكار والسلطان، لا تجد غير إمبراطور ألمانية وملك صقلية فردريك الثاني من يمكن عده بحق كعبقري بين ملوك القرون الوسطى، ومن المحتمل أن كان أحد أباطرة الجرمان الثلاثة العظام، ومن قبله بأربعمائة سنة امتاز شارلمان، ومن بعده بثلاثمائة سنة امتاز شارلكن، بين خمسين من أمراء ألمانية، والواقع أنك لا ترى واحدا من هؤلاء الثلاثة من كان ألمانيا حقيقيا، فالأول كان فرنجيا، وكان الثاني نصف نورماني، وكان الثالث نصف إسباني.
ولد فردريك الثاني (1194-1250) في أنكوني على البحر المتوسط، وقد سمي باسمين عند ولادته، سمي فردريك وروجر حتى يذكر، ما دام حيا، جديه: باربروس الألماني وروجر الثاني النورماني، وكاد الحلم الألماني في السيادة العالمية، الذي اتجه نحو إيطالية للمرة الأولى، أن يحقق لدور قصير في عهد والد فردريك، وكان هذا الذي هو من آل هوهنشتاوفن قد تزوج ابنة روجر ليضم تراث هذا الأخير؛ أي إيطالية الدنيا وصقلية إلى إمبراطورية أبيه الألمانية وأن يحيط بالدولة الإيطالية الوحيدة التي ظلت مستقلة؛ أي بدولة البابا، وذلك ليجعل منها دولة تابعة، غير أن موته قبل الأوان قضى على جميع مشاريعه.
ولم تعش امرأته الصقلية بعده غير عامين، وظل فردريك البالغ من العمر أربع سنين وحيدا، ولم ينشأ فردريك هذا من قبل إمبراطور سيد للعالم، بل من قبل بابا كان يهيمن على العالم. وكان البابا إينوسان عازما على كسر الحصار الذي يحيط بدولته، وكان ينوي أن يزرب آل هوهنشتاوفن في تراثهم بصقلية وأن يحمل على انتخاب سليل أسرة مالكة أخرى بألمانية.
ويسفر توالد العروق عن إنتاج رجل باهر مرة أخرى، وكان فردريك المراهق يقف نظر حاشيته، ولم يرب فردريك في بيئة من البطائن، وذلك أن الحرب الأهلية التي اشتدت في إيطالية ألقت بهذا الفتى، المرهوب والمهدد مناوبة، في سواء الفوضى والاضطراب، وفي البؤس أيضا، ومن ذلك أن كان هذا الوارث لإمبراطورية عالمية يتناول وجباته في كل أسبوع من مائدة أسرة متوسطة في بلرم، وكان يؤسر من قبل الألمان تارة ومن قبل النورمان تارة أخرى فيذهب ضحية الحزب القابض على السلطة أيا كان، ويود مقاتلة الجرمان ومغامروهم أن يجربوا حظهم نحو الجنوب وفق عاداتهم، وكان لا بد لهم من ذلك الرهين الثمين وصولا إلى أغراضهم، وكان الطلاينة يمقتون هؤلاء الدخلاء الألمان الذين لم يكن عندهم ما يفعلون في بلدهم غافلين عن أنهم حفدة لغرباء، وأنهم ممزوجون بنورمان وعرب، وأنهم لم يقبضوا على صقلية إلا بحق الفتح.
ونبصر في نقود رديئة الضرب رأس فردريك الثاني، نبصر شابا عبقريا حمسا كابن الجنوب رزينا كابن الشمال حريصا على الحياة محبا للاطلاع متعطشا إلى السلطان، ويمكننا أن نتمثل رأسه فتبدو لنا طرافته أكثر من ظرافته، وتبدو لنا شقرة شعره وقصر بصره؛ أي يبدو لنا موضوع صالح ليصور من قبل أعدائه تصويرا هزليا، قال أحد المعاصرين: «لا يساوي الإمبراطور فردريك في سوق النخاسة أكثر من مائتي درهم.»
وقد تزوج أميرة أرغونية ابنا للخامسة عشرة، وأصبح أبا في السادسة عشرة من سنيه، فلما بلغ الثامنة عشرة تنكر كمجرم فار فجاوز البحر وجبال الألب ليسترد تراثه من خصمه في الشمال، وتمضي بضعة أعوام فيظهر سيد ألمانية، ويبلغ السادسة والعشرين من عمره فيصير إمبراطورا رومانيا غير مستعين بالبابا، وينتخب ابنه الفتى ملكا ألمانيا درءا لكل احتمال ، ويزمع الاحتفاظ بالمملكتين، الشمالية والجنوبية، ويحظى بموت البابا الأكبر فيعد خلف هذا البابا بحرب صليبية قبل تتويجه في مقابل نيله مملكة القدس، ويؤجل هذه الحرب في أحوال غريبة فيجد البابا ذريعة لإعلان حرمانه. وفي تلك الأزمنة كان على كل بابا أن يقاتل آل هوهنشتاوفن الذين يملكون شمال إيطالية وجنوبها والذين يمتد سلطانهم بين دانيماركة وصقلية، وما كان هذا الهوهنشتاوفني ليرضى بأن يتنزل عن ذرة من حقوقه المكتسبة.
ومن دواعي الحيرة أن كان فردريك ابنا للجنوب بمزاجه وغريزته وذوقه وتربيته من كل وجه، وقد شعر بشقوته حينما اضطر إلى العيش في فورمس أو في فرنكفورت، وما كان ليسر بسوى بلرم وأبولي، وهو لم يذهب إلى ألمانية مرة ثانية إلا ليقيم بها سنتين، ولو كان شهوانيا أو فيلسوفا فقط لانزوى في بلد أمه ليتمتع بالحياة.
ولكن فردريك كان فيلسوفا بمقدار الكفاية عارفا بفن الحياة، ولكن فردريك كان لديه مقياس كاف لجميع ما صنع، وذلك لكيلا يقنع بعيش نمطي في الجنوب، وهل دفع عن عزة وارث لإمبراطورية، أو عن طموح فاتح؟ وهل أدار رحى الحروب وكافح ونافح حتى آخر عمره عن رغبة في تحدي التاريخ؟ كان فردريك الثاني يختلف بسجيته عن بركلس ومارك أوريل وجوستينيان اختلافا تاما، وهو كان مفكرا باحثا متفننا أيضا، ولم يكن هذا في أوقات فراغه وعن غير قصد فقط، بل كان ذلك يتجلى في كل يوم وفي كل عمل من أعماله، وقد كان من ذوي النفوس العالية الذين ينعمون النظر في أفعالهم فيعربون بالأعمال عن تأملاتهم، والحق أنه سبق عصر النهضة بقرنين فكان أول رجالها، والحق أنه ظهر نظير مصيره.
وكان التسامح والمجون يمازجان فردريك فيكون له بذلك توازن نفسي يصونه من الجنون في ساعات اليأس والبؤس، وهو مدين بهدوئه الباطني لجبريته المقتبسة من الإسلام والتي تختلط فيه بروح الفكاهة، وهو، وإن كان غريبا عن الدين النصراني تماما، كان يبدي احترامه للكنيسة كإمبراطور نصراني ما بدت الكنيسة نصيرة له، وتحرمه الكنيسة فيجهر بعدم اكتراثه لهذا التدبير، وأول ما صنعه هو أنه أرسل كتابا إلى جميع الأمراء رفض فيه مزاعم البابا، وذلك مع تهكم نفسي خليق بفولتير، ثم ماذا؟ ذهب إلى القدس مع جيش صغير، ولقي السلطان فيها، واتفق معه في بضع دقائق، وذلك كما يصنع اثنان من كبار رجال الأعمال بعد بحث طويل يقوم به وكلاؤهما، وقد قام الاتفاق على أساس من التسامح المتبادل يمنح به كل من الدينين ما يدعيه من الحقوق، ثم أمر بإعداد تاج في كنيسة القبر المقدس حيث ذهب مع بضعة ضباط فقط ووضع التاج على رأسه بيده، وهكذا سار الإمبراطور، الذي أصيب بحرم البابا الهائل، من غير أن يساعده أسقف، ولم يتفق لصليبي قط مثل ذلك النصر أمام المسلمين المسالمين.
وكان فردريك آنئذ، في شرخ شبابه، وكان يتكلم سبع لغات مفضلا اللغة العربية محيرا السلطان وبلاطه، ويأمر الشرقي الذي اجتمع بنصراني متسامح لمرة واحدة بألا يؤذن المسلمون من فوق المآذن ما أقام الإمبراطور بالقدس، ولما سمع الإمبراطور، ذات صباح، شيخا جاهلا ذلك الأمر يجهر بالصيغة المثيرة المأثورة القائلة إن الله لا ولد له أتاه رسل من السلطان ليعتذروا إليه.
واسمع جواب فردريك: «دعوه وشأنه، وعليكم أن تروا ماذا يسمح به للمسلمين في بلدي، ولولا خوفي من ضياع سمعتي لدى الفرنج لعرضت على السلطان شروطا ألين من تلك.»
ولما ذاع في العالم صيت هذه الحرب الصليبية السلمية التي توجت بالنجاح كسب الإمبراطور ألوف القلوب، على حين خسر البابا مثل هذه الألوف من الأفئدة وقتما كان يحمل على احتلال صقلية وفق مصلحته، ويعود فردريك على جناح السرعة مع بعض أصحابه، وينزل مباغتا إلى برنديزي، وكان قد بلغ من عظم النفوذ ما أعاد البابا معه جميع فتوحه إليه وألغى حرمه وعد من السعادة استقبال الإمبراطور إياه في مأدبة رائعة.
وكان فردريك إمبراطورا صميميا، وداوم فردريك على عمله الخصيب في سني كهولته، ونهض بدولته في الجنوب على قواعد القوة والعدل حاكما مطلقا منطويا على إنسانية، وكانت ألمانية التي يديرها بواسطة ابنه في ذلك الحين غارقة في ضباب غبر ممزقة بتنازع أمرائها الكثيرين، وجعل هذا العاهل الجائل من صقلية، التي كانت تبدأ رسميا في شمال رومة الشرقي والتي كانت تمتد في الواقع حتى جبال الألب، مقره نهائيا مؤسسا أول دولة عصرية حقا.
وينم اختلاط دمه على خصبه مجددا، وتستلزم ثنائية سجيته وجود مستشارين مختلفين، ويجدهما لسنين كثيرة، يجدهما من ناحية في شخص فارس المنظمة التوتونية: هرمن فون سالزا، ويجدهما من ناحية أخرى في شخص حامل الختم في أبولي: بيترو ديفينيا، وكان أحد هذين الرجلين أسدا، وكان الآخر ثعبانا، وكان عليه أن يعاني شدة ما بينهما من تضاد في الغالب مقاوما أحيانا أحدهما الكثير التدقيق ومعاندا أحيانا تلقينات الآخر، وكان يعرف أن يصل، بما فطر عليه من نشاط، إلى آفاق كلاسية
12
في الحقيقة، فيستطيع بذلك أن ينجز من الأعمال ما اشتهر بمثله رجال النهضة بعد زمن، وبالنظام والتنظيم يتجلى تراثه الجرماني في حكومته، وبالنشاط الذهني والخيال يتجلى تراثه الجنوبي في حكومته.
وقد أعانت جميع هذه العوامل على ظهور اشتراع ممتاز بعد جوستينيان بسبعمائة سنة وقبل بكاريا
13
ونابليون بستمائة سنة.
ونرى أن نذكر بعض الأمثلة التي نقتطفها من مختلف نواحي الاشتراع بلا تعمل للدلالة على روح التقدم في هذا العاهل في سواء القرون الوسطى.
لقد أجير النساء والأولاد، فصار لا يحق للزوج أن يقتل زوجته غير الوفية، حتى إن العواهر أجرن من الجور، وعلى العكس لا تستطيع المرأة أن تشكو رجلا اغتصبها إلا بعد أن تكون قد حاولت رده ثلاث مرات. وقد قرر الحد الأعلى لبدل إجارة الطلاب في الجامعات، وبدأ القانون يجازي من يمارس الطب بلا امتحان خلافا لما كان شائعا حتى ذلك الحين، وكان على من يريد مزاولة الطب أن يدرسه في خمس سنين مقدما، فإذا فعل ذلك وجب عليه أن يتدرب لدى طبيب ماهر، وصار يؤذن في تشريح جثة مرة في كل خمسة أعوام، مع حظر الكنيسة هذا إلى ذلك الوقت بشدة، وأصبح من الواجب على الأطباء أن يتعهدوا، مع ذلك القسم، بمعالجة الفقراء مجانا، وأن يعودوا كبار مرضاهم في كل يوم مرتين، وألزم النصارى بألا يأخذوا فوائد عن دين، ولم يؤذن في أخذ فوائد تزيد على عشرة في المائة.
ويرجع جميع ما كان فردريك يطبقه من دراساته إلى أصل عربي تقريبا، ولا سيما الرياضيات والعلوم الطبيعية منه، ويرغب فردريك في إيجاد حل لبعض المسائل العلمية فيهدي سفينة إلى علماء من العرب، ولما رمى قدحه المشهور في البحر لم يصنع ذلك عن زهو، بل عن حض للغواص على تقديم تقرير إليه عما يجد في أسفل الماء، ويرسل إليه سلطان دمشق وفدا خاصا ليقدم إليه نسخة ذهبية عن نظام السيارات مع بيان حركة الأجرام السماوية، فيصرح الإمبراطور، كما روى ابنه، بأن هذه الهدية أعز ما لديه في الدنيا، ويراسل عالما يهوديا في طليطلة محرضا إياه على جمع موسوعة عربية. وقد أمر بترجمة كتاب لابن ميمون إلى اللاتينية، وترجمة كتاب لبطليموس إلى العبرية، وأراد أن يدرس آثار الهضم فدعا رجلين إلى مائدته، وقدم إليهما طعاما وافرا، ثم أرسل أحدهما إلى الصيد وأرسل الآخر إلى السرير فوجد الذي ضجع أحسن الاثنين هضما.
وكان فردريك، ككثير من العظماء، يحب الحيوانات، والطيور على الخصوص، وقد انتهى إلينا، فيما انتهى، كتاب ألفه فردريك عن «فن الصيد بالباز»، وما أبداه فيه من ملاحظة دقيق، وما ضمنه إياه من تفصيل جدير بأرسطو، حتى إنك تجد في الكتاب فصلا عن الوضع الذي تكون عليه الطيور حين نومها، ولا تشتمل مقدمة الكتاب على غير الجملة الآتية الوحيدة في تاريخ الكتب، وهي: «إن المؤلف رجل مدقق مخلص للعلم، إمبراطور روماني وملك للقدس وصقلية.»
وأفضل لهو لدى الإمبراطور هو الصيد بالباز وشيد القصور، ومع ذلك لم يكن فردريك من نمط قياصرة بزنطة فيجد من عوامل السعادة أن يركع الزائر أمامه في قصور شبه قوطية، وكل ما كان يحبه هو أن يقيم بقصر منعزل في أبولي، وهنالك كان يمكن السيد البناء أن يستريح خلف الأسوار ذات الأبراج القوية المثمنة الأضلاع والمجهزة بنوافذ وأبواب مخالفة للعادة بعرضها، وهنالك كان يمكنه أن يتأمل ، من نافذة دقيقة النقش، في أرصفة ثمينة وفي حدائق وغابات ومدن وحصون وفيما هو واقع وراء ذلك من بحر وجبال لا تدل على حدود مملكته.
وقد أسكن الإمبراطور أربعين ألف عربي في جوار إحدى المدن، وبالقرب من لوسرن فأقام مستعمرة عربية في وسط إيطالية! وأراد بناء مسجد لهؤلاء المسلمين في مكان كنيسة فأمر بهدمها متذرعا بإشرافها على الخراب، أجل، اتهم فردريك بأنه كان صاحب دائرة حريم عربية، غير أنه كان عارفا بما هنالك من حب فلم يجد شيد متحف حي، وهو، على العكس، كان يفضل فصل بعض مختاراته الكثيرات عن بعض فيغمرهن بالنفائس عن أبهة وثنية، وذلك مع مجاراته جميع روائع الحياة عن تكديس لضرائب جديدة تجبى من رعاياه.
أولم يكن من الطبيعي أن يصرح البابا الشاعر بأن هذا الوارث لآل هوهنشتاوفن، المحيط به والمبطل لقدرته، عدو المسيح؟ أنشأ هذا الإمبراطور النصراني مسجدا للكافرين بدلا من محاربتهم بالحديد والنار، وسخر هذا النصراني من ذخائر القديسين، وجلب هذا الإمبراطور إلى بلاطه في بلرم صواغا ومنجمين وكيماويين وشعراء وعازفين من العرب بدلا من أن يغنم كنوزا من الشرق، ومع ذلك يوكد هذا الملحد إيمانه بالخلود!
لقد حرم فردريك، مرة أخرى، لأسباب دينية ظاهرا ولأسباب سياسية باطنا، وذلك من قبل البابا الجديد، وذلك بعد إصلاح ما بين سلفه وبين العاهل بعشر سنين، وفي الحين نفسه خلع هذا العاهل في ألمانية من قبل خصمه بإغراء من البابا كما هي العادة، وقد أتاه نبأ ذلك في أثناء سياحة كان يجوب بها إيطالية متسليا بفيول ونمور، ويلوح أنه خرج عن هدوئه المعتاد لمرة واحدة، فقد بحث بعد قليل عن الخزائن المشتملة على الكنوز الملكية وفتحها وقال صارخا: «أريد أن أعرف: أولا تزال تيجاني فيها!»
وتتراكم عوامل الخيبة فتؤثر فيه مشاعر عنيفة على حساب اعتداله الفلسفي، ومن ذلك محاولة الفاتيكان قتل هذا العدو الأكبر خلاصا منه، وتكون المشنقة وكومة الحطب جوابه، ويعرف الملك في سني حياته الأخيرة ما لأمير مختلط الدم من مصير مر، وذلك أن أمراء الألمان صرحوا بأنه النورماني الأجنبي وأن مدن إيطالية هاجمت الهوهنشتاوفني الألماني في شخصه، وقد صب الإمبراطور لعنته على المدينة العاصية: فيترب، فقال: «لن أجد الراحة حتى في الموت! لو كانت لي رجل في الجنة لاجتذبتها للانتقام من فيترب!» وفي ذلك الحين اقترح على جميع أمراء أوروبة مصادرة أملاك الكنيسة، وما كان الأمراء لينفروا من هذا الاقتراح، بل كانوا يعملون به، لا ريب، لو نال فردريك انتصارات جديدة وعاش طويلا.
وتشتمل يوميته التي كان يكتبها في أثناء تلك الأزمة الشديدة، وذلك بين مراسيم بالغة الأهمية، على تعاليق خاصة بقطع الأشجار على غير وجه شرعي، وبتعيين معلمين للبزاة، وعلى ملاحظات حول الخيل والنمار وحول تحويل العبيد السود إلى موسيقيين وحول غرس نخل من أجل يهود بلرم على حساب المبلغ المعين لتعليم حاجبه عبد الله خط العرب، وعلى حواش عن برج حمام في قصر بلرم وعن تفصيل ثياب لحراس الحيوانات وعن الأفاويه التي تستعمل في إعداد أطعمته المفضلة.
وإذا ما فكر في جميع ما حاول الإمبراطور فردريك تحقيقه وفي قلة ما ترك بعده أمكن قياسه بليونار دفنسي الذي لم ينجز غير أعمال قليلة على الرغم من عبقريته، ورجال كهؤلاء، إذا لم يكونوا مشبعين من أفكار لم يبلغ عصرهم من النضج ما يتقبلها معه، لم يتركوا في الأرض غير أثر أقل مما يتركه أناس مقتدرون مع عطل من الخيال، ولما حان أجل فردريك، بعد عهد أربعين سنة مملوء باضطرابات خارجية وبصائر داخلية، لم تكن إمبراطوريته قد وطدت بعد، وقد كان لأولاده الشرعيين وغير الشرعيين مصير فاجع في الغالب، ولم ينقض غير زمن قصير حتى توارى آل هوهنشتاوفن، وقد قتل آخرهم من قبل عدوهم الأزرق: دوك دانجو، ولم يدخل فردريك الثاني حظيرة التاريخ فاتحا، وقد طويت صفحة حروبه بزوال آله.
ومع كل ذلك لم يعرف البحر المتوسط سيدا آخر جمع مثله كثيرا من العرفان والإلهام والسلطان فأضاف تاج الحكمة إلى كثير من التيجان الملكية، ومن بين عظماء القرن الثالث عشر مثل الإيطاليان، دانتي وتوما الأكويني ، القرون الوسطى التي لم تقل بغير دين واحد ولم تأذن في غير دين واحد، وقد كان رجل العمل، الإمبراطور فردريك، الذي هو نتيجة توالد الشمال والجنوب أسبق من القديس والشاعر.
5
انتهى أمر الحلم الألماني حول جلال الإمبراطورية وسيادة العالم، وبذل سليل ملوك الألمان العبقري المعتزل جهدا كبيرا في عهده الطويل ليجمع بين بأس الألمان وخيال الطليان، ووهن نشاط أمراء الألمان وطموحهم في صراع غير مجد، وما كانت الإمبراطورية الألمانية لتخلف الإمبراطورية الرومانية لعدم وقوعها على شواطئ البحر المتوسط، وكان يمكن الإمبراطورية الألمانية أن تحول دون وحدة إيطالية فضلا عن ذلك.
ويلوح في القرون الوسطى، وفيما بعد القرون الوسطى أيضا، أن إيطالية وحدها هي التي اختيرت من قبل الطبيعة والتاريخ للسيطرة على البحر المتوسط، وكانت بلاد البحر المتوسط الأخرى؛ أي إسبانية وفرنسة، تولي وجهها شطر بحار أخرى في الوقت نفسه، وكانت بلاد اليونان قد نهكت منذ زمن طويل، وكانت بزنطة ومصر وأفريقية الشمالية بعيدة من مركز البحر، ومن يلق نظرة على الخريطة تقف إيطالية بصره من فوره لبروزها مشيرة إلى البحر المتوسط كالسبابة،
14
ومع ذلك لم تكن وحدتها لتحقق بغير شعور المجتمع الإيطالي القومي.
ومن المؤسف أن أدى ما بين الأمراء ومختلف الجمهوريات من تحاسد حقير إلى انقسام خلفاء آل هوهنشتاوفن، وقد بلغ هذا الانقسام من الشدة ما صارت معه إيطالية مجزأة بين ميلان ورومة، وبعد قرنين من نهايتهم، إلى أربع عشرة دولة يقابلها في جنوب شبه الجزيرة «مملكة الصقليتين» الموحدة، ولم لم تسطع الوارثة الحقيقية للإمبراطورية الرومانية، إيطالية، أن تصبح موحدة؟ ولم لم تغد رومة نفسها سيدة البحر المتوسط؟ لقد وجدت أمم القرن الرابع عشر الكبرى وحدتها وفق لغتها، فتألفت فرنسة وإسبانية وإنكلترة، وأما إيطالية فقد اضطرت إلى خمسة قرون لبلوغها مثل ذلك، وهنالك لا بد من وجود أسباب عميقة أوجبت تأخر جهاد شعب مبدع نحو الوحدة مع أن عبقرية هذا الشعب لم تتغير منذ القرون الأولى تغيرا جوهريا ومع محافظته على موقعه الجغرافي الممتاز.
ويقوم أحد هذه الأسباب على ما كان من حروب أباطرة الجرمان المستمرة ورغائبهم، وتجد السبب الثاني في البابوية التي كان وضعها كوضع جمعية الأمم، فلم تكن من القوة ما تمنع معه نشوب حروب قومية، ولا من الضعف ما تعجز به عن تغذية الدسائس السياسية، ثم لا يمكن أمة أن تصبح أمدن أمم الأرض بلا عقاب كما هي حال إيطالية في القرنين أو القرون الثلاثة الآتية، وما كان من تقدم إيطالية في الشعر والفن، وذلك في دور تمزق فيه من قبل جيوش أجنبية وفاتحين، يذكرنا بأوج الحضارة الجرمانية في ألمانية العاجزة سياسيا، ومن المحتمل أن كان ميكل أنجلو ثمن الوحدة الإيطالية.
وارجع البصر إلى الزمن الذي كانت الحروب الصليبية فيه تدنو من نهايتها، إلى زمن دانتي وفردريك، لم تجد إيطالية فيه أولى أمم أوروبة، بل تجد الحضارة فيه منتشرة في جميع بلاد البحر المتوسط، فقد انطلق إنشاد الشعراء الجائلين من البروفنس إلى الرون فإلى مرسيلية، ثم جاوز غرب البحر المتوسط. وقد انتشرت شعائر بلاط كونتات طلوشة
15
ودوكات غسقونية
16
فبلغت بيوت الطبقة الوسطى الغنية في الجمهوريات الإيطالية، وقد كانت فنون القسم الغربي من البحر المتوسط وعاداته، على الأقل، فرنسية تماما حينا من الزمن.
ويظهر إنكليزي بغتة على شواطئ البحر المتوسط في ذلك الحين، يظهر العالم الرحالة الراصد الباحث المفضال: أبلارد الباذي.
وكان يوجد في جميع فروع العلم ميل جلي حتى في ذلك الزمن، حتى قبل دور النهضة بمائتي سنة، إلى الخلاص من المذهب الكاثوليكي وإلى تعلم علم الفلك من كتب بطليموس وتعلم علم الطب من كتب بقراط، وقد درست كليتا الحقوق من جامعتي بولوني وبادو مبادئ جوستينيان مع التحليل، وقد نقلت جامعة باريس إلى جامعة أكسفورد اكتشافاتها الثورية وذلك بواسطة طلبة من الإنكليز عادوا إلى بلدهم وفق أمر الملك، وقد سمت أجيال من العلماء في مونبليه وساليرم فوق قواعد المذاهب اللاهوتية، ومن قول رئيس المذهب الأفلاطوني في شارتر: «نحن أقزام على أكتاف عمالقة القرون القديمة، ولا ينبغي للآلهة القديمة أن تصدنا عن طريق الجنة.»
والآن يجلس حارس اللاهوت النصراني ثابتا في حجر رتاج شارتر الرمادي الملكي، وهذا هو أرسطو اليوناني اللحياني المتناسق الشعر والواضع دواته الكبرى على ركبتيه مشابها تولستوي أو مشابها ساحرا شرقيا أكثر من مشابهته حكماء البحر المتوسط. وأدعى الأمور إلى العجب كون العرب هم الذين أوجبوا بعث العلم القديم في مدارس إسبانية ومدارس جنوب إيطالية، والعرب هم الذين ردوا النصارى إلى أعظم منابع حضارتهم.
وعلى العكس كان الطراز الذي شيدت به مباني ذلك الدور تمجيدا لله على خلاف طراز القرون القديمة، وتعد كنيسة شارتر مع تسنم أرسطو رتاجها أجمل من جميع المباني القوطية الصرفة، وتنهض أعمدتها الهيف خفيفة، هوائية تقريبا، وذلك نحو أقواس حادة، ويلوح الصحن المركزي مسيطرا عليها سيطرة منسجمة، وتظهر الرتائج الرائعة وزخارف الوسط المرسومة على شكل الورد أنها تصهر الجميع على صورة شبكة، ومع ذلك فإن لها بالأبراج الثخينة متانة قلعة ليكون هذا رمزا لاستقرار الدين الصحيح بهذا المكان، وقد أقيمت كنيسة شارتر وكنيسة نوتردام حوالي سنة 1200، ثم أقيمت كنيستا رنس وأميان بعدهما بقرن.
وما سمي بعدئذ طرازا قوطيا؛ أي طراز البرابرة، هو من أصل فرنسي مع مزيج من عناصر جرمانية، ولم يبلغ هذا الطراز درجة الكمال غير مرة واحدة في شمال جبال الألب، وقل مثل هذا عن خط ذلك الدور المدعو بالقوطي، ويأتي هذا الخط من الشمال فيبدو شكلا متبلرا لمنحنيات الحروف اللاتينية المألوفة كما لو كانت هذه الحروف قد جمدت فجأة، وتبتدع أقواس حادة مصنوعة من حجر أو مخطوطة بمداد، فتبدو منسجمة مع صور الملوك المنقوشة في شارتر ومع أول موسيقى قوطية.
ومن الطبيعي أن شيدت أروع الكنائس في فرنسة؛ وذلك لأن فرنسة كانت تمثل في ذلك الدور أوج الحضارة النصرانية، ولم يقم أساقفة رومة (البابوات) بسلطانهم خارج إيطالية في غير قرن واحد من ثمانية عشر قرنا، في غير القرن الرابع عشر، وقد كان فرارهم إلى البروفنس وعهدهم في أفينيون (1309-1408) نتيجة عوامل مختلفة؛ أي نتيجة الخوف والبحث عن السلطان والحساب، وقد زاد حس السلطة وحب الملاذ لدى البابوات في أثناء هذا النفي بدلا من ضياعهما، ولا غرو، فبما أن البابوات كانوا في ذلك الوقت موضع حماية دولة قوية، بعيدين من منازعات أباطرة الألمان وفرسان الرومان المستمرة، ناجين من أزمات إيطالية الداخلية فإنهم عاشوا فيه بين المناظر الرائعة والكروم الجميلة وأغاني الشعراء الجائلين، وهم إذ كانوا ملكيين أكثر من جميع الملوك فقد هيمنوا سرا على سلطان من كانوا ضيوفا عندهم، والحق أن تاريخ البابوات في أفينيون رواية طويلة اهتزت قلوب أبطالها دوما بالحب والحسد والدسائس والصراع الخفي.
وبينما كانت الدول القومية الكبرى تتألف تحت سلطان ملوك مطلقين، كان البابا، كان ضيف فرنسة الفار هذا، سائرا على الدرب الذي يصير به العاهل الأول في التاريخ الحديث، وقد انقطعت المؤتمرات الدينية والمجامع الروحية عن الوجود، وقد غدا البابا طاغية. وقد كانت الأبرشيات
17
والأسقفيات ومجامع الكتدرائيات تعين قساوستها وتدير أموالها حتى ذلك الحين فحرمت هذه الحقوق، فقد أخذ سيدها ومولاها في منفاه يعين موظفي دولته العالمية المترجحين بين الكرادلة وخوارنة القرى، وبين رؤساء المنظمات الدينية والأساتذة، وبين أكابر رجال البلاط وغاسلي قمصانه في الرون السريع عند أسفل قصره.
وقد استطاعت البابوية في منفاها المزعوم بأفينيون الذي كان اختياريا كهجرة محمد في الحقيقة، والذي كان أداة إدارية حديثة، وبنكا للدولة على الخصوص، أن تنال للمرة الأولى سلطانا ماليا قادرا على إدارة رءوس الأموال لدى جميع الأمم النصرانية في العالم. وكان الزبن والمتلمسون من الجنسين والمحاجون والطامحون والطامعون يتدفقون فيملئون أروقة القصر وساحاته راجين نيل شذور من كنز البابوات الذهبي الأسطوري ذاكرين أقتم أدوار الإمبراطورية الرومانية، ولكن الجو المعتاد هنا كان يفسد بسلطان أدبي لمعهد يستطيع أن يبارك أو يلعن وأن يسلب مالا من المؤمنين عن وعيد بالعقاب في الآخرة، وكان مبدأ بيع الغفران ينطوي على خفر لأفكار القديس بولس النبيلة ومشاعر يسوع السامية، ولم يخترع هذا المبدأ في إيطالية حوالي سنة 1500، بل ابتدع في فرنسة قبل لوثر بقرن ونصف قرن.
وكان يدعى بالسجن الواسع قصر البابوات الجليل؛ أي ذلك الحصن القوي ذو الشرف الكثيرة والمسيطر على المدينة القديمة وعلى الرون، وتسوغ هذه الأبراج الجبارة، وهذه الأسوار الواسعة العابسة التي هي من بناء عدة أجيال، بظاهرها، تعبير «إسارة بابل الكنيسة» الذي اخترعه قساوسة العصر المتعصبون المشاغبون. والرجل إذا ما جاوز القصر لم يجد سجنا، مع ذلك، بل بلاط يفوق جميع البلاطات الأخرى بغناه وسناه، وما جبي من فقراء العالم بأسره من الصدقات البابوية أو من زكاة الحروب الصليبية، التي يعدل ما جمع منها خمسة عشر مليون دولار ذهبي، انتهى إلى تلك الرداه المزخرفة الزاهية وأقيمت به الولائم الفاخرة وأنفق على الاستقبالات والألعاب والأغاني، وقد بلغ ما أنفقه البابا كليمان الرابع في حفلة تتويجه وحدها 120000 دولار من ذهب، ولم تؤد عزوبة الأساقفة إلى غير زيادة ملاذ حياتهم الغرامية، ومن المؤسف، مع ذلك، أنه لم ينتج أي أثر فني بأفينيون في ذلك العصر.
وقد أصلح البابا يوحنا الثاني والعشرون، الذي هو أقدر صيرفي بين جميع البابوات، نظام الضرائب في جميع دواوين العدل، وقد كان مشهورا في اكتشاف الوثائق غير المجهزة بطوابع، وقد أثارت أعماله وأعمال خلفائه القائمة على الربا حيرة العالم، ولما ارتفعت أصوات لبيان فقر الحواريين قالت السدة الرسولية بإلحاد هذا المذهب، وبما أن نحو نصف الدخل الرسولي كان يذهب إلى الكرادلة فقد كان يثور قليل حسد بين الأساقفة، ويجتنب خزي الاختلاس بأعمال محكمة، وذلك بأن يحول المال المركوم إلى قرض مصرفي فينال رضاء البنوك الكبيرة بمعدل مئوي مرتفع، حتى إن ملك فرنسة شمل أعمال الكنيسة الموفقة هذه بعين رعايته واستفاد منها ما دام البابا قد وافق على حل منظمة الفرسان الهيكليين الذين أتوا إلى فرنسة من جزيرة رودس فاتهموا بتعاطي عادات مخالفة للطبيعة وبعبادة الشيطان، والواقع أن ملك فرنسة أمكنه بهذا الحل أن يستولي على خزائنهم الواسعة.
وكان ذلك اللعب الكلبي يتم وفق مآرب سياسية، أجل، انقضى الزمن الذي أمسك إمبراطور ألمانية فيه زمام حصان البابا الأبيض مجاوزا ميدان سان مارك في البندقية فقبل رجل الحبر الأعظم، غير أن البابا كان من القوة الكافية ما يستطيع به أن يضمن لفرنسة أعظم الفوائد، ومن ذلك أن جعل حكما في حرب مائة السنة فألقى حكمه على تاريخ أوروبة مع مراعاة مصلحة فرنسة جهد المستطيع، ومن ذلك أن ود البابوات نقل التاج الإمبراطوري من الألمان إلى الفرنسيين بعد مكافحتهم آل هوهنشتاوفن، وقد حبطت هذه الخطة؛ وذلك لأن كل سعي في سبيل السيادة العالمية صار عقيما؛ ولأن تجمع الأمم حول مركزها الطبيعي كان يزيد؛ ولأن روح الزمن كانت مخالفة لكل سلطة عالمية ومنها سلطة الكنيسة؛ ولأن كل ملك عاد راغبا عن نيل بلاده من أسقف رومة كإقطاعة وصار يأخذها من الله أو بقوة سيفه.
ولما بلغت القومية أوجها كما في كل زمن اكتسبت شكلا أدبيا وصارت تطالب البابوية بأن تسمو فوق الأمم كسلطة روحية، وكان هذا يهدف إلى انتزاع أسس سلطتها الزمنية منها. وكان من يرمون أفينيون بكل وعيد وقول سيئ، مصرحين بأنه لا يجوز أن تدار الكنيسة من قبل دولة كبيرة واحدة، ينسون أن رومة الإيطالية، لا القدس، هي التي كانت تملكهم، وأن الإيطالية كانت لغة البابا على الدوام تقريبا. وكانت أصوات أعداء أفينيون تنم على تهديد، وكان العامل في سخط أمراء الألمان ينشأ عن حسدهم فرنسة ذات السلطان النامي فقط.
والشعراء والقديسون وحدهم هم الذين قالوا الحق كما في كل وقت، وبترارك، المبعد كالبابا، تغنى في أفينيون بمدائح عن وطنه الإيطالي، وكان يسير على غرار دانتي الذي عرف أن يلمس العالم بأسره معبرا عن جو المنفى الذي كان ينتج ألوف النوابغ في ذلك الحين. أجل، كان المنفى يمسك الشاعرين في وطنهما الصغير لبضع ساعات فقط، بيد أن شعورهما القومي بلغ الغاية من الوجد الشعري، وقد رفض بترارك أن يتوج ب «إكليل الشعر» في باريس راجيا نيل هذا الشرف في رومة.
وما أكثر ما وجب أن يكون التوتر السياسي حادا حتى يبذل الشاعران مثل تلك الحماسة في ميدان تنازع الأحزاب وميدان المجادلات! وعلى ما كان من التجاء بترارك إلى الطبيعة لم ينفك عن التفكير في الرجال، ولم يوح صعوده الأول المشهور في أحد الجبال بأي عمل ذي بال، ويبدو لنا دانتي على صورة جانبية ذات ذهنية تجعلنا نفكر في نسر، وعلى العكس تشبه ملامح بترارك بملامح امرأة بين عمرين، وذلك في الصورة التي رسم بها لابسا حلة كهنوتية فتركها لنا صديقه. وقد عاش ذانك الشاعران، كالقسوس، من دخل الكنيسة كما كان هوراس وفرجيل قد عاشا من هبات أغسطس وميسين، وقد انساقا مع هرج الحوادث أيضا فيرى لمتفنني زماننا بعض السلوان في هذا الأمر، وقد حل بوكاس المعاصر لدانتي وبترارك، والذي ولد مثلهما من أبوين فلورنسيين، ولكن بباريس، معضلة زمانه بما اتفق له من تجربة رائعة في الحياة، وهو، على خلاف دانتي وبترارك لم يعش في بلد أجنبي ولم يمت فيه، وهو لم ينغص بهجة عيشه بتدخلات نبوية في تاريخ عصره الذي كون بالسيف لا بالأفكار، وهو، حينما وضع كتاب «الأيام العشرة» ابنا للخامسة والثلاثين من سنيه، قد جمع بيد رشيقة مائة قصة كان رواها هو أو غيره ممن ظهر قبله، وكل شيء كان يمكنه أن يهزه ولكن لم يسطع شيء أن يزلزله، ويشترك في موكب الناس الهزلي الذي يدعى التاريخ إذن، ويصف المهزلة البشرية كبلزاك، ولا يزال أثره مدار تسلية لنا، ويشتمل أثره، فضلا عن ذلك، على إرشادات لشباب العاشقين يعرفون بها كيف يوجهون مغامراتهم.
وبجانب هذا المستمتع كانت تعيش امرأة قديسة في الدور نفسه وفي مدينة فلورنسة نفسها، كانت تعيش كترينة السيانية (1347-1380).
وكترينة هذه هي التي كانت ذات طفولة طريفة بين الكترينات الست القديسات، وكانت من أحدث التوائم بين خمسة وعشرين ولدا لزوجين من الصناع، وتعد كترينة السيانية فذة بين ذوات الفضل، وما كان من هزال الأم، وضنى البنت على ما يحتمل، وما كان من فقر الأسرة وبؤسها يلوح أنه زاد رؤى صبا كترينة اشتدادا فيمازجها شوق عظيم إلى حياة الدير، ولما ألم المرض بالأسرة فمات الأب دلت على نشاط مفاجئ مذكرة بإناث العصر، فأبدت كبير نبوغ في الخطابة، وموهبة في الإقناع على الخصوص، وقد حاولت أن تسوي من ديرها جميع الخصومات الاجتماعية والسياسية، وهي لم تعتم أن دعيت إلى حمل بيزة على الاشتراك في حلف ضد البابا.
ويلتقي مظهرا رسالتها التاريخية في دورة حياتها تلك، وقد كانت نشيطة سياسيا، ولكنها لم تنفك تكون في وجد، وهي تفاجأ ذات أحد في الكنيسة برؤيتها ندوب
18
يسوع على يديها ورجليها وقلبها. ويثير هذا حمية الدومينيكان كثيرا لما كان من وقف تلك الندوب على سان فرنسوا، ومن القول بأنها لا تحدث عند غير الفرنسيسكان، ويبلغ هذا التحاسد بين المنظمتين من إثارة العالم ما حصر معه أحد البابوات، وقد كان من الفرنسيسكان سابقا، مثل هذه المعجزات بمنظمة هؤلاء.
وتبلغ الرسالة الثنائية التي قامت بها هذه القديسة المسالمة أوجها في أفينيون، ويفوض إلى هذه الفتاة، البالغة من العمر ثمانية وعشرين عاما، أن تقنع البابا بالرجوع إلى رومة، ويخادعها الدبلميون من فورها كما خادعوا عذراء أورليان
19
بعد حين، وتوفق في رسالتها مع ذلك، ويعزم غريغوار الحادي عشر، وهو البابا الفرنسي السابع في أفينيون، على وضع حد للمنفى، ويبحر من مرسيلية شاعرا في فؤاده بما يندر أن يحسه الملوك الذين يجاوزون البحر المتوسط من المشاعر، ولا ترافقه كترينة مسافرة برا، ويثبت اجتماعهما في جنوة بالبابا الذي لم يزل مترددا درجة نفوذها، وينعم البابا عليها بقصر فتسلمه إلى ديرها، ويرسلها البابا من رومة إلى فلورنسة لتقوم برسالة، وتشتعل فتنة بموت البابا، وتكاد كترينة تقتل، وتأسف لإنقاذ الطالع إياها من الشهادة، وبينما كانت جادة في سبيل البابا الجديد، عاملة على مفاوضة الشعب الروماني، إذ تمرض وتموت سريعا، ومن المحتمل أن كان يجتنب الانفصال الكنسي الذي وقع بعد وفاتها لو كان من الممكن دوامها على العمل من أجل الكنيسة.
وقد وجدت هذه المرأة العبقرية أسبابا كثيرة لحمل البابا على مغادرة أفينيون، وقد اشترك الزعيم الشعبي، ريانزي، في الأمر، ويشابه ريانزي هذا طغاة أيامنا بحماسته الشعبية وتمثيله المسرحي، وكان القدماء من خطباء اللاتين وأبطالهم يملكون قلب ابن الفندقي الروماني هذا، فلما قتل شريف أخاه ظن تجسد بروتوس فيه ، ويوفق عن طموح وكيد، والطموح والكيد هما سلاحا الطغاة، لنيل مقام في بلاط البابا كليمان بأفينيون، وينتفع البابا به ليضمن لنفسه دعامة في رومة التي أضحت اليوم أقوى من قبل، ويعود ريانزي إلى هذه المدينة الفوضوية فيعلن ذات يوم عقد مجلس على الكابيتول في صباح الغد، ويبدو مدججا بالسلاح ذا مشية روائية عاطلا من الحرس محاطا بالموسيقيين والأعلام ونائبي البابا فقط، ويجعل نفسه على رأس موكب من محبي الاطلاع والساخطين، ويلقي من فوق الكابيتول خطبة فاتنة حول حقوق الشعب الروماني الطبيعية وحول عودة العصر الذهبي، ثم ينتحل سلطات مطلقة بين هتاف الشعب، ويلقب نفسه ب «المنقذ»، ويقيم احتفالا رائعا في كنيسة القديس بطرس، ويتم كل شيء على شكل مسرحي وعلى وجه شعبي، والحكم هو ما كان يقصده.
وهو لم ينس سوى أمر واحد، سوى العمل، وهو قد عاش بالشعائر والدعاية، والشعائر والدعاية ما بدا بهما أستاذا، وقد توج زعيما شعبيا بأبهة عظيمة ومع أكاليل وأزهار ومع العيش خائفا من أشراف الرومان، وقد ترك هؤلاء له مدينة رومة بلا نزاع. وقد ظل ريانزي قابضا على زمام الأمور بلا جيش ولا مال حينا من الزمن، وبينا هو يترجح بين المأساة والمهزلة إذ ينال فوزا، وذلك عندما اختير حكما بين الأسرتين المتنازعتين حول موضوع نابل، ولكنه يغدو محل سخرية حينما حرض البابا والإمبراطور على إقامة إمبراطورية رومانية جديدة تحت سيادة الشعب الروماني؛ أي شعبه الخاص، ويخسر كل شيء عندما يعلم أنه لاعب فيتنزل عن سلطانه بعد عهد سبعة أشهر، ويلجأ إلى إمبراطور ألمانية في براغ ويسلم إلى أفينيون ويقضى بقتله، ويكتفى بسجنه، ويطلق بعيد موت البابا.
ويرى البابا الجديد أن يناهض الأشراف الذين عادوا إلى رومة، فيطلق ريانزي، ويضم إليه نائبا من لدنه، ويقبض ريانزي على زمام الأمور مرة أخرى بفضل بلاغته، وعلى ما كان من مرور سبع سنين بين الفصلين فإنه لم يتعلم من خيبة الأمل شيئا غير القسوة والتحزب الجامح، وتمر بضعة أسابيع فيعزل ويقتل في أثناء فراره ابنا لأقل من السنة الثانية والأربعين. وقد استطاع ريانزي أن يوحي في أوج مجده إلى الشاعر الكبير بترارك، إلى هذا الشاعر الحماسي الناظم على المنهاج القديم، فيمجد هذا الشاعر فيه رومولوس جديدا وكاميل جديدا، ومع ذلك لم يلبث هذا الأفاق أن نسي ليعود فيمجد بعد زمن من قبل بايرون وفاغنر، وله تمثاله في رومة، وهذا التمثال صغير، ولا تجده فوق الكابيتول، بل تراه على السفح عند أسفل تمثال مارك أوريل البرونزي.
ويظهر بعد ذلك الحبوط كردينال إسباني خبير بالفروسية وضرب السيف عارف بتقديم القرابين وبتفاسير آباء الكنيسة، ويقضي، بعد جهاد عشر سنين، على سلطان بارونات الرومان المتقاتلين الذين ملئوا رومة بحصونهم المتينة المتعاظمة المبنية من حجارة قصور الأباطرة القديمة، ثم مهد السبيل لرجوع أحد البابوات قريبا. وقد أوجبت المصالح السياسية وقوع انتخابات مضاعفة كما كان يحدث في الماضي غالبا، غير أنه كان لدى البابوين في ذلك الحين من المكان والزمان الكافيين ما يقومان معه بشئون السلطان في آن واحد، وما كان بين الدول العظمى من تباين قومي تجلى في مجموعتين مختلفتين، فجعل هذا مبدأ السيادة العالمية أمرا مستحيلا، وهذا إلى ما كان من عدم اكتفاء أي من البابوات بسلطة روحية صرفة.
وقد دام هذا الانفصال زمنا طويلا، وقد شاهد العالم هذا المنظر غاضبا ساخرا معا، والحق أن وجود بابوين هو من المناظر الهزلية الفاضحة!
وقد تداول عرشي البابوية رجال ماجنون، فكلما مات أحدهم عم الأمل باعتزال البابا الآخر، وكلما انتخب بابا جديد وعد بتنزله عن البابوية إذا صنع خصمه مثله. والواقع أن كل بابا كان يتمسك بالسلطة حتى الممات، ومن العبث ما كان يعرضه أقدم الكليات وأجل الكرادلة من وساطة، فإذا ما لاح الاتفاق قريبا كان أحد البابوين ينكد بوضع الآخر، فيرى البابا الفرنسي المنكد من السعادة أن يعود إلى بروفنسه العزيزة سريعا.
وأخيرا يتفق على عقد مجمع ديني على أن يكون يسوع رئيسه الخفي، وينصب له عرش فارغ، وينتخب المجمع بابا جديدا، ويرفض البابوان القديمان أن يتنزلا، وتتم المهزأة بوجود ثلاثة بابوات !
ويعقد مجمع ثالث في كونستانس وينتخب بابا روماني في سنة 1418 بعد مفاوضات طويلة، وكان الخراب قد أصاب مباني الفاتيكان الرائعة في تلك الفاصلة فأصلحت في عامين، ويدخل الفاتيكان أسقف لا يعتد به، وذلك بعد 110 سنوات من التاريخ الذي غادره فيه البابا الأخير الذي كان لا منافس له.
6
تبصر كنيسة وقلعة بجانب بعضهما بعضا، فتميل إحداهما عن سمت الأخرى فوق ذروة رحبة خفيفة الانحدار، فهذا هو الانطباع الذي يحدث في الغريب عندما يدنو من القديس بطرس والفاتيكان، وهنا هو أقصى شمال رومة الغربي، وهو واقع على ضفة التيبر اليمنى، ويمتد أكبر قسم من هذه المدينة على ضفاف النهر بعيدا من هنالك، وتظهر التلال والحقول والسقوف والأبراج والقباب حول المكان، ولكن مع ميل إلى الأسفل، ويبدو الفاتيكان والقديس بطرس، أول وهلة، مسيطرين بارتفاعهما وأبعادهما وموقعهما وتنوع طرازهما فيذكراننا بقدمهما، ومع ذلك فإن الصدارة لكنيسة القديس بطرس التي ليست أجمل الكنائس، ومع أن الفاتيكان ليس أجمل القصور فإنه أدعى مراكز الدول الحاكمة إلى الالتفات، ولو من أجل دوام هذا السلطان مدة أطول من سواها في التاريخ، مدة تزيد على ثمانية عشر قرنا.
وكان النصارى الأولون قد أقاموا بالقرب من حدود المدينة الكبرى حيث تمتد الحدائق كما في الماضي، وكان هؤلاء قد فروا من ضوضاء العالم كمفكرين ومعتزلين فيقضون هنا حياة هادئة قريبة من الرب ومن الطبيعة، ويفترض أن بطرس قد صلب في إحدى هذه الحدائق حوالي سنة 67، وبما أن القانون الروماني كان يسلم الجثث إلى أقربائها فإن أصدقاء بطرس استطاعوا أن يبنوا له ضريحا، وقد أقام خلفاؤه كنيسة حيث صاروا يدفنون فيها، ويمضي زمن طويل فيسلم الإمبراطور قسطنطين مقاليد السلطة إلى النصارى لما ناله جمع ذوي الأخيلة الصغير هذا من أهمية فيما مضى، ويعتقد أنه شاد في سنة 334 كنيسة كبيرة هنالك، فوق الضريح، حيث لا يزال موجودا.
وينم الصليب الذهبي الذي وضعه لمعرفة ذلك الضريح على تلك الرسالة، وكذلك عن لأساقفة رومة الأولين أن يحيطوا الضريح بصفائح من برونز فحفظته هذه الصفائح من تخريب البرابرة. والواقع هو أن ضريح بطرس قاوم أعمال اللص والتدنيس التي أتتها جيوش البرابرة، جيوش ألاريك وجنسريك، ثم أتتها جيوش المسلمين. وقد تفلت هذا الضريح، في القرن السادس عشر أيضا، من كتائب شارلكن البروتستانية (؟) بسبب الأسوار العالية التي رفعها أحد البابوات حوله على ما يحتمل، أو لما يحتمل من قدرته الحافلة بالأسرار.
وأدعى إلى الحيرة من ذلك ما كان من إفلات بقايا بطرس من رجال الفن، ومن ذلك أن برامانت
20
أراد إقامة كنيسة جديدة للقديس بطرس على أرض أخرى، وما يتطلبه ذلك من نقل الضريح، أو كل ما ينطوي عليه الضريح، ولم يوافق البابا على ذلك عن حرمة تقليدية، ويرى برنيني
21
بعد زمن أن يتلف قديم المباني، فيبدو أقل قوة من روح بطرس، وكل ما استطاعه هو أن يؤذي بالذهب وبأبهى الأعمدة وأغرب الأساطين ذلك المنبر الخشبي البسيط الذي كان الرسول يعظ من فوقه.
ومما وقع اتفاقا أن أخذت كنيسة القديس بطرس تتداعى في أثناء اشتداد الصراع الكنسي أيام الانفصال، ويعلم من تقرير الخبراء أن الجدار الجنوبي قد غلظ عن هبوط نحو ست أقدام في أساسه، وهنالك عزم أحد البابوات على هدم الكنيسة عن 1200 سنة من العمر تقريبا، ولا يشتمل البناء القائم في أيامنا على حجر من الكنيسة القديمة التي حفظت بقاياها الهزيلة في متحف وضيع.
ومع ذلك فإن كنيسة القديس بطرس الجديدة، التي لم تعان تغييرا منذ سنة 1626، قد عرفت تاريخا دراميا
22
في السنوات ال 120 التي دام إنشاؤها فيها، فقد انطوى البناء على طموح البابوات وتنافس المتفننين وتبدل الأذواق وسلطان المال قبل كل شيء. وقد تنازع أعظم متفنني عصر النهضة، رفائيل وبرامانت والإخوة سانغالو، مدة أربعين سنة حول الشكل الذي يكون عليه البناء فلم يحققوا شيئا عمليا، ثم يدعى ميكل أنجلو فيبدي رأيين رائعين أحدهما متم للآخر، وذلك أن تكون القبة والبناء على شكل الصليب الإغريقي، ويحيط خياله بمعبد ذي نسب منسجمة وطول وعرض متساويين، وذلك مع مركز مشرف على ضريح بطرس، مع قبة ذات ارتفاع وقاعدة لا تمكن مجاوزتهما فتلوح أنها سابحة في الهواء. أجل، إنه وضع التصاميم، غير أن مائة دسيسة حالت دون تنفيذها، ولم يزل مشغول البال حول رمز هذه القبة حتى آخر حياته، فلما مات لم يكن قد بدئ بشيء.
وبعد خمسين سنة من تنفيذ التصاميم وخمس وعشرين سنة من وفاته، أقام بول الخامس القبة، التي تعد أعظم تراث لميكل أنجلو، وفق التصميم تقريبا، ومع ذلك فإن روحا شريرة استحوذت - كما يلوح - على خرائط البابا بعد قرن من ازدهار دور النهضة فصارت كلاسية الأشكال تورث ذعرا، ففرض البابا صحنا للكنيسة مستطيلا مذكرا بالصليب اللاتيني، وقد حمل على مطل القسم فأكسب البناء بذلك ما لمائة كنيسة أخرى من شكل معتاد، وعادت القبة العظيمة لا تبدو في مكانها المناسب.
واليوم، أيضا، لا تزال كنيسة القديس بطرس تبدو، خارجا، مجردة مما توحي به القباب القوطية من الروح الدينية، كما تبدو في داخلها عاطلة من الروحانية التي تنبعث من الزجاج الملون المتميز بعضه من بعض بقطع، وهي مكان محفل رسمي حيث يلتقي في أيام العيد أربعون ألفا من أهل رومة الهيف الظرفاء. وتلقي كنيسة القديس بطرس، كما تلقي نصرانية القديس بولس، حس السلطان في النفس أكثر من أن تثير روح الاحترام، ولا يكشف رمز الخلود إلا عند الاقتراب من المدينة وحين تبرز القبة المهيمنة عليها من مسافة بعيدة.
وللفاتيكان، الذي يصل البابا منه إلى كتدرائيته بدهليز، تأثير أكثر تنوعا وفتونا، وإذا عدوت بعض الفواصل وجدت البابوات قد أقاموا به منذ أربعة عشر قرنا، وتدلنا مبانيه المشتبكة على أنه أقدم من كنيسة القديس بطرس بألف سنة، وهو يشتمل على كثير من الأسوار والمعاقل والمتاريس والسراديب والساحات المحصنة، واليوم لا يقبل الزائر إلا راجلا فيتاح له بذلك أن ينعم النظر في أعجب قلاع العالم. وقد أدى عدم وجود تصميم إنشائي شامل إلى سير كل من روح بعض البابوات الحربية، ومن الروح الشعرية الرعائية لدى آخرين منهم، ومن الروح الإنسانية عند زمرة ثالثة منهم، طليقة في مجراها، وتقوم قصور ذات أبراج بجانب حدائق أنيقة كما ترتفع مكتبات داعية إلى البحث.
وعاد البابا في زماننا لا يكون أميرا زمنيا على الرغم من مدينة الفاتيكان المرتوقة، ويلوح أن هذه المباني قد خرجت من سحر أساطير الأولين، وقد ظل كل شيء في مكانه، وذلك كالحصون المتهدمة التي ترى في غير محل بأوروبة، وذلك كالشوارع والمتنزهات القائمة في مكان الأسوار التي اختفت من باريس، ويرفع الرأس منكرا حين التفكير في أن جميع هذه الحصون ووسائل الدفاع كانت قد أقيمت لحماية قس معتزل.
ومن المؤثرات الغريبة ما نشعر به في رداه الاستقبال قبل مواجهة البابا، ويكون أول ما نبصر في الأسفل، وأمام الدرج، كتيبة الحرس المؤلفة من سويسريين ضخام لابسين ثياب المشاة المرتزقة الصفر والسود، وهم ما فتئوا منذ أربعمائة سنة يحملون بأيديهم حرابا من غير أن يحاربوا بها منذ قرنين على الأقل، وهم يتكلمون كلمات ذات مقاطع واحدة مبدين من الصمت البارد ما يميز به السويسريون.
وتجد في الأعلى خمس رداه أو ست رداه ذوات سقف متساوية ارتفاعا واتساعا وفضاء، وكل شيء مزخرف بالحرير، وتبصر هنالك كراسي مصفوفة على جوانب الكثيف من الزرابي كما لو كانت غلمانا، ولا ترى هنالك منضدة، وتجمع الأبواب العريضة المزدوجة جميع تلك القاعات في رواق واحد، وتسدل الستائر، وتقوم المصابيح ذوات النور المنتشر مقام ضياء البحر المتوسط ذي الشمس الجنوبية، وتتجلى أسطورة من ألف ليلة وليلة في علبة مسحورة، ويأتي ويذهب من غير ضوضاء ضباط الحرس البابوي الذين هم من أبناء طبقة الأشراف الرومانية القديمة والذين هم مزوقون بالذهب والديباج، وذلك على حين يظهر قسيسون ويتوارون متسارين.
وإيوانات البابا مفتحة، فإذا ما دعيتم في آخر الأمر أمكنكم، في بعض الأحيان، أن تسمعوه يكلم زائريه في الغرفة المجاورة على مهل، وقد نقص السلام بالركوع ولثم الخاتم إلى أصغر مدة، ويكون البابا واقفا وحده غير جالس على العموم، وتبصر بعد المقدمة، وبعد انتظار الأسطورة، أن الاستقبال الأصلي أقل أبهة وأكثر بساطة مما كان عليه الاستقبال في البلاط الإمبراطوري القديم، وبينا ينصت لكلام البابا يسمع وراءه صليل خفيف لسيوف فضية لم تستل قط، كما يسمع طنين المهاميز الذهبية، وذلك مع نشر شعاع للأسطورة في عصرنا الموطأ، ولا يجد الزائر نفسه داخل قلعة كانت تهتز بصوت المدافع فيما مضى.
وعلى العكس لا يزال جميع فن إيطالية قائما في كل مكان من هذا القصر، ولا يستطيع متحف أن يباري كل ما أبدع هنا، بين سنة 1450 وسنة 1650 على الخصوص؛ وذلك لأن الذي ترى هنا ليس متحفا، بل تعبير عن الحياة والتقوى اللتين أنعشتا مناوبة، وفي آن واحد أحيانا، ذلك القصر وفق روح الأزمان المتقلبة. أجل، قد يكون بعض المتاحف أغنى من رداه الصور والمنقوشات في الفاتيكان كمتحف فلورنسة ومتحف مدريد مثلا، غير أنك لا تجد في مكان آخر مثلما تجد هنا من الإنتاج الفني، حتى إن قصر دوكال في البندقية يأتي في الدرجة الثانية، وإننا نستند في هذا إلى تحقيقنا الخاص.
وأدعى الأمور إلى العجب هو تسامح الكنيسة التي يبرز سلطانها هنا، وما كان المتفننون، في أي مركز ديني آخر من مراكز البحر المتوسط، ليجرءوا على إبداء ما أبدوه هنا. نعم، قد أغضت معابد الإغريق عن إظهار جمال الجسم البشري العاري، نعم، كانت التيجان الذهبية تسطع حول رأس أباطرة بزنطة، غير أنه كان يعبر هنالك عن عقائد الدين ومظاهره، وإذا كانت الإشارات والرموز هي التي تمثل الإله الخفي في الصلوات
23
والمساجد؛ فذلك لأن عدم إدراك الأبصار إياه من تعاليمها الوثيقة ومن خيلائها وفلسفتها.
وفي الفاتيكان استطاعت الحوريات والأشخاص ذوو الأبدان الوعلية أن تعبث وتلهو وأن تبدي ديانا فتونها، ويبعث رفائيل بريشته صور الإغريق الوثنية، وتبصر بجانبها يسوع واقفا كملك عار في مملكة الأموات، فيعد هذا من أوابد ميكل أنجلو، ويمسك الأطر المحيطة بصور العهد القديم الجدارية غلمان يشعون جمالا يونانيا، ويهيمن الغواني على الجنة وتبتسم خليلة البابا بورجيا لنا من فوق جدار رواق فتلوح أنها العذراء كما تبدو ابنة هذا البابا بعيدة قليلا، ويجتمع جميع هذا تحت رمز واحد، تحت الصليب الذي مات عليه يسوع وبطرس ، ولما صدحت فرقة الفتيان تحت قبة القديس بطرس الواسعة تلاشت أفكارنا الدنيوية ونقلنا إلى سماء يجلس فيها هذا القديس بجانب مخلصه.
7
يحاول أن يدعى البحر المتوسط بحرا تجاريا في بعض الأحيان، ولكن أليست جميع البحار كذلك؟ أولم ير مدى المياه الذي لا حد له معارك أقل من السفن التجارية ومراكب حربية أقل من المراكب التجارية؟ وما في البر من ضيق المساوف ومن تصادم المصالح أدى إلى اصطراع ملايين الآدميين في كل زمن، وما يسمعه المستأجر في بيت إجارة من خلال الجدار لدى جاره الصخاب، وما يعدده فلاح من شكاوى ضد فلاح آخر يجاوره حقلا، وما يصوغه شعب ضد شعب آخر يقيم بما وراء نهر مجاور، أمور تتوارى في رحب البحر الذي لا نهاية له، وما كان لأحد المراكب أن يضر الآخر، وما كان للأول أن يقوض الثاني إلا عرضا أو حربا، وما كانت حرية البحار التي أخذت تتقدم حتى في القرون الوسطى ليمكن أمرها إلا لأن البحر ملك الجميع لا ملك أحد.
وفي ذلك يتجلى سبب ما يرى في الملاح من اطمئنان وحس ديني أكثر مما يرى في الفلاح، وليس على الملاح أن يحارب في سبيل الحرية ما دام لا يجد من يجادله حولها، والحرية هي خير طبيعي يتمتع به كل صباح حينما يصعد في السلم الحديدي المؤدي إلى حجيرته على سطح المركب، وذلك ضمن ما يحيط من نور وفضاء، وإذا ما ابتغى ذلك في البر وجب عليه أن يلجأ إلى الغاب أو الصحارى حيث يكون وحده، وإذا ما طلبتم الرب في الكنيسة وجدتم مئات الوجوه تنظر إليكم، وذلك على عكس ما في البحر؛ حيث يجب عليكم أن تستعملوا المنظار حتى تبصروا أثر أناس آخرين، ولم يتفق لملك أو لطاغية من الحرية ما اتفق لربان على جسره الضيق.
وتوجد الرزم والبراميل التي نظم السفر من أجلها في أسفل المركب وفي قعره، ولم تعرف السفن المعدة للمسافرين وحدهم في غير الأزمنة الحديثة، حتى في أيامنا يكسب من وسق مركب ما وراء المحيط مال أكثر مما يكسب من نقل المسافرين، ولا غرو، فمعظم هؤلاء من رجال الأعمال، فمن النادر أن تجد بين مائة سائح أكثر من رجل يترحل بحثا عن الشعوب أو تمتعا بمناظر أو كسبا لقلب لا مال.
ويكشف البحر المتوسط، وهو أصغر جميع البحار، عن سجيته كبحيرة داخلية بما هو واقع منذ القرون القديمة من شق ما لا يحصيه عد من صغار المراكب وكبارها لعبابه وسفرها بين شاطئ وشاطئ ووصلها ما بين البلدان وقيامها بتبادل المنتجات التجارية وتبادل الحضارات معا، ولا أحد يستطيع أن يقول أي بلاد البحر المتوسط كان يجب أن يعد من المستعمرات؛ وذلك لأن الإسكندرية وقرطاجة قد نشأتا قبل بزنطة والبندقية، وقد أنعمت أبعاد البحر المتوسط الضيقة على الملاحة برسالة لم تتفق للبحار المحيطة الكبرى، وكان البحر المتوسط قد خلع على التجارة والحضارة شكلا رائعا ناميا قبل اكتشاف أمريكة بطويل زمن، وقبل أن تعرف الصين والهند معرفة حقيقية.
وكانت إيطالية على رأس بلاد البحر المتوسط، وكان الطلاينة أول صيارفة أوروبة وأكبرهم منذ قضت الحروب الصليبية بضرورة قيام نظام جديد للمبادلات، وتكاد تكون إيطالية مصدر جميع التعابير الصيرفية التي نستعملها اليوم كالكلمات:
Giro (الحوالة)، و
Lombarde (القطع)، و
Conte corrente (الحساب الجاري)، و
Credite (الاعتماد)، و
Salde (الرصيد)، و
Banc rotta (الإفلاس). وفي إيطالية اخترع حساب الدوبيا،
24
وكان البنك في أول الأمر
Banco ؛ أي منضدة طويلة يدفع المرء عليها نقوده للمبادلة بعد طرح ما يجب استيفاؤه، ويجمل بكبار الصيارفة الذين لا يزالون يعتقدون سيطرتهم على العالم أن يذكروا في الحين بعد الحين أصل مهنتهم الوضيع. وتعد إيطالية أول بلد دفعت فيه فوائد عن المال على نطاق واسع، وقد اضطر البابوات الذين كانوا يحتاجون إلى المال، دوما، إلى رفع الحظر الكنسي عن قبض الفوائد أو دفعها، وقد رهنوا لدى البنوك الإيطالية عدة ضرائب وأعشار في مقابل فوائد بلغت ملايين كثيرة.
وبما أن الاعتماد هو الثقة بأشخاص تفترض درايتهم أو قدرتهم فإنه كان يسهل منح البابوات والملوك إياه، وكان صغار المرابين يصبحون من كبار الصيارفة عند ارتقاء الأسر المالكة الكبرى ، فيعلن هؤلاء الصيارفة استعدادهم لخفض معدل الفائدة المئوي في مقابل لقب شرف، وكلما كان هؤلاء الصيارفة يوغلون في أعمال العظماء من الأمراء الإقطاعيين كانوا يزيدون نفوذا سياسيا، ولما أريد إعطاء اسم لاستغلال شعوب كاملة بالمكوس والضرائب اخترعت أسماء جميلة منذ زمن مكيافيلي كضرورة الدولة وحق الدولة والسياسة الرشيدة، والواقع أن هذا دل على خاتمة كل أدب نصراني، ويزدري الأمراء والطغاة بعضهم بعضا أقل من ازدرائهم الجمهور الذي يقتل نفسه في سبيلهم حتى عند اشتداد اصطراعهم، ويصبح رجال المال رسلا ووسطاء بين أعداء أقوياء من غير أن يشعروا بأي نفور من خيانة بلدهم الخاص، وهكذا صار ذوو النشاط المحلي من أبناء صغار التجار صيارفة مشهورين في أممهم كما صار حفدتهم ماليين بين الأمم.
وكان التاجر الإيطالي من الحذق ما جاوزت معه شهرته نطاق البحر المتوسط، ورهن ملوك ألمان وإنكليز دخلهم القادم واحتكاراتهم ورخصهم لدى صيارفة في ميلان وفلورنسة، وكان الملك إدوارد اللندني مدينا بمبالغ عظيمة أيام إفلاس كبير وقع في البندقية سنة 1345. وقضى الإنكليز وقتا أكبر مما قضاه الطلاينة حتى يكونوا تجارا صالحين وملاحين، وكان من العادة في بلرم، حتى في عهد فردريك الثاني، أن يرهن إصدار القمح الصقلي عند فلورنسة.
وكما أن نظام الاعتماد قد نشأ عن نظام البنوك، نشأت الشركات المغفلة الأولى عن النظام التجاري الاستعماري، والتجار البندقيون والجنويون هم الذين دحروا في هذا المضمار منافسيهم اليونان والعرب من جنوب البحر المتوسط وشرقه، وهم قد بلغوا من المخاطرة ما كانوا يرسلون معه سلع البحر الأسود وطرابلس إلى إنكلترة، ومع ذلك لا تعد الشواطئ التي يحتلونها من المستعمرات بالمعنى الصحيح ما لم تكن غير مأهولة، ومع ذلك فإن ما أقامه هؤلاء الأجانب من وكالات تجارية قد تقدم كثيرا فظهرت مدن بندقية في موانئ آسية الصغرى مع مجلس قضاء وقناصل وإدارة قومية خاصة بها، وما عن للبندقية من وجوه للسيطرة مقنعة صلح منهاجا لإسبانية وقلد من قبل مستعمرين هولنديين وإنكليز حتى القرن الثامن عشر، وقد كان هذا الدور مقدمة عصر النهضة ثم مقدمة النظام الاستعماري.
وما كان من جمع بعض الناس لثروات واسعة بسرعة بعد الحروب الصليبية مدين قبل كل شيء للعوائد الكبيرة التي غدت متعذرة بسبب انقضاء دور الاحتكارات الخاصة في أيامنا، أجل، كانت مهالك الحرب وتقلبات الحكم شديدة على أصحاب المراكب والملاحين، غير أن التجار أساءوا استعمال مبدأ الخطر. وكان أهل فلورنسة، إذا ما باعوا نسجهم من نيس أو من عكا، يضاعفون ثمنها ثلاث مرات في بعض الأحيان، وكانوا يتعاطون في الوقت نفسه تجارة الرقيق غير مقيدين كما لو كانوا من الأغارقة أو من الوثنيين، وكأن أحد الرسل لم يظهر في بلاد البحر المتوسط ولم يدع الناس إخوانا، وكأن ممثل هذا النبي لم يعظ بالإنجيل في كنيسة القديس بطرس برومة.
ولم يكن بين مدن إيطالية ما هو أمهر من فلورنسة، ولم يكن من المصادفات أن أنجبت هذه المدينة بأحسن التجار والدبلميين، وقد غدا أمثال كاردي وبالدي وبيروزي من العظماء الذين يذكرهم أهل البحر المتوسط باحترام كالذي يذكر به الأمريكيون صيارفتهم في نيويورك. وقد كان آل ميديسيس أول من انتقلوا من عالم المال إلى عالم السياسة فظل الحكم قبضتهم في فلورنسة ثلاثة قرون، وقد قاموا في القرن الأول من سلطانهم بشئون الحكم مع كثير حكمة وعطل من الألقاب، ثم أداروا دفة الحكم في القرنين التاليين بلا حكمة ومع إفراط في حمل الألقاب.
وكان كوم دوميديسيس (1389-1464)، وهو أهمهم، ابنا لتجار نافذين ومستشارين في فلورنسة، فاكتسب ثروته العظيمة في مجمع كونستانس، على الخصوص؛ حيث رافق البابا. ومن الطليان والألمان أناس اغتنوا بهذه الأعمال السياسية، ولكن ما هو السبب في عدم تسمية أحد من آل ألبزي وفوجر «أبا الوطن» كما اتفق لكوم دوميديسيس؟
إن الجواب سهل، وهو أن كوم قد أحب الحرية وناضل عن الشعب وأجار الفقراء، وهو قد قضى حياة مملوءة توفيقا ونبلا، وطهرا تقريبا، حتى بدء عصر النهضة، ولا ينبغي أن يقاس به أحد من أصحاب الملايين في عصرنا على ما يبذلونه من جهود في إراحة ضمائرهم بإنشاء أوقاف خيرية ، ولم يترك هذا الميديسيسي شيئا لأبناء وطنه، وما فتئ صيته يذيع في غضون القرون مع ذلك، وهو مدين في شهرته هذه لعدم جمعه ثروته ظلما وعدوانا بحرمانه الناس وسائل عيشهم.
وظل كوم سيد فلورنسة أربعين عاما فأوجب تسجيل جميع الأملاك العقارية، وهو قد استعان بهذا السجل في فرض ضرائب ثقيلة على الشرفاء وضرائب خفيفة على الدهماء، وهو قد عزل الجباة المرتشين وأقرض، أو أعطى، أبناء بلده مالا، وذلك عن رغبة رجل في الكيان أكثر مما في الظهور، وهو قد احتمل صامتا نفي سنة على حسب العادة، فلما عاد لم يحاول الانتقام، وهو يرى في نقش بارز لفيروكيو صاحبا لملامح شائب لابسا ثيابا بسيطة وعمرة كبيرة، وكل شيء ثقيل فيه، فله أنف طويل حاد معقوف وأذنان كبيرتان، غير أن ملامحه تنم على الجد والفطنة والانسجام، وكان متقدما في السن عندما بدأ بدراسة أفلاطون، وعرف أكابر المتفننين فكانت له طلبات لدى دوناتلو وغوزولي، وعلى ما كان من حبه التردد إلى رواق مغناه الرائع في كاريجي، حتى يحاور أناسا من الشعراء والفلاسفة، ظل رجل أعمال برجوازيا عارفا في عامه بما نال من ربح في العام الماضي معرفة تامة.
وكان حفيده لوران السخي طاغية جبارا، ويبدو هذا الحفيد في الصورة الجدارية التي رسمها شرلانداجو ذا فك بارز وأنف عريض مسطح وشعر كثيف جعد ونظرة متقصية غير هادئة وفم متأهب للكلام على الدوام، وهو لم يكن تاجرا بل متفنن، وما كتبه من قصائد رائعة بنفسه وما كان من ولعه بالموسيقى والمعرفة والحياة الذهنية والحب والصداقة والمغامرات أمور كانت تنعش هذا الوارث المسقام وتحفزه إلى العيش بأحر مما يقتضيه الحذر، ويوجد شبه غريب بين قناعي لوران وبتهوفن المأتميين.
وكان مزج كلتا الديانتين مثل فلورنسة الأعلى في ذلك العصر، وكان يدعى «لاهوت أفلاطون وفلسفة بولس» مع شيء من الدلال. وقد صور بوتيشلي فينوس قديسة وعرض نساء نحيفات على أنهن من الإلاهات، وقد سمح له في البلاط أن يجل أثر دانتي وبوكاس معا. وقد ساد جو غريب من الحس والشهوانية في السنين التي سبقت ظهور رفائيل، ويتألف من هذا عصر انحطاط أكثر من أن يتألف عصر نهضة حقيقي.
ثم يأتي سافونارول، هذا الدومنيكي ذو الحلة البيضاء، الذي كان ينبئ القوم بما يرى في الليل من رؤى والذي نبأ بموت لوران، وهو، مع اشتعاله ضد مواكب آل ميديسيس المقنعة المعربدة، لم يكن أقل مسرحية عندما سار على رأس موكب مؤلف من فتيان وفتيات مكللين ليحرقوا باطل الأدوات في جميع المنازل منشدين: «عاش يسوع مليكنا!» ويزعم أن لوران دعاه إلى فراش موته، وهذا غير صحيح، والواقع أن لوران لم يذعن لهذا المتعصب قط. ويموت لوران، ويقبض سافونارول على زمام فلورنسة خمس سنين؛ أي إلى أن خسر كل نفوذ بسبب حبوط ما سعى إليه من الشهادة، وينكل به نكالا شديدا، ويشنق وتحرق جثته في الموقد الذي كان قد أقامه ليقذف فيه الأشياء الموصوفة بالأباطيل كالمرايا والستائر والمعازف والشطرنجات، وكمؤلفات بترارك أيضا.
وظهر من آل ميديسيس بابوان، وكان ليون العاشر أحدهما، ومع ذلك فإن ما اتصف به كوم من حلم كريم وما اتصف به لوران من سناء نفس ولين عريكة لم يكرر قط، ومن العبث أن حاول خلفاء لهما سخفاء تحويل مال أجدادهم وأهليات أسلافهم إلى ألقاب وتيجان دوكيات.
8
بينما كانت الجمهوريات والإمارات في إيطالية يمزق بعضها بعضا مقدارا فمقدارا، كان توحيد كل من بلدي البحر المتوسط في المستقبل سائرا في سبيل التحقيق، وقد سلكت فرنسة وإسبانية طريق إنكلترة فأصبحتا دولتين قوميتين في القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر. وكان المثل الأعلى الروماني العام الذي تقمص البابا والإمبراطور مناوبة قد زال، وعادت اللغة اللاتينية الجامعة لا تستعمل خارج الأديار، وفرضت اللغات القومية حتى على الجامعات ولم تنشب إيطالية المضطربة أن وجدت نفسها في سواء اللغة الدارجة.
وقد أعربت فرنسة، قبل كل شيء، عما لها من مبدأ حول الدولة في عهد بعض الملوك الأقوياء. أجل، كان آل كابي القدماء ضعافا وكانوا دون ملوك الألمان مقاما، غير أن المبدأ الجرماني مال إل الأفول بعد آخر عاهل من آل هوهنشتاوفن، وقد يعد رمزا ما كان من بقاء ملك فرنسة، لويس التاسع، حيا عشرين سنة بعد موت إمبراطور ألمانية فردريك الثاني.
ومن الغرابة أن كان لويس، الذي نعت بالقديس، رجوليا مختالا جميلا واثقا بنفسه، وقد كان من حسن الصلة بمنافسه فردريك ما طلب معه هذا الأخير وساطة ملك فرنسة حين خلعه، وقد أبدى هذا الأخير من التسامح تجاه ألمانية ما ردته مضاعفا إليها.
وأراد ملك فرنسة، الذي أشير إليه قديسا، أن يقوم بحربه الصليبية جادا بنسبة هزل فردريك في أمرها، ومع ذلك ظهر أقل حظا من هذا العاهل الألماني، وذلك أنه وقع أسيرا في غزوه الأول للأرض المقدسة، وأنه مات بالطاعون في غزوه الثاني.
ووطن خلفاؤه أنفسهم على العمل في سبيل المبدأ القومي، واستحق فليب الجميل لقبه، ولم يكن لهذا الملك الجليل المكار الغدار الطيار، الذي هو ضرب من الملك الشمس قبل دور الأدب، غير مثل عال واحد، غير فرنسة، وهو قد كافح طبقة الأشراف الإقطاعية تعزيزا للدولة بموظفيها، وهو قد احترز من البابا أيضا فوضع ضرائب ضده، ويناهض البابا نفسه هذا الحفيد بعد أن أدرج الجد في عداد القديسين، ويعاني البابا من الغصب في أثناء الاضطرابات التي عقبت ذلك ما لم يعانه أسلافه، وكان لا بد من تدخل أهل رومة نيلا لحرية هذا الشيخ البالغ من العمر خمسا وثمانين سنة، ويمكن عد هذا الحادث رمزا لدول العصر الناشئة، ويذهب البابا الفرنسي الجديد ليقيم بأفينيون مفتتحا بذلك دور ما دعي إسارة الكنيسة.
ويمكن إيضاح الحال التي كان يتمثل وضعه بها ملك مطلق في القرن الرابع عشر بالصور التي رسمت حوالي سنة 800 في القسطنطينية، لا في ذلك الدور بباريس، وذلك لما يرى من انعقاد مجلس لتمثيل الصعود، فتتخاصم زمرتان من الرجال في أسفل الصورة وبالقرب من مقعد، ويجلس فوق ذلك ثمانية رجال معا، وتشاهد جماعات منفصلة، وينظر الأشراف والإكليروس، ويعرف رجال الدين هؤلاء بقلانسهم العالية، ويعرض كل واحد من الأساقفة أسلحة آله، وفي الأعلى تبصر الملك جالسا على العرش كالرب فوق فرق سماوية.
ولم تحول حرب مائة السنة ضد إنكلترة غير قسم من الكتائب الفرنسية عن البحر المتوسط، وقد اجتذبت الحروب الصليبية، وما اشتعل بعد زمن من الفتن في إيطالية، أساطيل فرنسة الناشئة نحو الجنوب، ولما أصبحت مصاب نهر الرون قبضة فرنسة حوالي سنة 1480 اكتسبت فرنسة بذلك معقل مرسيلية الساحلي العظيم، وما كان يتقاطر من الحرير الخام على ليون منذ زمن طويل وقع بين أيدي الفرنسيين نهائيا، وبلغ أحد صيارفة مونبليه من القدرة ما اضطرت البندقية وجنوة معه إلى التضافر على إسقاط هذا المديسيسي الفرنسي.
وكانت إسبانية أعظم مزاحمة لفرنسة الناهضة، وقد جاهدت قرنين لتوحد مختلف شعوبها، ومن يلق نظرة على الخريطة يجد أن شكل شبه الجزيرة التعس يسفر عن صراع بين جبليي الداخل وسكان السواحل بحكم الضرورة، ومن يك في أضيق محل بإيطالية الظريفة، فينظر من فوق جبل بالقرب من نيكاسترو بالجنوب مثلا، يمكنه أن يرى في يوم صاف كلا البحرين اللذين يبللانها، وعلى العكس تجد معظم السكان في إسبانية منفصلا عن البحر بجبال عالية ومسافات واسعة، فيبدون حاقدين على الشاطئ، وبهذا يفسر الصراع بين الشعبين اللذين هما أقوى شعوب ذلك البلد.
وبما أن مملكتي قشتالة وليون مرتفعتان، ويتألف منهما مركز إسبانية الشمالي الغربي وتفصلهما جبال شاهقة عن المحيط الأطلنطي، فإنهما حاربتا في القرون الوسطى مملكة أرغونة السهلية الممتدة من جبال البرانس حتى الوادي الكبير والمشتملة على منطقة قطالونية الحاضرة تقريبا، وكان يفصل بين قشتالة وأرغونة من ناحية الشمال مملكة نبرة المتاخمة لغسقونية الفرنسية، ومن هنا أتت جميع الأسماء الجميلة التي خلدت بأغاني الشعراء الجوالين، ككونتات رونسيفو وروسيون وكأمراء بمبلونة وبربنيان وطركونة.
ومع ذلك كان جميع جنوب شبه جزيرة إسبانية؛ أي ما يعدل نصفها تقريبا، ملك المغاربة حوالي سنة 1200، وكان هؤلاء القوم مزيجا من العرب والبربر الذين حاول الإسبان في ثلاثة قرون طردهم على غير جدوى، وبهذا يفسر عدم تسامح الإسبان الديني كما تفسر مظالم محاكم التفتيش واضطهاد اليهود الذين كانوا ذوي مناصب مهمة لدى المغاربة . وعلى من يود أن يدرك السبب في سهولة حل هذه المسائل في إيطالية على الرغم من الغزو الأجنبي، وفي أنه كان لها نتائج بالغة الشؤم في إسبانية، أن يعرف أن العدو القومي في إسبانية كان عدوا دينيا أيضا، وأن الحياة الذهنية في إيطالية كان يمكن أن تتفتح عن نهضة شبه وثنية لما ليس هنالك من حاجة إلى غور بعيد في دين عام شامل غير مجادل فيه، وعلى العكس تبصر هذا الدين، الذي كان لا بد من الدفاع عنه في إسبانية، قد دخل دائرة التعصب.
وما انفك فرسان الإسبان يستلهمون مشاعر خالصة واندفاعات دينية بسبب هذا الإيمان، ويمثل السيد بانفعالاته صورة مثالية بالغة حيوية كالتي يمثلها دون كيشوت بسخريته بعد حين، ومع ذلك لم يكن كلا الرجلين عنوان البطل الإسباني القومي. ويرد هذا الشرف إلى دون جوان الذي قام بأروع عمل تاريخي بين الكافرين، ويقام لروحه قداس في نوفمبر من كل سنة في جميع إسبانية منذ صار يحترق في جهنم، ومن هنا يلوح أن الأفضل لسلامة الروح أن تغوى نساء كثير أكثر من أن يظفر برجال غير قليل.
وقد أصاب إسبانية خير كبير من اعتداء الأجنبي، وذلك لاتحاد الإسبان ضد الغازي خلافا لما اتفق للطليان. وكان بعض أهل قشتالة وأرغونة عدوا لبعض فوحدا في سنة 1236 جهودهما نزعا لقرطبة من أيدي المغاربة، ولا اتفاق بين المصادر التاريخية حول إحصاء ما أدى إليه المغاربة والكنيسة من تخريب، ويظل مئات الألوف من الهلكى مجهولا في تاريخ الحروب، وتدل الأرقام دلالة باردة على المصير، ونقرأ في كتب التاريخ، كما نقرأ في صحيفة ما، أرقاما مع كثير من الأصفار من غير اكتراث لما يدل عليه ذلك.
وعلى النقيض تجد ذوات القيم التي تفنى مع الرجال تسجل في ذاكرتنا، فإذا قرأت مثلا أن جميع الشعب البزنطي لبس ثياب الحداد حزنا على فقدان هيلانة المرمرية، وإذا ما رئي استنساخ لأتينة الضائعة أو لرنبرانت المحترق، وإذا ما سمع حديث عن قصائد زائلة لأرسطو وملتون، وإذا ما ذكرت مكتبة الإسكندرية والبارتنون وكنيسة رينس؛ أي هذه الآثار التي أبيدت بالنار أو بالمدافع، فإن ألم الأعقاب من أجل زوال هذه الأوابد يظل حيا حارا قرونا كثيرة، والواقع أنه يؤسف على الآثار الخالدة أسفا أعمق مما يؤسف على الآدميين الهالكين.
وقد حزن على زوال مكتبة قرطبة التي كانت في القرن الثاني عشر جامعة لحكمة البحر المتوسط، وقد مثل اليهود دورا كبيرا في هذا المركز الثقافي، ولكنهم اضطهدوا من فورهم، حتى إن ابن ميمون الذي هو أعظمهم فر مضطرا إلى فاس ثم إلى القاهرة، ومما قيل عنه إنه تعلم المذهب الإنساني في قرطبة وتعلم الإنسانية في أفريقية، ويفلس أخوه بعد حين فيضطر الفيلسوف إلى التكسب فيختار مهنة الطب ابنا للأربعين من عمره، ويمهر في الطب فيختاره السلطان طبيبا خاصا له، ويفسر ابن ميمون التلمود فيقابل بين تعاليم أرسطو والمذهب اليهودي كما صنع سان توما الأكويني مفسرا مذهب يسوع، ويسبق ابن ميمون عصره عدة قرون من حيث عبادة العقل والتسامح الديني.
وكان هذا التسامح من ناحية واحدة، فقد أقامت إسبانية آلة التعصب بمحاكم التفتيش التي هي أشد ما عرف التاريخ توحشا، وما كان الأغارقة ليعرفوا اضطهاد دين أجنبي، ولا ترى أثرا لمثل هذا الاضطهاد في غير القرن الرابع، وذلك بحرم يعقبه رد المحروم إلى السلطات الزمنية، ولم يصنع قسطنطين غير إحراق كتب الآريين والتلمود ثم كتب أرسطو، ولم يكن الملاحدة ليجازوا بغير حج قسري أو صوم أو مصادرة أموال، وذلك إلى أن هذه المصادرة كانت فاتحة أعمال تنم على الأثرة ما آل نصف الأموال التي تصادر إلى الكنيسة والنصف الآخر إلى القاضي.
ولم يبدأ بالعود إلى الطبائع الوحشية إلا بالتعذيب الذي اقترفته محاكم التفتيش، ويأذن البابا في تعذيب المتهم في سنة 1252 للمرة الأولى، ويعقب ذلك تعذيب الشهود الذي هو أعظم خطرا لإمكان إثبات أي شيء بهذه الوسيلة، ويثور الشعب ويقتل أحد قضاة محاكم التفتيش، ويمنع ألفونسو التعذيب، ويقول بالتسامح، فينال لقبا كريما، ينال لقب «الحكيم».
ويلتهب البابوات غيظا من هذا التسامح، ويحرض أحدهم الملك على العرب ، ويحرضه آخر على اليهود، ويعقد مؤتمر في فينة فترتفع أصوات بالشكوى من جهر المسلمين بنعم الله من فوق المآذن، وما عقد في القرن الرابع عشر من مجامع دينية أسفر عن إباحة أولى المذابح التي يعافها الشعب باطنا، ويعارض جميع الإكليروس الإسباني الملك المتسامح، فيقيم مواقد لإحراق الكتب في بدء الأمر، ثم يحرق أماكن العبادة، ويذبح من ليسوا نصارى.
ولا شيء يسود وجه الإنسانية أكثر من إكراه أناس على انتحال دين ليس دين آبائهم أو ليس دينا اعتنقوه عن عقيدة، وفي سلمنقة وحدها بلغ عدد من حمله الإكليروس الإسباني على العماد، حوالي سنة 1390، 11000 شخص، ويعد ما ذهب ضحيته جميع اليهود الذين رفضوا العماد من التقتيل والشغب فيما بين سنة 1450 وسنة 1470 نماذج لعصرنا الكئيب، ويسود اليهود «المهتدين» الذين دعوا فيما بعد ب «المارانوس»، كبير ارتباك، وذلك أن السبل مهدت لليهود بعد العماد كما بدا، فغدوا قادرين على تقلد أي منصب كان، وأن الحقد عليهم زاد بدلا من أن ينقص لظهورهم مزاحمين فيما بعد. أجل، بشر بصفاء الدم، غير أن هذا صار أصعب من قبل بعد العماد على نطاق واسع.
وما وجه إلى النصارى المرتابين من مظالم محاكم التفتيش في البداءة أصاب اليهود بعد فتح غرناطة. وقد صارت محاكم التفتيش نظاما إسبانيا خالصا؛ وذلك لأن الملك فرديناند عاد لا يود أن يقاسم البابا ما يصادر من الأموال. وقد نظم الاضطهاد الإسباني تنظيما مستقلا استقلالا تاما؛ وذلك لأنه كان يسمح في رومة بالكتب الممنوعة في إسبانية مثلا، وكانت دولة البابا تبيع العفو عن العقوبات فصرح الإسبان بأن الثمن غير عال فطالبوا بجعله ضعفين، وكان المارانوس؛ أي اليهود المهتدون قسرا، يشغلون الرأي العام. ومن العبث أن أوجبت الغريزة الشعبية وقوع اضطرابات في مدن كثيرة، ومن العبث أن قتل رئيس محكمة التفتيش في سرقسطة أمام المذبح من قبل نبيل، فقد نظمت محاكم التفتيش تنظيما واسع المدى، وصار يقوم بشئونها وكلاء لا يحصيهم عدد، وهكذا كان يظل ابن الوطن المنعزل محروما حقوقه فلا تحميه الدولة تجاه هذا النظام الخفي البالغ القدرة. وكانت أحكام محاكم التفتيش لا تستأنف، وكان لا يوجد مرجع يلجأ إليه إزاء سلبها ونهبها، وكان موظفو التركمادا، وكان موظفو قاضي التفتيش الأكبر هذا، يجوبون البلاد فيقتلون الناس ويصادرون أموالهم من غير أن يكونوا مسئولين تجاه أي كان، وكان الحقد العنصري وحسد التوفيق عاملين في هذه التصرفات، وكانت مناهج التركمادا تقوم على الشرطة الخفية وعلى جيش خاص وعلى عيون ومحاكم سرية وعلى القتل، وقد أصدر التاريخ حكمه الساحق ضد محاكم التفتيش قائلا إنها ماحقة للحرية، ويلوح أن نظام محاكم التفتيش قد بعث في أيامنا، كأن نور الحرية لم يسطع ولم يلمع في خمسة قرون منذ ذلك الدور المظلم! ...
9
أدت الحضارة الإسبانية إلى قيام مبان كثيرة على شاطئ البحر المتوسط، ولا يزال يرى في برشلونة وفي مدن أخرى بناء البرصة واللونجا؛ أي القصور القوطية التي تنم على العجب المدني لدى تجار الإسبان وملاحيهم، وما فتحه هؤلاء من أسواق وما جمعوه من آثار فنية أكثر إمتاعا بدرجات من تنازع الأسر المالكة في أنجو وأرغونة وتراثها وما كان يؤدي إليه هذا من إخلاء صقلية وسردينية واستردادهما.
ويعد القشتالي مثال الإسباني الخالص، وكان الهيدالغوس؛ أي الأمراء الإقطاعيون، يعيشون في قصورهم القائمة على الهضبة العالية في وسط شبه الجزيرة فيجوبون الريف على طول الأنهار الثلاثة الجميلة ركبانا. وكان هؤلاء الأمراء الإقطاعيون فروسيين مختالين كسالى، ومع ذلك كانت المجالس القومية البرغشية تعمل بجانبهم منذ القرن الثاني عشر؛ أي قبل أن تنال إنكلترة دستورها المعروف بالمغناكارتا، ولم ينشأ ذلك عن حب للشعب، وكيف اعترف الأمير الإقطاعي بذلك؟ كان اعترافه به نتيجة ضرورة تسليح الشعب ضد العرب، بيد أن ذلك كان خاصا بالداخل غير شامل للساحل.
وغير ذلك ما حدث في الشرق حيث اتحد قطالونيو القرن الثاني عشر القاطنون في الشاطئ بالأرغونيين المقيمين حول مجرى الإبره الفوقاني مؤلفين مملكة واحدة معهم، وكان كل شيء هنالك موسوما بسمة البحر المتوسط؛ أي متجها إلى التجارة، وكانت مستودعاتهم في مرسيلية تزيد أهمية كلما دفعوا إلى ميدان جنوب فرنسة السياسي. وكان الأشراف يدعون «هونبرريكوس» لمزاولتهم أمور التجارة بدلا من قضاء أوقاتهم في قصورهم خالين من العمل. أجل، كان هؤلاء الأشراف من الأمراء الإقطاعيين، غير أن البحر اجتذبهم، وما كان من ظهورهم أصدقاء في الشواطئ البعيدة جعلهم أكثر استقلالا تجاه الملك والكنيسة، ومن ذلك أن حالفت شركاتهم المعروفة ب «شركات قطالونية الكبرى» بزنطة حوالي سنة 1300 وملكت الأتيك سبعين عاما.
ومن حظ هؤلاء الناس أن استولى العرب على بلدهم فامتزجوا بحضارة لم يطردوا ممثليها إلا بعد قرون؛ أي بعد أن اقتبسوا جميع عناصرها المنتجة، وذلك كمستعمرة زنوج تطرد سادتها اليوم، وذلك مع الفارق القائل إن العرق الضارب إلى سمرة هو الذي جلب إليهم الحضارة. وكان الملوك أنفسهم مثقفين في القسم الشرقي هنالك، ولو اختير ألفونسو الحكيم ملكا ألمانيا في فترة ملك فذهب إلى الشمال وقبض على زمام الحكم فيه لكان لدى الألمان من أنصاف البرابرة عاهل مشترع شاعر فلكي ذات حين على الأقل، ويبدو ألفونسو في إحدى التحف الصغيرة جالسا على عرش كالملك سليمان.
وقد أوصى خليفة ألفونسو بالتسامح تجاه العرب ورفع العذاب عنهم. وقد وضع مجلس الأمة التاج تحت الرقابة الوثيقة حوالي سنة 1300 كالبرلمانات الحمقى في أكسفورد، وقد أمكن مجلس الأمة الأرغوني أن يصرح في ذلك الحين ب «أن ملك قشتالة يملك رعية وأن ملك أرغونة يملك أهلا أحرارا»، ومن ثم يدرك سبب انحياز قشتالة إلى فرنسة وسبب ميل أرغونة إلى إنكلترة في حرب مائة السنة. وكان جميع دول الغرب القومية يتشابه من بعض الوجوه، وكان جميعها يستند إلى مبدأ سلطان الدولة، وكان لجميعها إدارة مركزية وسياسة اقتصادية متماثلة، وكانت دول موظفين ذوي مشاعر برجوازية فيعنون بجميع طبقات المجتمع ويبطلون امتيازات كثيرة، ونظام للدولة مثل هذا كان ينفصل عن روح القرون الوسطى بفتائه وجدته.
وفي الغرب يولي الشعب البرتغالي الملاح ظهره شطر البحر المتوسط ويشغل أرضه الراهنة تقريبا، وتصبح أشبونة مركزا تجاريا مهما منذ سنة 1400 فتنزع من البندقيين سوق الأبازير الأوروبية إصدارا لها نحو الشمال. وكان البرتغاليون يزورون جزر كنارية وآصور قبل قرن، ثم نظم هنري الملاح أسفارا عظيمة لارتياد أفريقية الغربية المجهولة، ويحمل أحد الملوك اسم إمانويل السعيد الوحيد في التاريخ حوالي سنة 1500 فيقيم إحدى إمبراطوريات العالم الاستعمارية الكبرى نتيجة لأسفاره البحرية، ويعود نصف هذه الإمبراطورية إلى إسبانية.
ويملك فرديناند وإيزابلا، ويدعوان ملكين، مدة خمس وثلاثين سنة معا، وتموت إيزابلا في الثالثة والخمسين من سنيها.
ولا نظير لهذا الزواج في التاريخ، وليس الأمر زواج أميرة وارثة برجل إنتاجا لأولاد، بل زواج وارثي بلدين متعاديين توحيدا لمملكتيهما: قشتالة وأرغونة، وكان الزوجان يملكان متحدين تارة ومنفصلين تارة أخرى مع مساواة تامة في حقوقهما ومسئولياتهما، وكان لهما من الوقت الكافي ما ينجبان معه بالولد وما يكون لهما به علاقات غرامية على ما يحتمل من غير فصم لعروة اتفاقهما، وقد أمكن هذا بزواجهما قبل الأوان وباقترانهما في السابعة عشرة والثامنة عشرة من العمر وبدوام ذلك النكاح، وقد أثار هذان الزوجان فضول المؤرخين مع أن الزوج كان غير ذي جاذبية كبيرة.
ومن النادر أن أتيح لملكة إثبات قيمتها، كما اتفق لإيزابلا، ومن الواقع أن قبضت الملكات إليزابت وكترينة وماري تريز وفيكتورية على زمام الملك وحدهن كوارثات مسئولات، فلم يأخذن رأي زوج أو عاشق إلا مجاملة، وعلى العكس لم تجد خدائع الزوج سبيلا إلى إيزابلا، إلى سليلة آل قشتالة المالكين الذين هم أكثر الأسرتين زهوا، ولما حاول فرديناند أن يخادع إيزابلا حين موت أبيها وبعيد وضعها بنتا بدت جافية رجولية على عتبة حصنها الأبوي، فأدى هذا الحادث إلى تلقيبها ب «الملك»، فظل هذا التبديل الجنسي في اللقب وحيدا في التاريخ وإن لم يدل على تقدم.
وكانت إيزابلا أسمى من زوجها من كل ناحية، كانت أعلى منه مواهب وسعة بصيرة ونشاطا خلقيا، ولا ريب في أنها كانت تعاني ساعات تثبيط في الحين بعد الحين نتيجة لبرودة حذر زوجها وحسابات هذا الأرغوني التجارية، ولا يمكن تفسير صبرها عليه زمنا طويلا بغير حمياهما المشتركة من أجل غرض واحد، شأن المهندسين أو الممثلين الراغبين في الاستمرار معا على اختراعاتهما أو القيام بأدوارهما.
وكان يساور فرديناند وإيزابلا رغب واحد، وهو وحدة إسبانية، وفي هذه الرغبة تجد السبب الأول في زواجهما قبل الأوان ودوام قرانهما. والواقع أنه لم يكن من الموكد في ذلك الدور أن تنجذب قشتالة القوية إلى البحر المتوسط أكثر من أن تتحد بالبرتغال، وكان قد وعد بزواج تلك الفتاة مرات كثيرة في صباها الذي قضته في أحد الأديار وفي أثناء مفاوضات سياسية، ولو تم اتحاد قشتالة والبرتغال وفق ما هدف إليه زمنا طويلا لوزعت المستعمرات في القرون الآتية على خلاف ما وقع ولغدا وجه الدنيا على غير ما حدث.
وأضف إلى ذلك الرغب اتحاد الزوجين دينا، ولو نظرت إلى الأساس لوجدت فرديناند كان يعامل الرب تجاريا كما كان يعامل الآدميين، ومع ذلك فقد نال لقب «الكاثوليكي» بعد زمن كما نالت زوجه، ويلوح أن إيزابلا كانت أحق منه بهذا اللقب، وإيزابلا هذه كانت تلتهب من أجل رجل أو غرض كمعظم النساء فبدت متعصبة، وهي قد أيدت جرائم محاكم التفتيش التقية بحماسة، وعلى العكس كان هم فرديناند أكثر انصرافا إلى الأموال التي يمكن الاضطهادات الدينية أن تنعم عليه بها، فكان كلبيا، ومما روي أنه بلغ فرديناند خبر تبرم ملك فرنسة من مخادعته إياه مرتين فصاح قائلا: «لقد كذب! لقد خدعته أكثر من عشر مرات!»
ولا نجد بين المنازعات الطويلة التي وسع «الملكان» بها إسبانية طائلا تحت ما قاما به لرقابة نابل ما تداولت الأيدي هذه الدولة نتيجة زواجات ومؤامرات، ومع ذلك فإن فتح نابل واحتلال الأملاك الصغيرة المتاخمة خلف البرانس أديا إلى اصطراع فرنسة وإسبانية وأوجبا اشتعال حروب طاحنة، وقد أسدل ستار من النسيان على هذا التحاسد الأسري لتفه أهدافه ونتائجه ولأنه لا يصلح لغير شحن دماغ الطلبة، واحتلال غرناطة وحده هو الفتح المهم الذي كانت له نتائج ثقيلة في الميزان.
وما بقي من الفتح العربي انحصر في البقعة الجنوبية من شبه جزيرة إيبرية، وكان معظم المغاربة قد عاد إلى شمال أفريقية الذي هو وطنه الأصلي. وكان الزوجان الملكيان الإسبانيان خاضعين لعوامل قومية ودينية حين قيامهما بهذه الحرب، فعلى إسبانية الحديثة أن تكون موحدة نصرانية في آن واحد، وكان العالم يعد طرد الكافرين من أوروبة رمزا.
وكان يمكن «الملكين» أن يفتحا نصف أفريقية في ذلك الحين وأن يبسطا سلطان إسبانية على هذه البقاع الممتدة بين الأطلنطي وخط الاستواء، ولكن الماء والخبز أعوزاهما في الساعة الحاسمة، وكان يمكن «الملكين» أيضا أن ينتفعا بالمغاربة، الذين كانوا قد شادوا الإمبراطورية الإسبانية، كوسطاء بين إسبانية وبربر أفريقية. ومن العبث أن حث كردينال حمس على التقدم وأن زحف مع كتائبه إلى جربة وإلى وهران، فقد كان فرديناند يحذر كل تحريض حربي وكان موجها جميع نظره إلى إيطالية وإلى المصاهرات والزواجات.
وهكذا وقف الزحف ضد الإسلام، وكان من أشهر الأوقات تلك الساعة التي صرح الكردينال فيها: «لم يبق مغربي غير معمد في مملكة غرناطة»، بيد أن إسبانية كانت تشتمل على ألوف القلوب غير المعمدة، فلم يكن من الممكن محو حضارة العرب التي دامت ستة قرون، واليوم لا يزال جنوب إسبانية ذا مظهر نصف مغربي. أجل، إن الحمراء أشهر أثر، ولكن أدعى المباني التي أقيمت على الطراز العربي إلى العجب هو ما يرى في إشبيلية وقرطبة.
والمرأة من «الملكين» هي صاحبة الحظوة لدى الشعب لا ريب، ومع ذلك فإن فرديناند كان أصلب ملوك زمنه عودا وكان يصلح نموذجا لمكيافلي المفاخر بأصله الإسباني. ومن قول سفير إيطالي لدى بلاط إسبانية: «هؤلاء أناس متواضعون متزنون ظاهرا، مغرمون بالرسميات والألقاب الطنانة حقيقة، أساتذة في فن الأنس والإكرام واقعا، فيبدو كل واحد منهم سيدا كاملا. نعم، إنهم مستعدون لخدمة جميع العالم ولكن من سداد الرأي أن يبتعد عنهم وأن يحترز منهم.»
ثبت طبع فرديناند بأوضح من قبل بعد موت إيزابلا، وما كان من هوسه في نيل منافع بزواج أولاده وإخوته وأخواته أدى إلى غل هائل فيه لم يعتم أن أضمر ضد صهره ابن مكسميليان الهابسبرغي، والواقع أن ابنة «الملكين» الغريبة الأطوار، حنة، كانت، أو غدت، مجنونة، وأن فرديناند لم يرد أن يتنزل عن قشتالة لصهره، وأن ما يحمله من حقد ضد هذا الرجل حمله، وهو الملك المتزن، على السير خلافا لكل عقل، فقد عقد في الخمسين من عمره زواجا آخر مع فرنسية ليرزق منها ولدا ذكرا يحجب به ذلك الصهر البغيض عن العرش، وهكذا عقد نظام العرش الإسباني الوراثي، ومن حسن الحظ أن أدى موت الهابسبرغي المفاجئ وموت ولي العهد السريع إلى رجوع هذا النظام إلى نصابه.
وأخيرا لم يبق من هذين الزوجين الاستثنائيين غير ابنة رعناء وغير ذكرى فصل تاريخي سلم في أثنائه رجل من أهل جنوة إلى الملكين الإسبانيين كنوز قارة مجهولة.
10
طرد الإسلام من أوروبة، طرد من جبل طارق الذي هو من أبواب البحر المتوسط، وذلك قبيل دخوله أوروبة منصورا من باب آخر، من الدردنيل. وكان السلطان محمد في الحادية والعشرين من سنيه حينما وصل إلى أبواب القسطنطينية، حينما ولد في إسبانية قاهر المغاربة فرديناند، ويرقب السلطان محمد حصون هذه العاصمة التي يستولي عليها في العام القادم، وقد قيض لمحمد الثاني أن يتم أعجب مآثره في ريعان شبابه، ويعد كلا العاهلين، التركي والإسباني، مدينين بعظمتهما لصفاتهما الخلقية المتماثلة، ولا مراء في أن محمدا كان أعظم من فرديناند قائدا، ولكن كلا الاثنين كان عالما نفسيا موهوبا ومن ثم أمكنهما أن يكونا قطبين سياسيين ممتازين.
وكان كل من الاثنين يزعم أنه يخدم الدين الصحيح، وذلك ليسلب أعداءه ويسوغ أمامهم وأمام العالم شهوة الفتح فيه. وكان محمد يدعو الله في صلواته مساء بنفس مطمئنة كالتي كان فرديناند يدعو بها يسوع بعد أن يتصفح جدول الكافرين الذين ذبحوا عشية، وبينما ترى التركي قد وصل إلى السلطة عن اغتيال، كالإسكندر الذي يذكر به فتاء وتربية، تجد الملك الكاثوليكي قد انتهى إلى السلطة عن مواريث وزواجات. وإذا نظر إلى الاثنين من حيث كونهما طاغيتين وجدا مجردين من كل مبدأ خلقي مع أنهما كانا يستندان إلى مشيئة الله في أعمالهما، وقد دام عهد أحدهما ثلاثين عاما ودام عهد الآخر سبعة وأربعين عاما، أي مدة كافية لفرض شخصيتهما على الغرب والشرق، ومن النادر أن أبصر البحر المتوسط فاتحين اتفق لهما من اتساع السلطان في وقت واحد؛ أي في دور اثنتي عشرة سنة، ما اتفق لذينك العاهلين، ويقيم الرجلان المالكان لطرفي هذا البحر دليلا على الأخلاق والقابليات الخاصة بعصر النهضة قبل أن ينشأ مبدأ رجل النهضة فيه.
وقد وصل الترك، الذين قادهم محمد إلى أوروبة، من آسية بين دفعي غزوين كبيرين، فأما الغزو الأول، وهو الذي قام به جنكيزخان آتيا من الصين حوالي سنة 1200، فقد هز شعوب آسية الوسطى وجرف الترك أمامه مع أمم كثيرة أخرى، وأما الغزو الثاني، وهو الذي قام به الفاتح المغولي الآخر تيمورلنك آتيا من سمرقند حوالي سنة 400، فقد سحق الترك سحقا كان يلوح نهوضهم بعده أمرا مستحيلا.
وما هو السبب في استطاعة الترك، الذين سموا عثمانيين نسبة إلى رئيسهم، أن يقيموا في أربعة قرون دولة من أعظم دول البحر المتوسط مع ذلك؟
ذلك لأنهم وحدوا بإيمان عظيم كان يعوز تيمورلنك وجنكيزخان؛ وذلك لأن الإسلام العربي قد منحهم ما ينطوي عليه من حمية وتعصب ومن إله واحد مع سيف كوسيلة، وكان الترك أهل حرب بطبيعتهم كما علموا الآخرين كيف يكونون رجال قتال، والترك قد عرضوا على العالم بدعة تأليف خير فرقهم، بدعة تأليف كتائب الإنكشارية الذين يجمعون من أبناء الأمم النصرانية المقهورة، والترك كانوا يختارون في كل عام من هؤلاء الأبناء ألفا ليؤلفوا كتيبة مصطفاة ومنظمة دينية للجهاد في سبيل الله والدفاع عن سلطان السيف، وقد أجمعت أنباء التاريخ على أن أحسن جنود القرن الخامس عشر كانوا من الترك والإسبان.
ولا يمكن أن يعد ذلك مسألة عرق، فمن الواقع أن عثمان عندما أقام دولته في الأناضول وجد فيه جميع العروق التي استقرت به منذ ألوف السنين، وجد فيه طلاينة وأغارقة ومغولا وجرمانا وساميين؛ أي خليطا يفسر بنفسه دنمية
25
هؤلاء السكان، غير أنه كان لوهم صفاء الدم في ذلك الزمن من صولة الأمم التي تكون في دور التوسع ما أعلن الترك معه أنهم عرق توراني خالص معتقدين أنهم أسمى من نصارى ناحية البسفور الأخرى، ومن شأن الشعوب والأفراد أن يعزوا حيويتهم إلى أجدادهم بدلا من أن يجدوا في أنفسهم شواذ للطبيعة مختالين؛ أي إن يقترفوا من الخطأ ما لا يأتيه وحش أو أسد لو كان قادرا على التفكير!
ومما ساعد الترك على التقدم ما وجدوه لدى أعدائهم من انحطاط كالذي وجده الإسبان، وكانت بزنطة والعالم الإغريقي من شدة الضعف منذ انتصار البندقيين كمن بقي من العرب المنهوكين في إسبانية، فسقط البزنطيون، كالمغاربة، أما صولة أمم أشد شبابا، وذلك بعد رخاء دام زمنا يثير العجب، وقهرت شعوب قوية فتية عاملة منذ قرن واحد فقط زمرا متحرزة رازحة تحت ثمانية قرون وأحد عشر قرنا، والبأس، لا العرق، هو الذي يتوقف عليه النصر في اصطراع الأمم كما في الملاكمة.
ويكفي أن ينعم النظر في وجوه آخر أباطرة بزنطة وأن تقابل بوجوه الترك أو الصرب الأولين الذين أقاموا في ذلك العصر دولا مهمة حول بزنطة، وما على المرء إلا أن يقرأ وصف وليمة تتويج آخر إمبراطور بزنطي بين المراسم التقليدية التالدة مع تقديم الأطعمة في أطباق خزفية لما لا يوجد من أطباق ذهبية وفضية، وما على الإنسان إلا أن يطلع على نبأ تتويج ملك الصرب في ذلك الزمن، دوشان، باحتفال بربري صاخب، ويشابه أكابر الكروات المنقوشون على مقدم كنيسة شيبينيك زعماء البلاشفة في عصرنا.
وكان الترك العثمانيون، الذين اتخذوا في أوروبة عاصمة لهم منذ سنة 1365، يبدون لبزنطة صداقة قائمة على الرئاء منذ زمن طويل، وكانوا يحيطون بالإمبراطورية التي تنقص من أطرافها فتضيق مقدارا فمقدارا، فتسأل هذه الإمبراطورية في نفسها مغتمة، كأوليس وأصحابه عند رؤية بوليفيم،
26
عن الفريق الذي يفترس عما قليل. وقد تعلم الترك، الذين كانوا نصف حلفاء ونصف مؤتمرين، من البزنطيين أمورا كثيرة في الحكمة العامة ودسائس البلاط والاغتيالات السياسية، وقد تزوجوا نساء بزنطيات مع مساعدة تلك الدولة عسكريا على حين يشحذون خناجرهم ليقضوا عليها في الوقت المناسب، أجل، كان البزنطيون يعلمون ذلك، ولكنهم كانوا لا يستطيعون غير محاولة لاكتساب بعض الوقت.
وتغير طالع الحرب في آسية الصغرى وفي البلقان حتى جوار فينة بعد معارك صاخبة لا مكان لبيان جزرها ومدها هنا، وذلك بين الترك والصرب والمجر، وذلك بين السلجوقيين والعثمانيين والمغول أيضا، ولم تؤد واحدة من هذه الحروب إلى فارق واضح بين المسلمين والنصارى. وكانت ضروب الفظائع تقترف بحجة الدين، وزادت قسوة المسلمين خلافا لما كانوا عليه أيام الحروب الصليبية، وكان الإسلام قد أضاع في القرن الخامس عشر روح التسامح التي امتاز بها قبل ثلاثة قرون، فإزاء هذه الأساليب الحربية الهائلة حل مؤتمر كونستانس الديني كل نصراني من إيفاء عهد لكافر، وهذا التدبير خطر جدا وإن كان طبيعيا ومن شأنه أن يقوض مبادئ النصرانية في الأخلاق.
ومع ذلك كان من المتعذر إثارة حرب صليبية جديدة؛ وذلك لأن العوامل الضرورية لإيقادها عادت غير موجودة منذ زمن طويل، ويلوح أن الرغبة الجامحة الجافية في نيل السلطان بأي ثمن كانت تثبت انقضاء الدور الذي سمي «القرون الوسطى» فيما بعد.
وقد تجلى فقدان المثل الأعلى هذا في صورة الحذق التجاري لدى البندقيين على الخصوص، وأهل البندقية هؤلاء عقدوا في ثمانين سنة تسعة عهود صداقة مع الترك ضامنة لهم حرية التجارة من حيث الملاحة وحق الإقامة والقضاء، ويصبحون حلفاء لبزنطة وهنغارية ذات مرة فيقهرون الترك، ومع ذلك لم يلبثوا أن انفصلوا عن حلفائهم النصارى اجتنابا لاستفزاز الترك كثيرا، ويلقي الرئيس موسنيغو كلمات في مجلس الشيوخ بالبندقية سمع مثلها في مجلس النواب البريطاني سنة 1938، وهي: «إن السلم خير الأمور، وإذا كان السلام حليفنا قمنا بالخير أحسن قيام وغدونا سادة المال والنصرانية وخاف العالم ثراءنا وكان الله معنا!» وكان كبار التجار هؤلاء من شدة الحذر ما رفضوا معه فتح القسطنطينية خلافا لما عرضه عليهم الإمبراطور إمانويل؛ وذلك لما كانت عليه هذه المدينة من خطر ولما يرونها محلا غير ذي قرار وسكون.
وكان سادة القسطنطينية يشعرون من ناحيتهم بأن زوالهم أمر لا مفر منه، فيبدون استعدادهم للاتحاد بالمذهب النصراني المنافس دعما للكثلكة ، وفي دور غسق الآلهة هذا ذهب الكردينال بيساريون الذي كان إغريقيا إلى توحيد مذهبي أفلاطون وأرسطو بالنصرانية رسميا، ومن الممكن أن كان يميز في مجمع فلورنسة الديني الذي عقد سنة 1439 وجه الكذب في مظاهر الإخاء، وينشق رهبان جبل أتوس ريح العاصفة فيضعون ديرهم الجليل تحت حماية السلطان.
ويتخذ السلطان محمد الثاني وضعا واضحا، ويقبض على زمام الأمور في الحادية والعشرين من سنيه، ويبدو مثل فرعون جديد فيجمع عددا عظيما من العمال ويجعلهم يقيمون في أربعين يوما حصون البسفور القوية التي تظهر بقاياها اليوم سمة المنظر الروائية، ثم بدأ يحاصر بزنطة التي قاومت مقاومة بطولة حقيقية مدة ثلاثين يوما، ويجتمع الإمبراطور والشعب والقسوس في أيا صوفية، في المساء الذي يسبق آخر هجوم، لوداع يشابه عيد أموات، ويقف هذا الشعب الفاسد المنحط على شفير الموت، وإن شئت فقل على المستوى السني الذي حكت عنه القصة، فلما كان الغد ضرب الإمبراطور الأخير أنبل مثل للعالم فخر صريعا شاهرا سيفه.
ويدخل محمد، القائد لجيوشه بشخصه أيضا، تلك العاصمة التي أولع بها أجداده أيما إيلاع، ويقف في الميدان، ويرغب في إبداء قوته للجمهور المتجمع فيكسر بفأسه أحد الثعابين البرونزية الثلاثة التي كانت تدعم قوائم دلف المثلثة منذ ألفي سنة والتي كانت تزين ذلك الميدان العام منذ ألف عام، ويمسك جواده عند باب القصر الذي كان يقيم به الإمبراطور عشية ذلك اليوم وينشد قول الشاعر الفارسي الفردوسي: «ألا إن العنكبوت صارت حارسة قصر كسرى وصار البوم ينعق في منزل أفراسياب.»
وكانت روح هذا العاهل الشرقي جامعة للحضارة التقليدية وللطبائع البربرية فلم يتردد في كسر أثر فني إظهارا لقوة عضله.
وفي الغد يقيم السلطان مهرجانا عظيما تمجيدا لإلهه، شاكرا لله في كنيسة أيا صوفية محولا إياها إلى مسجد، وتتغلب عليه روح البرابرة حينما دخل الكنيسة راكبا حصانه راكضا حتى الهيكل، وما انفكت بزنطة تسمى استانبول منذ ذلك اليوم من سنة 1453؛ أي منذ نحو خمسة قرون.
11
عد سقوط بزنطة كارثة في أوروبة، ولا عجب، فالبرابرة الكافرون يقيمون إمبراطورية عالمية ثانية! وكان من الممكن في ذلك الحين أن يصبح الترك سادة إيطالية، وسادة البحر المتوسط أيضا، ولكن الترك لم يصيروا ملاحين حقيقيين قط، ولم يجد إنشاء محمد دور صناعة وسفنا نفعا، فقد ظل البحر غريبا عن قومه، وقد اقتحمت بزنطة برا أكثر من اقتحامها بحرا.
ولم تكن البندقية من القوة ما تحارب به تركية، وكل ما كانت تفكر فيه هو أن تحمي مستعمراتها غير مكترثة للدفاع عن الحضارة الغربية. وكان البندقيون قد غلبوا دولة بزنطة العالمية منذ قرنين ونصف قرن، ولكن ورثة هذه الدولة الذين حولوها إلى دويلة ظاهروا على تركية مظاهرة واهية، فلما تم ذلك الفتح لمحمد أرسلوا إليه عريضة التمسوا فيها العفو، مع الخشوع، عن سابق مساعدتهم لعدوه، وقد أرسلوا في الوقت نفسه أعظم مصوريهم إلى استانبول ليصور الطاغية الجديد، فترانا مدينين لهذه المناسبة بلوح بليني الرائع الذي عرض به لمحمد صورة نصفية، جانبية تقريبا، مرسومة تحت قوس عربية، فبدا محمد في هذه الصورة طويل الأنف شاحبه أسود اللحية ضيق الفم لابسا عمامة كبيرة بيضاء؛ أي مجموعة أجزاء شغلت عين المصور أكثر من أن تشغله تلك الدولة العالمية التي قامت حديثا.
ومن المحتمل أن كان محمد يفتح إيطالية على الرغم من ذلك كله، وقد استولى محمد على جميع شبه جزيرة البلقان بسرعة، وهو لم يلبث أن صار يهدد البندقية في شواطئها الخاصة، وهنالك تركت البندقية له أقساما من ألبانية كما تركت له أوبه وأملاكا بالقرب من إسبارطة، وقد وعدته بإعطائه جزية ومكوسا إذا ما تفضل فسمح لها بالتجارة في الشرق الأدنى، ولم يتحرك البابا، ولا الإمبراطور، حينما حاول الكافر الأول محمد الثاني ذلك الغزو مجاوزا البحر الأدرياتي نازلا إلى أوترانت، ولم تنقذ إيطالية إلا بوفاة محمد التي وقعت فور هذا النزول إلى البر.
ويرجع أعظم حقد أوروبي على الإسلام إلى ذلك الدور؛ أي إلى ما حول سنة 1500، وتجد أساس المثالب، التي دامت ضد الترك حتى الحرب العالمية الأولى، في أقاصيص الفظائع التي عزي اقترافها إلى الترك حين سقوط بزنطة وفيما كان السلاطين يتخذونه من وضع ازدرائي تجاه سفراء الدول الغربية، ومع ذلك لم يستفد الغرب من ارتباك الترك ونكدهم في آسية الصغرى بسبب أبناء دينهم المماليك، والغرب، على العكس، ظل موائما لهم، ولا غرو، فشيخ الإسلام، الذي هو بابا المسلمين، أذن لبطرك الروم أن يقيم صلواته كما أذن لشعوب البلقان المقهورة في عبادة العذراء وفق عادتها.
ومع ذلك وجد اختلاف النصارى والمسلمين له سببا في روح النهضة وفي انتقال أماكنه المقدسة من القدس إلى أثينة.
ومن يلق نظرة إلى تاريخ مجمل لليونان بين سنة 1000 وسنة 1500 يجد له صورة ملونة على الخصوص، كما يجد له منظرا مملوءا سخرية فيما هو خاص بالقوى التي كانت تنعش البحر المتوسط في أواخر القرون الوسطى، والأمر كحصن للآلهة القديمة اجتذب من يستخفون بها من فرسان النصارى، وكان نور الحكمة والجمال الساطع لا يزال يضيء بسنائه الممتد وجوه أبعد حفدتهم بعد تواري الحصن.
ولما برز الفيكنغ من ضباب بحار الشمال إلى زرقة البحر المتوسط حوالي سنة 1040 أرسل أحد أباطرة بزنطة إلى أثينة الأمير هارولد القائم بخدمته، وقديما كانت الأسماء تنتهي ب
as
أو
es ، فسمعت في هذا الحين أصوات جديدة، فقد صار فرسان أثينة يتسمون سنوريزون وهاكون وأسباكسون، وتورم وإيفار أيضا، وقد استذلوا أهل أثينة متعللين بأن هؤلاء الأهلين كانوا قد عاهدوا غزاة البلغار.
وكان أبناء الشمال أولئك يحبون النساء الشرقيات اللائي كان يلوح اتصافهن بما ليس عند نسوتهم، واللائي كن عارفات بالغرام أحسن من غيرهن، وقد تكررت قصة هيلانة الحسناء، فتزوج مانويل كومنين، وكان أريستوقراطيا إغريقيا ارتقى إلى العرش، أجمل نساء اليونان؛ أي ابنة الأميرة كونستانس الأنطاكية والكونت ريمون البواتي، وتكشف لنا هذه الأسماء الروائية وحدها عن اختلاط دم الأميرة. ويصل كونت طرابلس، الذي كانت أخته مليزاند قد أعدت للإمبراطور، إلى بحر إيجه مع اثنتي عشرة سفينة حربية منتقما بالقتال والنهب كما في أيام حرب تروادة. وتنم أقاصيص ذلك الزمن على انطلاق الأهواء في الأديار أو على الغصب والخطف عن شهوات، وذلك على حين كان رهبان جبل أتوس ينظمون قصائد دينية. وكان من اليهود علماء يشتركون في ثقافة يونان ذلك الزمن المولدة، وقليل من هؤلاء من كانوا تجارا، وكثير منهم من كان، على العكس، يتعاطى حياكة الحرير وصباغته، ومن بينهم اشتهر أطباء كالطبيب الخاص للإمبراطور مانويل ذلك.
وما كان من فتح بزنطة مرتين، مرة من قبل «الفرنج» في سنة 1204، ومرة من قبل «الترك» في سنة 1453، ألقى نورا وظلا على تاريخ الإغريق في وقت واحد، وقد كانت أثينة وإسبارطة مدينتين تابعتين كما كانت الجزر من ولايات الإمبراطورية. وكان جميع هذه البقاع حاقدا، وما كان ليتغلب تماما على ما يساوره من حقد شعب مقهور، وقد كان لعهد الصليبيين النصراني من النتائج ما يخالف العهد الإسلامي مخالفة تامة.
ومن المحتمل ألا يكون البحر المتوسط قد رأى من اختلاط العروق ما هو أبرز مما نشأ في صقلية حوالي سنة 1000، وفي بلاد اليونان بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، وما أكثر من تجمع فوق ذلك البلد الصغير من المغامرين الغربيين على الخصوص! وكان يوجد هنالك مزيج من شعوب بالغة القدم؛ أي من الأرمن الذين استقروا هنالك في القرن الرابع، ومن الزيغان الذين جاء أجدادهم من السند فأقاموا هنالك في القرن السابع، ومن اليهود المضطهدين في الغالب، ومن المحتمل أن تصادف في بلاد الإغريق الحاضرة قرى مهجورة عمرها العبريون والزيغان.
ثم يأتي من الشمال فاتحون من صربية ورومانية، ويأتي من الغرب جنود من قطالونية، وفرسان من الفرنج على الخصوص، وكان القتال يدور بين الجميع، وكان أمراء الغرب الإقطاعيون هؤلاء يكافحون الكنيسة الرومانية والقسطنطينية معا، وذلك لاستمرار هذه المدينة على الرغبة في استرداد ما فقدته من الأملاك، وقد نالوا ألقابا فخمة مع قليل سلطان ومع نزاع على أرض كلاسية،
27
وقد اكتسب هذا الدور لون فصل روائي من كل شيء.
ثم ظهر على المسرح إمبراطور طربزوني وملكة كرجية، وأمير بحر بان لمملكته في رودس، وكونت من بلوا مناد بنفسه دوكا على نيقية، وجنرال روماني مطالب بعرش بزنطة، وبندقيون وقع خيارهم على جزائر بحر إيجه ومرافئه، وأشراف إقليميون حصنوا الترموبيل، ومما وجد أيضا فلاسفة من اليونان انضموا إلى فرسان من الألمان في الحروب الصليبية وذلك حينما كان دانتي يجاهد شاهرا سلاحه.
وكانت جنوة لا تزال تقاتل البندقية قائمة في هذه المرة بحرب بحرية دامت عشر سنين امتلاكا لكورفو وأقريطش، وتقهر البندقية أقريطش فتوزع مئات «الإقطاعات» بين أشراف وبرجوازيين، ويسفر هذا التوزيع عن تحول بعض فرسان البندقية إلى فلاحين ورعاة وبعض آخر منهم إلى تجار وقراصين، ويكرم الجميع بألقاب ضخمة.
ومما حدث أن مغامرا فرنجيا غنيا استخدم كتيبة من الفرسان وبعض المراكب فاغتنم فرصة الفوضى التي كانت سائدة أيام اصطراع جنوة والقراصين وفتح سبع عشرة جزيرة ثرية كانت نكسوس منها ملكة الأرخبيل، ثم انتحل لقب دوك وبنى قلعة على أساس معبد قديم واحتل حتى إزمير، وقد أقطع قواده جزائر كثيرة فعمر الأجانب جزر الأرخبيل دفعة واحدة على هذا الوجه، ويخضع الدوك الجديد للإمبراطور الجرماني البزنطي، هنري، بدوره، فينصبه هذا العاهل «دوكا للدوديكانيز»، ولم تلبث الحرب أن نشبت بين الإمبراطور والدوك، ويغلب الدوك، ويكون للدوك من التأثير في الإمبراطور بجمال منظره وجلال أوضاعه ما يكتفي الإمبراطور معه بنزع إزمير منه مزوجا إياه بنت أخ له.
ومن يتصفح من القراء هذه القصص ذات مساء يظهر له أن جميع هؤلاء الناس لم يذهبوا إلى الحرب إلا ليكونوا موضوعا لأحاديث مغامرة، ومع ذلك كانت الأهواء بعيدة الغور كما لدينا، ويظل أقدم وطن للحضارة بلا زعماء، وتؤدي الحروب الصليبية إلى انقلاب عميق هنالك؛ ولذا لم ينتج يونان القرون الوسطى تاريخا، بل أقاصيص خليقة برواية «عشرة أيام»، وقد استغلت هذه الأحاديث من قبل مئات الكتاب الروائيين السابحين في الأحلام.
ومن المحتمل أن كان الفارس الفرنسي فلهاردوين أبهر رجال ذلك العصر في بلاد البحر المتوسط، فسار على غرار بلده شنبانية، فأنشأ بارونيات في البلوبونيز، وتقام قصور قائمة مؤثرة على صخور مشرفة على البحر وفي جبال الداخل، ولا تزال بقايا القصور تثير عجب السائح، ومع ذلك فإن من ينعم النظر في الأمر كله يشعر بما ينطوي عليه من مهزأة وشعوذة، وكيف لا يحس هذا عندما يعرف أن فارسا لنغدوكيا صار لبتراس أميرا إقطاعيا، وأن «صاحب شنبيني» ترجم اسمه إلى اليونانية، وأن سيدا ثالثا أطلق على قصره اسم «ماتا غريقون» أي «اقتل الإغريقي». وقد وزع كل واحد من هؤلاء البارونات بضع إقطاعات، وصار الأمراء الإقطاعيون المسنونون حديثا، والذين لم يكن لديهم حين ذهابهم إلى الأرض المقدسة غير سيوفهم، والذين لم يملكوا بعد ذلك غير بضع مئات من المعز، يتكلمون بعد ثلاثين سنة عن ضرورة زيادة سلطان آلهم.
وكانوا يبيعون كل ما تصل إليه أيديهم، ومن ذلك أن ضايق منافس أحد أباطرة بزنطة أو وصيا على عرشها فرهن البندقيين تاج يسوع الشوكي نيلا لمال، وهو لم يسطع أن يفكه، فتقدم ملك فرنسة سان لويس مشتريا له، ولم تكن مدرسة الشرف الفرنسي الكبرى في ذلك الحين على ضفاف الرون أو السين، بل كانت في شبه جزيرة المورة التي حل اسمها هذا محل اسم البلوبونيز آنئذ، وكان يشتمل بلاط المدعو غودفروا على «ثمانين فارسا ذوي مهاميز من ذهب». وكان أمير مورة هذا أقوى من إمبراطور القسطنطينية الهزيل فضرب نقودا شخصية لنفسه، فسار أخوه وآخرون على غراره. وكانت الغابات تعج بقطاع الطرق فعم فيها نظام للاعتبار المالي قائل بأنه لا ضرورة للمسافر أن يحمل في كيسه نقودا، وإنما يكفيه أن يحمل شكا
28
يقبض قيمته في حصن المدينة المجاورة على أن يوقعه أو يختمه، وقد حدث هذا سنة 1300 في جنوب بلاد اليونان الموحشة.
وكان هؤلاء الفرسان يتلذذون بالأقاصيص القديمة وبأسماء الأمكنة التي يملكونها، وكان لديهم من الذوق الكافي ما يجددون به الألنب، وقد نظموا في المكان الذي نال هركول انتصاراته الأولى فيه ألعابا عسكرية موعزين إلى الشعراء بأن يتغنوا بها في الغرب، وكان هذا هو الأسلوب الذي يتخذونه للدعاية إلى أنفسهم. ويقيم الأمير الإقطاعي القوي أوتون الروشي بقلعة كادمه في تب، ويحارب بجانب البندقية ضد منافس من مسقط رأسه، فلما شاب سلم قلعته وممتلكته إلى أبناء أخيه وأمر أبناءه باتباعه فعاد إلى فرنسة مع جميع أسرته على ظهر مركب، وكان في هذا كالسويسري الذي يعود من أمريكة إلى بلده بعد أن يثري ليري أبناء وطنه غناه.
ثم حدثت فاصلة هزلية أوجبها فرسان من الجرمان معروفون بطباعهم البربرية، فقد هجم المدعو فالتر ليدكرك على الإغريقي القوي بوثيوس الكورنثي في أثناء سياحة كان يقوم بها هذا الأخير، وهو لم يرد إطلاقه إلا في مقابل فدية عظيمة، ويرفض الإغريقي ذلك فيكسر أسنانه، ويعزم الإغريقي على الدفع ويطلق مفكرا في الانتقام لنفسه، ويترصد هو ورجاله في شعب واقع جنوب خليج كورنث وينتظر جلاديه، وينزل من المركب فارس فرنسي مع رفقائه ويتعاطون أقداح الراح فرحين، ويدنو الإغريقي رويدا رويدا، ويظن أنه الألماني فالتر ويضربه بالسيف على رأسه ثم يتبين خطأه ويبدي أسفه ويعتذر، غير أن الفرنسي يموت بعد يوم، وتشتعل حرب جديدة بين الأغارقة والفرنج.
ويمر على ذلك نحو مائة عام فيفسر غوتة هذه الحوادث الروائية الهزلية تفسيرا رمزيا في الجزء الثاني من «فاوست».
وفي أثناء تلك الحرب يسترد الأغارقة بلدهم لوقت قصير، ومن الطرف أن يذكر إعداد فيلسوف أفلاطوني سبيل هذا النصر، وإن كان ذلك على وجه غير مباشر.
شعر بنفوذ جيورجيوس جيمستوس، ويدعى بليطون، حوالي سنة 1420، وسخر بليطون هذا مذهبه المثالي الوثني لكوم المديسيسي حتى ينشئ مجمعا علميا للأفلاطونية الجديدة في فلورنسة، ويصبح من بعض الوجوه خلفا لأفلاطون الذي كان قد نقل أيضا عين الأفكار من بلاد اليونان إلى صقلية. وكان بليطون وطنيا حمسا راغبا في إنقاذ أمته المضطهدة بسيطرة الأجنبي، فيقول بالجمهورية الشيوعية التي تستنبط مبادئها من نظرية أفلاطون حول الدولة ومن دستور ليكورغ، وهو يدلي بتعاليمه في مكان واقع بالقرب من مدينة ليكورغ (إسبارطة)، وهو يقترح أن تكون الدولة مالكة لجميع الأرضين فتؤجرها، فلا ينبغي للأفراد أن يملكوا أرضا، وعلى التجارة أن تقوم على المعاوضة لا على النقد.
ويكرم الأمراء بليطون، ولكنهم لا يطبقون اقتراحا له، ومع ذلك يوفق آخر آل باليولوغ لطرد الفرنج؛ أي الأجانب الغربيين، وتغدو بلاد الإغريق مستقلة لعشرين سنة.
ومع ذلك كان وقت إثارة هذا الشعب قد انقضى، فقد تمتع هذا الشعب بعصر زاهر زمنا طويلا، وغدا أمره قبضة أناس أكثر فتاء وأعظم ثباتا، شأن البزنطيين أنفسهم وشأن عرب الأندلس، وما كادت القسطنطينية تسقط حتى صارت بلاد اليونان القديمة تركية أيضا وظلت هكذا نحو أربعمائة سنة، ويحمل الأغارقة على دفع ضرائب للسلطان وعلى الخدمة تحت راياته، والسلطان عاهل أجنبي لا يدين بدينهم.
ويأتي محمدا الثاني وحي، يأتيه هذا الوحي من فطنه السياسي، أو من تسامحه الإسلامي الفطري، أو من كلا الأمرين على ما يحتمل، فقد أذن للروم في تدبير شئونهم من قبل رجال دينهم ونصب راهبا مشهورا بطركا لهم، وقد شكر الروم له ذلك لما كان قبل احتلال بزنطة من فرار آخر البطاركة إلى رومة قاصدا البابا الذي يمقتونه، وإذا عدوت ما احتفظ محمد الثاني به لنفسه من حق الموافقة على نصب الأسقف الرومي فإنك تجده قد منح الكنيسة الإغريقية استقلالا كاملا، وقد أعرب راهب عالم من رهبان جبل أتوس عن شكره لمحمد الثاني بترجمة شعرية غنائية قدمها إليه قبل نشرها، مضيعا كل قيمة تاريخية لها بذلك، وقد عرف الفاتح المسلم أن يسلك إذن سبيل اللباقة تجاه من لم يعرفهم من النصارى.
ويحاصر كورنث ويدعها أطلالا سائرا على غرار الرومان الذين خربوا هذا البلد منذ ثلاثة عشر قرنا، ومن الطرافة أن احترم هذا الكافر أكروبول أثينة لتأثير المعابد فيه، وكما أن أوميرس خلد لنا جمال هيلانة لتأثيرها في نفوس معاصريها يمكننا أن نشعر بروعة البارتنون نتيجة للأثر الحي الذي اتفق لهذا البناء في السلطان محمد غير غافلين عن كونه في دور الشباب عندما رآه.
وهنا ظهر نصف الهمجي على نمط الإسكندر الأكبر كما ظهر حين فتح القسطنطينية، فهو لم يتمالك أن حول المعبد إلى ثكنة تركية وأن حول الإلكتوم إلى دائرة حريم للقائد، فلم يبق للتماثيل الداعمة للأطناف
29
غير معنى سخري. وما حدث بعد زمن من فتن جديدة ومن مؤامرات حمله على أن ينزع من الأثنيين عبادة نصرانية ظلت تقام في البارتنون عشرة قرون، فقد حول السلطان البارتنون إلى مسجد مقيما عبادة الله مقام عبادة أتينة أولا ثم عبادة مريم مؤخرا، وقد أمر ببناء مئذنة هيفاء على الركن الجنوبي الغربي حيث يؤذن المسلم في كل يوم ثلاث مرات باسم الله (؟).
وعبادة الإله الواحد هذا هي التي نادى بها أفلاطون بعد أن رفع بركلس أعمدته الخالدة، وهذا هو الرب الواحد الجالس على العرش فوق إلهي الثالثوث الآخرين لدى الحواريين، وقد ملك كل واحد من هذه الآلهة أفئدة الأثنيين مدة عشرة قرون، والآن صار المؤذن في كل مساء ينظر إلى غياب الشمس في هذا الخليج الواقع بين سلامين وإيجين، وهو إذا ما التفت يمينا أمكنه أن يبصر من شرفته الضيقة صفي الأعمدة الرخامية البانتليكية
30
القائمين فوق البحر المتوسط، ولا يزال هذا المعبد، الذي هو أكمل ما شادته يد إنسان للإله الذي لا يدرك، سليما مع استيلاء كثير من الفاتحين على أثينة.
12
ولم تصب روح اليونان بغير نعاس، فعادت إلى الحياة ملتهبة، ولا عجب، فدور النهضة قد بدأ.
وما هو سر النهضة؟ وما هو سبب هذا الازدهار الحديث في الثقافة اليونانية بعد الأغارقة بألفي سنة، وذلك للمرة الثانية في أوج حياة البحر المتوسط؟ أوهذا فوز لشعب عظيم؟ أوهذا تمرد ظافر صادر عن طبقة مضطدة؟ أو هذا أثر سلام مثمر أو نتيجة ظهور رسول جديد؟ وما هو العامل في بروز الدور الواقع حول سنة 1500 ساطعا في التاريخ؟ وهل نجم هذا عن هبوب ريح الحرية بأوروبة في ذلك الحين؟ وهل نشأ هذا عن الإيمان بالإخاء الإنساني؟
لا شيء من ذلك كله، فكانت البلدان تغير سادتها في الغالب كما في الماضي، ولم تهز الطبقات الاجتماعية ثورات، وكانت الأديان تتنازع وفق العادة، وما كانت الملاحة لتجاوز دورا ثوريا نتيجة لاختراع آلة جديدة، ولم يطرأ شيء على نظام الحياة الدارجة.
والعامل الجديد هو ما كان من شعور نام بالحياة، وكان «اليوم الراهن» إله العصر، وكان النشاط والفهم والفن إلهات له، وكان ابن دور النهضة المحب للحياة وغير الخائف من الموت قادرا على اقتحام نصيبه، فدور النهضة حين أبان كيان الإنسان يكون قد أقام أدبا خلقيا جديدا.
وقد حاولت النصرانية أن تلائم الصحة الطبيعية وغريزة السعادة لدى الإنسان بما كان من تراض كثير وتساهل غير قليل وألم عظيم، والناس كانوا قد لقنوا وجود حياة أخرى يجزون فيها على فضائلهم وجرائهم، وذلك بعد أن كبكب آخر صنم يوناني يشتمل عليه أحد معابد البحر المتوسط في أثناء نوبة من الحميا الدينية، ومذهب متوعد مثل هذا كان قد جعل الناس في ألف سنة أسرى مستقبل مجهول إذن، وذلك مع إلقائه سلوانا في نفوس ملايين الآدميين الذين كانوا يشعرون بنصيبهم الجائز في هذه الحياة الدنيا، ومع ذلك فإن من النادر أن كان الإيمان الذي أحيا رغائب الإنسان الطبيعية مؤثرا في زمن تأثيره أيام الحروب الصليبية.
ولم يكن كبراء الناس، الذين ما انفكوا يخرقون ويقذفون منذ انقضاء القرون القديمة حتى دور النهضة، خالين من وخز الضمير، فهم ما فتئوا يقيدون بمن هم أضعف منهم نتيجة فلسفة تعظ بها الدولة وتؤيدها مع انتهاكها، كدولة زمنية، حرمة هذه الفلسفة بلا انقطاع، وما ظهر من تناقض في جميع القرون الوسطى النصرانية كان يعكر انسجام أتقياء النصارى مع أن المسلمين كانوا يتمتعون بهذا الانسجام تماما، ودين المسلمين يجل القوة والجهاد كما يسبح لله الواحد، والإسلام لا ينوط الحياة الأبدية؛ أي الجنة، بحياة بؤس في هذه الدنيا. وكان الجنوب أكثر من الشمال ذي الضباب شعورا بذلك التناقض في النصرانية، وفي الشمال ترى الحياة يسودها البرد وشدة الطبيعة، وفي بلاد البحر المتوسط لا تبصر غير الشمس والزرقة وكثرة الفواكه وفيض الخمر التي تسر القلوب، وفي البحر المتوسط ترى كل ساحل وجزيرة يقي ظلال الآلهة القديمة، ولا ترى مثل هذا فيما وراء جبال الألب.
ولم ينشأ دور النهضة عن اكتشاف بضع عشرات من التماثيل، وقد أفاقت هذه التماثيل، التي كانت راقدة في الأرض أو الأنهار أو البحر أيام القرون الوسطى النصرانية، في عالم مجهول وأنعمت على الإنسانية بقوة جديدة.
ومع ذلك لم تكن هذه القوة غير حيوية أعادت الناس إلى أثر الأغارقة وحفزتهم إلى اكتشاف تلك التماثيل، والطبيعة فيها هي ما أعجب به المتفننون، والعري هو الذي حفز هؤلاء المتفننين إلى استنساخ تمثال أبولون البلفديري وتمثال هركول النصفي وتمثال فينوس الفاتيكاني؛ أي التماثيل التي كانت أول ما وجد، وقد فضل البرونز على النماذج الحية حينا من الزمن.
ولسرعان ما حول أولئك المجددون، في الكنائس، فن القوط الفرنسي الذي لم ينل حظوة في الجنوب قط، وقد أخذت المباني تمتد، وصار مقدمها يتسع، وأصبحت الأعمدة عناصر للوصل الأفقي، وما أكثر مقدمات البناء التي انتحلها عالم العصر الحاضر، كبعض بنوك نيويورك مثلا، وفق طراز دور النهضة؛ أي هذا الطراز الذي اقتبس من الأغارقة، ولكن لم تكن التماثيل، ولا القباب، ذات أثر بالغ في العصر، بل الرجوع إلى حكمة الأغارقة وشعورهم حول الحياة، ومع ذلك لم يخلع قديسو الكنيسة لتحل الآلهة القديمة محلهم، فلم يلغ شيء إلغاء مطلقا غير تقديس الألم.
وقد رئي أن من الممكن أن يرأف فيحسن من غير أن يعد المريض رسولا للرب، وقد وجد في أفلاطون، الذي مال بعض الخيار إلى وضعه في مكان يسوع، رجل موحد. وقال لوران المديسيسي إن الأرض خلقت عن حب الرب، لا مقدمة لعالم آخر، ولم ينفك الرب يكون موجبا لنفسه كما أن روح الإنسان تستطيع أن تتسع فيه إلى ما لا حد له.
وقد عرف ذلك الدور رغبة جامحة في التمتع بالحياة وبالحب الدنيوي والمجد في هذا العالم، ولم توضع الآلهة القديمة، التي وجدت فاستنسخت في كل مكان، على الهيكل لتعبد، ومع ذلك فإن روحها سادت البحر المتوسط، الذي هو أصلها، ولا سيما إيطالية، وعاد الخشوع، الذي ظن تطبيق الصليبيين له، غير صالح ليكون مثلا عاليا ما دحرته الخيلاء، وإذا كانت القرون الوسطى قد شابهت خريفا خالدا فإن عصر النهضة يشابه صيفا ساطعا، والإنسان وحده، لا يسوع، ولا أبولون، هو الذي مجد في ذلك العصر، وصار صيت القدماء قدوة للشباب ، وقد التهم بلوتارك كشفا لأسرار عظماء الرجال الذين قص سيرتهم، وكان فتيان الرومان يلبسون ثيابا عصرية ويحملون أسلحة حديثة حوالي سنة 1500، ولكن مع روايتهم عن بروتوس وشيشرون باللغة اللاتينية، ومع حديثهم عن أفلاطون باللغة اليونانية، وأضحى التفوق في القتال والخطابة، وبالسيف والكلام، مثلا عاليا لجميع الشباب، لا لفتيان الأشراف وحدهم، قال سزار بورجيا: «أحب المعاش على الحصان والفراش.»
وقد ظهر في جميع طبقات المجتمع نوابغ فضلاء بغتة، وقد زاد هذا قيمة بعدم ثقافة الشعب، وقد عرف النغيل،
31
المزدرى سابقا، ممكنات جديدة ما دام أصله يوجه الأنظار إليه في هذا العالم المضطرب، ويكرم العصامي أيضا، ويجد شرف الأصل مكانه أيضا، ويتبارى رجال نشاط ألباء ونساء حسان أريبات في بلاط الأمراء بدلا من أن ينحل هؤلاء الرجال ويناضلوا في سبيل ألوان نسوتهم الناعمة، وكان ذوو الطموح من أبناء الولايات يجمعون في أملاكهم أناسا مبدعين من جميع الطبقات الاجتماعية، فلا يبدون محل سخرية لتقليدهم عظمة القرون القديمة، والحق أن هذا لم يكن مهزأة، بل ميل إلى إنماء الذهن والبدن، وما أصبح مثلا عاليا للنبيل في إنكلترة بعد زمن سعي إليه في عصر النهضة بأسطع من ذلك ما كان النساء يسهمن فيه.
وكان للنساء موقع جديد في دور النهضة، وما اكتسبنه من مراكز حول سنة 1500 يعد ثورة مشابهة للتي حولت مجتمعنا في السنين الثلاثين الأخيرة، والفارق هو في كون هذه الثورة النسوية قد تمت في عصر النهضة من غير أن يعين عليها الفتيات اللاتي كن يذبلن في الأديار حتى زواجهن.
وصارت النساء مترجلات صائدات، ولكن مع ظهورهن تلميذات لأفلاطون ونموذجات لأكابر المصورين وعاشقات لأقطاب الأصحاب من ذوي الصيت والسلطان في ذلك الزمان، وقد ظل نظام الأسرة على حاله مع عدم وفاء وثيق في الزواج، ومع ذلك أصبح من الممكن طلب الطلاق من غير إثارة لعذل الناس، ومن النادر أن كانت المرأة تجود بألطافها عن ميل إلى ثروة الراغبين، بل كانت تمن بها عن نظر إلى المقام الاجتماعي في بعض الأحيان، وكانت الرجولة والجمال والشجاعة ؛ أي ما يعرف اليوم بالروح الرياضية، أكثر شيء يجتذب النساء، ولم يتفق لامرأة السوء من مقام في زمن، حتى بأثينة في القرون القديمة، ما اتفق لها في ذلك العصر، ولم تكن القصائد والقصص التي دارت حول علاقات إنبرية الشهيرة بأحد البابوات لتصف هذه الباسلة وصفا ساخرا بل وصفتها مع الإعجاب.
ولم يزر بالفضائل النصرانية في جو مثل هذا، وإنما وضعت هذه الفضائل في المرتبة الثانية بحكم الطبيعة، ومن ذلك حلت شهوة الثأر الوثنية محل فضيلة التوبة النصرانية، وكان يرى الجبر في طبيعة الرجال والنساء فلا يحتاج الإنسان بعد الآن إلى قسيسه أو إلى يسوع لينقذه، وحافظ الناس على طقوس العماد والزواج والجنائز، والروح القدس هو الذي كان يلوح خلوها منه، وقدرت نساء قديسات، ككترينة السيانية، تقديرا عظيما لفائدتهن الاجتماعية، وقد عاشرن معاصريهن كالمطالبات بمساواة الجنسين في الوقت الحاضر، وكان من النادر وجود امرأة مترجلة؛ أي عذراء مجاهدة. وعلى العكس وجد من النساء كثيرات عارفات بأمور الغرام خبيرات بحيل الرجال. وكان من عادة الدوكة كترينة سفورزا أن تعرض جنودها في ميدان عام كل يوم، وقد دعيت ذات يوم إلى الانتباه بصوت عال لاحتمال الانتقام من أولادها بسبب شهوة الحكم فيها، فاسمع جوابها: «عجبا، إذا ما أصيبوا بشيء وضعت عوضا منهم!» فقول كهذا يشجع جيلا من الفتيات على السير مع أهوائهن.
وتذكرنا هذه العبادة للبدن وللحذق الفطري واللعب الفروسي والعمل الرياضي ببعض المثل العليا الأمريكية الحديثة، ولو وجدت في فلورنسة مجلات أسبوعية كما في نيويورك لأبصرنا تماثلا بين كثير من صور البلدين مع قلة تبسم في السابقة، ولو نظرت إلى ما رسم من صور رائعة كثيرة لذوي الصيت وغير ذوي الصيت من رجال عصر النهضة ونسائه لرأيت موناليزا وحدها هي الباسمة ولرأيتها لم تبسم لغير نفسها.
ومع ذلك فإن حيوية مشرقة كتلك لا تكون خالية من بعض المحاذير، وكانت هذه المحاذير أظهر مما في الدور الروائي السابق أيضا، فالانتقام ولد القتل وغذى الطموح ما بين الأمراء والجمهوريات من صراع لا ينقطع، وما أبدي من إعجاب بالمغامرين أدى إلى اشتباك الطبقات اشتباكا تاما، وقد آلت السلطة إلى الأكثر مهارة وبسالة، لا إلى المؤتمرين المرائين كما في بزنطة، وقد حاول الجميع أن ينال السلطة إذن، فنالها في بعض الأحيان أناس غير معروفين، ومن لم يسطع أن يتعلم في شبابه كان يعرف ذلك سريعا من «كتاب النديم» لكاستيغليوني؛ أي من هذا الكتاب الذي كان يعلم العالم سلوك سبيل النبل فصار أكثر كتب العصر تقديرا.
وأما النساء فكن يتعلمن قواعد السلوك وحسن الأوضاع من كتاب «جمال النساء» لفرنزولا؛ أي من هذا الكتاب الذي كان يتطلب صدرا واسعا بدلا من أكتاف رخوة للمرة الأولى منذ عهد الأغارقة. وليست فضائل الإخلاص والوفاء والشكران هي التي كان الناس يسعون لنيلها تزيينا لحياتهم، بل كانوا ينشدون الجمال والصحة قبل كل شيء، وكان يستغني عن الحرية من هو حائز لهذين الكنزين حينا من الزمن. والواقع أن حسان الرجال والنساء كانوا يجدون، أحيانا، منقذا يخرجهم من بين جدران السجن، ومع ذلك فإن بهجة الحياة لم تنحط إلى درك الفسوق والإدمان والخلاعة؛ أي إلى الأباطيل التي اعترت الإمبراطورية الرومانية الآفلة فلم تسفر قرونها الثلاثة عن أي أثر فني والتي لم تنتج قرونها هذه غير قليل من الآثار العلمية، وعلى العكس كان العالم قد كون حول سنة 1500 وكان يسوده من الفن والعلم ما لا عهد له به منذ زمن الأغارقة.
ويتردد أحيانا في مقابلة رجال ذلك الدور في إيطالية على الخصوص بأغارقة القرون القديمة، ولم يعلل هذا التردد بطابع دور النهضة الطارئ ولا بمستواه الفني المتأخر، ويمكن الميل إلى هذه المقابلة بلا وجل؛ وذلك لأنك إذا عدوت عهد بركلس وعهد ليون العاشر لم تجد دورا قبل النهضة وبعدها اشتمل في زمن واحد على مثل ما احتوته هذه النهضة من ذوي السمو. وكلا الدورين كان قصيرا، وكلاهما ظل متجمعا زهاء أربعين عاما، ولو توسعنا في العد من حيث الازدهار لجعلنا القرن الخامس نصيب الأغارقة ولجعلنا ما بين سنة 1450 وسنة 1550 نصيب دور النهضة.
وفي دور النهضة حدث أمر نادر في إيطالية، ظهر كثير من العباقرة في جيل واحد، وما كان عهد أغسطس، ولا عهد جوستينيان أو الملك الشمس، ولا عهد الملكة إليزابت أو الفليبين،
32
ولا عهد نابليون؛ أي ما كانت هذه الأدوار، لتستطيع أن تزهو بأنها أنتجت من العباقرة مجتمعة ما أنتجه دور النهضة، ويكفي سرد أسماء هؤلاء لأسفنا على عدم معاصرتنا هذا الدور.
والحق أن بعضهم كان معاصرا لبعض تقريبا، فبين النحاتين سر من فروكيو إلى ميكل أنجلو، وبين المفكرين والشعراء سر من تاس وأريوست إلى بيك الميرندولي فإلى مكيافلي، وبين المصورين سر من بوتيشلي وغرلانداجو إلى بيرو دلا فرنسسكا، ومن بليني إلى جيورجيوني فإلى تيسيان، ومن بيروجين إلى رفائيل، ومن كريجيو إلى ليونار دفنسي فإلى لويني، وبين المهندسين البنائين سر من برونليشي إلى برامانت، ومن البابوات اذكر الثلاثة العظماء الذين تعاقبوا وهم: إسكندر ويوليوس وليون، وبين الرؤساء سر من سزار بورجيا إلى كوليوني، وبين الملوك سر من فرديناند إلى محمد (الثاني)، وبين الرواد سر من فاسكو دوغاما إلى كريستوف كولونبس ...
وفي ذلك العصر ظهر مئات من ذوي النفوس الكبيرة ضمن نطاق المدن الإيطالية، ولم يشاهد البحر المتوسط تجمع مثل ذلك العدد من العباقرة غير مرة واحدة، وذلك حين أقام بركلس البارتنون قبل ظهور آل مديسيس بعشرة قرون، ويتشابه الدوران بهاء وسناء، وكلا الدورين أثار نكرانا وآثاما وتحزبا وانتقاما.
ولا تزال تلك الأدوار تفتننا لعدم خلوها من المعايب.
ومع ذلك يوجد اختلاف بين أسس ذينك الدورين الماجنة، فكان الأغارقة أكثر بساطة قبل أفلاطون على الخصوص، وكان رجال عصر النهضة أكثر سفاهة، وقد اضطر دور النهضة، للعثور على الطريق المؤدية إلى الآلهة القديمة، إلى ترك أمور لم يكن الأغارقة قد حازوها بعد، ويبدو هذا جليا فيما كتبه مكيافلي الذي بنى أدب الدولة على إنكار جميع المبادئ التي قد علمها في صباه، ويعد إعجابه بسزار بورجيا حملة سافرة على علماء الأخلاق الذين كانوا ينكرون إمكان وجود ابن للبابا وإمكان اشتراك دوك ربي في الفاتيكان في مؤامرة، وتجعل هذه الواقعية من مكيافلي محللا بارعا، ومع ذلك تختلف لا خلقية مكيافلي عن خلقية أوميرس اختلاف تمثال الليل الذي نحته ميكل أنجلو لضريح فلورنسي عن تمثال السعلاة الناعسة لدى الأغارقة.
ولا يشابه رجل عصر النهضة رجل القرون القديمة الذي اكتشفه حديثا إلا من بعض النواحي، وعلى العكس تراه أكثر شبها بنا، وهو أقرب إلى عصرنا من جميع من ظهروا بينه وبيننا. وكان عصر النهضة فرديا إلى أبعد حد، وإذا عدوت حب الحرية لم تجد صلة بينه وبين الديمقراطية، وذلك مع اختلاف وسائل البحث عن الحرية في كلا الدورين اختلافا تاما ومع تباين رجالهما تباينا كبيرا، ويدل ما بدأنا به من وضع الجد في قالب الهزل على تعذر كل بعث لدور النهضة بعد الآن. أجل، إن من النوابغ من ظهروا في كل زمن وتحت كل نظام، غير أن حدود المبادئ الديمقراطية تقلص ما فيهم من استعداد للازدهار، وصار وجود عبقري على رأس الدولة أمرا لا يطاق، وفي هذا سر التجاء العبقري الحقيقي إلى حظيرة العلم والفن تاركا عالم العراك إلى الأكثرية؛ أي إلى قليلي الذكاء أو إلى مشخصين متوسطي المواهب.
ويتجلى وجه عصر النهضة المزدوج حتى في صلات هذا الدور بالحركة الدينية المعروفة ب «الإصلاح» الذي هو وجه آخر للتمرد على القرون الوسطى.
ودفقت من الأرض القديمة على شواطئ البحر المتوسط في الجنوب تماثيل من القرون الخالية كأنها تمد أعضاءها الرخامية والبرونزية بعد نوم طويل، فبرزت عارية أو مدثرة مع الجود من جديد ديانا وأبولون وهيرا وزوس وبوزئيدون وديميتر وآلهة البحر وبناته وعرائسه وحيوانه، وقد أفاق جميع هؤلاء تحت سماء جديدة كانوا يعرفونها كشمس أوميرس، وقد أهرع متفننون وهاوون وأمراء وجامعون فبنوا لهؤلاء الأغارقة قواعد ثمينة غافلين عن أنه يعوزهم أحيانا ذراع أو رجل أو رأس.
ولكن عاصيا نصرانيا في الشمال كان يحصر بصره في آثام البابوات آنئذ، ومن هؤلاء البابوات واحد صور خليلته على جدار الفاتيكان ونصب أخا هذه الخليلة كردينالا ومنح ابنه الخاص لقب دوك، على حين كان يهيئ في ثلاث أحوال مختلفة زواجا سياسيا لابنته الباهرة الجمال: لوكريس بورجيا. وكان لوثر برومة في ذلك الحين، وأظهر ما كانت عليه نفسه في وضح ذلك النهار هو أنه لم يوجه نظره إلى غير المعايب، لا إلى النور، وقد أفلت في وقت واحد زمام الحركتين: الخلقية واللاخلقية، والشهوانية والروحانية، والبعث الأدبي والإصلاح الديني، والاندفاع والامتناع، والادعاء والدعاء، لتتصادما صداما لا مخرج منه.
والواقع أنه كان يوجد في القرن الخامس عشر رجال من أنصار النهضة في الشمال كما كان يوجد متعصبون في الجنوب، ويكفي لبيان ذلك أن يذكر أمر إراسم وسافونارول، فكلاهما كان يصاول خصومه تارة ويصالحهم تارة أخرى وفق اختلاف طبعهما، وكلاهما عرض لريح العصر فكانت هذه الريح ترفع معطفهما فيرى تشابه غشائهما الفاني، وكان كل منهما يماثل الآخر في أمر، في ممارسة قوة الطبع، ولا يدهش من ظهور سافونارول مع مواكب مريديه التائبين فخورا كأبطال مكيافلي في أثناء عرضهم، ويلاحظ تساوي الاثنين في عنصرهما المسرحي، والاثنان قد بحثا عن المجد كهدف عال لهما.
ومع ما كان عليه إراسم من تسامح فإنه تحول عن لوثر لنفوره من تعصب هذا الأخير أكثر من كرهه شهوانية البابا ليون الذي وقف حياته على الجمال والروح، ومع ما كان عليه مكيافلي من لا خلقية فقد جعل من نفسه رسول موسى وتيزه؛ أي رسول منشئ الدول الروحية هذين، وهو لم يسمح للأمير الذي كان مربيا له بأي لعب أو بطالة.
والحق أنه لا ينبغي أن يعد توراة عصر النهضة كتاب مكيافلي، كتاب «الأمير»، الذي ملأ أفكار القرون الآتية، وخيال الملوك المعاصرين أيضا، فقليل من كانوا يعرفونه في ذلك الحين، وقليل من استوحوه. والواقع أن مكيافلي لم يعلم شيئا كان لا يشعر به منذ أقدم القرون، والقرون الوسطى مع «بلد الرب» فقط، هي التي كانت لا تذكر ذلك، وكل ما هو جديد في مكيافلي هو إصراره الكلبي ضد الأدب النصراني، وقد حرك هذا الإصرار وهمز شهوات القراء الطامعين في السلطان، وقد عاش الكبراء من الأمراء وفق مبادئ مكيافلي قبل ظهوره وبعد ظهوره وإنما كانوا يحترزون من الاعتراف بذلك.
وقد عبر عصر النهضة عن حقائق مكنونة في جميع القلوب، وكان الصدى المحرك للأحرار من القوة ما صار الأساقفة ينتخبون البابوات معه من الأحرار المفكرين، ولسرعان ما مات البابوان السوداويان التقيان اللذان شغلا الكرسي البابوي بين بابوات عصر النهضة الثلاث العظماء فعد موتهما السريع رمزا لروح زمانهما. وكانت القرون القديمة تلوح بين هذه الحياة الفياضة مثل نجم مذنب ظهر حديثا ليهتدي به الملاحون المغامرون في بحار هائلة، ويموت مكيافلي فيحكى أن قديسين من الجنة وقدماء من جهنم بدوا له، ويسأله الرب: أين يريد أن يذهب؟ فيجيب قائلا: «أفضل النقاش السياسي مع عظماء جهنم على سأم يعتريني في الجنة من أناس لا طعم لهم.»
وكان لقادة عصر النهضة، على العموم، رءوس صغيرة وأنوف كبيرة وأفواه شهوانية، وكان كل شيء لدى مكيافلي مقرنا رقيقا، حتى إن فمه كان مضغوطا، ولم يكن لدى الإسباني إسكندر بورجيا ما هو إسباني غير ولده، ويذكر رأس ليون العاشر المديسيسي الرزين بجده كوم، وينم يوليوس الثاني، الذي رسمه رفائيل أميرا محاربا، على ملامح قليلة لعالم ولجامع آثار فنية. ومن حظ هؤلاء أن خلدوا من قبل أعظم مصوري العصور، وهم أهل لذلك، فقد أعانوا هم وأجدادهم، كحماة للعلم والفن، على نشوء هؤلاء النوابغ معدين السبيل لهم بتوصياتهم، ولم يدفع شيء إلى ميكل أنجلو، وقد غر برامانت حاميه، وقد اضطر رفائيل، الذي أسعده الحظ، إلى المطالبة مرات كثيرة بدفع ثمن الألواح التي رسمها لحساب أناس من ذوي المقام الرفيع، ومع ذلك لم يكن هذا ذا أهمية كبيرة، فلم يكن المال في الحقيقة ليفتن متفنني ذلك الدور وأمراءه، وما كان من عدم عبادة المال في ذلك الزمن الذي انهمك الناس فيه بأطايب النعم ظل من أسرار عصر النهضة. وبهذا يتجلى الفرق الأعظم بين ذلك العصر وعصرنا ضمن النطاق الذي نجل فيه مثل دور النهضة العليا، ومع ذلك فإن مستوى حياة هؤلاء المتفننين ينم على رغائب أعظم مما كانت قبلهم ما صار المتفنن سيد نفسه نتيجة لإظهار عصر النهضة جمال الأغارقة، وكان جميع الناس يصبون إلى العز والمجد، ولم تكن النساء وحدهن هن اللاتي يضحين بمالهن تخليدا لجمالهن.
وكان الفن والذهن في إيطالية عصر النهضة، كما في أثينة الكلاسية،
33
يشغلان المكان الأول، وهذا يوضح ما نيل من نتائج خالدة نتيجة لبحث عالم ذلك الحين عن المتفننين واحتياجه إليهم، لا نتيجة لظهور بعض المتفننين ظهورا مفاجئا، وتميز هذه الحال الروحية دور النهضة من عهد الإمبراطورية الرومانية الثقيل الخانق حين كان الأباطرة والإمبراطورات يشعرون بلذة خاصة في مخادعة بطائنهم مبدين من المناظر ما هو لا خلقي غير تاركين للأعقاب من التراث ما هو ذو قيمة.
وكيف كان عدم غدو أية امرأة من نساء تلك القرون الرومانية نموذجا أو مثلا عاليا يحتذى؟ إن عصر النهضة وحده هو الذي تطلب منذ عهد الأغارقة أناسا موهوبين أو قادرين جعلوا من حياتهم أثرا فنيا صالحا ليكون منظرا لمعاصريهم ومثالا للذراري. أجل، إن أعمال أعاظم الرجال أنجزت بوحي من الخلود، غير أنهم لم يروا الخلود من خلال الجنة النصرانية، وقد شغل إنشاء كنيسة القديس بطرس في ذلك الحين بال الناس أكثر مما شغله فتح فرنسة لمملكة نابل أو إضاعتها لها، فكنيسة القديس بطرس كانت أثرا فنيا ورمزا، ولم يكن غزو نابل غير حادث عارض. وكان المعاصرون يبصرون ما نبصره بعد خمسين عاما، فنقابل معارك أنجو ونابل بعدم الاكتراث على حين تخاطب كنيسة القديس بطرس أفئدتنا على الدوام.
أولم يحق للمتفننين في ذلك العصر الزاهر أن ينحازوا إلى الذي يساعد على إنماء عبقريتهم؟ لقد هجروا كلهم، تقريبا، المولى أو الكريم الذي كان يخسر سلطانه أو يصبح عاجزا عن الإنفاق في سبيل جهودهم المبدعة، ومن قول مكيافلي «إن الحظ هو القدرة على رؤية الأمور كما هي»، ولم يكن مكيافلي نفسه من أصحاب الحظ وإن كان أكثر من جميع معاصريه بصيرة على العموم. ومع أن القرون القديمة كانت تخبر عن الآلهة الحاسدة التي كانت تطالب الآدميين بأن يقدموا إليها قرابين متطوعين ، كان رجل عصر النهضة هذا قابضا على كل ما يمكن أن يأتيه به النصر والحكمة والنجاح، ثم كان يسأل القدر منجما أو مفتئلا!
وكان القائد المنصور مع المتفنن سيد العصر؛ أي القائد، لا المولود أميرا، ومع ذلك فإن نظر الزمن لم يكن ليتوجه إلى رئيس الجيش الذي يختم موفقا حرب سنين كثيرة، بل كان صاحب الحظوة هو قائد المائة المرتزق الذي يكسب عدة معارك قصيرة ويغير رئيسه غير مرة. ومما كان يسهل أمر تغيير القائد اشتراك الجميع في حضارة واحدة وعدم احترابهم في سبيل مبادئ أو دين، وذلك إلى أن المتفننين هم الذين جعلوا هؤلاء الرجال من العظماء، ولا ريب في أن يوليوس قيصر كان يظل كما هو ولو لم ينته إلينا عنه تمثال نصفي ولو لم يجعل شكسبير منه بطل إحدى مآسيه، ولكن من ذا الذي كان يعرف، حتى في إيطالية، اسم غاتا ميلاتا أو اسم كوليوني لولا آثارهما؟
ولم يقاتل أحد من هؤلاء الرؤساء في معارك شهيرة، بل كانوا ملتزمي حرب فيؤجرون كتائبهم من الأكثر دفعا، بل كانوا تجارا يبيعون حظوظ الحرب، ومن ذلك أن نبيلا أعسر، وكان اسمه كوليوني، فصار عاشقا لإحدى الملكات بفضل قوامه الرائع، وكان له ما يحميه لهذه العلة، ثم حمل على مناهضة البندقية بفعل آل فيسكونتي بميلان، ويعتقله هؤلاء فيفر من سجنه، ويمثل دور الوسيط بين الخصمين، وينال أملاكا كبيرة مكافأة، ويقيم بالبندقية في مشيبه إقامة الأمراء معلما شبان الضباط مدعوا إلى موائد أكابر الناس، وينشئ وقفا لتجهيز الفتيات الفقيرات في برغام، ولا يزال هذا الوقف قائما حتى اليوم، وكان الأعقاب يجهلون هذا السري لو لم يقم له فروكيو أجمل تماثيل الفرسان بجانب جدار وعر من جدر كنيسة في البندقية.
وعمل آل فيسكونتي على رفع صيت آخر، وكان هؤلاء الآل مغامرين فتغلبوا، في بدء الأمر، على أسقفية ميلان، ثم على مدينة ميلان كلها محولين إياها إلى دوكية قوية عن طالع فصاروا سادتها المطلقين، وهم، وإن ملئوا ألقابا وامتيازات، لم يغدوا خالدين إلا لأنهم أخذوا ينشئون كنيسة ميلان التي هي من عجائب الدنيا، ويظل موجد هذا الأثر منقطع النظير كمؤسس دولة، ومع أن هذا البناء لم يتم إلا في أربعة قرون، كالإمبراطورية الرومانية، فإن مؤسسي كلا الأمرين، فيسكونتي وقيصر، كانا أول من تمثلا عملهما على نسب واسعة المدى. وقد كان للكنيسة، كما كان للإمبراطورية الرومانية، بناءون متفاوتون استعدادا، وكان هذا البناء أو ذلك يمزج الطرز، وما في الكنيسة من رخام وردي تنيره الشمس يلوح لنا أحيانا مثل حلم الحلواني الذي يتلهى بصنع أبراج صغيرة ونقوش وزخارف خيالية، وتظل الكنيسة، داخلا، أروع معابد الدنيا.
ويظن الإنسان دخوله في ظل غابة ذات أشجار قديمة تنتصب سوقها نبيلة متوازية على فواصل منتظمة على حين تتسع ذراها حتى يتصل بعضها ببعض، وتغمس ألوان النوافذ الزاهرة تلك الكنيسة في جو ذي أسرار فيذكر بكنيسة شارتر، ويجعل هذا من الغابة الرخامية مكانا لجمع الأفكار والحواس لا تجد مثله في كنيسة القديس بطرس ولا في أشبيلية، ولا في القسطنطينية أيضا. ومع أن الجدر العالية في كنيسة ستراسبرغ أو كنيسة نوتردام دوباري تفصل الصحن فإن النظر لا يؤذى من خلال هذه الأشجار الماردة نتيجة لتركيب الأثر أو للزخارف أو للصور أو للأعلام، وترانا ندهش ببساطة الداخل الأصيلة بعد الإسراف البنائي المزعج في الخارج، ومن لم يسطع أن يجد الرب في هذه الغابة الغسقية
34
يكن الرب تاركا إياه لا ريب.
والواقع أن جميع هؤلاء المغامرين كانوا ذوي مبدأ عن الدولة كآل فيسكونتي، وقد حركهم البابا يوليوس الثاني في بضع سنين بوغي الحرب: «أخرجوا الأجانب!» وقد كتب النصر في نهاية الأمر للشعور القومي الإيطالي والحلف الجديد الذي عقده البابا مع إسبانية والبندقية على ملوك ألمانية وفرنسة، ومع ذلك فإن المجمع الديني الذي عقد بعد النصر عجز عن توحيد إيطالية؛ أي عن القيام بأمر لم يحقق إلا بعد ثلاثة قرون ونصف قرن.
ولم تسطع المثل القومية العليا، ولا المبادئ الدينية، أن تثير رجال عصر النهضة إثارة قاطعة، وعاد هؤلاء الرجال لا يبالون أن يكون الأمر قبضة غلفي أو غبلي، ولا أن تحالف فرارة فلورنسة، ولا أن يكون السويسريون أو الرومانيول
35
حماة البابا، ولا أن يبدي السلطان نشاطا بالغا تجاه البحر المتوسط، وما يملأ كتب التاريخ حتى اليوم من هذه الحوادث لا يثير اكتراثنا كثيرا. والحق أن هذا الدور أنعم علينا في حقل آخر بنماذج خالدة حول حياتنا اليومية، أنعم علينا بدروس في فن الحياة.
ويلخص صديق لوران المديسيسي المتصوف بيك الميراندولي، في رسالته «كرامة الإنسان»، اعتقاد ذلك العصر بقوله على لسان الرب لآدم:
لقد وضعتك في وسط هذا العالم ليسهل عليك أن ترى ما حولك فتبصر ما يوجد ضمن حدوده، ولقد خلقتك شخصا فانيا وغير فان حتى تكون نفسك طليقا وتربي نفسك بنفسك، ويمكنك أن تصير مثل الرب، وتأتي الحيوانات معها بما تحتاج إليه منذ خروجها من بطون أمهاتها، ويكون ذوو النفوس العالية منذ البداءة ما يكونونه في سواء الأبدية، وأنت وحدك تقدر على إنماء نفسك وفق إرادتك الحرة.
13
من الصعوبة الكبيرة أن يشخص عصر النهضة في رجل بارز كبركلس أو أغسطس أو جوستينيان أو فردريك الثاني، ولم يكن لوران المديسيسي بألمعيته وبهاء بلاطه غير ربيع مبشر بالصيف، ولم يبدأ عصر النهضة إلا بعد موته. وكان إسكندر بورجيا على شيء من البربرية على الرغم من كل أمر، وكان البابا ليون العاشر والكريم يوليوس الثاني وفرديناند الأول رجالا مركزيين كأولياء أمر، وكان لودوفيك سفورزا مغامرا ناضرا، وكان سزار بورجيا قائدا ذهنيا، وكان مكيافلي فيلسوف زمنه، وكان تيسيان ألمع متفنني عصره، وكان ميكل أنجلو أكثرهم تنوعا.
ولم يكن ميكل أنجلو الذي وصفناه في موضع آخر غير نحات في الحقيقة، حتى إنه كان ينحت صوره حين الرسم، حتى إنه كبناء كان ينقش قبة القديس بطرس في الرخام، حتى في سبيل إقامة هذه الكنيسة كانت صفة النحات فيه أبرز ما يبدو، وعلى العكس كان هذا الفن نفسه ينم عليه فيضره أحيانا، ومن ذلك أننا نضطر في بيعة سيكستين دوما إلى قلب الصور المرسومة في القطعة الرخامية من بعدين إلى ثلاثة أبعاد، وفي ميدان الشعر أكثر ما يبدو ميكل أنجلو مصورا.
ولا مراء في أن الرجل الذي لا يعترف له بغير نبوغ محدود، والذي لا يعده إلا كمصور للحب ومن ثم للفتاء مثلا، يكون جاهلا حواء المصورة في بيعة سيكستين أو جاهلا الوجوه المنحوتة حول «الليل» و«الشفق» على ضريح آل مديسيس بفلورنسة؛ أي الوجوه المنقطعة النظير جمالا نسويا، ولم يظهر منذ عصر الأغارقة من فاق ميكل أنجلو في فن نحت الرخام، وهو إذ كان يتردد إلى الجبال القريبة من كارارا قضاء لوقته فإنه تمثل بخياله بعض الوجوه في قطعة رخام، وهنالك فصل هذه القطعة التي أبصر بها رسم أثره.
ومع ذلك فإن ليونار دفنسي هو أبرز وجه في عصر النهضة، ولم يدانه أحد شهرة، وتجد ليونار جماعا لكل من كان البابوات يقدرون على جمعه حولهم من المبدعين، ولم يكن جميع ما حصله المتفننون في ميدان الفن، وكل ما وسعه ميكل أنجلو بادئا من التصوير حتى قبة الكتدرائية مارا بالتمثال، غير قسم من أثر ليونار، والعالم يجد فيه مصورا، وهو كان يحب أن يعد مخترعا، والواقع أنه كان في وقت واحد فيزيويا مماثلا لغليلو ورياضيا مساويا لفيثاغورس وفلكيا عظيما مثل كوبرنيك ومهندسا حربيا يسمو إلى أرشميدس وعبقريا صناعيا يفوق إديسن.
وقد أنشأ لدوك ميلان مدافع وجسورا عائمة وسمط ألغام، وقد تمثل أولى الدبابات، فكانت هذه الآلات تشابه السلاحف أو السقف المزدوجة مع ثقوب في دروعها وخيل في داخلها، وقد رسم تصميما لبلاليع فلورنسة واخترع مداخن عصرية وأبوابا تغلق آليا وسفافيد
36
تعمل بالهواء الحار، وما وضعه من تصاميم عن تقنية
37
تيسيان وأرنو وساون عمل به وفق خرائط مماثلة له، تقريبا، بعد ثلاثة قرون أو أربعة قرون، وكان أول من صور أجراسا غطاسة وطائرات وهابطات
38
وغواصات ومدافع بخارية، وصنع بارودا وأنشأ قدرا زجاجية وجهازا للتقطير، وصنع أيضا مناشير ميكانية
39
وأنوالا للحياكة ومجاز للشعر وآلات للغسل ودواليب للخزف، وأنشأ آبارا ارتوازية، ويرجع إليه فضل الميزان والمرآة المقعرة والرقاص، ووجد صدفا على رأس الجبال فغدا أبا لعلم المستحاثات ولنظرية الطبقات الصخرية والمتحجرات، واكتشف قانون سرعة سقوط الأجسام قبل نيوتن بقرنين كما اكتشف سرعتها الحقيقية قبل غليلو، ووجد علل الزوابع ودوران الماء كما وجد ناموس الشعرية، وكان مؤسس علم المياه، وطبق على الصوت والنور نظرية اهتزاز التموجات، وقدر التموجات الرانة وفسر الصدى وانسجام المجسدات
40
الصاعدة، وأدرك وظيفة عدسة العين وشبكتها.
وما كانت عبقرية القرون الوسطى لتبلغ مثل هذه المعارف التي انتهى إليها عصر النهضة عن إيمان بالطبيعة والتجربة الطبيعية، وهكذا استطاع ليونار دفنسي، مثلا، أن يطبق المنهاج التجربي قبل بيكن بزمن طويل، استطاع أن يطبق هذا المنهاج الذي لم يتخذه الأغارقة إلا على شكل ابتدائي، ولما ذابت عقيدة القرون الوسطى بفعل نور العلم وأصبحت التجربة وحب الاطلاع وبهجة الحياة عوامل إبداع استردت الحواس مكانها الطبيعي، واستطاعت العين التي أدركت الطبيعة أن تؤدي إلى اكتشافات قائمة على الترصد والمشاهدة، وتدفقت سنن الطبيعة من موج اختراعات البحاثة ليونار كأسماك من ذهب، ولو ظهر ليونار قبل قرن لتعذر عليه كل اتصال بالطبيعة التي نشدها مدى حياته لعده بذلك من الملحدين في ذلك الحين.
وقد شملت نشوة الحرية الذهنية جميع البحر المتوسط في ذلك الزمن، ولم تصل إلى الشمال، فكانت كالنسيم العليل الذي تثيره الأمواج الخفيفة المنارة بالشمس. وكان الدكتور فاوست قد اضطر، قبيل عصر ليونار دفنسي، إلى الاختفاء في ألمانية خلف أقنعة ودساتير. ومن الواقع أن ليونار نفسه احترز من إطلاع العالم على اكتشافاته العميقة فاستعمل، عن حذر، كتابة ذات حروف معكوسة إمساكا لليومية المشتملة على جميع علمه، ومع ذلك فقد وجد حوله رجالا أيقاظا كانوا جادين مثله في اكتشاف طائفة من المعارف، فكأن القوم في كنيسة حرة فاسحة في المجال للباحثين، وقد عهد إلى كهنوتي أن يقرأ للبابا في حديقته كتاب كبلر الذي ناقض التوراة فيه حول وضع الأرض في مركز الكون، وكان ذلك العصر يتقبل أبطال الانقلاب الفكري مستطلعا باسما مترقبا.
إذن، لم يعد ليونار ساحرا. إذن، بدا ليونار لمعاصريه فزيويا عالما مخترعا، وكان ليونار يقدر جمال الرجال وحسن البزة فيتنزه في شوارع ميلان مصاحبا بعض التلاميذ الفاخري الثياب أحيانا، وكان مثل هذا الوضع ملائما لروح العصر فلم يك وقفا على البلاطات، وما هو واقع من كونه «مصورا عوادا» لم يذكره إلا في آخر كتاب يلتمس فيه وظيفة، فلما صار موظفا لدى آل بورجيا أصبح لقبه الرسمي «مهندس الحصون العام»، وقد صور للدوك سفورزا الميلاني نساء حسانا وخطط له تماثيل فرسان، وقد اخترع مفاجئات مضحكة لمواكب الأعراس؛ حيث يجعل أسودا آلية تركع، وقد نظم مجاري أنهار وأنشأ آلات لحصار الأمكنة الحصينة. ومعارف منوعة مثل هذه مما كان شائعا في ذلك العصر، غير أن ليونار كان جامعا لها أكثر من سواه.
أجل، إنه كان عدوا للحرب، غير أنه كان يعرف، بما هو سائد للعصر من الكلبية، أن يفصل معتقداته عن حقائق الحياة، وكان لا يبالي بلون الفريق الذي يخدمه في الحرب، ولا يشغل ذهنه بمن يخرج من القتال غالبا، وكل ما كان يرغب فيه هو أن يمارس مواهبه وأن يحث استعداده الذهني وأن يعيش هادئا غير غني في عالم من الحرية والجمال، ويغلب سفورزا، الذي قام بخدمته زمنا طويلا، ويعتقل، فينحاز ليونار إلى الغالب ويحول تمثالا، كان قد أعده منذ سنين لآل سفورزا، إلى أثر مجيد لخصومهم آل فسكونتي، وهكذا غير سادته ثلاث مرات سائرا مع الغالب ما دام الجميع يغدون رؤساء، وعلى من يميل إلى وصف هذا الوضع بالخداع ألا ينسى خيانة السادة الذين يتخلون عن المتفنن في دور أفوله كما يصنع ذلك ناشرو الزمن الحاضر، وكان اعتماد كل نابغة على نفسه من النشوء ما يقابل المتفنن معه ثقته الذاتية بغدر الأمراء والأقوياء.
وما كانت القرون الوسطى تجهله من شعور بالحرية الشخصية بلغ درجات رفيعة في روح ليونار، وما كان ليونار ليستطيع تغيير المجتمع، ولكنه كان إذا ما أبصر عصافير في قفص اشتراها وأطارها، ومن مبادئه أن العمل والنشاط والحياة أمور تجربة فيسخر عبقريته العظيمة لنفسه من بعض الوجوه، لا إرضاء للرب بأعمال التقوى ولا خدمة للأقوياء ما لم يدفع أحدهم إليه مالا. وما كان من عده الحياة تجربة شاطره إياه عبقري آخر، شاطره إياه غوتة الذي كان يعد نفسه صورة رزينة لليونار دفنسي، وما كان من بقاء أثر لغوتة أكثر من بقاء أثر لليونار لم ينشأ عن انقلاب الحروب الدائم مدى حياة هذا الأخير فقط، بل تجد سببا لذلك أيضا في تجارب المصور الكيماوية حول الألوان كما تجد لذلك سببا آخر في تلك القناعة الذاتية التي لم يبحث بها عن الفوز الخارجي مكتفيا بالإيداع في يوميته، فبهذا وحده كان يختلف طابع عصره، وهو الوحيد الذي لم يبتغ المجد في دور النهضة.
ولهذه الأحوال لم يبق للأعقاب غير تسعة من ألواحه، ومن هذه الألواح ترى خمسة فقط صحيحة سالمة، وقد صور جميعها في أواخر عمره، وتجد أربعة منها في متحف اللوفر، وتجد «العشاء السري»، الذي هو صورة جدارية، في ميلان حيث يتفتت يوما بعد يوم، ويزول رونق الألوان منذ زمن المصور، ويتشابه جميع هؤلاء النساء والفتيان، ولا يميز بعضهم من بعض تمييزا تاما من حيث الجنس أيضا، ويشتركون كلهم في الدعر الذي تنم عليه ملامحهم الباسمة كما في آثار ميكل أنجلو، ويظل الحب، الذي أبلغ في هذه الوجوه إلى أقصى درجات اللطف، دنيويا، ولا تدل هذه الأفواه والعيون والخدود والأكتاف على التواضع بل على مقدار كبير من الرقة. وكان جميع هذا ممكنا في دور النهضة، وذلك مع غرائز سليمة تماما، وذلك كالقديس يوحنا المخناث الذي صوره ليونار في آخر عهده فيمكن أن يسمى ديونيزوس أيضا، وقد تكون القديسة حنة أجمل من جميع هذه الأشكال حين تبتسم لابنتها ولابن بنتها فتلائم تعريف غوته إياها بقوله: «إنها تعلو الشهوانية من الناحية الشهوانية.»
وإذا ما عارضنا هذه مع أخته الغامضة الأمر موناليزا، وجدنا صورة امرأة أخرى انتقلت إلينا من ليونار، وجدنا صورة إيزابلا الإستية التي رسمها بالأحمر من الطباشير في ساعة واحدة مع أنه قضى أربع سنين في رسم صورة موناليزا، ولا تعلو ابتسامة وجه إيزابلا التي هي أصغر سنا عشر سنين والتي هي أكثر احتشاما واتزانا، ولا تبدي إيزابلا غير جانب من وجهها، ولا يكون لملامحها الغضة التي هي في دور التكوين غير جاذبية أقل من تلك أول وهلة، بيد أنه ينشأ عن الجيد الرائع النابت على رسم واحد، وعن شلال الشعر المعدني الذي يكسوه كخوذة، وعن استقامة الوضع، وعن نور البصر، وعن طلاقة الوجه، شخصية متوقدة مسيطرة على الحياة ساطعة من غضون القرون.
وهذا هو أمر أجمل نساء ذلك العصر وأقوى رجاله، وهذا هو أمر دور النهضة.
14
تغادر المقدم الجنوبي من القصر الأميري سفينة ذهبية عالية الأطراف ومزينة بصور ساطعة وأعلام حريرية، وتبتعد السفينة عن الشاطئ وتتبعها مئات من السفن الصغيرة، وذلك ذات صباح من مايو، وذلك في عيد القيامة، وقد احتفل لأول مرة بهذا العيد، الذي هو أهم أعياد البندقية، حوالي سنة 1000، وذلك عندما احتفل الرئيس رسميا بفتح ساحل دلماسية، وما فتئت السفينة المزينة بأبهى زينة في مثل ذلك اليوم من كل سنة تنطلق متوجهة نحو الجزر، وتتقدم السفينة والمجاديف، ولكن مع ظهورها زالقة، والبطوء النبيل من آيات البندقية، وتقف السفينة في البحر ذات مرة، وينتصب الكردينال اللابس غفارة
41
حريرية بنفسجية بارزا بين كثير من الزخارف التي تزين حيزوم
42
السفينة، ويرفع يديه ضارعا إلى الله «أن يجعل البحر هادئا لنا ولجميع المسافرين على البحار.»
وترى الرئيس جالسا بجانبه محاطا بأعضاء مجلس السنات، ويلبس الرئيس معطفا ذهبيا وعمرة بيضاء مذربة، وينهض وينشد القساوسة، ثم يسود صمت، وتشخص الأبصار، وتختلج القلوب، ولا يبدي أحد حراكا، ولا يبالي البحر بما هو واقع، ويداوم البحر على لطم جوانب السفينة، ويسير الرئيس نحو الشبكة ويرفع يده اليسرى وينزع منها خاتما ذهبيا ثقيلا قديما مرصعا بحجارة ثمينة، ويمسكه عاليا ليرى التماعه كل واحد على نور الشمس، وهنالك يخفض ذراعه ويصرخ قائلا: «أيها البحر، نتزوجك بهذا الخاتم!» ثم يقذف بالخاتم بين الأمواج.
تلك هي أعراس البندقية بالبحر الأدرياتي، وقد جددت ستمائة مرة في ستمائة سنة، ويرقد ستمائة خاتم في قعر مياه البندقية ، وهل عن لغواص أن يبحث عنها؟
والبابا إسكندر الثالث هو أول من لاحت له فكرة هذه الأعراس الشعرية، ومن المحتمل أن يكون قد أوحى إليه بذلك أحد شعراء بلاطه أو خليلته، والبابا هو الذي رغبت البندقية وقتئذ في الشكر له مساعدته على بارباروس، وتغدو السفينة الذهبية أكثر زهاء مع السنين، شأن شعائر الدولة الخارجية التي تزيد زخرفا كلما قل سلطان هذه الدولة، ولم يدر مثل ذلك الرمز الظريف في خلد أحد من سادة البحر المتوسط ولا في خلد أحد ممن شقوا عبابه وفتحوا سواحله، وقد أراد دارا الهمجي أن يقيد البحر المتوسط بالأغلال ذات يوم، وقد اختطب رئيس البندقية هذا البحر باسم مدينته.
أجل، كان جميع الناس يبتهجون فوق تلك السفينة الذهبية، غير أن مئات من الآدميين في الأسفل، في القعور حيث لا ينفذ نور النهار، كانوا يقضون حياة جهنمية، وكان الغم يلم بهؤلاء الرجال دوما فيلزمون جانب الصمت فلا يعرف أي الأفكار كانوا يرددون في ذهنهم، وكان هؤلاء من المحكوم عليهم بالأشعال الشاقة فيظلون مدى حياتهم مقرنين في الأصفاد على مقاعدهم ليل نهار، وكان هؤلاء لا يسمعون غير صليل سلاسلهم ولا يرون غير من هم بجانبهم وغير عرفائهم فلا يرجون شيئا سوى الموت. وكان هؤلاء العبيد، الذين يسيرون جميع مراكب البحر المتوسط تقريبا، يشابهون أوتاد «البلد البحري» التي تتفتت وتعفن في الماء مع قيام أروع قصور البندقية عليها، وكان هؤلاء يدفعون سعادتهم وكرامتهم الإنسانية ثمنا لثمل «النهضة». وكان هؤلاء كزمر المعدنين النشاوى الذين يحفرون دهاليز تحت الأرض على حين يقوم ملوك الحديد والفحم بأمور التحية، في كل يوم، فوق أملاكهم على الخليج أو داخل رداه حماماتهم أو حول موائدهم المغطاة بآنية من فضة.
وكانت الحضارة القديمة تقوم على الرق، ولم يكن هذا مناقضا قط لمبادئ الأدب السياسي الأساسية التي لم تغير تغييرا جوهريا منذ زمن أفلاطون، ويرى أوميرس وأرستوفان أن زوس، وأبولون أيضا، ينظران فرحين إلى الأرض حيث الملوك يتذابحون عن حقد وحيث النساء يضنون عن حسد وحيث العبيد يفنون عن هزال، وعد الرق نظاما شرعيا ما امتنع الناس عن التصريح بأنهم إخوة، ووافق الإسلام نفسه على الرق.
وقد لعنت الحضارة النصرانية مؤسس الرق مع سماحها به في البداءة ثم مع إهمالها حماية العبيد، وقد استغلت الحضارة النصرانية هذه الحال فزاولت النخاسة بنفسها، ولو نظرت إلى البابا، أو الأسقف، الذي يتخذ من العبيد المقيدين بالأصفاد أداة لسير مركبه في وسط البحر المتوسط، ولو نظرت إلى بطرك القسطنطينية أو رئيس البندقية الذي كان يدعو بالبركة للسفن المسافرة لإمساك الناس وبيعهم عبيدا وإنشاء قصور للصيارفة بأثمانهم، لوجدتهم أشقى من الملاحدة الذين كانوا يحرقونهم على المواقد.
وكان الأجمل أن يكسب العدل بين أبناء الأب الواحد ثمنا لتجريد الأرض من آلهتها ونزع أجمل أساطيرها منها وحرمان الناس آلهة كانوا يحبونها ويخشونها ورد قوى القدر إلى قاض للكون جبار واحد، وإذا كانت المساواة متعذرة لما بين الناس من تنافس فإنه طلب، على الأقل، أدنى حد خلقي وأدنى حد لكرامة الإنسان التي يشعر بها كل واحد في نفسه عندما تهان.
وما كان من رفض دور النهضة للأدب النصراني أسفر عن حرية الناس في القتال والقتل، فمات بابا دور النهضة إسكندر بفعل سم كان قد أعده بنفسه، ولكن استرقاق المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، ولكن هذا الرق الناظم للملاحة في البحر المتوسط، زاولته دولة قسطنطين النصرانية ودام أمره في البحر المتوسط مدى الدور الذي امتد بين سنة 500 وسنة 1800، حتى إن الكنيسة كانت ترسل قساوسة إلى السفن لتقام فيها «قداديس المحكوم عليهم بالأشغال».
وكان يوجد بين الرجال الأربعمائة، الذين يزحلون بالمجاديف سفينة متوسطة، 250 رجلا مقرنا في أصفاد مسمرة في مصاطب
43
ضيقة، فيجلسون عليها عراة تقريبا، ويكون كل سبعة منهم بجانب مجداف بالغ من الطول اثني عشر مترا جادفين آكلين هاضمين نائمين في المكان عينه ليل نهار، ويمنعون من الاستلقاء في السفر الذي يدوم أسابيع، ولا يظللون بسقوف تقيهم شر العواصف والمطر، ولا يحق لهم أن يقيموا بحجيرة في غير حال المرض، وتكون هذه الحجيرة ضيقة بلا نافذة إذا مرضوا فانتفعوا بها، ويبصرون فوقهم عريفهم المسلح الذي لا ينفك يقطع أعلاهم ذاهبا آيبا، وإذا ما حل فصل الشتاء استبدلوا السجن بمصاطبهم فيظلون مقيدين بسلاسلهم مع عشراء كتب عليهم الشقاء، وإذا ما ثارت الزوابع دوت في السفينة أصوات مصيبتهم، وإذا ما دارت المعارك شاهدوا العدو يدنو منهم شاهرا سيفه فلا ينتظرون منه غير الذبح.
وكان لا يجرؤ أحد على رفع الأغلال عنهم حتى في أثناء المعارك المميتة؛ وذلك لأن جلادي المحكوم عليه المغيظ المحنق المتعطش إلى الانتقام هم أول من ينقض عليهم، ولا عجب، فالجلادون كانوا يجلدون بالسياط من يتوعدهم أو يحملق إليهم من المحكوم عليهم، ومع ذلك كان من النادر جدا أن يقذفوا في البحر مع سلاسلهم لما يساوون من مال. وكانت توضع في فم الواحد منهم قطعة خبز مبللة بالخمر أو الخل حين الضنى والوهن، وكان يوضع شبام
44
من خشب أو من جلد في فم كل واحد منهم عند العويل عن هول، وكانت تقطع أذنا الواحد منهم ثم تبتر رجله إذا كسر قيده أو حاول الفرار، وهذه من المناظر التي روى خبرها شهود ثقات كجان البرجراكي الذي حكم عليه بالسجن مع العمل الشاق في السفن سنين كثيرة لبروتستانيته، ومما ذكر أن عريفا سكران قد نزع بأسنانه أذن عبد.
وإذا تمكن أحدهم من القبض على مدية وشهرها للانتقام من جلاده سمر في السارية بها خارقة يده، وكانت الأوبئة تنتشر بسرعة بين هؤلاء الآدميين المزروب بعضهم بجانب بعض زربا وثيقا، فتفنيهم فناء يذعر منه حتى الصيارفة الذين ينفقون عليهم، وهكذا خسرت البندقية أربعين ألف رجل لم يشتركوا في معارك.
وكان العبيد يمقتون، في الغالب، من يزور سفينتهم من الغرباء لسرقة هؤلاء الغرباء منهم نقودا كانوا قد سرقوها، ومما جاء في كتاب سرفانتس أنهم طرحوا سانكوبانسا فوق المركب، فلما سرقوا من الزائر مالا فقطع منهم أعضاء منتقما دفع مائة دوكا
45
إلى الربان، ولدينا أقاصيص من هذا الطراز ترجع إلى القرن الثامن عشر أيضا.
وهكذا كانت الدول تحاول الاستفادة من مجرميها فتحول دون حكم قضاتها عليهم بالقتل لهذا السبب، ومما كان يحدث كثيرا أن يقيد فارس ملطي وقع أسيرا أو ملطي ضحت به محكمة التفتيش، ولم يكن من عادة الأمراء الإقطاعيين أن يحكموا بمثل ذلك على من يقع بين أيديهم، غير أن الجنويين قبضوا على أمير بحر الأسطول البندقي ذات يوم فقيدوه وحملوه على مثل ذلك العمل الشاق في السفن، فكان ذلك فوزا للإنسانية.
ويجلس أمير البحر هذا أعزل عاريا حليقا موسوما بحديد محمى كألوف العبيد الذين كان قائدا لهم فيما مضى، ولكن مع قعود على مصطبة في إحدى سفن الأعداء، وما كان ليستطيع قتل نفسه بسيف أو خنجر كما كان بروتوس وأنطونيوس وغيرهما من الأسرى قد صنعوا، وماذا عمل إذن؟ انتظر غفلة عريفه فلطم رأسه بجانب السفينة بما أوتي من قوة وكسر جمجمته، وكان هذا البطل يدعى دندولو، وكان سليل رؤساء للبندقية حاملين لهذا الاسم.
وكان هؤلاء يكسبون بعض ثروتهم من الاتجار بالعبيد، وما كانت ثروة البندقية إلا لتقل لولا هذه التجارة كما كانت ثروة فلورنسة تقل لولا غزلها الصوف، وما كان المركب المعروف بالبوسانتور ليحوز ذهبا كثيرا، وما كان قصر الرؤساء ليشتمل على رخام كثير، وما كان مقدم الأبنية المشرفة على القناة الكبرى ليحتوي أعمدة مزخرفة، لو لم يدفع البندقيون مالا إلى القراصين حتى يكمنوا لملاحي البحر المتوسط ويبيعوهم في أسواق النخاسة الجنوبية الشرقية على حساب صيرفي بندقي يسمح لتيسيان بأن يصوره عند قدم العذراء. ويحتاج المسلمون إلى خصيان في دوائر حريمهم، ويحتاج البابوات إلى خصيان في جوقات غلمانهم، فيصير الخصاء من فروع سوق العبيد إذن، ولدينا من الأنباء عن دوام ذلك في أوائل القرن التاسع عشر أيضا، وكانت البندقية تظفر بنصيب وافر من ذلك لما تدل عليه الحسابات السنوية حوالي سنة 1400 من جبايتها خمسين ألف دوكا ضريبة عن إصدار العبيد.
ولما حاول البابا أن يمنع بيع العبيد النصارى من المسلمين على الأقل صار النخاسون يقبضون على أروام كاثوليك زاعمين أن هؤلاء ليسوا نصارى حقيقيين، ومع ذلك فإن كتاب الحق القانوني لم ينفرد بإباحة الرق، فقد لاح لمجمع طليطلة النصراني أن يبيع أبناء قساوسة عبيدا، وقد أمر البابا غريغوار الحادي عشر في سنة 1375 باسترقاق كل فلورنسي يؤسر حربا، وعندما أنشأ هنري الثامن الكنيسة الأنغليكانية توعد البابا جميع الإنكليز بالاسترقاق إذا ما ظلوا أوفياء لملكهم، وقد قبل البابا بيوس الخامس، كهدية، سبعمائة عبد مسلم أسروا حربا في معركة لبانته، وما انفكت مراكب البابوات تكون مجهزة بالعبيد حتى سنة 1800.
وتدل صورة أولئك المحكوم عليهم العراة اليبس، الذين كان عددهم يبلغ مئات الألوف في سفن البحر المتوسط، على درجة الفساد البشري الذي هو ثمن لبهاء عصر النهضة.
15
وكتاب ماركوبولو هو أشهر كتاب في ذلك العصر، وقد قضى ماركوبولو أكثر من عشرين عاما في بلاد الصين والهند واليابان، فكان الوحيد الذي حدث عن ذلك كتابة بين القليلين الذين ساحوا هنالك، وكان الجمهور يكثر من مطالعة تلك القصة كلما وجدها مبالغا فيها، وكان بيانه يبدو قريبا من الصواب كلما مر الزمن، وظهرت هذه الوثيقة الرائعة من شدة الغرابة ما شك في صحتها في بدء الأمر، وقليل من الناس من كان يلوح له أن وصف الطبيعة وصفا صادقا أقرب إلى الخيال من الروايات ومن اختراعات الناس، والواقع أن الرب أعظم شعرا وأشد خيالا من أكثر أبنائه موهبة.
ولم يكن من العادة أن يكتب المرء رحلاته الخاصة حوالي سنة 1300؛ أي السنة التي كتب فيها ذلك الكتاب، ولم يكن هيرودوتس، وبلوتارك أيضا، قد ظهرا، بعد، ضمن إطار ما سطرا، ولم يكن كتاب غير المثقف ذلك ليؤلف لو لم يحمله حادثان مهمان على العود إلى بلده أولا وإلى قصص أخبار مغامراته ثانيا، واليوم لا تجد متعة في هذه المغامرات، ولكن أسلوب المؤلف قد حافظ على نضارته، فالأفعال، وإن امحت هنالك كما في كل مكان، ظلت شخصية صاحبها قائمة.
وكان الأخوان بولو من البندقية، وقد أوجبت بعض الأمور سفرهما إلى القسطنطينية والقرم وفارس، فأرادا الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، فاتجها مع سفراء لخان فارس إلى الشرق، وقد دعا هذا الخان الأكبر، أو العاهل، الذي لم ير حتى ذلك الوقت غير مرسلين، وغير دبلميين في الحين بعد الحين، الأخوين بولو إلى زيارة بلاطه، وقد أعطاهما كتبا إلى البابا مطالبا، عن سذاجة ونبل، بأن يرسل إليه مائة حكيم قادر على إثبات كون النصرانية أحسن دين، ويعود الأخوان إلى بلدهما ولا يجدان أي بابا فيه، ويبصران أعظم ارتباك يسود رومة، ولا يستطيعان أن يعودا مع حكماء في سياحتهما الثانية إذن، ويكتفيان بجلب زيت من السراج المقدس في القدس كما يحضران معهما ابن أحدهما: ماركو، البالغ من العمر سبع عشرة سنة، والوحيد في المنزل منذ موت أمه، فلما عاد ماركو هذا إلى البندقية كان ابنا للأربعين من سنيه.
وتسفر السنون التي جاب فيها هؤلاء السياح آسية عن اطلاعهم على معارف جديدة بعيدة المدى، ومن ذلك أن أرضين، كهضبة بلمير مثلا، قد وصفها ماركوبولو فلم يقم بريادها أحد غير سياح من الإنكليز بعد ستمائة سنة، ويلوح أن هذا الشاب الذي كان في الثانية والعشرين من سنيه، قد أصبح مقربا لدى عاهل الصين حيث عهد إليه في إدارة مدن والقيام بخدم حكومية، وما كان هذا العاهل ليدع البندقيين الثلاثة يعودون لو لم يفقد صديقه خان فارس زوجته المفضلة فيرغب في قيام مغولية مقامها، فلما التمس سفراء فارس من العاهل أن يضم إليهم «الفرنج» ليكونوا أدلاء لهم في سفرهم إلى الهند بحرا لم يسع العاهل غير الموافقة على ذلك، وقد مات معظم المسافرين في أثناء هذه الرحلة البحرية التي دامت عامين، ولم يبق حيا منهم غير سفير واحد وغير العروس وغير الرجال البيض الثلاثة، وقد مات خان فارس في أثناء ذلك فرضيت المغولية أن تتزوج ابن أخ له.
وما كان أحد ليعرف الرجال الثلاثة، بولو، بعد غياب أربع وعشرين سنة، وقد طردوا من قصرهم لعدهم مخادعين، وقد مزقوا ثيابهم التترية البالية في أثناء وليمة كبيرة وظهروا لابسين ثيابا حريرية فاخرة مزينين بحجارة كريمة، أفلا يشابه هذا إحدى أقاصيص «ألف ليلة وليلة»؟ وهل يعدل حديث المؤلف عن الصين هذه المغامرة الرائعة؟ ومع ذلك كان عالم ذلك الحين حافلا بالمغامرين ولم يكن قوم آل ماركو قد بادوا بعد.
ويمضي زمن قصير على رجوع ماركوبولو فيأسره الجنويون في معركة بحرية خاسرة، ويمر عليه نحو عام في سجن ضيق فتمن المصادفة عليه برفيق بيزي روائي، ويرى ماركوبولو أن يقضي وقته بأن يقص عليه خبر رحلته إلى الصين، ويكتب هذا الأخير ذلك، ويطلق الرحالة، ويعود إلى البندقية، ويقضي فيها حياة هادئة حتى السبعين من سنيه، ولا نعرف عنه شيئا غير أنه كان مفتونا ببناته الثلاث.
وقد عد جميع الناس ذلك المؤلف ضربا من البارون مونشهاوزن متلهيا باختراع الأقاصيص غير المحتملة، وقد لقب بماركو مليوني لما زخرت به أحدوثته من ملايين الكيلومترات وملايين الناس، وملايين الدوكيات
46
على الخصوص، وقد انتهت الروايات التي انتحلت ما في كتابه من الأسماء والصور إلى عده دجالا، وقد رئي أنه قليل الثقافة لتفضيله الأسلوب الخفيف على التعمل في الأسلوب، ولا يزال مثل هذا يساور بعض المؤلفين في زماننا.
ومع ذلك فإن تأثير ذلك الكتاب في الاكتشافات التي عقبته كان عظيما، والكتاب كان علة خطأ ذي نتائج خارقة للعادة، وكان العرب قد تعلموا من بطليموس أن الأرض كرية، وكان علماء من العرب، ومن النصارى بعد زمن، قد رسموا خرائط وفق هذا المبدأ، وكانت الكنيسة تقول دوما إن الأرض قرص محاط بالبحر المحيط وإن القدس مركزه. وكان يعتقد وجود جزائر في المحيط الأطلنطي وأن قساوسة طاردهم المغاربة التجئوا إليها لا ريب، وكان يرى، على العموم، أنه لا حد لهذا المحيط حينما كان دانتي المعاصر لماركوبولو يعد جبل طارق حد العالم الذي تمتنع مجاوزته، وذلك إلى أن وجود نصف كرة غربي كان افتراضا لم يصغ قط، فضلا عن كون هذا النصف أمرا مجهولا، وذلك إلى أن كل أمر يتوقف على اتساع المحيط الأطلنطي الذي ينطوي ساحله الغربي على الهند والصين بحكم الطبيعة.
وكان ماركوبولو قد حدث عن ألوف وألوف من الكيلومترات وأيام الرحلات، وبما أن آسية بالغة من الاتساع هذا المقدار فإن من الضروري أن يكون المحيط الأطلنطي ضيقا؛ ولذلك وجد من الممكن أن يجازف فيجاوز ويجد في بلوغ الهند من الغرب، وكان كبر البحر المجهول الذي يشغل بال الأمم البحرية في ذلك الزمن عاملا حاسما. والواقع أن كتاب ماركوبولو قد أنقص هذا الاتساع إلى النصف، وأن قصته الصادقة أسفرت عن خطأ لولاه ما أقدم كريستوف كولونبس على القيام برحلته التي حولت خطأه الثاني المشهور إلى حقيقة.
وظهر قبله بنصف قرن أناس من الملاحين والمغامرين انطلقوا محاولين اكتشاف جزر في المحيط الأطلنطي وكنوز على شواطئه الجنوبية، ومن كان يستطيع أن يقوم بهذا العمل الشاق غير البرتغاليين المالكين أطول ساحل في جنوب أوروبة وأحسن ميناء على المحيط الأطلنطي؟ وكانت تجارتهم تجتذبهم نحو أفريقية الغربية القريبة من شاطئهم على حين كانت إسبانية وفرنسة ممتدتين في ذلك الحين نحو البحر المتوسط الذي ما انفك يشغل بالهما منذ ألفي سنة، وكان البرتغاليون قد اكتشفوا في سنة 1444 وسنة 1451 جزائر كنارية وآصور، أفليس من الطبيعي أن يبحثوا عن طريق الهند ذاهبين من أفريقية الغربية؟ وكانت توجد طريقان، فتؤدي الثانية إلى وسط القارة توا، وقد كانوا أعلم بأطراف أفريقية مما بداخلها وكانت حساباتهم عن الطريق البحرية حول الكاب صحيحة.
وما فتئ الملك البرتغالي هنري الملاح يقوم منذ سنة 1430 بمحاولات منظمة للوصول إلى الهند الغربية من طريق الغرب، وكان أول من تحول عن البحر المتوسط، ومن الطريف أن لقب ب «الملاح» مع أنه لم يشترك في أية سياحة بنفسه، وهو، على العكس، قد وضع خططا وأعد أسفارا ومول بعوثا وجهز سفنا واستخرج نتائج من التقارير التي قدمت إليه، وكان راغبا في قتال الكفرة رئيسا كبيرا للمنظمة النصرانية، ولم يزل هذا الهدف التبشيري النصراني الذي قرنه باكتشافاته زوالا تاما، فلا نزال نبصره يكرر حتى زمننا؛ أي بعد خمسمائة سنة من ذلك التاريخ، ومن المحتمل أن كان مخلصا ضمن نطاق كنطاق كل رائد إنكليزي يرغب أن يبيع صوفه قبل كل شيء، ولكن مع مرافقة مرسل تبشيري إياه في رحلته ، والواقع أن ذلك الملك قاتل فريق الكفرة بأساليبهم العربية. والواقع أن علم الكون - وكان هذا الاسم الرائع يطلق على الجغرافية في ذلك الزمن - قد انتقل من العرب إلى النصارى، وكان هذا غير مقتصر على مباحث بطليموس وعلى المذهب القائل بكرية الأرض، بل كان ينطوي على استعمال الإبرة المغنطية التي علمت من الصينيين حوالي سنة 1200 فتمكن الملاحة بها ليلا وفي الوقت المضب. وقد أتت من القارة معارف أخرى، ومن ذلك أن عالما من نورنبرغ نشر زيجا لوضع البروج، ومن ذلك أن العالم اليهودي ليفي بن برسون اخترع ما سماه «عصا يعقوب»؛ أي الآلة التي ينتفع بها في تعيين موضعها تعيينا دقيقا.
وما كان يدفع في باريس وأمستردام ولندن من أثمان خيالية للمنسوجات والحجارة الكريمة، ولتوابل الشرق على الخصوص، كان يجتذب المغامرين أكثر من اجتذابهم بالمجد والدين؛ وذلك لأن الترك، الذين جعلوا من بزنطة مدينة استانبول، قد حاصروا كل تجارة خارجية، ولما بلغوا مصر في سنة 1517 لم تبق منطقة حرة في جميع البحر المتوسط الشرقي.
ويا للمبالغ التي يؤديها أغنياء الشمال ثمنا للفلفل والقرنفل وجوز الطيب والدارصيني! وكان الإنكليزي لا يستطيع العيش بلا زنجبيل حتى في ذلك الحين! وكان يدفع حوالي سنة 1300 من النقد 120 دولارا ثمنا لمائة الكيلوغرام من الفلفل في مرسيلية و200 دولار ثمنا لها في لندن، وتعود إحدى سفن ماجلان سالمة وتربح ألفي دولار ذهبي من بيع 525 قنطارا من الأفاويه المجتلبة من جزائر ملوك بعد تنزيل نفقات رحلة دامت ثلاثة أعوام، وكان جميع رجال البحر يحلمون بتكديس ثروات نتيجة للطرق الجديدة فيتهافتون على أسفار الارتياد.
وأولو العزم من رجال عصر النهضة هم الذين اكتشفوا الأقطار البعيدة، ولا يفسر هؤلاء الرواد المتعصبون دين النصرانية تفسيرا عاطفيا على نمط يسوع، بل ساروا على غرار رجل نافذ كبطرس، فجاهدوا في سبيل النصرانية وكتب لهم الفوز أكثر مما كتب للصليبيين، وهم قد استطاعوا أن يسوغوا ما اقترفوه من القتل والإبادة والظلم عن مزاج وضرورة ما جلبوا معهم دينهم القيم إلى أصحاب الجلود الملونة، وما كان أحد ليخوض، مع ذلك، غمار تلك المغامرات لو لم يجتذب شعار «القوة والرب والمجد» أولئك الناس إلى البحر، وبهذا يتجلى الفرق الأساسي بين الملاحين والصليبيين الأولين، وقد فرض أولئك الرؤساء على أنفسهم أقسى حرمان عن طموح شاربين ماء آسنا نتنا آكلين فئرانا عائشين في سواء البحر بعيدين من كل امرأة، فهل من العجيب إذا ما انقضوا كالوحوش على أبناء البلاد الأصليين؟
وأجمل وجه بين الرؤساء هو وجه فاسكو دوغاما، فقد كان أريستوقراطيا برتغاليا عبوسا غليظا أقنى الأنف حديد البصر مقداما نبيها نشيطا رئيسا، وكان دياز قد اكتشف «رأس الزوابع» في سنة 1486 فجعل منه «رأس الرجاء الصالح» بعد حين، ويتبع فاسكو دوغاما طريقه بعد إحدى عشرة سنة، ويسير والشاطئ الأفريقي الشرقي حتى خط الاستواء، ويطوف في المحيط الهندي شهرا، ثم تدفعه الرياح الموسمية فيلقي مراسيه في كلكته، وهذا كان أول من بلغ الشرق من غير أن يمر من البحر المتوسط.
وبذلك يكون فاسكو دوغاما أول عدو كبير للبحر المتوسط.
16
وأعظم رجل اقتطف أعظم مجد بين الرواد، وبين جميع الناس على ما يحتمل، كان من أبناء البحر المتوسط الذي عرف كيف يظل وفيا له، ونستطيع أن نقطع بأنه إيطالي ولد في جنوة وإن كانت إحدى عشرة مدينة تتنازع شرف كونها مسقطا لرأسه، ولولا ذلك ما أوصى لمسقط رأسه العزيز، جنوة، بكتاب الصلوات الذي أخذه من البابا والذي «كان مدار سلواني في كفاحي وسجني»، ولا يمكن أن يعرف هل كان يهودي الأصل أو لا، ولكن من الممكن أن يستند لتأييد ذلك إلى صورته وإلى خلقيه: الثبات وحب المجد، اللذين يفضلان حب المال لدى معظم اليهود (!).
أجل، فاق مجد كولونبس مجد جميع الرواد الآخرين؛ وذلك لأنه اكتشف قارة بأسرها، لا جزيرة واحدة فقط، ولكن بما أن هذا الاكتشاف مدين للمصادفة وبما أنه مات جاهلا مداه البعيد فإنه لا يسوغ وحده مجده الوحيد، وأكثر ما أتاه من المجد كان من سمو نفسه وقوة سجيته، فعظمة كولونبس مستقلة عن عظم اكتشافه.
وتكفي مقابلة صورته بصور رواد عصره الآخرين ليرى أنه أعظم من رئيس، ويهيمن الذكاء عليه أكثر من هيمنة قوة الطبع مع إبدائه هذه القوة أيضا بما يثير العجب، وانظر إلى صورته تبصره أجرد الوجه نتيف الشعر لطيف الجبين فلا يوحي بجبين مفكر، صغير الفم فلا يوحي بفم طالب متع كثيرة، بل يدل على صمت في معظم الوقت، صاحب ذقن عاطل من الغلظة عطلا تاما، ذا عينين دجناوين فيلوح أنهما تنظران إلى الباطن، وهذه هي سيماء رجل رزين معتزل يفضل الخرائط الجغرافية والكتب على الاكتشافات، ويفضل الاكتشافات على الفتوح، وكان ابن زمنه كولونبس لا يخشى اقتحام الخطر كالملاحين، ومع ذلك فإنه لم يكن ولوعا بالقيادة، بل كان كلفا بإثبات عدل حساباته، وكان يمكنه أن يعيش وحيدا، وهذا ما لا يقدر عليه الرؤساء.
ولم تكن روح المغامرة، ولا حب الذهب، حافزين له إلى حركة العصر الكبرى، وهو لم ينتسب إلى تلاميذ القرون القديمة الذين أثارهم حب المجد كسزار بورجيا وبوليفار، ويظهر أن كريستوف كولونبس، الذي نعته هنبولد بالعالم الكبير، قد دفع إلى قيامه برحلاته عن شعوره بالشرف وعن يقينه اللذين كانا يحملانه على إثباته بالأعمال ما كان يعتقده ويعلمه صحيحا، ولولا هذا المحرك، ولو كان دوكا، لا صعلوكا مولدا، لقضى على ما يحتمل، حياة سعيدة بين جدر مكتبه كالفلورنسي الكبير توسكانلي الذي كانت خرائطه ورسائله أعظم موح إليه كما هو ظاهر.
وقد أعان كثير من العوامل على سيره مندفعا اندفاعا يلوح أول وهلة أنه مخالف للصواب، وقد شعر هذا الغلام، وقد شعر تويجر الصوف المماثل لأبيه هذا، بانجذابه إلى البحر من فوره، فجاب، فيما بين الرابعة عشرة والرابعة والعشرين من سنيه، قسما كبيرا من البحر المتوسط ولا سيما صقلية وساقز، ثم ركب المحيط الأطلنطي متوجها إلى أفريقية الغربية وإنكلترة، وإلى إيرلندة على ما يحتمل، وكان يقضي جميع وقته في رسم الخرائط وكان يدرس علم الكون ويسأل أولي الخبرة ويجرب الآلات ويطالع الكلاسي من المؤلفات، ويظهر أنه تعلم كل شيء بنفسه جالسا في زاوية من السفينة تحت السارية وعلى كدس من قلوس
47
دارسا متأملا حتى يدرك ما كان الآخرون قد لاحظوه فقط، وما كان قد طاف فيه من جزء صغير من الأرض وقف به على العناصر الضرورية للاطلاع على كيان دنيانا، وعلى توزيع القارات والمحيطات، فعلى الرائد أن يكون شاعرا متهوسا قبل كل شيء.
ويبلغ الثلاثين من عمره فيوفق لتزوج برتغالية من أسرة كبيرة مع أنه أجنبي؛ أي بابنة لحاكم وقريبة لرئيس أساقفة، ولم يكن مظهره، ولا هيفه، ولا ما لا يملكه من ثروة، سبب هذا التغيير الحاسم، بل ذكاؤه وشخصيته، ولم يكن فيه شيء مما عند دون جوان،
48
وهو، مع ذلك، وفضلا عن هذا الزواج الساطع، استطاع بعد موت زوجه أن يغزو امرأة إسبانية ممتازة فيرزق منها ابنا من غير أن تكون امرأة رسمية له.
ويلتهم كولونبس في ذلك الحين ما وجده في مكتبة حميه المرحوم من خرائط ووثائق، ولم تنفك حياته وأنظاره، منذ مغادرته إيطالية نهائيا، تتأثر متطلعة إلى الغرب، ومع ذلك فإنه مدين بجميع ما كان يعرف للبحر المتوسط ولمراسلته توسكانلي الفلورنسي الذي كان لديه مثل تلك المعارف قبله، ولكن مع عدم مغامرة في البحر المحيط مطلقا، وكان من الناس من يعرفون، قبل كولونبس بزمن طويل، إمكان بلوغ الصين والهند من ناحية الغرب، وكان يوجد عند كولونبس ذكاء ونشاط، وكل ما كان يعوزه هو ملك حام ومركب.
وما كان من أمل مصادفة جزائر مجهولة في المحيط الأطلنطي مشتملة على كنوز خيالية يمكن ملكا ملاحا أن يحاول تحقيقه، ويوفق كولونبس، مستعينا بأقرباء زوجه، ليقدم إلى بلاط الملك بعد انتظار طويل، ويفتن الملك بوعده فتح بلاد أسطورية، ويبدو كل شيء ملائما لكولونبس، وذلك من حيث قوة صحته ويمن زواجه وارتقاؤه فوق أصله الوضيع وحسن قبوله في البلاد الأجنبية حتى قبل أن ينجز أمرا. وكان كولونبس وحده يعرف نداء وحيه وتلبية هذا النداء، وكان لديه العلم والإقدام وما يحتاج إليه الملاح والجغرافي من معارف، وكان لديه من السحر الشخصي ما يستميل معه الملك عند عطله من وثائق مقنعة.
ومع ذلك لم يبد الملك صادقا تجاه كولونبس، فهو لم يلبث أن عهد إلى برتغاليين في القيام بالمشروع الذي تصوره كولونبس، ويخشى هؤلاء الأخطار فيقفلون راجعين، ويخيب أمل كريستوف كولونبس فيلجأ إلى إسبانية، ويسهل موت زوجه هذا الانتقال، غير أن نيل الحظوة لدى ملكي إسبانية، فرديناند وإيزابلا، أصعب مما حدث في البرتغال، ولا يستطيع الإنسان غير الإعجاب بصبر هذا الغريب العاطل من المال والمقام والذي لم يكل في عشر سنين من تقديم العرائض والخطط إلى البلاط والحكومة فلم يقابل بغير السخرية أو بتهمة الخداع، ولم يكن الجواب الإسباني الرمزي رفضا باتا، بل كلام ينم على تملص غير مجد.
وقد احتمل كريستوف كولونبس هذه المحنة لقوتين ثابتتين في سجيته وهما: إيمانه بالله وإيمانه بكرية الأرض، والواقع أن هذين الاعتقادين لم يكونا متوافقين؛ وذلك لأن عصر النهضة قد زلزل الأول بإصراره على الثاني. أجل، إن كريستوف كولونبس قد تفلت من هذا البرهان ذي الحدين كما تفلت كوبرنيك وكبلر، غير أنه أكثر تدينا من هذين الرجلين كما يظهر، وهو لم ينفك يستشهد في رسائله برؤيا القديس يوحنا وبالنبي إرمياء وبنصوص من التوراة ليثبت اختياره منذ الأزل لهذه الرحلة نحو الغرب، وما كان لينتفع بهذه النصوص التورائية إلا بالإيمان، أو بسلوك سبيل المجون، نيلا للحظوة لدى رجال الدين في البلاط.
ولم يكن كولونبس، ولم يصبح كولونبس، ماجنا قط حتى في أشد خيبات أمله مرارة، وإنما كان، كرجل بحر، يحتفظ لنفسه بإيضاح إلهاماته الربانية إيضاحا عينيا، فنقل الجنة في سياحته الثالثة ليجعلها في البلاد التي اكتشفها حديثا، ومن ينظر إلى ما في رسالته «كتاب النبوءات» من نبذ وإلى وصاياه يقطع بروحه الدينية أيضا.
وكان عامل القوة الثاني، الذي صبر كولونبس به على انتظار عشر سنين ثم احتمل معه السقوط وسلاسل السجن المظلم، سبب ثقته بنفسه الخارقة للعادة، والواقع أن كولونبس لم يكن مبتدعا ولا سيميائيا ولا ساحرا حائزا لأسرار تجعله فوق الناس فيطالبهم بما يريد، بل كان يعرف أن الأرض كرية وأن آسية كثيرة الاتساع فيمكن الوصول إلى الهند من جهة الغرب، وهذا ما كان يشاطره إياه معظم علماء ذلك العصر فيعتقدونه معه، وقد كانت خرائط الإيطالي بين يدي كردينال إسباني فاضل منذ زمن طويل. وكانت قد توجهت سفن كثيرة من أشبونة وقادس إلى الغرب، وكانت كلها مجهزة بالآلات الضرورية، وقد بلغت أسطورة جزائر الذهب وجزائر الأبازير من الذيوع ما أسفر معه الذهب الذي أحضره كولونبس في نهاية الأمر عن تأييد بعض أقاصيص ماركوبولو وأحاديث كتاب آخرين.
وكان البلدان، إسبانية والبرتغال، صاحبي المستعمرات الغربية منذ زمن طويل، وكان البابا قد وافق على تملكهما إياها قبل ولادة كريستوف كولونبس، وبما أن أحدا لم يظن وجود قارة جديدة فيحاول اكتشافها فإن جميع خطط الارتياد من الغرب لم تدر حول أمر غير توسيع مدى المشاريع السابقة، وهذا إلى أن ذلك الجنوي كان عاطلا من المال والشهرة ومن توصية سري ومن طراز جديد لمركب شراعي ومن طائرة ومن سلك برقي بحري ومن دليل على مفاخر سابقة، وكان لا بد من اتصاف هذا الولوع المجهول الأمر، من اتصاف كريستوف كولونبس، بثقة عميقة بالنفس يسمو بها شأنه إذا ما أراد إقناع ملوك أقوياء بأن يسلموا إليه سفنا وبضع مئات من الناس.
وهذا يفسر عمله دأبا، وهذا يفسر جهاده عشر سنين، للوصول إلى ما يسعى، ولو كان باحثا عن الذهب راغبا في الغنى، أو كان جغرافيا محاولا إثبات افتراضاته، لاستطاع أن يجد مغامرا مستعدا للسير معه، غير أن كولونبس طلب نصبه من فوره أميرا كبيرا للبحر وحاكما ونائب ملك في جميع البلدان الخيالية التي عرض نفسه لاكتشافها، على أن يكون ذلك وراثيا، وقد كان هذا بدعا قلد فيما بعد، أولم يكن على الكرادلة وأمراء البحر والقواد الذين يحيطون بالملك أن يعدوه مجنونا، ويا للفكرة التي صدرت عن هذا الأجنبي النكرة حول طلبه أمورا يجب أن ترجع إلى وارث أسرة شريفة، أو بطل بحر عرف شأنه بمآثره، أو عالم ذي شهرة عالمية!
وامرأة؛ أي إيزابلا وحدها، هي التي أدركت أمره، وإيزابلا هي التي سلمت بجميع ما طلب، وكان من الاعتدال، وكان مما لا يثير الدهش، طلب كولونبس أن يأخذ عشر الكنوز التي يأتي بها، وثقة كولونبس بنفسه هي التي جعلت منه متطوعا لا يقاوم، وهي التي نال بها بعثته الكبيرة في نهاية الأمر، وتنم رسائله الأولى التي كتبها في بدء اكتشافاته على تلك الثقة، ومما جاء فيها:
أعطاني الله ما لم يعط أحدا من الناس، أجل، كتب كثير من الناس حول موضوع هذه الجزائر، ولكنها مما لم يره أحد قبلي، وذلك إلى أن وجودها كان يعد من الأساطير ... ولتقم الصلوات في البلاد شكرا لله حتى يبتهج باتساع مملكته بين الأمم الوثنية أيضا!
ومما جاء في وصيته:
لقد وهبت الهند باسم الرب لملكتنا وللملك كشيء خاص بي، لقد أوجبت ارتباكهما بحملهما على قبول هذه الهدية، وكانت هذه البلاد خفية، وكان لا يعرف طريق الوصول إليها أحد.
وعلى ما كان من اعتقاد كولونبس أنه في الدنيا القديمة مع وجوده في جزائر الأنتيل لم ينفك يتكلم بما يثير العجب عن «الدنيا الجديدة» التي اكتشفها، وما كان يعرف أنه أحسن القول بهذا المقدار، وكان أسلوبه غريزيا لديه، وهو لم يتردد في معرفة آيات عبقريته الخاصة مع توكيده أنه مدين لله في كل شيء؛ ولذا لم تساوره حيرة قط من استقباله ظافرا بين أشبيلية وبرشلونة حين عودته الأولى ولا من المشهد المشهور الذي وقع في برشلونة فكان في أثنائه جالسا وحده بجانب عرش الملكين وبمرأى من البلاط والجمهور المجتمعين، وقد قص ما كان قد رآه وقد عرض الغنيمة التي أتى بها، وقد وهب هذا البرجوازي الصغير الغريب لأقوى ملوك عصره ذهبا، وقد ظل أسابيع كثيرة بجانب الملك وصار الرجل المفضل عنده، وقد أدخل ابنه إلى البلاط وصيفا وجعل إخوته أشرافا، وقد نال لقبا كريما وحمل سلاح النبلاء، ولو ظهر في القرن الثامن عشر لكان عشيق الملكة.
ولا يسعنا غير الإعجاب بالوضع الباسل الذي اتخذه هذا الغريب، هذا الذي نال من الحظوة ما نال، عندما صار عرضة لحسد البلاط ومكايده ولما لا مفر منه من المقاصد السيئة، ويرى هذا الرجل الذي اكتشف وسيطر على بلد أجنبي ذي كنوز أسطورية، نفسه، بعد بضع سنين، أسير حاكم أرسله ذانك الملكان وفوضا إليه أمر إرساله إلى إسبانية، ويرفض ما عرضه عليه ربان مبجل له من فك قيوده، ويقضي سفره مكبلا بالأغلال منتظرا أمر الملكين بإطلاقه، ولا ريب في صحة ما رواه ابنه ما دام كولونبس نفسه قد علق سلاسله في غرفة عمله بعد حين.
ويبدو كريستوف كولونبس عالي النفس في تلك الحال، ولم يفقه روماني وصفه بلوتارك سموا في مقابلة القدر. وكان تاريخ رحلته الثالثة الفاجع جديرا بأن يكتب عنه شكسبير، وهو لم يسترد شرفه ومقامه إلا ناقصا، وهو لم يظفر بشيء من ذلك في الحقيقة. والواقع أن نائب الملك المعزول كولونبس قد مات قبل نهاية قضيته، والواقع أنه وجد في ثقته بنفسه من المعين ما لم يجد في أي وقت كان، وقد ماتت الملكة إيزابلا، التي أدركت أمره وحدها، قبيل وفاته وقد كتب هذا الرجل المعوز العاجز وصيته كملك.
ومن الناس من يعدون خاتمة كولونبس محزنة، فيودون لو يصرخ في قبره حول كفران العالم ومعنى ما اكتشف، ولا يعرف من يفكرون على هذا الوجه ذلك الوجد الخفي في هذا المتهوس الذي يحس في وعيه الباطني ما لا يمكنه أن يكون تام الاطلاع عليه، وقد خضع كولونبس لهذا الوجد، وقد عرف كولونبس ببصيرته وثقته بنفسه أهمية عمله، وقد سجل خطؤه في الخرائط، لا في روحه، وقد قيد على نسخة من كتاب العالم الطبيعي بليني قول سنيكا: «ستأتي قرون يكسر البحر المحيط فيها القيود التي تحيط بنا، وهنالك تفتح لنا أبواب بلد بالغ الاتساع، وسيكشف مدير الدفة عوالم جديدة، ولن تظل ثوله أقصى نقطة في العالم المعروف.»
17
تحقق أمر تلك القرون التي أنبأ بها سنيكا وزينها كولونبس، ووقع ارتياد بحار بعيدة، ولسرعان ما عرف وجود بحر محيط آخر وراء ما كان قد سمي «الهند»، وماذا كان خطب البحر المتوسط بعد ذلك؟ وأين كانت رسالته التاريخية التي قامت على نقل السلع والثقافة ومواد التجارة بين آسية وأفريقية والأمم المتمدنة القديمة؟ وإذا ما أمكن أن يذهب إلى الهند بطريق المحيط الأطلنطي فيوصل إلى قارة جديدة مجهولة، وإذا ما أمكن فتح بلاد لا حد لها ولا حصر لكنوزها وانتهابها فماذا يبقى من الشأن لذلك البحر الداخلي الصغير الذي ظل مركزا للعالم فيما بين سنة 1000 قبل الميلاد وسنة 1500 بعد الميلاد؟
أهمل البحر المتوسط، ووجه الأقوياء والملوك والأغنياء والملاحون أبصارهم نحو المحيط الأطلنطي، وكان هذا الانقلاب السريع فريدا في تاريخ الحروب ولم يكرر إلا بعد ثلاثة قرون؛ أي حينما جعلت قناة السويس من البحر المتوسط بحرا ذا فائدة عالمية للمرة الثانية.
ومع ذلك فإن الحضارة ظلت قائمة على شواطئه، وقد تصرف البابا، الذي كان يسيطر على النفوس رئيسا عاليا، بكنوز العالم الجديد وفق هواه المهيمن، وقد مضت بضعة أشهر على عودة كولونبس الأولى فأذاع إسكندر بورجيا منشورين بابويين بدا فيهما حكما أدبيا فقسم بين ابنتيه الكاثوليكيتين، إسبانية والبرتغال، ما فتح من البلدان حديثا بخط فاصل على الخريطة، ولم تفتأ أمتا الملاحين الحديثتان تانك تتنازعان حول حكم سليمان الجديد ذلك مدة ثلاثة قرون، ولم يسلم بمبدأ جديد لحرية البحار إلا في زمن حديث جدا، ولا ترى في المناطق التي بقي فيها شيء ينتظر من يكتشفه؛ أي المناطق القطبية، مهيمنا غير حق الأقوى، وذلك من دون التفات إلى البابا أو جمعية الأمم أو أية سلطة أخرى.
ويذيع أستاذ ألماني أن الإيطالي أمريكوفسبوشي اكتشف قارة جديدة، وهكذا يجعل له من المجد ما لم تسمع به أذن وما لم يستحقه، ويخالف هنبولد هذه النظرية، ويسمى البلد الوحيد الذي اكتشفه أمريكو: كولونبيا، نسبة إلى كولونبس، ومع أن الرائدين إيطاليان فإنك لا تجد قسما من العالم الجديد يتكلم أهلوه باللغة الإيطالية، كما أنه لم يتحدث فيه بالإيطالية قط.
وكان التجار أول من أدرك أمر الانقلاب الأكبر الذي حدث في تاريخ البحر المتوسط، وقد راعهم ما صنعه فاسكو دوغاما أكثر مما صنعه كولونبس، وقد أيقن سادة البندقية هؤلاء ما ينتظرهم من مصير، وقد كانوا من البصيرة ما يوجهون أبصارهم معه نحو برزخ السويس من فورهم لإمكان حفر قناة فيه ولوجود قناة فيه مرتين فيما مضى، وإن كان ذلك على شكل ابتدائي إلى الغاية، ومما نعرف أن البندقية فاوضت سلطان مصر في هذا الموضوع حوالي سنة 1510، بيد أن تركية كانت تتسع في ذلك الدور، فابتاع السلطان نهائيا لقب الخليفة وراية النبي المقدسة من آخر العباسيين بالقاهرة. وكان الترك في عصر ارتقائهم من القوة العظيمة ما لا يتنزلون معه عن شيء للبندقيين في دور زوالهم، وكان غرب آسية قبضتهم، وصارت مصر ملكا لهم، ولم يفتحون طريق السويس تسهيلا لأعمال النصارى إذن؟
وكان أفول البندقية يطابق أفول البحر المتوسط من وجوه أخرى، وكانت بيزة وجنوة قد خسرتا سلطانهما منذ زمن طويل، وكانت إيطالية منقسمة إلى دويلات كثيرة مستقلة، وكان كل من إسبانية وفرنسة موحدا على العكس من ذلك، أو يلوح أنه موحد على الأقل، وكان يتألف من الترك دولة البحر المتوسط العظمى الوحيدة لتحول الدول الغربية عنه مقدارا فمقدارا.
ولم يكن الانتقام غير ذي عمل في خسران البندقية مقامها المهيمن منذ حلف كنبري بين سنة 1508 وسنة 1510، وكان البابا والإمبراطور وملك فرنسة غضابا من محالفات سرمدية بين البندقية والكافرين، فانتزعا منها أملاكا كثيرة مع اجتناب إذلالها تماما. وقد أخذ الإسبان والبرتغاليون، الذين اغتنوا بالاكتشافات الحديثة، يسيطرون على البحر المتوسط، وقد زاد الإنكليز والهولنديون سلطانهما فيه، ولو لم يكن غير البرابرة من يسطو على موانئه وشواطئه لوجد فيه أجانب على الدوام كما ترى.
وهنالك مطابقة بين ذلك النشوء وارتقاء الدول القومية الغربية السريع، وهجر البحر المتوسط المهذب للإنسانية مدة ألفي سنة، وحلق خيال العالم فوق بحار محيطة أخرى. أجل، لم تغادر الحضارة سواحلها، غير أنها انزوت معتزلة، وقد عادت غير ساطعة عندما لاحت في وضح النهار مرة أخرى، أو أنها صارت ترى نادرا فيما وراء شواطئ البحر المتوسط، وقد فتح العالم دورا جديدا استحوذت التجارة والمقايضة فيه على النفوس ، وليست القارات الجديدة هي التي أدت إلى هذا الغرض، بل ترى هذا الغرض هو الذي حفز إلى اكتشافها منذ صار الناس جسرا مستطلعين.
وخسر الكفاح الذهني منزلته في القرون الثلاثة التي عقبت ذلك، وصار تاريخ البحر المتوسط تاريخا تجاريا سياسيا تبعا لذلك، وأصبح هذا البحر الذي كان مصدر كل حافز يتلقى حوافزه من الخارج، وغدت سفنه أهم من الأفكار التي ينشرها، وغدت السلع أثمن من الآدميين.
وأضحت هذه السلع أقل إثارة لطمع أوروبة من قبل، ويأتي الذهب من البلدان الجديدة البعيدة، وترسل إليها المنتجات الخاصة، وتحول البحر الذي كان مركزا للعالم إلى بحيرة داخلية، وعاد امتلاك مرافئه وشواطئه لا يكون مدار طمع الأقوياء، واندلق أبناء البحر القديم نحو العالم الجديد.
الجزء الرابع
إلى المنار
كانت الصخور على الشاطئ الجنوبي من جزائر إيرز مقرضة بنصال، وكان البحر والصخر لدتين، ولا يلتفت إلى فرق بضعة آلاف من السنين عند النظر إلى دور بالغ الطول كذلك الدور، وكيف يدهش من ترك أحد العنصرين أثره على الآخر نهائيا مع محاولة كل منهما أن يضر الآخر في عداء أبدي قعدي؟
1
أفلم يعرضا على الإنسان مثال التخريب مبادلة؟ أجل، يسمى هذا الكفاح غراما في بعض الأحيان، غير أنه يظل كفاحا مع ذلك، وقد ميزت بألوانها الكهوف والمغاور التي نحتها البحر المتوسط في غير جزيرة، ميزت في قورسقة وكورفو وكابري، فقيل، مثلا، المغاور الخضر الزاهرة والمغاور الزرق، ويمكن تشبيه هذه المغارات بمحاولات الجماهير التي تحاول أن تثلم من حد من يسيطر عليها من العظماء الراسخين كالصخر.
والآن لا يفكر الحارس في رواية البحر هذه، وبالبحر اتصل مدى حياته، وعلى شاطئ البحر ولد ونشأ، وقد ركب البحر شابا وكهلا، فلما وخطه الشيب صار حارس هذه النار الدوارة التي أنشئت لحماية السفن، وهو لذلك قد عد البحر عنصره الحقيقي، عنصره الأبوي، وعنده أن تلك الصخرة لم تكن هنالك إلا لدعم المنار، وفي الأسفل قد ألقى شبكته صيدا للسرطان، والسرطان مما يسهل بيعه على الشاطئ، والسرطان مما يستطيع أن يجلب واحدا منه إلى بيته.
والآن يصل مع ابنه إلى الشبكة التي ألقاها عشية، ولا يقدر ما صيد من السرطان أن يخرج منها، ويجد الحارس في الشبكة من السرطان ستة، ويرى أن يبيع منه خمسة، ويربط القارب في الخليج ويخرج واحدا من الحيوان، ويرتجف ويضرب الهواء بذنبه، ويضعه الحارس على ركبتيه المبللتين، ويطلع ابنه على جسم هذا المخلوق الأسمر الذي هو من حيوانات البحر المتوسط، وأول أمر يثير الحيرة في هذا الحيوان المدرع هو قرناه المذربان الطويلان الظريفان المتحركان الأسمران، ويبصر على كل واحد من قرنيه ست بقع أو سبع بقع صفر زاهرة كالتي ترى على أجنحة الفراش، وللسرطان من كل ناحية خمس أرجل طويلة رباعية المفاصل ذات شعر طويل يمنعها من الملص وذات بقع صفر، وعيون السرطان كرات سود رائعة لا تمس من غير أن يرتعش، ولا يعرف الإنسان هل يراه السرطان لفراغ نظره كما يحدث للممثل المنهوك في آخر تمثيله.
وللسرطان في أسفله؛ أي في وسط صدره، قرنان آخران أحمران أصغر من أرجله الخلفية القصيرة، وهذه وحدها هي المشتملة على ملاقط صغيرة مع عدم حيازة لمثل سلاح الخمخم،
2
وللسرطان بيت أسمر أغبر تغشى أعلاه فلوس
3
فيقاوم بها أقسى الضربات، وللسرطان ذنب أقتم من ذلك وألمع، وهو على شيء من الطول فيقسم إلى اثنتي عشرة حلقة متساوية عرضا وينتهي بزعنفتين فيقسم كل منهما إلى ثلاثة مفاصل وتصلحان للدفع إلى الأمام.
والآن يعيد الحارس الحيوان ويري ابنه كيف أن الذنب يذكر بحب الصنوبر الكبير المنضد في جوزه، وأن وسط الجسم يشابه هيكلا عظميا، وأنه رقيق مصون قليلا، وأن الإنسان إذا ما ضرب الحيوان ضربا خفيفا عادت الأرجل إلى محلها، ومما يسر الحارس أن يلاحظ جهاز هذا الحيوان الذي هو من خلائق البحر المتوسط مثله.
ويجلس الحارس مساء على مقعده في البرج للقيام بعمله رقيبا، ويفتح كتابه الذي كان قد أطبقه أمس، وفي الكتاب يقرأ حائرا فصل: ولم يجب إهمال بحرنا؟
أذلك لأن سفن الزمن الكبيرة سلكت طريق المحيط الأطلنطي لتذهب إلى أمريكة؟ أفلم تقم به ملايين السكان في جميع هذه القرون؟ أفلم تستمر سفننا على السير بين الجزر كما في الماضي وتصبح أكثر عددا وأعظم سرعة؟ أفلم تكن السفن الفرنسية مسيطرة على البحر المتوسط في هذا العصر؟ يا للمبالغة في عنوان «البحر المهمل»! ولنر إذن ماذا يقص علينا هذا الكتاب حول هذا الموضوع.
البحر المهمل
1
إذا ما نظر إلى خريطة رسمت حوالي سنة 1600 وجدت مشتملة على لونين للبقاع الساحلية، ولم يحدث منذ سنة 1500، منذ أنضر عهد للإمبراطورية الرومانية، أن ملك سادة قليلون هذا العالم القديم المقسوم بين كثير من الأمم والمصالح، ويمضي زمن على ذلك العهد فيأتي من الأدوار ما تقوم فيه عشرون دولة مستقلة على سواحل البحر المتوسط، ولما حلت سنة 1940 كان عدد ما هو قائم على شواطئه من الدول أربعين، ولكنك إذا رجعت البصر إلى سنة 1600 تقريبا لم تجد بجانب بقعتين ملونتين غير خمس بقع ساحلية صغيرة؛ أي الساحل الفرنسي الذي يكاد يطابق الساحل الحاضر، ودولة الفاتيكان وتوسكانة وجنوة والبندقية، وقد هبطت هاتان الأخيرتان إلى مرتبة الدول الصغيرة هبوطا محزنا.
واللون التركي واللون الإسباني هما اللذان يسيطران على الخريطة لعدة قرون، وكانت إمبراطورية آل هابسبرغ في دور بلوغها شأو مجدها شاملة لإسبانية وألمانية وإيطالية، غير أن الإمبراطورية التركية قد اشتملت لزمن أطول من ذلك على بلاد أعظم اتساعا فكانت تمتد من بودابست إلى زارة ومن الدنيبر إلى رودس، ومن القرم إلى مراكش، وأباطرة الرومان وحدهم قد سيطروا على أملاك بالغة ذلك الاتساع، وإذا ما اعترض على هذا بأن الترك لم يملكوا شمال أفريقية إلا اسما أمكن الجواب بأن بعض الولايات الرومانية كان يتمتع باستقلال داخلي واسع أيضا.
وما كان حوالي سنة 200 من جمع تراجان إمبراطورية الرومان في يد واحدة مع دين رسمي واحد ودستور واحد وقانون واحد وجيش واحد قسم بين تركية وإسبانية حوالي سنة 1600، وكان يفصل كل واحدة من هاتين الدولتين عن الأخرى أفكار ومظاهر أفكار؛ أي عاملان يثيران الحقد بين الشعوب في أدوار عدم التسامح، وكان ذوو الطموح من الرؤساء ينتفعون بهذين العاملين إلهابا للجماهير، كما لو كانوا يحدثونها عن المواد الابتدائية وعن الذهب. وكانت الشعوب تتعارض بالدين ولون الجلد فيما بين سنة 1500 وسنة 1700، فهلكت الملايين من الآدميين في حروب لا حد لها بين النصارى والمسلمين على غير حق وبلا مسوغ. والواقع أن الرجل الأبيض لم يكن ناصع اللون وأن تركي مصر لم يكن أسمر من نصراني أشبيلية، ويسأل عند ذكر الفرق الديني: أوليس الله واحدا قادرا لطيفا لا تدركه الأبصار كرب النصارى؟ أوليس عيسى من أعظم الأنبياء لدى المسلمين؟
ولم يكن الدين وحده ذريعة لحروب الفتح، أجل، كان أقوى ملوك إسبانية مملوءا حمية تبشيرية، وكان ملوك إسبانية، والبابا في بعض الأحيان، يحلمون بإشعال حروب صليبية جديدة في أثناء حروب الفتح الكبرى بين البحر المتوسط الشرقي والبحر المتوسط الغربي وفي أثناء المعارك من أجل أفريقية الشمالية وإيطالية والأرخبيل الإيجي وفلسطين، غير أن النار المقدسة كانت هامدة منذ زمن طويل، وعاد الدين لا يوحي بالأفكار، ولما وجه الخطاب إلى مشاعر الجماهير الدينية برز المرتزقة في الميدان بدلا من الفرسان وقام الحقد على الكافرين مقام الأماكن المقدسة، وإذا كانت الجماهير قد أشربت بغض الكافرين فإنها كانت أشد ضغنا على الملحدين.
وقد أبدى ملوك فرنسة الذين كانوا يلقبون ب «الملوك الكثيري النصرانية» صداقة ثابتة للسلاطين مفضلين تأييد الإمبراطورية التركية على اقتسامها هم وزملاؤهم النصارى، ولا مراء في أن الدين كان يشغل أسمى مكان في روح أمم البحر المتوسط في أواخر القرون الوسطى، بيد أن دور النهضة قد أحل المبدأ الوثني ومبدأ التمتع بمتاع الدنيا محله، ولا مراء في بلوغ اصطراع المشاعر المتناقضة أقصى حدوده بين سنة 1200 وسنة 1500. بيد أن هابسبرغ إسبانية قاوموا الإصلاح سنة 1550 فسيطرت محاكم التفتيش واليسوعيون مجددا على العالم والبحر المتوسط على الخصوص، وحرق السحرة وفرضت المحاكم عقوبات على الملاحدة فأدى هذا الإحراق بالنار إلى إظلام المدن أكثر من إنارتها، ومع ذلك صار من المتعذر إثارة تعصب الجموع الشعبية التي استطاعت قبل ذلك أن تقدر التسامح والحرية الدينية .
واعتنق الناس مثلا عاليا بعد اليوم، اعتنقوا القومية فصاروا ينشدون الوحدة وفق لغتهم وأصلهم ودينهم، وقد مثل الدين دورا مهما أيضا، وذلك عن معارضته الكاثوليك بالأرثوذوكس والمذاهب المصلحة، وذلك عن معارضته بعض المذاهب ببعض على العموم. ومن يفكر في كون حرب السنين الثلاثين قد دارت، كما زعم، حول تناول القربان حبا لله وبصرا بالأمور وفي كونها لم تنته بنصر حاسم، لا يجد ما يحمله على الاعتقاد بالذرائع التي حاول النصارى أن يستأصلوا الإسلام بها غير مرة، وعدت، بعد سنة 1500، لا ترى في البحر المتوسط، ولا في الشمال، رؤساء أو شعوبا مستعدة لرفع السلاح قتالا للترك في سبيل النصرانية.
والذي غاظ ملوك أوروبة هو أن تصرف الكافرين في الحرب كان خيرا من تصرف النصارى، وقد كان يوجد خلف مختلف القبائل حضارة ألفية قلبا وقالبا، حضارة غدت فارسية أكثر منها عربية. وكان هؤلاء الترك، هؤلاء الجنود الممتازون، هؤلاء الفاتحون الحرصاء على الاقتباس، سادة لإمبراطورية في آسية الوسطى حوالي سنة 600، وهم لم يتحولوا من قبائل بدوية إلى أمة محاربة منظمة إلا بعد سبعمائة سنة بقيادة رئيسهم عثمان الذي نسبوا إليه، وأسفر ما أصيبت به هذه الإمبراطورية من انحطاط دام قرونا كثيرة عن تمثل التركي لأوروبة رجلا غليظا مكسالا كما وصف في كثير من الأخبار ودور التمثيل، والواقع أن من الصعب أن يتبين الإنسان من صورة شائب شاحب ضعيف أيام شباب هذا الشيخ.
ومع ذلك فإن هذا الفتاء الذي دام من سنة 1450 إلى سنة 1550 تقريبا قد أعان الترك على العيش مسنين على الرغم من ضعفهم، وقد عين وجود هذه الإمبراطورية العظيمة على شواطئ البحر المتوسط مصير هذا البحر مدة ثلاثة قرون أخرى مع إشرافها على الموت. والترك، وإن لم يحوزوا شيئا من العلم والمعارف التي جلبها العرب إلى شواطئ البحر المتوسط، كفى كيانهم الثقيل الجامد لتسكين المنافسات النصرانية وتقريرها في الغالب.
وإذا عدوت ما لاقاه المسلمون من تسامح ملوك سراة كفردريك الثاني، وجدت هؤلاء المسلمين قد أبدوا تسامحا نحو النصارى أكثر مما أبداه النصارى نحو المسلمين ، وهذا في القرن الذي بلغ فيه كل منهما أوج عظمته، أولم يكن أحد سلاطينهم العظماء، مراد الأول، ابنا لنصرانية؟ ولما استولى الترك على القسطنطينية لم ينتقموا فيستغلوا من ذهبوا ضحية سادتهم، فصان محمد الثاني الروم النصارى، واستخدم بايزيد أناسا من النصارى واليهود، ولكن مع إزالة كل من يهدده، وهذا ما بدا به هؤلاء السلاطين من أنصاف البرابرة إزاء معاصريهم من الملوك النصارى.
وعلى من يود وصف الترك بالقساة أن يفكر في العصر الذي نشأت فيه أخلاقهم وفي البلاد التي تكونت فيها طبائعهم. أجل، إن السيف التركي قطع رءوس الألوف من الأبرياء، ولكن ما الذي صنعه معاصروهم من النصارى؟ ولما أراد البندقيون أن يقهروا الكرواتيين الثائرين باستمرار حوالي سنة 1570 أرسلوا إليهم حاكما حاملا أوامر مكتوبة بدم، ولم يكتف هذا الحاكم بإعدام زعماء الفتنة ومن والاهم شنقا، بل بقر أمام الشعب المتجمع بطون أربع نسوة حبالى شريفات مخرجا ما كن يحملنه من الأجنة، والفرنسيون هم مصدر هذا النبأ.
وأجدر الأمور بالذكر دفاعا عن الترك هو ما كان يتمتع به العبيد من حال، فالمماليك، مثلا، كانوا عبيدا، وكان للمماليك منذ القرن التاسع، مع ذلك، من التأثير البالغ في وراثة سلاطين مصر ما هو أقوى من تأثير الحرس القيصري في وراثة أباطرة الرومان. ويحل القرن الرابع عشر فيبدأ بتأليف كتائب مختارة من فتيان أسارى النصارى، ويؤلف هؤلاء، بعد سقوط بزنطة على الخصوص، ضربا من منظمات الغلمان والفتيان ويجمع فيها أكثر هؤلاء استعدادا ويحملون على اعتناق الإسلام ويعنى بتربيتهم في ست سنين أو سبع سنين، وهؤلاء هم الإنكشارية المشهورون الذين لم يلبثوا أن شغلوا في الجيش والدولة مناصب عالية، ومنها الصدارة العظمى في بعض الأحيان، ويحظر عليهم الزواج حتى سنة 1600 حملا لهم على وقف أنفسهم على الدولة على طراز المنظمات الدينية، وهكذا قام مبدأ أساسي ظل وحيدا في التاريخ، وهو أن يحفظ الدولة ويدبر أمورها عبيد من الأجانب.
ومن المحتمل أن بقيت وجاهة بزنطة وطبائعها ومبادئها حية في القسطنطينية الجديدة بتراث هذه الجماعات ، ولم يكن من هو أعظم من السلطان مظهرا، وترانا نعرضه طاغية شرقيا ذا زخرف بهي انتحله البلاط الإسباني وفق ما في بعض الصور الفسيفسائية على ما يحتمل، والفارق هو أن العرش الفارسي الذي أدخل إلى استانبول كان واسعا غير عال كالعروش الغربية فنظم ليستطيع السلطان أن يضطجع عليه، ونعلم من نقوش قديمة أن حارسين مختارين كانا يقومان بحفظ كل واحد من السفراء أكثر من قيادته، ولم يكن لملك إسبانية عرش أعلى من عرش السلطان، وكان يجلس عليه متوترا تحت مظلة مماثلة.
ومن المصادفات العجيبة أن جلس كل من العاهلين على عرش مملكته في وقت واحد، وأن ظل كل واحد منهما قابضا على زمام الملك زمنا طويلا مع بقاء العاهل التركي حيا مدة عشر سنين أطول مما بقي العاهل النصراني، وقد مثل كل منهما شأو المجد في زمنه كما مثل عبقرية آله، ويبدأ عهد كل من شارلكن وسليمان المجيد سنة 1520.
2
تبصر، مع فاصلة أيام قليلة، أن وارث العرش العثماني تقلد سيف أبيه ابنا للخامسة والعشرين من سنيه وأن سليل آل هابسبرغ توج ملكا لألمانية في إكس لا شابل ابنا للعشرين من عمره، وقد جلس الأول على العرش بعد أن قتل منافسيه، وقد جلس الثاني على العرش بعد أن فاز في الانتخابات بمبلغ كبير من الذهب أقرضه إياه آل فوغر الذين كانوا أبناء وحفدة لصانع ألماني.
وكان حق سليمان في الوراثة يكفي لنيل السلطان، وعلى العكس أمر شارلكن الذي لم يكن ليستطيع جمع الإمبراطوريتين الهابسبرغيتين للمرة الأولى إلا بنيله أصوات أمراء ألمانية الناخبين وإن كان وارثا شرعيا للتاج الإسباني، وما كان ليعنى بالبحر المتوسط إلا عن تراثه الإسباني، وما كان ليبالي به إلا قليلا.
وكلا العاهلين كان مقاتلا، والتركي فاتح والإسباني مطالب بأملاك كان آله قد جاهدوا في سبيلها منذ زمن طويل، وكان سليمان محتاجا إلى الحرب ليحيا، وإلا لمات في قصره ودائرة حريمه ملالا. وكان يمكن شارلكن أن يعيش بلا فتوح ومن غير معارك، ولم يعد شارلكن لسياسة توسع عن طموح أو مزاج ، ولكن شارلكن قد قاتل ضاريا كل من حاول أن ينزع منه ما كان خاصا به. أجل، درب بدنه النحيف على الفروسية، غير أن جميع أعضائه كانت ترتجف عندما تتمثل له أسلحته، ومع ذلك كان يبدو أشجع من الجميع إذا ما خاض غمار المعركة، وكان من طبيعته أن يكتفي بإدارة أملاكه الواسعة التي ورثها إذا لم يناهضه أحد. وعلى النقيض كان التركي راغبا في فتح إمبراطورية عالمية، والتركي قد شهر حروبا وفتح فارس وسورية ومصر، والتركي قد جلب من مصر لقب الخلافة كغنيمة حربية،
1
مع أن شارلكن خلع أحد البابوات فاختار بدلا منه لتتويجه، على أنه لم يحتفل بهذا في رومة، وكان شارلكن آخر إمبراطور توجه بابا.
وكلا الرجلين - المسلم والكاثوليكي - سار على مثال واحد، وكلا الرجلين فكر في شبابه في تقليد الإسكندر، غير أن السلطان الشاب، الذي تقدم من وطن الإسكندر مقدونية نحو فارس التي فتحها هذا الأخير، كان أقرب إلى المثال المشترك من شارلكن الذي أشرب في شبابه قصص أبطال من النصارى.
وقام العاهلان بمعاركهما الحاسمة ونالا أعظم انتصاراتهما في سني شبابهما الأولى، واضطر شارلكن إلى محاربة ملوك فرنسة فكان الفوز حليفه في بدء الأمر، ثم كانت النتائج متحولة في ثلاث وقائع.
وما كسبه في حروبه؛ أي ميلان ونابل، قدر أنه ناله بحق الوراثة، وذلك ما دمنا لا ننظر إلى عهده إلا من حيث البحر المتوسط، وكذلك السلطان كان يرى أنه ذو حق في بعض أقسام البلقان، ففتح في أول شبابه صربية وأملاكا مهمة في هنغارية، والواقع أن التركي مدين بانتصاراته لشارلكن على وجه غير مباشر، والواقع أن الفرنسيين لم يعاهدوا السلطان إلا لأن شارلكن كان قد غلبهم.
وما كان من انتصارات سليمان وضغط سلطانه العريض ووعيده وصولته حال دون ظهور شارلكن أقوى رجال عصره، وإذا عدوت هذا وجدت جميع الممكنات لدى شارلكن، كسعي كورتز في فتح المكسيك، وهذا إلى إحباطه بجيوشه ما كان يحلم به سليمان من احتلال فينة، ولا مناص من حلول الحين الذي يتصادم فيه هذان العاهلان، وقد قلل التاريخ مدى هذا الصدام بعدم معارضته كتائب السلطان، في ثلاث حملات قامت بها منذ زحفها إلى فينة، بغير أخ لشارلكن، فأما المرة الأولى فقد طرد الشتاء فيها الكافر، وأما المرة الثانية فقد اجتنب فيها القتال في سورية، وأما المرة الثالثة فقد أنقذت فيها فينة بضرب من البطولة غير المنتظرة كالتي أنقذت بها إنكلترة في زماننا مع أنه كان يعتقد ضياعها، حتى في تلك الأحوال اضطر الهابسبرغي إلى إعطاء السلطان جزية.
أجل، حارب الرجلان على البحر المتوسط في تلك السنين نفسها (والحروب قد امتدت إلى ما بعد عقود
2
عهد كل من العاهلين)، ولكن من غير مواجهة. أجل، كان التركي أفضل من الإسباني أسطولا ولكن من غير مزية، وكان الاثنان يجهلان الملاحة كما يلوح، وظل الترك ككل شعب من الفرسان سليل لبدويين، غرباء عن البحر، ومن قول الترك: «إن الله أنعم بالقوة في البر على المسلمين، وأنعم بالقوة في البحر على الكافرين.»
ولم يكن آل هابسبرغ ملاحين حقيقيين، وقد خسر شارلكن نصف جيشه في عشرة أيام بالجزائر، وكاد يخسر بحريته وحياته، وما ناله من نصر في تونس كان قصير التأثير غير ذي جدوى، وهو، على ما كان من نصبه الجنوي أندره دوريا، الذي اشتهر بأنه أحسن ملاح في زمنه، أميرا للبحر لم يوفق للاستيلاء على أرض يملكها الترك في البحر المتوسط، وما انفك سلطان إسبانية في البحر المتوسط يزول في القرن السادس عشر مع زيادة سلطان تركية وحليفتها التقليدية فرنسة على هذه النسبة.
ومصدر هذا الوضع الجديد هو تفوق دول القراصين التي نبحث فيها عما قليل، ولم تكن هذه الدول تابعة للسلطان إلا اسما، وكان يعد قهرها متعذرا، وكان هذا أمرها في الواقع، ولم يجد السلطان للسيطرة على البحر المتوسط غير نصب لص البحر الشهير خير الدين بارباروس أميرا للبحر، ولم يقتصر هذا اللص البحري على تخريب صقلية، بل أرهب البابا بأن أنزل السلطان إلى ريجيو وأذن له في الاستيلاء على نيس، وقد غلب ذات مرة جيوش إسبانية وجنوة وفلورنسة مجتمعة كما غلب الدولة البابوية في معركة بحرية كبيرة بالقرب من جربة. وكان سليمان قد انتزع في شبابه جزيرة رودس المنيعة من فرسان القديس يوحنا، فلما كاد يشيب أمر أسطوله بنزع جزيرة مالطة من فرسان المنظمة المسماة باسم هذه الجزيرة، ولكن الأسطول اضطر إلى الرجوع غير ظافر بعد حصار طويل. وقد بلغ سليمان من شدة الغيظ ما حظر معه على المراكب العائدة دخول ميناء القسطنطينية، ويعرض علينا بطل مالطة المشهور، وصاحب لافاليت الكبير، أجمل رأس للفارس الأشمط، مع عدم قسوة وعدم تعصب.
وقد اشتعلت جميع هذه المعارك لنيل السلطة في الحقيقة فكانت سجالا، وقد أوقدت باسم التعاليم الدينية على العموم فكان يقصى السبب الديني بعنف في بعض الأحيان، وهذا يذكرنا بالكلام القومي المنمق الذي تستتر تحته اليوم مصالح شركات استخراج البترول مع أن هذه الشركات تعامل أعداء بلادها.
ومن البابوات من كانوا يتاجرون مع السلطان من أنسوني،
3
وقد سميت راكوزة
4
ب «المدينة ذات الأعلام السبعة» لانحيازها إلى من يبدو ذا قوة لوقت ما، ويمكن إطلاق مثل هذا الوصف على كثير من المدن في أيامنا.
ومع ذلك فإن البابا بولس الرابع بلغ من الحماسة ما جرؤ معه على تحريم التجارة مع الكفرة؛ أي ما أقدم معه على المجازفة بسلامة روح التاجر النصراني، ولكن لما طلب بابا آخر من الملك فرنسوا الأول حسابا عن محالفته سليمان أجاب قائلا: «إن الكافرين قسم من المجتمع البشري مثلنا، وتعلمنا الطبيعة أن حطام الدنيا خاص بجميع الناس، وليس من الطبيعة ما هو واقع بين الناس من اختلاف.» غير أن من الرزايا ألا تصدر هذه الحقيقة عن الملك البالغ الكثلكة إلا حين احتياجه إلى مدافع المسلمين، ولم يتأخر الكاثوليكي الحقيقي شارلكن عن محالفة هنري الثامن الذي كان قد التمس من البابا حرمه.
وإننا حين نقابل بين العاهلين، الإسباني والتركي، نرى سليمان أكثر إطلاقا وحرية من شارلكن، مع أن شارلكن كان مستبدا مطلقا أيضا فلا يشاور أحدا قبل قضاء في الأمور، وإنما كان السلطان خليفة ؛ أي مثل البابا، على حين كان الإمبراطور، على العكس، يضطر إلى مقاتلة البابوات وخلعهم وإلى فتح رومة قبل أن يمكن تتويجه، وإنما كان على السلطان أن يطفئ فتنة بعض الولايات المفتوحة، كسورية مثلا، على حين كان على شارلكن أن يقضي على تمرد مدن إسبانية وعلى عصيان نصف ألمانية في ثلاثين سنة. أجل، لم تتحول الثورة الذهنية والروحية التي عرفت باسم الإصلاح الديني إلى تمرد سياسي إلا نادرا، غير أن ما بين أمراء ألمانية من قتال الأخ لأخيه قد اكتسب طورا ارتبط معه الإمبراطور التقي في الكنيسة بأوثق مما تؤدي إليه معركة حربية يسترد بها تراث.
ولما رفض البروتستان الذين تحولوا عن البابا في أول الأمر أن يوالوا الإمبراطور، كانت ألمانية مسرحا لحرب أهلية بين جيشين فصار الإمبراطور بذلك محروما عنصري القوة والحرية اللذين يمكنه أن يتطور بهما في إمبراطوريته العالمية وفق طبعه، وهكذا أضاع في نهاية الأمر قسما كبيرا من الهدف الذي وقف عليه حياته، ولولا ثورة الإصلاح الديني لاحتمل سحق إمبراطورية السلطان الناهضة من قبل نصرانية موحدة. بيد أن المذاهب كانت تتقاتل بأقسى مما تقاتل به العدو المشترك، شأن مختلف الأحزاب الاشتراكية التي أدت بسلوكها إلى بقاء عدوها المشترك، رأس المال، ظافرا حتى أيامنا؛ ولذا كان من حق لوثر أن يقيم له السلطان أثرا.
ومن يدرس حياة هذين العاهلين يجد لزاما عليه أن يهمل الزعم القديم القائل إن الآسيويين أقسى من الأوروبيين، وما كان الدين ليمنع الجندي النصراني، ولا الجندي المسلم، من اقتراف طائفة من الفظائع، أفلا تزال الكبائر ترتكب في أيامنا؛ أي بعد أربعمائة سنة من ذلك التاريخ؟ ولما دخل جيش شارلكن، المؤلف من إسبان كاثوليك وألمان بروتستان، رومة عنوة في سنة 1527 أتى من المظالم مثل ما أتى أجدادهم الوندال قبل ذلك بعشرة قرون. ومن الحق أن يقال إن الإمبراطور ارتاع بما قدم إليه من تقارير حول هذا الموضوع، فألغى ما نظم من احتفالات ابتهاجا بولادة ابنه البكر، فما كان السلطان ليصنع بهذا المقدار.
ويظهر أن الاثنين كانا ذوي شعور عميق بمسئوليتهما، وقد تكلمت حكومة سليمان الشعبية بما يلائم هذا الافتراض، ولدينا عن شارلكن بضع صفحات، على شكل يومية، كتبها في الخامسة والعشرين من سنيه فقال فيها: «ما أصعب الإلزام على البت في كل أمر لما ينطوي عليه من إيلام كالمرض! وبما أنني أرى وأشعر ما مر الزمن وما مررنا معه فإنني لا أريد الموت من غير أن أترك تذكارا كريما، ومع ذلك فإنني لم أنجز حتى الآن شيئا يعد عونا لي على مجدي الشخصي.»
ولا يتسع صدر هذا الكتاب لتفصيل أخلاقه بأكثر من ذلك، وتجد في كتاب «تاريخ الألمان» للمؤلف نفسه بيانا أوفى من ذلك.
ومن المؤثرات العميقة أن يرى العاهلان، اللذان حناهما العمر وأضناهما المرض، يذهبان ذات مرة إلى القتال بمثل بأسهما السابق، وقد حاول الإمبراطور، الذي كان يعاني ألم النقرس فيقضي معظم الوقت ضاجعا في العربة، حصار قلعة متز فلم يوفق، فهنالك اتخذ قرارا مهما بأن تنزل عن العرش من تلقاء نفسه كما كان ديوكليسيان قد جرؤ عليه من قبل، وتكفي الخطبة التي ألقاها أمام أشياعه المجتمعين في بروكسل لأن تجعل منه أهلا لخلافة شارلمان وفردريك الثاني.
وقل مثل هذا عن السلطان الذي كان أحسن فارس بين شعب الفرسان الترك، فقد لحق بعربته جيشه المغير على الهنغاريين، وقد قاومت القلعة، التي كان يدافع عنها البطل المجري نقولا الزريني، زمنا طويلا، فمات السلطان البالغ من العمر إحدى وسبعين سنة بغتة قبل سقوطها بثلاثة أيام. وكان لدى شارلكن من الوقت ما تكرر معه مآتمه وما يموت معه وفق الطقوس الإسبانية، ويؤتى بجثمان السلطان إلى عاصمته محمولا على عجلة بلغارية تجرها خيل هزيلة.
ومن المحتمل أنك لا تجد أحدا قد حزن على وفاة العاهلين، وكان ابن الإمبراطور شارلكن: فليب قابضا على ناصية الحكم حينما كان أبوه، الذي لم يحبه قط، حيا، وقد لقب التاريخ ابن سليمان ب «السكير». وقد قضى نظام الحريم على حياة أسرة السلطان منذ زمن طويل كما في كل وقت، وكانت روكسالان الشهيرة أمة ذات مستوى خلقي يعدل مستوى امرأة الإمبراطور قسطنطين التي هي أقدم منها بعشرة قرون، فكانت مغرية باغتيال ابن سليمان المفضل؛ أي اغتيال عقبته سلسلة من أعمال القتل بين الآل.
وعاش شارلكن وزوجته البرتغالية الحسناء أربع عشرة سنة مع الانسجام التام الذي لم ينته إلا بموت الإمبراطورة، ولم يكن للإمبراطور من العلاقات الجنسية إلا قبل زواجه وبعد أيمه، وأسفرت هذه العلاقات عن إنجابه بولدين موهوبين، بمرغريت وجان النمسوي، وما أشد ما كان يساور فليب من رغبة في إزالة أخيه النغيل على الطريقة التركية! وقد استطاع أن يقضي على ابنه الخاص، دون كرلوس، قضاء شرعيا مع ذلك ...
ومن ينظر إلى العاهلين من حيث آثارهما الثقافية يجد التركي أفضل من النصراني بما يثير الحيرة، وقد تجلى ذوق الإمبراطور الكاثوليكي في الأعياد والثياب، وفي سلوكه أيضا، فالتزم طريقا وسطا بين الاتضاع والانتفاخ وقد قضى حياة تناقض روح عصر النهضة، فكان اعترافه بنغيليه كل ما تنزل عنه لعادات زمنه.
وبدأ شارلكن بإنشاء بناء مستدير فخم بجانب الحمراء، ولكنه لم يستطع إكماله، ولم يترك لنا هذا المليك أي قانون دائم كان، ولا يكاد مرسوم أصدره يجعله من حماة الفن، ولو لم نتصرف في بعض الأقاصيص وبعض الرسائل الخاصة وبعض الصور التي رسمها تيسيان لأحيط وجهه بظل.
والسلطان، على العكس، لقب ب «القانوني» من قبل رعاياه، والسلطان وحده هو الذي يحمل هذا اللقب بين بني وطنه، وإذا ما نظر إلى نتائج قانونه المدني في الشرق مدة ثلاثة قرون نزع إلى وضعه بجانب جوستينيان ونابليون، ويلوح أن سر حكومته كان في نظام شئون المالية وانتظامها؛ أي في الأمرين اللذين لم يتعودهما الشرقيون، وقد فصلت أموال السراي الخاصة عن الخزينة العامة التي تحفظ في «الأبراج السبعة». ولولا صفات السلطان سليمان الفريدة هذه ما وفق في سيطرته على ثلاثين قطرا وعلى 14000 كيلومتر من السواحل، ولم يفقه بلد أوروبي في القرن السادس عشر ثقافة من حيث ما أنشأه في آسية من مدارس ابتدائية وجامعات ومشاف. وقد قال مؤرخ معاصر: «كانت تمازج فؤاده ثلاثة أمور : فتح فينة وإنشاء مسجد ضخم وقناة تسقي الآستانة.»
والواقع أن هذا السلطان العظيم شاد في الآستانة مسجد «السليمانية» في الزمن الذي كانت تنهض فيه كنيسة القديس بطرس في رومة تحت إشراف يوليوس الثاني، ولا تزال قباب بيتي الله هذين ترتفع نحو السماء. وكان ميكل أنجلو الآستانة سنان مرتدا عن النصرانية، وكان من أسباب ابتهاجه أن أتم أثره بنفسه على حين حرم البناء الفلورنسي تنفيذ تصاميمه. وكان سنان مهندسا وبناء كالأساتذة الإيطاليين، فأنشأ عدة جسور حديثة على الخصوص، وقد استطاع أحد زملائه أن يتم إنشاء المجاري التي تسقي الآستانة من منطقة البحر الأسود في قنوات كبيرة، ولسرعان ما أنشئت عيون جارية في العاصمة، وقد اجتمع الشعراء في الأسواق كما في قصر السلطان فدعوا أحدهم «حافظ الجديد».
ويدعى اسم سليمان بعد سبعين عاما من وفاته في يوم عيده، وذلك من فوق 2060 مسجد، وإذا استثنيت قانون التعذيب المعروف بالكارولينا وجدت الإمبراطور شارلكن الذي وقفت جيوشه السلطان أمام فينة لم يترك خلفه قوانين ولا آثارا. وقد انهارت الملكية الإسبانية بعد موت هذا العاهل بثلاثين سنة، ونرى للمرة الثانية عاهلا يخسر كل شيء، كما كانت حال فردريك الثاني، فيظل أمام الأعقاب حيا نهائيا بأجل مما عليه نظائره.
وقد ردد سمو شخصية شارلكن حول خصمه لوثر على الخصوص، فكان له في أوروبة مثل شعاع ذكرى عدوه المنصور سليمان في العالم الأسيوي، والناس في آسية قليلو المعرفة باسم شارلكن قلة معرفة الناس باسم سليمان في أوروبة، ويثبت هذا الجهل المتبادل إثباتا بليغا ما يرى من فرق تام بين حضارتين انتسب إليهما هذان العاهلان وتقاتل في سبيلهما عالما البحر المتوسط.
3
لقد ترجحت جمهورية البندقية التي هي أقدم دار للتجارة في البحر المتوسط بين الدول المتقاتلة مدة قرن، وهي لم تمحق كما محقت بيزة، وهي قد ظلت أكثر استقلالا من جنوة، وهي قد ظلت لها فروع على طول البحر الأدرياتي وفي الأرخبيل. وهي قد برزت للدفاع عن قبرس مستعينة بدول قوية فقضى الترك أربعا وعشرين سنة قبل أن يستطيعوا احتلال هذه الجزيرة، وعاد السلطان لا يوزع احتكارات، وغدت البندقية، التي كانت قد تغلبت على القسطنطينية وورثت منها، تسلم إلى سادة بزنطة الجدد تراثها مقدارا فمقدارا من غير أن يستولوا عليها فعلا، وقد استرد أشراف البندقية رءوس أموالهم من التجارة البحرية ليشتروا بها أملاكا على اليابسة، شأن الحسناء التي كانت تمالق فدخلت، للمرة الأولى، ردهة رقص مع ابنتها التي صارت غير قادرة على تأخير تمتعها بالدنيا.
ويمكن وصف تركية وفرنسة بأنهما وارثتا البندقية، ولكن هذا الوصف غير صحيح في سوى القرن السادس عشر، وقد أسفرت شركة هذين البلدين عن زيادة سلطانهما التجاري، ولم يسمح السلطان في طويل زمن لغير الفرنسيين بالملاحة في المياه التركية تحت ظل علمهم الخاص فكانت الدول الأخرى تضطر إلى استعارة العلم الفرنسي، وكان التاجر الفرنسي وحده، ويعده الترك حليفا لهم، هو الذي يحمى، ونالت فرنسة حوالي سنة 1600 امتياز الدفاع عن الأماكن المقدسة للمرة الأولى، فكان لتجارتها في الشرق فائدة كبيرة من وراء ذلك، ومع ذلك عزم ملك فرنسة على شهر حرب صليبية في الوقت نفسه، أو تظاهر بأنه ينوي ذلك على الأقل، حتى إن وزيره وضع من الخطط ما يضمن سلما قائمة على أساس إبادة تركية. والواقع أن كل شخص ذي خطر في ذلك الدور، كالأب جوزيف وفلنشتاين وغوستاف أدولف، كان كلفا بشن حروب صليبية، غير أن خططهم نامت في خزائن الوزارات الأوروبية لما كانت تقتضيه الموضة من استلهام «عقل الدولة» في الاعتذار بغلو القومية.
وما انفكت البندقية تترجح، وعادت سلع آسية لا تصل إلى البحر المتوسط برا منذ صار البرتغاليون في الهند، وتصبح قناة السويس موضوع بحث مرة أخرى، ويوكد تعذر إنشائها مرة أخرى، ومع ذلك كانت البندقية تجعل دبلميين ماهرين من تجارها الحاذقين كما كانت تصنع القسطنطينية فيما مضى، وبينما كان هؤلاء الدبلميون يتلهون في البلاطات الملكية الأجنبية، كانوا يجلبون إلى وطنهم البحري الغني أحدث الأزياء وأكثرها أناقة. وكان آل هابسبرغ الشباب النشاط في ذلك الحين يهددون تجارة البندقية بميناء تريستة الذين ينمونه، ولما قبضت سفن للبندقية طوافة على سفن تجارية ألمانية في البحر الأدرياتي، اجتمع أشراف البندقية وفينة للنقاش في قصورهم الرائعة بين الولائم الفاخرة، ويضعون تواقيعهم وخواتمهم على بعض الرقوق على حين يعفن ملاحو سفينتي الأعداء في قعر البحر، فالحق أن الدبلمية الحديثة بدأت في البندقية لا في باريس.
وبما أن البندقيين صاروا لا يسافرون نحو الشمال وأصبحوا يسافرون نحو الشرق أقل مما في الماضي، فإنهم استبدلوا منتجاتهم الخاصة بالسلع الأجنبية التي عادوا لا يبيعونها، وهل كان يمكن هذه المدينة الأسطورية الرائعة أن تصنع شيئا آخر غير السلع الأسطورية الرائعة؟ لقد ازدهرت مصانع الزجاج والمفرضات والمدبوغات والمنسوجات، وكان يضاف إلى جميع هذه الصناعات فن الحياة الذي بلغ ضروبا جديدة من النعيم.
حتى إنه كان يوجد ملك في جمهورية البندقية، وقد بلغ من العمر مائة عام كما جاء في الأساطير. ولو قام مبدأ الكمال البشري على النشاط المبدع الناشئ، وعلى الجد والمياومة والانسجام، وعلى تحقيق ما يمكن الرب أن يجمعه في شخص من رجولة، لوجب أن يعد تيسيان إنسانا اتفق له أكمل ما يتمتع به متفنن.
وكان هذا المصور البندقي الكبير أقوى ملوك البحر المتوسط من حيث ذلك المعنى، وهو لم يخدم سيدا غير العناصر والبحر، ومناظر مسقط رأسه ونساؤه وألوانه وحدها هي التي كان يعنى بها كما كان يعنى بالجبال التي تحيط بالبندقية والتي تشرف على الجزر والبحر، وقد كان سليل الربان المدعو تيزيانو فيشليو، وقد كان ابنا للجبال والحرب والحب. ويمكننا أن نتمثل من الصور التي تبدي تيسيان متقدما في السن مقدار ما كان عليه هذا المصور من جمال في شبابه، ويمكننا أن نتنور ذلك أيضا من حظوته لدى النساء في جميع الأجيال، والنساء هن اللاتي حفظن قدرته في دور طويل خارق للعادة، والنساء هن اللاتي ألهنه عن شكران لتخليده إياهن.
وعاش تيسيان حتى دور الرجعية الدينية، ومع ذلك لا تجد من المتفننين من هو أكمل منه تمثيلا لدور النهضة، وقد مات معاصره ميكل أنجلو في التسعين من سنيه ، وقد ظل تيسيان حيا بعده كما ظل حيا بعد جميع الذين ملئ القرن السادس عشر بمجدهم. وهو لم يبلغ درجة المجد إلا في الأربعين من عمره تقريبا، ويرتبط كيانه المئوي في فنه حول الحياة والتصوير من بعض الوجوه، وهو ليس دون برامانت وميكل أنجلو وليونار دفنسي إلا من ناحية واحدة، إلا من حيث اقتصاره على التصوير وعدم مزاولته شيئا آخر غير الفن. وهو، على العكس، كان فوق الجميع بحياته المليئة، وروبنس وحده، وروبنس مع كثير تأخر عنه، هو الذي يمكنه أن يقاس به من تلك الوجهة ومن حيث غنى أثره.
وأحاط تيسيان نفسه بغموض أقل مما أحيط به سادة فلورنسة وميلان، وهذا ما جعله أخا لرجال النهضة الذين صاروا رؤساء ودوكات وبابوات، وكان يمكنه أن يكون أحد رجال العمل بأسهل مما يبلغه ميكل أنجلو وليونار دفنسي. وكانت حلولية تيسيان بالغة الجرأة، فما كان أحد غيره ليجرؤ على تصوير ألواح ك «عيد فينوس» و«أعياد باخوس»، وكان تيسيان أكثر استلهاما لروح بركلس من كل واحد من متفنني عصر النهضة.
وكانت زوارق البندقية وقنواتها قد صورت في كثير من ألواح ذلك الدور، فشجعته البندقية بذلك على فيض وثنيته، وذلك على حين كان الخلقيون المتشددون المتحررون في رومة وفلورنسة يحافظون على نفوذهم. وقد أنعمت البندقية على تيسيان بصفة أميرية أعظم مما كان يستطيع أن يناله من إمارة، وذلك أن البحر الذي كان مغناه ومحترفه قائمين عليه يبدي له آفاقا لا تعرفها البلاد البرية، وكان العالم يبدو للمصورين العظماء الآخرين مثل فارس جائل، وكان تيسيان يرى العالم آتيا من الشرق العجيب على سفينة.
وكان ما يصوره من المناظر يختلف عن مناظر الهولنديين الذين لا يعرضون البحر ولا السفن، ولم يصور تيسيان البحر حصرا تقريبا، وإنما كان تيسيان، على العكس، يبعث وجوه البحر المتوسط الأسطورية فيرسم صورة أمراء عصره وملوكه، وقد صور أعظم رسام في الجنوب (وكان هلباين ابنا للشمال) شارلكن ثلاث مرات، فكان يظهر عاهلان في هذه الأوضاع متناظرين متواجهين تماما. وتعد أسطورة القلم الشعري الذي التقط نموذجه للمصور أمرا خاصا؛ وذلك لأن مثل هذه الأسطورة لم ينسج حول رفائيل وبليني، وليس المرسوم الإمبراطوري الذي قلد به تيسيان لقب الشرفاء إلا علامة شكران هزيلة تجاه شرفه الحقيقي. وبينا كان الأمراء يدعون أكابر مصوري العصر، كان تيسيان يدعو الأمراء إلى مائدته فيلاقون حولها فولتير عصر النهضة: أريتن، على ما يحتمل، ومع أن على الإمبراطور أن يختار مفضلا إسبانيا أو ألمانيا، لا ريب، فإنه دعا هذا البندقي، البالغ من العمر سبعين عاما آنئذ، أن يكون مصور البلاط في ألمانية، وهو قد سار على هذا الوجه لما بينه وبين المصور من ملاءمة.
وكان زهو العزة الخليق بملك والذي يتجلى في جميع ما صوره تيسيان ينعكس على حياة تيسيان هذا وعلى أثره ما غدت نماذجه ملوكا وإلاهات. أجل، قد يبدو جيورجيوني أعمق منه أحيانا، وقد يبدو بالما الأسن أعذب منه أحيانا، وقد يبدو فيرونيز أسطع منه أحيانا، غير أن تيسيان قد أحاط بهم جميعا بطول عمره على الخصوص. والواقع أنه كان له ثلاثون عاما من الماضي عندما فر من الوباء الذي أهلك أستاذه الشاب جيورجيوني، والواقع أنه داوم على تصوير عشرات بعد أن بدأ تنتوره ينازعه نزاعا صامتا في البندقية نفسها.
ولتيسيان من الآثار الضخام ما لشكسبير ورنبرانت، وليس له من الألواح ما يلخص به جميع الأخرى أو يسيطر عليها، كما هي حال «الإيقاع» لجيورجيوني أو «القديسة حنة» لليونار دفنسي. ويتألف مما يظهر على نسج تيسيان من الرجال، ومن النساء على الخصوص، ضرب من المنظمات الروحية التي تظهر على أعضائها سمة المتفنن، وهذا إلى أن كثيرا من آثار ميكل أنجلو ظل ناقصا وفق هزج حياته المهتز الذي يذكرنا بهزج الدكتور فاوست، ويكاد المد والجزر يكونان خافيين في آثار تيسيان خفاءهما في البحر المتوسط. وكان تيسيان يحب زرقة النهار الذهبية؛ أي لون البحر المتوسط، وكان يعرف العواصف أيضا فيصورها في ألواحه.
وكان بندقيا إلى فقاره، حتى في طلبه الغنى وحذقه الأعمال، فاكتشف مجددا جمال النساء في مدينة الغرام والهوى هذه، وقد فضل دوما ما في نساء الشعب من شهوة غريزية على حب الأميرات المصنوع، وليس كثيرا إلى الغاية عدد من صورهن من النساء، وتعد صورة الإمبراطورة إيزابلا أجمل صورة امرأة بلاط على ما يحتمل، وعلى العكس تجد له ألوف الصور لنساء مجهولات. ومن ينظر إلى اللوح المشهور المعروف ب «الحب السماوي والحب الأرضي»، والذي كان يجب أن يعرف ب «الإقناع الغرامي»، يدرك أن تيسيان كان ينظر إلى النساء بنظر ملك كما كان ينظر إلى بقية العالم، ومن ثم كان إبداع تيسيان لكثير من الملكات اللاتي ترك الواحدة منهن بعد الأخرى.
وتفسر ألواحه الأخيرة سبب سماح الطبيعة له بأن يبلغ المائة من العمر، فقد بلغت آثاره الأخيرة ممن الكمال ما لا يقدر عليه في سن أصغر من التي رسمها فيها، وما وكده الشيخ في مساء حياته شجاعا بطلا من طابع خاص في آثاره لم يساوه أحد من معاصريه فيه غير ميكل أنجلو. وقد ترك تيسيان في الدور الأخير من مشيبه جمال الألوان الخالصة التي سار بها نحو الكمال أكثر مما صنع أي متفنن آخر، وذلك ليصور ثلاثة ألواح، أو أربعة ألواح، مبشرة برنبرانت قبل ظهوره بستين سنة. أجل، يمكن قياس هذا الاعتزال الاختياري لسلطانه باعتزال الإمبراطور شارلكن الذي صنع له صورة رائعة قبل ذلك بزمن قليل، غير أن اعتزال الإمبراطور الاختياري نشأ عن إنكار نفس وخيبة أمل، وأن اعتزال المصور صدر عن حكمة وعلم بالمستقبل.
ولما مات تيسيان عن عمر مائة سنة بالوباء حدث في البندقية ما لا سابق له، وذلك أن من العادة أن يسرع في دفن ضحايا الوباء خشية العدوى، وذلك أن جميع الشعب قد تجمع ليشترك في تشييع جنازته الرسمية إلى كنيسة فراري، وذلك أن شعب الجمهورية أدرك أنه فقد مليكه.
4
سيطر القراصين على البحر المتوسط ثلاثة قرون قوة وإرهابا، ولم يمكن الخلاص من سلطانهم إلا نادرا وفي أقسام منه فقط، وكان للوعيد الذي يمثله لصوص البحر تأثير عظيم في التجارة البحرية وفي الحضارة نفسها. وكان سلطان القراصين يستند إلى تأييد السلاطين، والسلاطين كانوا يرعون نشاطهم في مراكش والجزائر وتونس على الخصوص، وهذا إلى ما كان من خضوع ممالكهم للسلاطين بالاسم. ويحل القرن السابع عشر، ويظهر الترك عند أبواب فينة ويهيمنون على البحر المتوسط، ويتحدى قراصين مسلمي شمال أفريقية مجتمع الملك الشمس وآل هابسبرغ الإسبان والبابوات الرومان البالغ التمدن فيربكون غرب البحر المتوسط.
وتعرض إمارة كبيرة عليهم عونا وأرضا، ومن يحتل شمال أفريقية الغربي المشتمل على جبل طارق في ذلك الزمن يمكنه أن يرقب إيطالية الجنوبية ومرسيلية وجنوة ومدخل البحر المتوسط الشرقي مع بقائه في حرز حريز. والواقع أن البحر على هذه الشواطئ يكون كثير الزوابع في الغالب، والواقع أنك لا تجد مرافئ لذلك البلد في ذلك العصر كما لا تجد ماء وراء شاطئ ذلك البلد.
من أجل هذا الوضع الجغرافي الممتاز كان ملوك النصارى يدارون هؤلاء اللصوص البحريين المعروفين بالقراصين في أثناء تنافسهم. ومن نتائج الحقد الذي يغلي فيما بين أولئك الملوك أن كان يحفزهم إلى تأييد الكافرين ضد أعدائهم سرا، وليس صاحب الجلالة الشديد النصرانية الملك فرنسوا الأول وحده هو الذي كان يبيع بارودا من الكفرة ليوجهوه إلى الإسبان، فمن البابوات من منح رخصا بمثل هذه التجارة قابضا عشرة آلاف دوكا دخلا سنويا.
وأخوان هما اللذان كانا أول من نهض نهوضا خياليا بالقرصنة القديمة في شمال أفريقية، وقد ظل أبناؤهما وحفدتهما قابضين على زمام الأمور مدة أطول مما اتفق لمعظم أسر الأمراء. ومن المسلم به أن كان أروج (عروج) وخير الدين ابنين لنصراني مرتد رباهما قرصانين مع خيلاء ملقنا إياهما بعض المشاعر الفروسية معلما إياهما أن يحافظا على نقاء دمهما كحرصهما على انتهاب ملاحي النصارى والفتك بهم، ولم يثبت أنهما سلبا مراكب إسلامية. وكل ما نعرفه أن سلطان الجزائر دعا إليه أروج ليساعده فخنق ابن دينه بيده في حمامه، وقد عد هذا من المآثر لفقده إحدى ذراعيه منذ بضع سنين فاتخذ ذراعا من فضة صنعها له صائغ عربي، ومع ذلك كان هذا عمل خيانة ونقضا لحق القرى فأثار فتنة.
ويقبض خير الدين، المسمى بارباروس بسبب لحيته، على زمام الأمور بعد قتل أخيه، أو يقوم بأعمال النهب طليقا مدة أربعين عاما، ثم يزدلف من الخليفة القادر المطلق في الآستانة، ويؤدي تحالف هذين الرجلين، اللذين كان كل منهما ينشد الآخر عن رهبة، إلى رفع القرصان إلى منصب الأمير الأكبر للبحرية التركية، وتشابه هذه التولية إقرار الملوك بشرعية خليلاتهم اللائي لا غنية لهم عنهن. ولم يكن في تقبيل خير الدين السبعيني خف السلطان الذهبي في سراي استانبول من الضعة أكثر من ضعة السلطان حينما قلد ابن الخزاف العادي هذا سيف الذهب وعصاه.
ومن المحتمل أن نشأت قوة القراصين عن عدم عدهم أنفسهم غير قراصين، والواقع أنهم لم يصنعوا غير إنجازهم بانتظام ومن غير تردد ما كان الملاحون قبلهم يحاولون أن يسوغوه بذرائع خادعة، ويلوح أن حقدا عميقا على المجتمع وزهوا دينيا يضفوان على الولع بالذهب هما اللذان حملا هؤلاء الناس على تعريض أنفسهم للموت دوما، وما كان من وجود القرصنة والنخاسة لدى النصارى أيضا يؤيد حس الشرف في القراصين الذين يشعرون، كبشر، بأنهم أسمى من النصارى. ولم يرد خير الدين، الصعلوك الكاره للوارث الإمبراطوري، أن يصدق الأسارى الذين رووا له خبر قيام الإمبراطور شارلكن بالقيادة بنفسه في متاريس تونس، وكان الإمبراطور يمقت، من ناحيته، هذا الثوري مجردا ضده حملته الثانية، غزوة الجزائر المشئومة، وفق رأي نبلائه وكبراء إسبانية وعلى الرغم من نصيحة حديث النعمة كورتز المعاكسة، ويصاب شارلكن بأعظم هزيمة في حياته في غزوه هذا.
وقد تغنى اللورد بايرون وشعراء آخرون بمشاعر الشرف لدى الخصوم محولين ما يساورنا من رأي عادي حول القراصين. وكان أندره دوريا الذي عد ملاحا كبيرا في العالم النصراني قد اغتنى من القرصنة كخير الدين مع أنه قضى جميع أوقاته فارسا حتى الأربعين من سنيه، ويستخدمه الإمبراطور للقضاء على عدوه الذي لا يقهر، وقد توارى هو ومراكبه يوم المعركة الحاسمة بالقرب من بريديزا مع أنه كان يظن أن الجنويين يحاربون من أجل حليفة الإمبراطور البندقية، ومما يروى أن دوريا وخير الدين اتفقا سرا على مراعاة كل منهما لمجد الآخر الحربي.
وكان القراصين يطلقون أسراهم غالبا في مقابل فدية كبيرة، ولم يكونوا إذن أظلم من أي صاحب سفن كان يقرن مئات العبيد في الأصفاد على صفات مراكبه، ولا ينبغي إذن أن ينظر إلى نظام القرصنة القوي، الذي عين حياة البحر المتوسط في قرنين أو ثلاثة قرون، من الناحية الخلقية، وكان الحقد الاجتماعي يتجلى في كل مكان تجليا يمكن أن يرد به وضع القراصين إلى ضرب من التمرد الدائم ضد المجتمع البرجوازي. ولما جلب خير الدين إليه ضباط مركب أسير وملاحيه أحس في بدء الأمر ما يساور الأسارى من غم، ثم صرح قائلا: «أريد أن أعفو عنكم بدلا من أن أذبحكم، فيكون الملاحون أحرارا ويصير الضباط عبيدا.»
وكان القراصين من رجال عصر النهضة ولكن مع عدهم خارج حماية القانون، وهم قد سيطروا على البحر المتوسط كسيطرة الرؤساء على القارة، وقد جعل هؤلاء وأولئك أنفسهم تحت تصرف من يجزل العطاء لهم أكثر من غيره. وقد كان هؤلاء وأولئك من البأس والإرهاب ما يحاول جميع العالم معه أن يبتاعهم، وقد كان بعدهم من الأخلاق مستقلا عن كل دين موروث أو منتحل. وقد قبض ربابنة الملكة إليزابت الإنكليزية على سفن إسبانية أيضا، فباعوا أشرافا من الإسبان في سوق دوفر جاعلين ثمن الواحد منهم مائة ليرة. وكان الملاح، حوالي سنة 1650، يفضل أن يقبض عليه القراصين المسلمون على أن يقبض عليه الإنكليز؛ وذلك لأمله أن يشري حريته من قراصين المسلمين؛ ولأن الإنكليز كانوا يقتلون ملاحي كل سفينة يأسرونها من العدو ويستولون على وسقها ويغرقونها.
وحاول الإنكليز حتى القرن الثامن عشر أن يستأثروا بخدم قراصين أفريقية انتزاعا للبر الأفريقي من الفرنسيين، وتنسم رئيس القراصين الأعلى في ذلك الزمن، تنسم داي الجزائر، مثل ذلك حينما اشتعلت الثورة الكبرى في فرنسة فأقرض فرنسة الفتاة في سنة 1790 خمسة ملايين فرنك بلا فائدة، ويثبت هذا الأمر إعجاب القراصين العظيم بالثورة الفرنسية ومقدار ما كانت الجزائر قد جمعته من الثروات بالقرصنة.
وكانت أعمال السلب والقتل تقترف من الناحيتين، من قبل النصارى والقراصين، كما كان يؤتى بأعمال فروسية، ولم يكن لأي من هذين العالمين إذن أن يعد نفسه أرقى من الآخر. ولما فتح الإمبراطور شارلكن تونس عانق العبدين الأبيضين اللذين أعتقهما في بدء الأمر، ولما وجه نظره رجل من بلاطه إلى رائحة هؤلاء العبيد هتف قائلا: «إن نار الهوى تصفي الهواء!» وقد دفع خير الدين نصف ماله إلى دوريا فدية ثمنا لحرية نائبه وصديقه. ومما كان يحدث أحيانا أن يحتفل الملوك الشرعيون بزملائهم القراصين احتفالا حارا إذا ما حالفوهم، ومن ذلك أن دوك دو بوربون احتفل في مرسيلية بخير الدين احتفالا رائعا لم يعرف للبابا ما هو أبهى منه، وقد تقاطرت السيدات لمشاهدة القرصان الشهير، وقد رأت الفتيات أحلاما غرامية.
ويظهر أن القرصنة حرفة صحية إلى الغاية، فقد عمر رؤساء القراصين كثيرا، ومن المحتمل أن كان هذا نتيجة بساطة حياتهم ما كان هؤلاء الأقوياء الأغنياء غير محتاجين إلى شيء غير النساء، وكانوا يعلمون القناعة في مدارسهم حيث يدرب الفتيان على الملاحة والقرصنة. وكان لا يؤكل في السفن غير كعك وأرز، وكان لا يشرب غير ماء، فإذا ما وجد ضائن في مركب ملطي مقبوض عليه قال القراصين إن هذا عار على الربان.
وقد تعلم القراصين علم النفس من هذه المهنة الخطرة، والواقع أنه كان يجب عليهم أن يعرفوا قيمة الأسرى، وتذكرنا التقارير التي وضعت في هذا الموضوع بتقارير الجستابو، وإذا ما كانت يدا الأسير بيضاوين قضوا بأن ثيابه البالية هي للخداع؛ وذلك لأن الشخص في ذلك الزمن إذا لم يعمل بيديه ووجد في البحر حكم بأنه غني لا ريب، وكانوا يدققون في الشعر والسير وطراز الكلام. وكان التجار الذين يشرون عبيدا من سوق النخاسة ينظمون الأسارى المعروضين عراة للشمس المحرقة، والذين كانوا أمس يعتقدون أنفسهم سادة العالم، فيحملونهم على الوثوب وعلى الألعاب الرياضية ويأمرون بجلدهم في بعض الأحيان. وكان السفراء الأوروبيون، إذا ما خاطبوا الداي الذي كانت له أولية اختيار ثمن العبيد لنفسه، يستعملون تعبير «جلالتكم» حتى سنة 1820.
وكانت قوة الحياة في القراصين أقرب إلى الخيال، والمرء إذا ما قرأ أن خير الدين عاش ثمانيا وتسعين سنة تمثلت له صورة تيسيان المئوي القوية. ولما بلغ خير الدين الثامنة والسبعين من سنيه تزوج فتاة نصرانية حسناء من ريجيو، اسمها دونا ماريا، فحملها على الإسلام، وغمر أهلها بأجمل الهدايا التي كان رجاله قد سرقوها من ساحل آخر لا ريب. وقد صان خير الدين مدينة ريجيو ولم يتعرض لها مؤديا إليها ثمن ما كانت تمونه به من ميرة وماء، وقد كان خير الدين يصنع ذلك إكراما لمسقط رأس زوجته، وقد عاش معها حتى أواخر أيامه في قصره المشرف على البسفور مؤسسا مثل كليوني دارا لأبناء الملاحين وواضعا رسم ضريحه الخاص، فظل كل مركب يمر أمام هذا الضريح يطلق قذيفة مدفع للتحية مدة مائة سنة، والحق أن خير الدين قضى حياة سعيدة مليئة إلى آخر عمره.
وكان خلفه، الذي شراه من الأسر ابنا للأربعين من سنيه، قد أسره رجل من آل دوريا له مثل نصف عمره، وقد قاسى أسوأ معاملة، وظل مقيدا بسلاسل في إحدى السفن أربع سنين. وقد كان أحد فرسان مالطة المشهورين مكبلا في مركب تركي، ثم أطلق فأبصر عدوه مقيدا في مثل مكانه، فسأله ساخرا: «أهذه عادات الحرب؟!» فأجابه الآخر: «هذا هو طالع الحرب!» وينم هذا التحاور المؤلف من بضع كلمات على ما كان بين القراصين الكافرين والفرسان المتقين من مشاعر الإخاء. وبما أن فرسان منظمة مالطة قد وقفوا أنفسهم على قتال المسلمين، فإنهم ضربوا الرقم القياسي العالمي في غنى الغنائم حينما قبضوا في سنة 1644 على سفينة حاملة لقاضي مكة الذي خسر منزلته فهاجر، فيظهر أن هذا القاضي كان يساوي مع خزائنه ونسائه تسعة ملايين دولار ذهبي.
وكانت مصاير المرتدين في القرصنة أدعى الأمور إلى الالتفات كما في كثير من المهن. وكان إندي علي الذي يعد أعظم ملاح في عصره سليل أسرة نصرانية ممتازة في قلورية
5
فأسر في صباه، ويروى أنه ظل مقيدا سنين كثيرة على مقعده في إحدى السفن شاحبا صامتا مفضلا هذه الحال على انتحال الإسلام، ويضربه جندي تركي على وجهه بجمع كفه فيشفيه بذلك من عناده، ويقسم أن ينتقم لنفسه ولكن من غير ظالميه، ويسير على غرار فاوست فينهمك في الملاذ، وينذر أن يثأر من أرومته، ويسلم، ويعرف أن يرتقي إلى أعلى المراتب السلطانية بفضل قوته ودهائه، ويقضي عشرات السنين في سلب ألوف النصارى وتقتيلهم فيرهب كأقسى القراصين، ويشيب فيظلم مزاجا ويظل عدة سنين لابسا ثيابا سودا ولا يحتمل صوتا بشريا، ويتهمه الإنكشارية بأنه يمارس النصرانية سرا فيهنئه أسقف فرنسي على ذلك، ويموت في التسعين من سنيه كأسلافه، وذلك بين ذراعي معشوقته الأخيرة كأتيلا. ويخلفه على رأس القراصين سكالا الذي له مثل شهرته والذي كان ابنا لامرأة شريفة من مسينة، وكان قد أسر في شبابه أيضا، ثم يبلغ من شدة الشوق إلى رؤية أمه ما يلتمس معه الإذن له في ذلك من نائب الملك في صقلية، ويرد طلبه فيمعن في تخريب سواحل هذه الجزيرة مدة أربع سنين، وتصبح عدة رهائن قبضته فترسل أمه إليه، وتمكث في السفينة عنده بضع ساعات، ويعيدها إلى البر، ولا يمس صقلية بعد ذلك مطلقا.
وكان من القراصين أناس ينصرفون بعد غنم موفق، شأن صغار البرجوازية الذين يكسبون في «اليانصيب». وكان من القراصين أناس يعودون بعد ذلك إلى النصرانية بأسماء جديدة ويعترفون فلا يعرف ماضيهم إلا بشهادة شهود من الشيب أو بوثائق يبرزونها. وكان من القراصين أناس يولعون في مشيبهم بخمر الحقد كبعض القردة المسنة الخبيثة ما دام دورهم في الغرام قد انقضى، ومن ذلك أن بايا شائبا من بايات تونس كان يأمر بقطع آذان أعدائه ويحملهم على أكلها، ومن ذلك أن هذا الباي ذبح رجالا وسلخ جلودهم مالئا إياها بالتبن جاعلا منها دمى عارضا لها على الجمهور، وتذكرنا هذه الأعمال الوحشية بأواخر أباطرة الرومان وبالطغاة المعاصرين.
وقليل من العبيد النصارى من استطاع أن يترك للعالم قصة آلامه، فقد كان معظمهم من شدة الوهن ما كانوا يعجزون معه عن الكتابة بعد إعتاقهم، وكان وضع كثير منهم معروفا، وما كان اشتراؤهم ممكنا مع ذلك لتعذر معرفة المكان الذي يكتشفون فيه. وكانت هذه، مثلا، حال عالم يوناني أرسله فرنسوا الأول ليبحث له عن مخطوطات قديمة فمات مقيدا في مركب، وقد ظل المصلح الاسكتلندي جون كنوكس مكبلا في سفينة فرنسية سنتين من غير أن يروى عنه كبير شيء بعد تحريره. وقد كره كهنوتي بهي آخر، كره سبراغ هذا، أن يترك رفقاءه وحدهم فأسلاهم في الأسر سنين كثيرة، ثم وفق للفرار معهم في زورق لين صنعوه من نسيج، فاستطاعوا أن يغادروا تونس ويصلوا إلى ميورقة. وقد جرح الكاتب الكبير سرفانتس جرحا خطرا في صدره وفقد إحدى ذراعيه في معركة ليبانتة، وبينا كان عائدا إلى بلده إذ قبض القراصين عليه فبقي عبدا خمس سنين، وما كان يحمله من كتب التوصية جعل له قيمة عظيمة فبلغ ما طلبه القراصين من الضخامة ما لم يسطع أحد معه أن يؤديه. وكان كل ملاح يعرف أن عليه، عند هجوم القراصين، أن يطرح أوراقه من فوق المركب قبل كل شيء، وهذا الشاعر وحده هو الذي نسي اتخاذ هذه الحيطة، وبما أن القراصين كانوا لا يستطيعون الانتفاع به جدافا فإنهم ألقوه في السجن حيث انتظر مدة أطول من المدة التي قضاها أخوه الذي أسر معه لوصول فدية أخيه قبل فديته، ويسهل إدراك درجة رفع الأثر الكبير للرجل، فمن يطالع هذه القصة يود لو أن الشاعر حرر قبل أخيه، ثم استطاعت أمه أن تنقذه وأن تنقذ من أجل العالم قصة «دون كيشوت» التي لم يكتبها الشاعر بعد والتي لم يكن ليقدر على كتابتها في السجن.
وتقرأ على كتابة قبر في قورسقة قصة فريدة، تقرأ أغرب قصة بين قصص العبيد، وذلك أن ميتة اتخذت حجر قبرها الخاص لبيان ما فيه إنقاذ حياة بشرية، وإليك تلك الكتابة: «أيها الملاح الشمالي الذي لا أعرفه، أخبر ولهلم لونستر السترالسندي بأنك رأيت قبر زوجته التي بيعت أمة في تونس ثم حررت وماتت هنا في شهر يونية سنة 1698، وأن ابني لا يزال عبدا في تونس، فليأت أبوه وينقذه، وهو إذا مر من هنا أمكنه أن يرفع الحجر الذي يستر رفاتها فيجد بقايا أفرازينته، وإذا ما أسفتها الريح فإن دموعه تبلل قبرها، فافهم رجائي أيها الغريب وإلا كنت غير إنسان.»
ويفتح القبر بعد حين فتوجد فيه الوثيقة الآتية: «أيها النباش الذي لا أعرفه، اعلم أن ج. فاختندنك هو الذي أتاني بنبأ موت أفرازينتي، وقد بحثت عن ابني في أفريقية فوجدته ميتا فدفنت رفاته هنا بجانب رفات أمه العزيزة.»
5
كان السلطان يقيم بقصره الزاهي زينة والمشرف على البسفور من مكان يعد أكثر ما في البحر المتوسط شرقية، وكان السلطان يدير دولته بواسطة وزرائه، وكان يسيطر على البحر مستعينا بقراصين نائبين عنه، وكان ملوك الإسبان في الطرف الأقصى من الغرب يصنعون مثل ذلك مع الفارق القائل بتسمية خدامهم دوكات وغراندات وتسمية أسطولهم أرمادا. وكانت حرارة السراي الأبلق في استانبول مع بسطه ومصابيحه وستائره ومتكآته وعيونه وأبراجه الكثيرة تناقض محبس الإسكوريال الرمادي القاتم الذي بناه ملك إسبانية الشاحب فليب، وكان أحد البناءين قد شيد في سبيل الغرام وملاذ الحياة، وكان البناء الآخر قد شيد عن زهو وعن تواضع؛ أي عن شعورين كان فليب يظهرهما مناوبة وببرودة تجاه الناس تارة وتجاه الرب تارة أخرى. وكان ابنا العاهلين سليمان وشارلكن وارثين نموذجيين من حيث خسرانهما السلطان الذي انتقل إليهما من والديهما، ولم يملك التركي غير ثمانية أعوام، وقد ملك الإسباني نحو أربعين عاما، وترك فليب وراءه إسبانية خربة على ما كان من رصانته عند قياسه بمنافسه التركي السكير الخلي، وذلك على حين أمكن السلاطين أن ينهمكوا في الملاذ ثلاثة قرون أخرى من غير أن يوهنوا سلطتهم تقريبا.
وإذا استثنيت أغسطس، على ما يحتمل، وجدت فليب الثاني أبرد وجه أنتجه البحر المتوسط المشمس لا ريب، وقد يكون رأسه الرخو الأصفر الأشقر الأغبش العينين مع وضوح زرقة رأس خياط سكسوني كما يرى في الروايات الألمانية الهزلية القديمة، ومع ذلك فإن قوامه وثيابه وولعه بالشكليات، وتعصبه على الخصوص، أمور تنم بجلاء على نصيب الدم الإسباني فيه، وكان يرى أحيانا، ولكن نادرا، أنه يتبسم، وكانت لديه خليلة في الحين بعد الحين، وكانت رصانته والناحية القاتمة في سجيته تحرمانه كل سعادة، حتى إن أظلم أحكام تصدر عن محاكم التفتيش كانت لا تملؤه سرورا حقيقيا.
وكانت مبادئ السلطة والدين تجتمع فيه كمركب رمزي، وقد اتخذ عقيدة الكنيسة والبابا وسيلة لتأييد سياسته مع شدة تدينه، وسياسته هذه كانت لا تهدف إلى غير عظمة إسبانية كاثوليكيا، وقد غدا ملكا بعد جهد كبير مع أن أباه شارلكن ولد ملكا، وهذا يفسر طابع حياته وبلاطه القاتم. أجل، قيل إن الشمس لا تغيب عن إمبراطورية فليب، فلو قيل إن الشمس لم تطلع في إمبراطوريته قط لكان هذا أقرب إلى العدل، وقد صدر أعنف هجوم ضد روح النهضة عن قشتالة ما دام فليب لا يرتاح لطبع الأرغونيين الخفيف. وكان من الصواب أن يسمى هذا الدور دور مناهضة النهضة بدلا من تسميته دور الإصلاح الديني.
وكان مغامرو الإسبان حوالي سنة 1570 ومغامرو الطليان حوالي سنة 1500، وهم الذين يمكن أن يقاس بعضهم ببعض بسالة وقسوة، يختلفون اختلاف صور غريكو عن صور تيسيان، فقد حل تعصب فاتحي الإسبان الديني في القيام برسالتهم الربانية وهواهم الفروسي الذي خلد بسخرية دون كيشوت محل نشاط «النهضة» المشرق الذي يوكد الحياة والسعادة والقوة ويحاول نيلها، وما سرقه الإسبان من ذهب وفضة من رعاياهم الجدد في أثناء فتح أمريكة ضرب مع سمة الصليب حملا لطابع أدبي، وقد كرر هذا الرئاء طويل زمن فلاحت هذه الثروات التي كسبت كسبا آثما من المقدسات، وقد أدى المزاج الشديد الذي امتاز به بعض الأشخاص كالقديسة تيريز والقديس إغناس دولوايولا إلى انتصار العصر أولا ثم إلى اختلاله آخرا.
ولم يقترف ملك إسبانية ولا السلطان أعمالهما الجائرة عن حيوية فياضة أو عن حق الأقوى، فكلاهما كان يستفتي دينه وينال منه حلا متذرعا باتباعه أهدافا عالية، وهكذا سوغ فليب تقتيله العرب واليهود والبروتستان، وأما السلطان فلم يفكر حتى في قيد جرائمه، وعاهل الترك هذا كان حبر دينه الأعلى فيمكنه أن يسخر من القوانين، وملك إسبانية كان على العكس ينظر إليها نظرا جديا، وملك إسبانية كان يمكنه من نافذة في غرفة نومه القريبة من معبد قصره أن يبصر وهو على سريره صورة المصلوب في ناحية الهيكل، وبهذا كان يتجلى خشوع سيد نصف الدنيا، وعلى النقيض كان هذا السيد يجلس في مجالس الدولة على كرسي بالغ الارتفاع فيضطر وزراؤه القاعدون في المكان الأدنى إلى رفع أصواتهم ليسمعوا.
أجل، كان الملك يسمع ممثلي الشعب أيضا، بيد أنه كان لا يؤذن لهؤلاء ولأولئك في غير إبداء رغائب. وكان الأسبان، حوالي سنة 1600، أقل حرية مما كانوا عليه قبل هذا بقرنين أو ثلاثة قرون، وكان عدم الحرية هذا يصيب جميع الأمة بالفالج فيفسر ضياع سلطان إسبانية الاستعماري بالنسبة إلى إنكلترة، وقد تنبه حس الحرية في إنكلترة باكرا، وقد أنمي فيها دوما، وهو لم يخب فيها مطلقا، ولا يمكن أن يسيطر على الأمم الأخرى مع الزمن إلا من قبل أمم مسيطرة على مصيرها وغير عارفة لسادة لها غير نفسها، شأن الأغارقة والرومان والإنكليز في أحسن أيام تاريخهم، ولو أبحر كريستوف كولونبس تحت علم إنكليزي، كما كان ناويا، ما كان لإسبانية مستعمرات قطعا، ولا مراء في أن الإسبان كانوا من الجرأة ما يغامرون معه بحرا، ولكن الحرية كانت تعوز الإسبان فيحول هذا دون تحولهم إلى شعب استعماري.
ولم يكن كيان الأمة الإسبانية السياسي من القوة ما تقوم معه بالأعمال الاستعمارية التي حملت عليها باكرا من الناحية الاقتصادية، وما فتئت السفن الحاملة ذهبا وفضة ترد من أمريكة فتحط حمولتها في قادس أو البرتغال التي كان فليب فاتحا لها حديثا، ومع ذلك فإن المالية الإسبانية كانت تنحط نتيجة لعدم المسئولية في إدارة الأموال العامة ولعدم وضع ميزانية منتظمة. وكان أهم ما عرفه التاريخ من القروض حتى ذلك الحين يؤخذ من المصارف الألمانية والإيطالية ويضاف إلى الكنوز الأسطورية التي تأتي من البلاد التي كشفت حديثا، وما كانت تلك القروض لتحفظ توازن تلك الإمبراطورية العظمى المالي مع ذلك، فقد أفلست الدولة ثلاث مرات في عشرين سنة.
وقد انتصر الإسبان على الترك نصرا حاسما مع ذلك، وقد طلع نهار من شهر أكتوبر سنة 1571 على معركة بحرية وقعت بالقرب من ليبانتة لم يعرف البحر المتوسط مثلها منذ معركة أكسيوم قبل ستة عشر قرنا، وقد كانت هذه آخر معارك المراكب ذات الأشرعة والمجاذيف والمعروفة بالغالير، وقد اشترك في هذه المعركة نحو خمسمائة مركب، وقد توقف الفوز فيها على المهارة في الصعود إلى ما بين طبقتي مراكب العدو من جسور مكتظة يتصارع الفريقان فيها تصارعا هائلا. وقد عين مصير هذه المعركة بعبقرية رئيس قاتل عدوا غير مجرب وببسالته، عين بدون جوان النمسوي الذي كان نغيل شارلكن فورث من أبيه هذا بعض عبقريته لأنه نغيل على حين كان فليب الضعيف ابن فراش، وما كان يحمله الملك من حسد نحو أخيه النغيل الذي حمل على الاعتراف بأنه غراند إسبانية وفق وصية أبيه حفزه مقدما إلى محاولته عرقلة نشاط هذا الفتى الشجاع. وكان يقود الأسطول التركي فتى أشد حداثة، شاب نال هذه القيادة عن حظوة لدى السلطان، وكان الأسطول التركي ملقيا مراسيه في خليج كورنث على وضع رائع، ولكن بعد الأوان، وكان على الأسطول التركي أن يظل ساكنا ما دام حلفاء البندقية وفلورنسة والبابا، الإسبان، قد جعلوا جميع أسطولهم عند مدخل هذا الخليج الواقع في جنوب كورفو الشرقي والذي كان لا يمكنه أن يلبث فيه زمنا طويلا.
وكان القائد التركي علي باشا، الذي دفع عن هيجان لا شعوري، عن هيجان طبيعي لدى حظي، يبغي المجد فقرر أن يخوض غمار المعركة على الرغم من نصائح خبراء نبهاء. وكان للترك في ذلك الزمن شهرة من يتعذر قهرهم، وكانت قد حاولت دول كثيرة كسر أسطولهم في ست عشرة معركة فلم توفق، ومن دواعي الحيرة في هذه الشهرة التي أوجدها خير الدين كون الترك قوما غير ملاحين بطبيعتهم.
وكان الأسطول التركي المتفوق يتصرف في بدء معركة ليبانتة في جبهة ثلاثة أميال بحرية، وكان الأسطول الإسباني لا يشغل غير نصف هذه المسافة فكان يمكنه أن يندفع نحو القلب التركي، وكانت المعارك البحرية في ذلك الزمن لا تزال تقع على وجه فروسي فيقابل العدو ضربة المدفع بضربة مدفع.
واسمع ما جاء في تقرير دون جوان:
لقد دارت رحى المعركة ساعة كاملة على ظهر المركب الملكي، وقد أصيب صاري السفينة التركية المهم مرتين، ولكن جموعا من المسلمين كانت تنقض على محاربينا في كل مرة وتدحرهم إلى مقدم المركب النصراني الرئيس، وكان كونت بليغو يقاتل بجانب دون جوان في الممر الواقع بين صفين من الجذافين، فلما مرت على المعركة ساعة ونصف ساعة وهب الله النصر للمركب الملكي، وغلب الباشا مع أكثر من خمسمائة تركي وقبض على راياته وبنوده، ونصب الصليب في مكانها على الصاري الرئيس، وأمر دون جوان بدق جرس النصر فرددت ذلك جميع مراكب الأسطول الإسباني، ومال ميزان الظفر إلى جهة الأسطول النصراني من هذه الساعة، وجرح دون جوان في ساقه جرحا غير خطر.
وفكت قيود العبيد من الجانبين في الساعات الست الحاسمة، ولا بد من أن تعد تلك الساعات ساعات وجد مباغت رهيبة لدى هؤلاء الآدميين حينما استبدلوا أسلحة وحرية بقيودهم ومجاذيفهم! ويزعم أن ربع مليون من العبيد قاتلوا كالمجانين ضمن مسافة قصيرة، ويخسر الترك خمسة وعشرين ألف رجل، ويخسر النصارى ثمانية آلاف رجل، وينال البابا ثمانمائة عبد، وينال الإسبان سبعة عشر ألف عبد، ويتلقى الملك فليب خبر النصر ثابت الجنان، ويحضر القداس المعتاد، ولم يأذن في تسبحة الشكر إلا بعد حين.
أجل، كان لهذا النصر أثر أدبي عظيم، غير أن تحاسد الدول النصرانية وحسد الملك فليب أخاه كانا من الشدة ما حالا معه دون استغلاله، وقد أنشأ الترك 250 مركبا جديدا في بضع سنين، وقد كان شعورهم بغناهم وقدرتهم البرية وثقتهم بنفسهم من القوة بنسبة ما كان يساور الإسبان من حس عدم الثقة. وكانت الحرية تعوز كلا الأمتين لا ريب، ولكن الترك كانوا أكثر فتاء مع ذلك كله، ويتذرع الترك بضروب الوعيد فيوفقون لنيل سلم ملائمة كأن تلك المعركة البحرية لم تحدث، وتضطر البندقية التي مثلت مراكبها دورا مهما في نيل النصر بليبانتة أن تتنزل للترك، بعد ثلاث سنين، عن جزيرة قبرس التي كانت ممتلكتها العظيمة الأخيرة عدا أقريطش.
وقد تكون قبرس التي هي أكبر جزائر شرق البحر المتوسط، والتي هي موحشة جبلية في الداخل مع لطافة ساحل وغنى في الخلجان الصغيرة، أكثر روائية من جميع الجزر بعد قورسقة، ولها من تاريخها دليل على ذلك.
وكانت هذه الجزيرة، الواقعة على مسافة متساوية من آسية الصغرى شمالا ومن سورية شرقا وفي الخليج الكبير بين إسكندرونة والشام، قد صارت ملجأ لجميع المضطهدين وقاعدة أعمال للقراصين والملاحين، وكان ما تنتجه من خشب البناء والخمر الجيدة، والنحاس على الخصوص، يقدر كثيرا، والآن ألا يزال هذا النحاس، الذي كان أبناء القرون القديمة يطلبونه، يحمل اسم «السيبريوم» العلمي؟ وكان النحاس وقفا على أفروديت التي عاشت في جزيرة قبرس، وكان الفنيقيون والأغارقة والبطالمة والعرب قد احتلوا جزيرة قبرس تباعا لكنوزها تلك، وكان القديس بولس والقديس مرقص قد تلبثا بها في أثناء سياحاتهما، وقد اقتتل فيها اليهود والنصارى محدثين ملاحم هائلة، وقد ملك أباطرة بزنطة جزيرة قبرس أطول زمن، ملكوها سبعة قرون مع بضع فواصل.
ويمكن تشبيه مصير قبرس بمصير امرأة لا تحصن حسنها، بل تعرضه لمغامرات مجددة دوما مستكرهة غالبا، ولا يوكد التاريخ سعادة سكان قبرس مطلقا، ويجعلها موقعها وغناها مشتهاة بلا انقطاع فينالها كل من يستطيع احتلالها. ولما ذهب قلب الأسد ريكاردس إلى الحرب الصليبية سنة 1191 أرسل فرسانه إلى هذه الجزيرة ليفتحوها عنوة بدلا من مقاتلة السلطان الكافر، فانتزعها من إمبراطور القسطنطينية النصراني وباعها من الفرسان الهيكليين فلم يلبث هؤلاء أن باعوها من فارس فرنسي طالب مملكة صغيرة، وهكذا وجد غي دو لوزينيان، الذي كان يلقب ب «ملك القدس» قطعة أرض يضيفها إلى تاجه، وهكذا ألف أسرة ملكت قبرس ثلاثة قرون، وقد أحبط ملوك قبرس هؤلاء بجهاز إداري لدويلة إقطاعية مشتملة على مراتب وطقوس وسيوف وثياب فاخرة ومنظر مسرح، ومع ذلك فإن هذا العرش وهذا البلاط لم يملكا غير سكان معوزين، وقد ترك أحد هؤلاء الملوك عند موته ابنة شرعية ونغيلا، وكان هذا النغيل أعظم ذكاء وعزما من بنت الفراش تلك كما هي العادة، فجلس على العرش بلا مسوغ شرعي، فاستطاعت البنت وزوجها أن يثيرا البابا وجنوة ضد الغاصب، وكادت تشتعل حرب أسرية. وكانت ورقة اللعب الوحيدة التي يقبض عليها لوزينيان النغيل هي الصداقة التي بينه وبين شريف بندقي قوي كان قد قضى معه شبابا عاصفا، وكان هذا الشريف المسمى أندريا كورنارو ذا نفوذ عظيم فعرف أن يوضح لرئيس البندقية ومجلسها عظم قيمة قبرس للبندقية إذا ما أيدت النغيل ضد جنوة والبابا.
وما أشبه جميع هذا بإحدى الروايات الهزلية! لقد رأى الأصدقاء أن زواجا فخما يؤدي إلى شرعية الوارث الزائف، فاختيرت ابنة أخ بالغة من العمر أربعة عشر عاما خطيبة للوزينيان، وتقرر جزئيات النكاح بعد حوك لدسائس طويلة، ويعقد اجتماع كبير في مجلس السنات بالبندقية، ويعلن رئيس البندقية رسميا أن كترينة كورنارو الباهرة الجمال «بنت الجمهورية» كما يقع في المسرح على الدوام. والحق أن كبار التجار هؤلاء كانوا إذا ما تنشقوا رائحة شيء كمناجم النحاس صار لخيالهم وروحهم أجنحة.
إذن، تركب كترينة سفينة وتجوب البحر الأدرياتي والبحر اليوناني حتى قبرس، وتتمثل لها أفروديت في أثناء هذه الرحلة على ما يحتمل، وتصل إلى الميناء فتجد زوجها المجهول منتظرا إياها، وتتوج من فورها «ملكة لقبرس والقدس وأرمينية» أمام بضعة آلاف من الجنود والقراصين والرعاة والمهربين، ويموت زوجها بالحمى بعد سنة وتضع ذكرا بعد موته، وهنالك تحوك دول البحر المتوسط الكبرى مؤامرة جديدة ضد البندقية في هذه المرة، ويسفر ذلك عن فتن ومعارك في البر والبحر وتعتقل كترينة.
وتهان البندقية في شرفها بهذا العمل، وتوجد الذريعة للتدخل، وينزل البندقيون إلى جزيرة قبرس ويقبضون على زمام السلطة باسم «بنت الجمهورية»، ويموت الولد، ولكن كترينة كانت قد ذاقت لذة الحكم في الحين فأخذت تفكر في الزواج بملك نابل، وتتناوب الدسائس الدائمة الناشئة عن رغبة في السلطان والحب والحسد والزهو والطمع هذا البلاط الصغير المشمس في البحر المتوسط، وتوعز حكومة فعالة في البندقية إلى كترينة بالتنزل عن السلطة في نهاية الأمر، وتعود إلى بلدها طافحة جمالا ابنة للخامسة والثلاثين من سنيها عاطلة من الزوج والولد فتقيم بقصر أنعمت الجمهورية به عليها، وتعيش فيه عشرين عاما مقيمة فيه بلاط حب وأدب قاضية حياة ممزوجة بالملاذ والإقلاع والخيال، وكان هذا هو الدور الذي صنع تيسيان له صورته.
وتصير هذه الجزيرة تركية بعد خمسين سنة، وتسبق قصة روائية هذا الاحتلال:
كان يوجد بين اليهود الذين فروا من محاكم التفتيش الإسبانية، كما يوجد اليوم، دكاترة كبار وعلماء وموسيقيون وممثلون قاموا بشئون مهنهم بين بطائن أمراء الترك والسلطان.
وكان تاجر الخمر البرتغالي، جوزه ميكز، قد أكره على اعتناق الكثلكة، فاستطاع أن يهرب إلى استانبول حيث عاد إلى اليهودية، وقد سماه الترك ناسي، فارتقى إلى منصب أعلى من كل ما ناله أبناء جنسه، وهو بما كسبه من الملايين بسرعة وجه إليه أنظار ولي العهد وأثبت له أن محمدا لم يحرم الخمر من بعض الوجوه، فإذا ما وافق سليم على رفع الحظر عن شرب الخمر عند جلوسه على العرش استطاع هو واليهودي أن ينالا مالا كثيرا، وليس في الأمر غير نزع قبرس من هؤلاء البندقيين الممقوتين حتى ينال أحسن خمر في البحر المتوسط مع قاعدة بحرية جديدة، ويشعر السلطان بلذة في سماع هذا اليهودي الروحاني كما شعر الإمبراطور بخطة مفستوفل في فاوست، ويدفع اليهودي مبلغا كبيرا فيستأجر سليم له جزيرة نكسوس وجزرا أخرى من السكلادس (الأرخبيل) لا حق للسلطان بها، ويطرد أميرها فيحاول أن يحمل البابا على التدخل من غير جدوى، وينتحل ميكز ناسي لقب «دوك الأرخبيل» في ذلك الحين.
ويقرأ على قطعة نقود: «قائد الشاطئ بنعمة الله يوسف ناسي، 1577»، فيشابه بها الملك الشمس، ومع ذلك فقد كان من الذكاء ما لا يمثل معه في نكسوس دور «إنقاذ أريانه من قبل ديونيزوس»، مفضلا إرسال حاكم إليها وبقاءه في استانبول حيث تزوج يهودية جميلة تلائمه أكثر من بطلة يونانية مزعومة.
وكانت أفواه الأكابر في البلاط قريبة من آذانهم كما أن آذانهم كانت قريبة من أفواههم، فاستطاع اليهودي المكار أن يغري الحكومة التركية بنحاس قبرس ولغويي اليونانية بأقاصيص أريانة الحسناء والسلطان براح هذه الجزيرة الجيد، وتضطر البندقية المنهوكة بعد نصرها في ليبانتة إلى التسليم بضياع الجزيرة.
وهكذا أعان الترك يهودي برتغالي على نيل قبرس، وقد ظلت هذه الجزيرة تركية ثلاثمائة سنة؛ أي إلى أن تملكها الإنكليز وفق معاهدة سنة 1878.
6
ويمضي قرن على سقوط قبرس فتسقط أقريطش بين أيدي الترك أيضا، وقد كانت هذه الجزيرة آخر ممتلكة بندقية كبيرة كما كانت آخر قاعدة مهمة للنصارى في شرق البحر المتوسط، وما فتئ الأغارقة يسكنون أقريطش منذ القديم فغدا فتحها رواية منازعات بين الأغارقة والترك، منازعات وقعت في ثلاثمائة سنة وفق منحن غريب فانتهت بتحرير الأغارقة.
والأقريطشيون في جنوب جزيرتهم الطويلة المستوية جبليون متوحشون ورعاة مقاتلون كبعض القبائل التي حكت عنها التوراة، وهم ملاح عاطفيون مندفعون كجبالهم الكثيرة المسايل، وهم يدينون بضرب من المذهب الأرثودوكسي ينم بالحقيقة على الخرافة أكثر مما على الديانة، وهم من مثال البحر المتوسط الذي يأبى الخضوع لأي كان والذي أبدع في ألوف السنين حضارة هذا البحر، وهم يشابهون القورسقيين والألبان الذين يسكنون البحر المتوسط مثلهم، وهم يشاطرون هؤلاء شعورا بالشرف عميقا كما يشاطرونهم رغبة في الانتقام وحبا للحرية جامحا، وليس الأقريطشي لصا كما يوكده بعضهم، وليس الجزري لصا بطبيعته.
وفي الغالب كان أهل أقريطش من القراصين وإن شئت فقل كانوا يؤوون قراصين عندما يختفي هؤلاء في خلجان أقريطش، ومع ذلك فإنهم كانوا أكثر سعادة على الجبال مما على السفن كما يلوح، وذلك بلحاهم وشعورهم الطويلة وقمصانهم الواسعة وخناجرهم اليونانية القصيرة المشدودة دوما على زنانيرهم مشابهين الصائدين في رواية خيالية، وتراهم ذوي أحذية غليظة لا يخلعونها على ما يبدو حتى إن سيورا تربط هذه الأحذية بنطقهم.
وكيف يمكن أناسا كهؤلاء حاملين مثل هذه الروح والأسلحة أن يخضعوا لأي فاتح كان ؟! هم قد مقتوا الفرنج ثم البندقيين ثم الترك، واليوم يزدرون إخوانهم أغارقة بلاد اليونان، ومن العبث أن حاولت البندقية، التي كانت سيدة أقريطش، معاملتهم باللين ثم بالشدة، ومما حدث أن سفاكيا، أن رجلا من أشد القبائل توحشا وأكثرها حرمة، طلب الزواج بابنة بندقي فقبل ذلك بعد معارضة شديدة، وقد قبض أولو الأمر البندقيون في الجزيرة على جميع من حضروا وليمة العرس من رجال ونساء وشنقوا نحو خمسمائة شخص مع العريس كان معظمهم سكارى، وما كان مرور قرون على مثل هذه الخيانة إلا بالغ القصر في أقريطش حتى تنسى معه.
وقد اقترفت البندقية ما هو أسوأ من ذلك، فقد قالت بالعفو عن كل أقريطشي محكوم عليه عن عصيان إذا ما أتى برأس أبيه أو أخيه أو ابن أخيه إلى مركز الجزيرة الخندق، وقتل الرجل لابنه وحده هو الذي لم يطلب، فما كان يمكن إخضاع شعب بمثل هذه التدابير حتى مع الزمن، وقد بدت جميع القبائل المختالة أكثر عتوا تجاه مثل هذا الضغط فانزوت انزواء تاما ولم تختلط حتى بالترك بعد زمن، وما كان لأقريطشي ولد في سهول الساحل الشمالي أن يدنس دم عذارى الجبل، وهذا يفسر سبب كون سكان الساحل الجنوبي ذوي مثال خاص، ذوي شعور شقر وعيون زرق ونضرة لون، ولا أحد يعرف مصدر هذه الأوصاف.
إذن، كان يسهل على الترك نزع أقريطش من البندقيين ما لم يظهر أهلوها معارضين لكل جنس من الأجانب، وقد قضى الترك أربعا وعشرين سنة في فتح أقريطش، فلما وفقوا لاحتلالها في سنة 1669 كان هذا خاتمة حرب دامت مدة أطول من حرب تروادة مرتين وبدت أقسى منها مرتين، وقد كان هذا الصراع حافلا بالأبطال والمغامرات وما كان يعوزه غير أوميرس.
وقد استطاع الأغارقة في العهد التركي أن يصونوا وحدتهم تقريبا وأن يتوسعوا أيضا بعد طرد الفرنج والأجانب الآخرين الذين أتوا بلاد اليونان منذ الحروب الصليبية، وعلى ما كان من اضطهاد الشعب اليوناني ظل هذا الشعب موحدا، ويعامل النصارى بالتسامح، ويقدر عددهم بربع مليون في القرن السابع عشر ، ويستغلهم الباشوات مع ذلك، فتزاد الجزية بمقدار الثلث ويؤخذ أبناء النصارى الأقوياء لتأليف كتائب الإنكشارية.
ويعم الرخاء إكليروس اليونان، فسر من بطرك استانبول الذي كان يلقب ب «باشا أذيال الفرس الثلاثة» ويعد من عظماء السلطنة، إلى الشمامسة فإلى الرهبان، تجد جميع أصحاب الحلل الدينية قد عاشوا عيشا رغدا، والشعب هو الذي كان يدفع مالا إلى هذه الحكومة الإلهية التي كانت مواصلة لحكومة بزنطة الإلهية. وكان السلطان ينصب بطركا كلما مرت سنون قليلة، وكانت الخدم والواردات تنتقل إذن من يد إلى يد، وذلك كما يقع اليوم في انتخابات الرئاسة في بعض البلدان، ووضع مثل هذا حافظ عليه السلاطين بواسطة آل الكهنوت ونصاراهم الطلقاء نزع من الكنيسة كل ميل إلى التحرر، وما كان للخلفاء الكفرة من الرعية من هم أوفى من بطرك استانبول القديس.
وكان أذكى الروم يهيمنون على المعاملات، وكانت استانبول تشتمل على أكثر من مائة ألف رومي منذ سنة 1600، وكان هؤلاء أجدادا للأروام الذين سيطروا على تركية اقتصاديا في القرن التاسع عشر فأبيدوا في أثناء الحرب العالمية الأولى إبادة وحشية، فما ينبغي لعرق أجنبي أن يبدي نبوغا كبيرا أو ذكاء كثيرا، إغريقيا كان هذا الشعب أو أرمنيا أو يهوديا، وإذا ما آوى أصحاب الفندق هؤلاء الغرباء انتفعوا بهم حينا من الزمن، وأعلنوا أنهم منهم وغمروهم بالمجد والثقة واستفادوا منهم في زيادة ثروتهم وسلطانهم، ومع ذلك فإن أولئك الأصحاب يعدون هؤلاء الذين اتبعت الدولة نصائحهم زمنا طويلا مسئولين عن أول نازلة تحل بها، وهنالك تظهر صفات هؤلاء الأجانب وفروقهم وينتقم للمصيبة التي منيت بها الدولة من الذين صرح بمساواتهم وقتا غير قصير.
وقاسى الأروام في تركية صروف الدهر، وصب عليهم جام غضب الظالمين، وأدى دينهم ولغتهم ومعارضتهم الكفرة إلى اتحاد الأغارقة في مجموع الإمبراطورية التركية، ومع ذلك فقد اختلف وضعهم باختلاف الأزمان واختلاف مقامهم الشخصي، ويمكن من هذه الناحية أن يقاسوا باليهود الذين يصبح أناس فضلاء أو مفضلون منهم أغنياء أو أقوياء على حين تكون الجموع مضطهدة أو ممقوتة .
وقد أثار الصراع في سبيل امتلاك جزيرة أقريطش عاطفة العالم نحو البندقية المهاجمة، شأن جميع المدافعين ببطولة وعناد، وقد أضيفت إلى هذه العاطفة الطبيعية مصالح سياسية مهمة. وهكذا أصبح من الممكن للمرة الأولى؛ أي بعد مرور مائتي عام على قيام تركية كدولة عظيمة، أن ينظم «الحلف النصراني المقدس» ضد هذه الأمة، ووقع هذا في زمن الملك الشمس سنة 1684، فعين البابا والإمبراطور والبندقية وملك بولونية بطل أقريطش موروزيني أميرالا كبيرا للبحر المتوسط، وباع أمراء ألمانية رعاياهم من جيوش الحلفاء بمال كثير وفق عادتهم كما يصنع رؤساء القراصين بعبيدهم.
ولو نظر إلى تاريخ هذه الحرب التي لم تكن ذات نتائج عملية، لوجد أنه لا يستحق الذكر ككثير من المعارك التي نشبت في البحر المتوسط في ذلك الحين، وإنما خرب في أثناء هذه الحرب كنز للإنسانية لا يعوض.
وكان هذا في أثناء السنة الثالثة من الحرب، وكان النصارى الذين رسخت أقدامهم في المورة يحاصرون أثينة أيضا، وقد تحصن الترك فوق الأكروبول بعد أول خسارة منوا بها، وقد خربوا معبد نيكه وخبئوا البارود تحت المصلى الداخلي من هذا المعبد الصغير الواقع تحت البارتنون قليلا، ويرسل أهل أثينة رئيس أساقفتهم إلى معسكر موروزيني ويعدونه بالعون إذا ما أراد حمايتهم. وكان من الممكن أن يتم كل شيء بلا هجوم ما دامت أثينة غير محصنة، حتى إن حلا وديا عرض عرضا غريزيا من قبل الفريق الأقوى.
ومن سوء الحظ أن كانت توجد مفرزة ألمانية خارج أثينة، وما كان ليسهل على قائد مدفعية البندقية كونت كنغسمارك أن يقلع عن لذة إطلاق النار، وكانت فرصة الهدم والترقي بالغة الروعة، ولم يكن الجرمان منذ ألف سنة، منذ هدم الألنبيا، قد خربوا شيئا في بلاد اليونان. ويأمر كونت كنغسمارك بإطلاق النار إذن، وتقذف المدافع قنابرها في يومين من غير أن تستطيع القضاء على المقاومة، ويقص فار نبأ نقل البارود إلى البارتنون؛ لأن الترك يرون أن أحدا من الغربيين لا يقدم على إصابة هذا المعبد المشهور بضرر، وهكذا يكون الكونت الألماني قد حذر واختبر ، وأخبر على كل حال، ويسهل عليه أن يرمي بالحمم سائرا مع شهوة الهدم ويأمر مدفعياته بالضرب.
وكان قائد مدفعية لونبرغ هو الذي صوب مدفعه نحو البارتنون وأطلق قذائفه حوالي الساعة السابعة مساء من 26 من سبتمبر سنة 1687، وحدث الانفجار الذي كان ينتظر ويهلك ثلاثمائة جندي من الحامية وينسون اليوم.
غير أن المعبد الذي شاده بركلس والذي ظل سليما مدة تزيد على ألفي سنة خرب، وسقط جانباه الشرقي والشمالي، وحفظت معجزة مقدم الغرب الرئيس كما هو قائم اليوم.
ومع ذلك فإنه انتقم للآلهة القديمة على الرغم من كل شيء، ومن المحتمل أن كان بوزئيدون
6
هو الذي دحرج قطع رخام على الهدامين الألمان، فلما حاول البندقيون أن يخرجوا تمثال هذا الإله والحصن المشدودة بعجلة أتينة في المقدم الغربي انهار كل شيء جذاذا، وكل ما استطاعوا أخذه هو ثلاثة آساد قديمة توجد الآن أمام دار الصناعة بالبندقية، وكل ما استطاع الألمان قضاءه من شهوة بتخريب الأكروبول هو تحويلهم إلى معبد لوثري مسجد الأكروبول التركي الذي كان كنيسة للعذراء قبلا.
وكان انتقام آلهة الإغريق عنيفا، وكان هذا كما لو عقدوا مجلسا للبحث في فرض العقوبة، فقد ظهر الطاعون وأهلك الألوف من الغزاة. وقد انتهى دور انتصارات موروزيني فسرح جيشه عن قنوط، فأعاد الألمان القليلين، الذين نجوا من هذه الجائحة والذين ظلوا أخلياء في أثينة إلى بلدهم، وتنتشر الفوضى في بلاد اليونان بعد ذهابهم، ويغتنم حزب في الآستانة فرصة هذه الفتنة التي نمت بسرعة فيعلن الثورة ويخلع السلطان. ويحدث جميع هذا نتيجة لسقوط أثينة ولما استعمل من عنف ولقذيفة المدفع التي أدت إلى هدم الأكروبول، ويظهر أن قائد مدفعية لونبرغ ظل مغفلا في التاريخ، ويموت كونت كنغسمارك الألماني الذي أمر بتخريب البارتنون بعد الطاعون بزمن قليل.
7
استقر شعبان شماليان غريبان بالبحر المتوسط استقرارا رغيدا حوالي سنة 1600، ولو لم يسيطر هذان الشعبان على الملاحة لكانا من القوة ما يقدران به أن يرقبا التجارة نحو الشمال مع ذلك. وكان الإنكليز والهولنديون أول من صار قويا في البحر المتوسط من الأجانب بعد النورمان بثمانية قرون، وكانت المناهج قد بدلت، فعدت لا تراهم يقيمون ممالك بعدئذ، بل أصبحت تبصرهم يشترون بضائع أو ينقلون سلعا، وذلك إلى احتياجهم إلى قواعد يبدون بها أقوياء تجاه القراصين، وتجاه أمم البحر المتوسط التاجرة قبل كل شيء، ويغدو هذا المبدأ بدعا في ذلك العصر، ويدرك أمر هذا المبدأ في ذلك الدور كما يدرك في أيامنا مع عدم وجود بواخر وطائرات آنئذ.
وتتوارى هولندة عن البحر المتوسط بعد ذلك، وتصبح إنكلترة ثابتة الأساس في هذا البحر، ولكن مع عدم نيل إنكلترة غير قواعد فيه منذ ثلاثة قرون.
ولم يظهر شعبا ملاحي الشمال ذانك برابرة في البحر المتوسط كالجرمان والوندال والقوط والهياطلة،
7
ولا حملة حضارة جديدة كالعرب، وهما لم يأتيا بخراب كأولئك ولا بنور كهؤلاء، وهما لم ينقضا على السواحل فيخرباها كالفاتحين، وهما لم يدمرا رومة ولم ينهبا كنوزهما، وهما، على العكس، لم يجلبا معهما العلم والفضل كما صنع العرب في إسبانية، وإنما أصلحا فن الملاحة، وأنت إذا عدوت هذا وجدتهما قد اقتصرا على البيع والشراء مفضلين استنفاد ثرواتهما أو توظيفها في بلادهما، وهما قد ظلا غريبين عن البحر المتوسط في السراء والضراء.
ولا عجب من مجيئهما إلى البحر المتوسط، وإنما العجب من مجيئهما إليه متأخرين، ولم يكن الإنكليز تجارا ولا رأسماليين أيام الحروب الصليبية. وكانت الروح التجارية وروح الإقدام اللازمة للملاحة وإرادة العمل على العموم أمورا قد قلت لدى أمم البحر المتوسط عندما صار الإنكليز تجارا أو رأسماليين. وقد انتقل السلطان من أيدي الأمم المسنة إلى أيدي الأمم الفتية مرة أخرى، وبما أنه كان لا يوجد من الشعوب ما هو شاب في البحر المتوسط جاء إليه أناس من الأجانب وقبضوا فيه على زمام السلطة. وكل ما في الأمر هو أن جميع هذا قد وقع بضوضاء أقل مما في الماضي؛ أي بلا غزوات ولا منازعات نيلا لأرضين ولا معارك استيلاء على بقاع تقريبا، ويرد كل شيء إلى احتلال بضع جزائر.
وقد حبط سعيان إلى السيادة العالمية حوالي سنة 1600: حبط ما سعى إليه الإسبان والترك. أجل، اتصل بقاء هاتين الإمبراطوريتين، غير أنهما لم تكونا من القوة ما تستطيع أية واحدة منهما أن تسيطر معه على البحر والتجارة، وقد انتهى عهد فليب بعد القضاء على أسطوله في بحر المانش سنة 1588، وقد كان خلفاء السلطان الأعظم البدن اللينون المواظبون على دوائر حريمهم يمثلون صور الترك الهزلية أمام العالم ولم يستطيعوا البقاء طويل زمن إلا بفضل تحاسد أعدائهم النصارى، ولو كان الترك ملاحين حقيقيين ما أمكن الإنكليز أن يفتحوا البحر المتوسط، حتى إن الترك لم يصيروا تجارا، وقد ظلت ذكرى أصلهم الفروسي البدوي حية فيهم قرونا كثيرة، ولم يتعلم الترك الملاحة من خصومهم الروم والإنكليز فلم يصبحوا من كبار المستعمرين كهؤلاء قط.
وسرعة تبسط إنكلترة أقل من سرعة تبسط رومة فيما مضى، فقد عاش الإنكليز نحو ألف سنة بلا مستعمرات ولا مغامرات تقريبا، وقد عانى الإنكليز غزو شعوب أجنبية، غزو الرومان والدانيماركيين. وكانت إنكلترة في القرون الوسطى لا تبغي شيئا أكثر من إقامة مملكة صغيرة بين جهتي بحر المانش، ومنح الملوك امتيازات لأجانب، فظلت شركة ألمانية الشمالية أقوى من التجار الإنكليز بلندن مدة قرنين، وكان الأسطول الإنكليزي صغيرا، وكانت الجزر البريطانية الواقعة بين بحرين، وكانت مصاب أنهارها ذات الوضع الملائم لا تثير خيال الإنكليز.
وقد اتخذ آل تيودور موقفا حازما تجاه الاكتشافات الجديدة، ولم يكن رجال هذه الاكتشافات هم الذين انتفعوا بها كما في كل حين، وما تم على يد الإسبان والبرتغاليين من اكتشافات أرضين جديدة حرك ساكن الإنكليز، حرك ساكن هذا الشعب الجزري الشمالي، وكان مؤسس الكنيسة القومية وممثل دور النهضة في إنكلترة هنري الثامن، أول من تكلم عن «إمبراطوريته»، فأنشأ أول أسطول كبير في زمنه؛ أي الأسطول الذي وسعت نطاقه ابنته إليزابت.
أجل، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أتى فيها الإنكليز إلى البحر المتوسط، غير أن الإنكليز كانوا أول تجار أيدتهم دولة صاحبة سيادة، ولما قبض الجنويون في سنة 1412 على سلع أرسلها حاكة لندنيون نحو الجنوب ظلت كل مقابلة بالمثل غير مجدية، ولم يجازف ريشارد الثالث بتعيين أحد أبناء فلورنسة قنصلا لإنكلترة إلا في أواخر القرن الخامس عشر فقط، ومع ذلك لم تزل السلع الإنكليزية تسير إلى جنوة تحت راية أجنبية وفي سفن أجنبية حتى في سنة 1497، ويلوح أن السفن التي ذكرها شكسبير كانت ملك أصحاب مراكب من راكوزة، ويمضي نصف قرن فتبدأ سفن إنكليزية بالظهور أمام صقلية وأمام قبرس وساقز ولكن تحت رايات أجنبية أيضا.
وإذا عدوت البرتغال وجدت أنه كان للبلدان الأخرى مزية وقوعها على البحر المتوسط، وكيف صارت إنكلترة، التي هي آخر من جاء، أعظم دولة تجارية في هذا البحر؟ وكيف استطاع الإنكليز أن يجردوا الترك والإسبان فينالوا أملاكا على البحار المحيطة فضلا عن تفوقهم التجاري؟ ومن الأجوبة الاتفاقية أن يؤتى بقول عن الروح التجارية أو الموازنة التجارية أو ضرورة إدخال أكثر ما تحتاج إليه الحياة من السلع أو ضرورة الدفاع، وكان الإنكليز محتاجين إلى مستعمرات تخلصا من فوائد الهولنديين والبرتغاليين ونيلا للذهب الذي هو أعم في أمريكة من النحاس في إنكلترة.
ومع ذلك تكفي هذه الأسباب لإيضاح رغبة فقط، ولنجاح الإنكليز الحقيقي سببان سياسيان، لا اقتصاديان، وكان السبب الأول هو وحدة المملكة، فإنكلترة لم تقم إمبراطورية استعمارية إلا حين صارت اسكتلندة في حال لا تستطيع معها أن تحالف أعداءها إلا حين صار يمكن أن يحدث عن بريطانية العظمى في نهاية الأمر، وكان السبب الثاني في نجاح إنكلترة هو ضمان الحرية لجميع أبنائها، وما كان يسود إسبانية من ضغط وما يسود إنكلترة من حرية قرر مصير كل من المشروعين الاستعماريين الكبيرين. نعم، أضاعت كلتا الدولتين أملاكها الأمريكية في وقت واحد تقريبا، غير أن إنكلترة وحدها هي التي استطاعت أن تحافظ على ممتلكاتها الأخرى وتوسعها، وإذا كان الإنكليزي قد فتح العالم كما فتحه الروماني فيما مضى فلأن كلا منهما كان يشعر بأنه حر مؤيد من قبل سلطان الدولة القوي. وكان يسود مملكة فليب نظام استبدادي فكانت تنتقل من إفلاس إلى آخر على الرغم من تدفق الذهب إليها على حين كانت ميزانية الملكة إليزابت تتحسن بلا انقطاع.
ولما منح هنري الثامن تجارة الضاربين في البحر امتيازات «التجار المغامرين»، كانت الإمبراطورية البريطانية قائمة على الأسس الثلاثة الآتية، وهي الملك والتاجر والمغامر، وكان الأول ضامنا للسلطة ولحماية الملاحين، وكان الثاني مظهرا لإرادة الكسب والاتجار والبحث عن الثراء، وكان الثالث مبديا من الإقدام ما يترك معه أمن جزيرته قائما بالمغامرات في البلدان الأجنبية. وكان البرتغاليون ذوي جرأة أيضا، وكان الإسبان تجارا ماهرين، ولم يكن ملوكهم أقل قدرة، ومع ذلك لم يكن أي ملاح إسباني أو برتغالي ليعرف، إذا ما عادت سفنه مشحونة بأحمال غنية؛ أي عدو شخصي من أعدائه يجرده من نتيجة جهده بأن يشي به إلى محكمة التفتيش أو إلى البلاط فلا يجد من يطمئن إليه من القضاة الإمبراطوريين. وفي هذه البلاد كان يوجد بجانب الدولة الشرعية، وفوقها غالبا، حزب بالغ القدرة كما في البلدان الجماعية الحاضرة، وفي إنكلترة ظل الدستور المعروف بالمغنا كرتا ضامنا للعدل والحرية على الرغم من كل تأليه يعانى.
ومن الواضح أن تكون حرية ابن الوطن حافزة وأن تجعل هذه الحرية روح الإقدام ممكنة، ويؤدي الضغط إلى جعل الرجال بلها كسالى ما دام يحول دون كل تعديل ممكن فيهم، وفي هذا سر انحطاط الشعب الإسباني باستمرار مع أنه ليس أقل من الشعب الإنكليزي استعدادا، وهو لم يأخذ بأسباب النهوض إلا في أيامنا، ومن الأرقام الكاشفة ما يدل على هذا الانحطاط، ومن ذلك أن إحصاء تم سنة 1787 دل على أن مليونين فقط من ملايين السكان العشرة كانا يعملان كسبا لعيشهما، فبهذه الأرقام يكون التقهقر نصيب الأمة في منافستها الأمم الأخرى، والنظام الاستبدادي الإسباني كان من أسباب هذا الانحطاط.
وأدرك الملوك في إنكلترة ما يحتاج إليه التجار فأكرموهم وجعلوا من بعضهم أشرافا، وإذا كان المستعمرون الأمريكيون الأولون قد ظلوا من رعايا الملوك زمنا طويلا فإن هؤلاء الملوك كانوا من الفطنة ما يعدلون معه عن مجلسهم الحكومي مستبدلين به مديري شركة تجارية، وأدى هذا التبديل الأول إلى الرحلات الأولى التي قام بها التاج في القرن الخامس عشر بعد مغامرة كابو في كندة، وبعد توزيع أراضي التاج الأولى في فرجينية حوالي سنة 1600. وكان حكم الإسبان في هذين الدورين يقوم، بالعكس، على السيف والنار، وليس على المرء إلا أن يقابل بين صور لبيزارو وكورتز وصور لهوكنز وراليف حتى يبصر من فوره ما بين النظامين الحكوميين من فرق، ولما طلب سيسيل من الإسبان حق التجارة مع الهند في سنة 1604 لم يجرؤ الإسبان على الرفض، وهنالك خسروا معركة حاسمة كالتي قضي بها على أسطولهم في المانش منذ ست عشرة سنة.
والتاج هو الذي أنشأ المستعمرات الإسبانية مع أن الشعب هو الذي أقام المستعمرات الإنكليزية، ومصدر التوسع الاستعماري في إسبانية هو الملك والكنيسة والبلاط، ومصدره في إنكلترة هو التاجر، ودليل ذلك كون كرومويل، كون هذا الثوري الذي ضرب عنق مليكه، قد عرف كيف ينال أكثر ما يمكن من المستعمرات وراء البحار. وكان البابا وتوسكانة قد أباحا منذ عشرات السنين كل اتجار بالسلع الإنكليزية التي سرقها القراصين، وهما إذ يوافقان على هذه السرقة يكونان قد منحا المشترين حقا شرعيا، ويرسل كرومويل أسطولا إلى البحر المتوسط، وينال تعويضات بهذه الوسيلة، ويبعث مراكبه إلى ميناء تونس فيظفر بمثل ذلك من باشا تونس الذي هو من أهم القراصين.
وما كان من سياسة كرومويل الصارمة في الداخل أدى إلى احتكار الدولة تجارة إنكلترة الخارجية، وحظر كرومويل إدخال سلع أجنبية، وهو لم يأذن في التجارة الساحلية وفي الصيد البحري والجلب إلا تحت الراية البريطانية. وكان كرومويل، الذي حمل على التسليم بمقاصده في معاهدة وستمنستر، رمز السلطان البريطاني في دور ارتقائه، وكان كرومويل الذي عرف نيل هذا السلطان مكتريا من صغار الأشراف، لا ملكا، وهذا هو السبب الوحيد في إصلاح ما بينه وبين الإنكليز، وفي إقامتهم آبدة له أيضا، مع حنانهم العظيم على الملك المنكود الحظ، ويعد كل بوريتاني جمايكا عوضا من رأس الملك شارل.
ولم يصبح الهولنديون مستعمرين إلا بعد أن صاروا أحرارا أيضا؛ أي بعد سنة 1609، وهم لم يلبثوا أن نالوا من الترك حق الانتقال تحت راياتهم الخاصة. ومن ينظر إلى حوليات ذلك العصر يمكنه أن يتمثل الفتوح التي تمت في الجنوب والشرق لشعبي الشمال التاجرين، ومن يبحث في التواريخ الخاصة بالأعمال السياسية الرئيسة التي حدثت بين سنة 1500 و1600 لا يجد غير أرقام نمطية كما يأتي:
1512
طرد الفرنسيين من إيطالية.
1515
انتصار الفرنسيين، الاستيلاء على ميلان.
1525
هزيمة الفرنسيين في بافي، ضياع ميلان.
1527-1529
الحرب الثالثة بين الملكين، صلح.
1536-1538
الحرب الثالثة بين الملكين: فرنسوا الأول وشارلكن.
1542-1544
الحرب الرابعة بين الملكين.
1586
هجوم الأسطول الإنكليزي على قادس.
وإذا ما قابلنا بين هذه التواريخ والحوليات الاستعمارية شعرنا بنبض ذلك الزمن:
1504
أول إدخال لأفاويه الهند بحرا نحو الشمال.
1517
أول إدخال للقهوة إلى أوروبة، أول بيع للعبيد السود في أمريكة.
1519-1522
فتح المكسيك، طواف ماجلان حول العالم.
1523
طرد الأوروبيين من الصين.
1528
إدخال نبات الكاكاو من المكسيك.
1553
تأسيس الشركات الإنكليزية الروسية والإنكليزية الأفريقية.
1568
إنشاء برصة لندن.
1569
رسم خريطة الكرة الأرضية من قبل مركاتور.
1580
إدخال البندقيين القهوة إلى إيطالية.
1581
تأسيس الشركة الإنكليزية الشرقية.
1583
راليف في فرجينية.
1584
عام البطاطة.
1595
الهولنديون في الهند الشرقية.
1600
شركة الهند الشرقية الهولندية.
1603
الفرنسيون في كندة.
1608
دولة يسوعية في براغواي.
1610
اتخاذ الشركة المغفلة، إدخال الشاي إلى هولندة.
ظل البحر المتوسط، ظل مسرح التجارة العالمية الثانوي هذا، بعيدا من ذلك التوسع التجاري تقريبا، ومع ذلك فإن ما شعر به من بهجة نتيجة لاتساع نطاق الطرق حفز الأمم المستعمرة الجديدة إلى التسلط على الطرق التجارية القديمة حول الأم، حول البحر المتوسط. وما كان من ائتمار غراندات إسبانية المشئوم سنة 1618، الذي أسفر عن تمرد ضباط بندقيين ضد إسبانية، قد انتهى بتدخل شعب تجاري أجنبي للمرة الأولى منذ اصطراع الأباطرة، وذلك أن حلفاء البندقية الهولنديين اشتركوا في الصراع، فلما أغرق بطلهم البحري دو رويتر ست عشرة سفينة قرصانية على الشاطئ المراكشي في سنة 1655، نال الهولنديون حظوة شعبية حقيقية في البحر المتوسط، وقد عينوا قناصل في كل مكان حماية لتجارتهم، ويأذن السلطان للإنكليز في سنة 1597 أن يقوموا بالملاحة تحت رايتهم الخاصة . ويقيم الإنكليز في هذا الزمن دليلا على صفتين من أعظم صفاتهم، وهما: الصبر وضبط النفس، ويحاول الإنكليز في بدء الأمر إنماء الطريق البرية السائرة من حلب نحو الهند توطيدا لطريقهم البحرية، ويحبط سعيهم هذا ويتركونه عن رشد، على حين يؤسسون شركة الهند الشرقية، ولسرعان ما يؤدي منطق الأمور إلى اصطراع إنكلترة وهولندة من أجل الصدارة في التجارة العالمية، وذلك كما وقع بين البندقية وجنوة فيما مضى.
وكانت تتخذ وسيلتان في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر لاتقاء القراصين، وهما: الأسطول الحارس وإعطاء جزية، وكان جمع الوسيلتين أسلم واسطة، وما انفكت السفن التجارية في البحر المتوسط تحرس من قبل مراكب حربية، ولم ينقطع عمل هذه الأساطيل إلا بزوال سلطان القراصين، ولم تعد إلى عملها إلا في أيامنا، إلا حين جعل نوع جديد من القرصنة أمر البحار محل ارتياب، وتعد مراكب القراصين منذ مائتي عام طلائع مبشرة بمثال الغواصات بما كانت تقوم به من وقف السفن في عرض البحر وتفتيشها. وكانت مراكب القراصين تبرز بغتة غامضة الأمر كالغواصات بعد اختفاء في خلجان مجهولة، وكانت تظهر أمام بروج وكورنوال وآسور فتسلب السفن التجارية. وعقد القراصين معاهدات شفهية كانوا يدعون بها بعض السفن المفضلة تمر إثباتا لكون مالكيها يعطون رؤساء القراصين جزية، وكانت تطلق قذيفة مدفع في الهواء إنذارا بضرورة وقوف السفن، وذلك كما يصنع ربان الغواصة منذرا باللاسلكي، ثم يصعد بعض القراصين في المركب ويفحصون الوثائق والأوساق.
وبما أن القراصين كانوا أميين فإنهم كانوا يخدعون بأوراق مزورة في الغالب، ثم صاروا يتقون مثل هذا الخداع بأن يأخذوا من المركب قبل انصرافه نصف صك أمانه بأن يقسم إلى قسمين ليرى هل تتطابق القطع فيما بعد، وإذا حدث أن خدعوا أو تركوا مركبا عدوا يمر ضرب عنق رئيسهم عندما تعرف الحكاية. ومع ذلك لم يكن ضبط الحمولة، بل الطاعون الذي قد يأتي به القراصين، هو أعظم ما تمنى به السفن التجارية من هول؛ ولذا رئي فيما بعد أن على كل سفينة يفتشها القراصين أن تظل في المرفأ خمسة عشر يوما قبل أن ينزل منها. وكانت جميع الدول الكبرى هي التي تدفع خرج حماية المراكب، وكان هذا الخرج يؤلف أحيانا من مواد حربية يسلمها الهولنديون والدانيماركيون إلى زعماء القراصين الأفريقيين، وهدايا مثل هذه، كما تدعى، كانت تقدم حتى سنة 1817، وما كانت الدول الصغرى لتقدم مثل هذه الهدايا. ومما جاء في تقرير القنصل الأمريكي شالر: «سكن لصوص الجزائر هؤلاء وشجعوا من قبل دولتي العالم البحريتين الأوليين، وهم قد غدوا آلة اعتداء على تجارة الدول الصغيرة بنقضهم القانون الدولي من غير حياء.» وكان على جميع القناصل، حوالي سنة 1825، أن يحيوا القصر الملكي بالجزائر عند مرورهم أمامه، وكان لا يسمح لهم بحمل سيوفهم في المقابلات، ولم يكن لأحدهم أن يجاوز ساحة القصر راكبا حصانا، بل يجب عليهم أن يترجلوا على حين يستطيع خدمهم من الأهلين أن يظلوا ركبانا.
وكان الإنكليز في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر يخفون تعاطيهم تجارة الرقيق بمزاولتهم ضربا من التجارة المثلثة الزوايا، وذلك أن شركاتهم كانت توسق السفن البريطانية فولاذا وقطنا وشرابا إنكليزيا (ويسكي) فتنقله إلى أفريقية، وكان يشرى بقيمة هذه السلع عبيد من زنوج الساحل الغربي بثمن بخس ويرسلون إلى أمريكة، فتبتاع منتجات أمريكية بما يقبض ثمنا لهؤلاء العبيد وتدخل إلى إنكلترة. ولم يلغ الرق في المستعمرات البريطانية إلا سنة 1834، ولما صوت في إنكلترة، في سنة 1807، للقانون الذي يحرم هذه التجارة، عارضه اللورد ألدن في البرلمان بقوله: «شرعت تجارة الرقيق من قبل برلمان كان يضم بين أعضائه أعظم الفقهاء وعلماء اللاهوت وأقطاب السياسة.»
وبينما كان الترك يطردون من هنغارية والبلقان ويقاتلهم أباطرة النمسة وقياصرة روسية منصورين في الغالب، كان موقف البحر المتوسط سلبيا دوما. وكانت الإمبراطورية التركية قد صارت كتلة ثقيلة جامدة فتحاول الأمم المقهورة أن تزيحها شيئا فشيئا، وكان لا بد من مرور قرنين حتى تحطم قطعا في سنة 1918، وقد بدأ تفوق الأمم النصرانية الاقتصادي في البحر المتوسط حوالي سنة 1600، وقد بدأ تفوقها السياسي بعد قرن من ذلك.
وينشأ هذا البطء عن عدم وجود مبدأ عام، وعادت الكنيسة لا تمثل مثل هذا المبدأ، وتوارت إمبراطورية أباطرة الألمان الرومانية، ولم يكن «التوازن الأوروبي» الذي ابتدع في ذلك العصر مرعيا في غير القارة، ولم يتمسك بسياسة الملك الشمس لعدم اعتمادها على البحر. وظلت فرنسة دولة برية حتى في أوج نشوئها، فلم يكتب لها الفوز على الدولتين البحريتين، إنكلترة وهولندة، إلا نادرا على الرغم من جميع محالفاتها مع السلاطين ومن جميع المكايد التي حاكتها.
وقد أحرزت فرنسة في ذلك العصر قصب السبق على إسبانية في القسم الغربي من البحر المتوسط كما أحرزته إنكلترة على هولندة، وقد وسع وزير لويس الرابع عشر، كولبر، نطاق الأسطول الفرنسي والموانئ الفرنسية وصولا إلى تفوق فرنسة حينا من الزمن، وماذا يهمنا من أمر هذه الوقائع مع ذلك؟ هي خاصة بالمنازعات العظيمة في سبيل السيادة على مسرح أوروبة بأسرها، ونحن لا نعنى هنا بغير البحر المتوسط!
وكان البحر المتوسط قد صار مأوى لصوص فلم يكترث أحد لفتحه وتطهيره تماما لعدم استحقاق هذا الأمر جهدا. ولما حاولت فرنسة، التي كان مازاران قابضا على زمامها، أن تستولي على نابل وصقلية، تدخلت إنكلترة في الأمر وحالت دون حدوث ذلك، وذلك كما كانت هولندة قد صنعت عندما أريد أن يضحى بالبندقية، ولما حاصر الترك جزيرة أقريطش حالفت فرنسة البندقية لمقاتلتهم.
ولم يعين حادث من هذه الحوادث مجرى التاريخ الذي كان يقرر في ميادين القتال بألمانية وفرنسة، والمصالح وحدها، لا المبادئ الكبيرة، ولا عظماء الرجال، هي التي كانت تتقابل في البحر المتوسط. وبينما كان على فرنسة، التي نهكها طموح الملك الشمس في أربعين عاما، أن تعدل عن خططها في السيادة العالمية، كما صنعت إسبانية منذ قرن، بسط هذا الملك الشائب يده نحو إسبانية في آخر الأمر لطمعه فيها بعد غياب آل هابسبرغ عنها، وتتدخل إنكلترة وتشتعل نار حرب أوروبية عظيمة (1701-1713) في البر والبحر، ويقضي هذا الصراع على سلطان فرنسة البحري في القرن القادم، ويحاول كل من المختصمين أن يستولي على قواعد، وتحاصر جزر البليار ومالطة كما حوصر جبل طارق على الخصوص.
8
إذا ما اقترب من صخرة جبل طارق من ناحية البر بعد المرور على طول الرصيف الكبير، رئي رأس جاموس أو أسد ضخم مدور نحو الشمال، وفي اليمين ينحدر سفح جبل مقدارا فمقدارا كظهر حيوان، وتبصر للمجموع منظرا مشوشا، وإذا ما نظر إلى الصخرة من ناحية البحر بدت وعرة عظيمة، وإذا ما وجد الإنسان تحت موقف الإشارة ظهر له برج جبار قديم كقصر الآلهة القاتم في رواية غنائية لفاغنر، وينتصب الانحدار أمام البحر انتصابا تاما، وتكون الصخرة ممتنعة من هذه الجهة، فلا يستطيع أن يتسلقها غير رجل جبلي ماهر، أويمكن الاستيلاء عليها بالمدفعية؟ تختلف آراء الخبراء حول هذا الموضوع، ومهما يكن من أمر فإنه يتعذر أخذها عنوة.
والصخرة من حجر كلسي رمادي بلوري مؤلف من طبقات مستوية في الغالب، وقد نحت الماء والريح هنالك تجاويف كثيرة في ألوف السنين، ويقع أحد هذه التجاويف على ارتفاع 110 أقدام فوق مستوى البحر ويبلغ من العمق أربعمائة قدم، ويستند إلى أعمدة كرواق كنيسة، وتجد لبعض هذه المغارات متدليات. وهنالك كهف يعرف بغار فيكتورية، ويبدى لنا صورا كلسية رائعة طبيعية يرى تفوقها على صور «غارماموت» الأمريكي. نعم، ليست الصخرة بالغة العلو في مجموعها ما بلغت أعلى نقطة فيها 1400 قدم فقط، غير أنها تظهر كثيرة الارتفاع لانفرادها وضيقها، والواقع أن عرضها يترجح بين ربع ميل وثلاثة أرباع الميل. وإذا ما سار المرء بين حصونها المصنوعة بأسرها من أنفاق رئيت السماء ونور النهار من نواح كثيرة في آن واحد، وما كانت الصخرة التي ليس لها من الطول ثلاثة أميال مطلقا لتقف نظر إنسان لو لم تشرف إشرافا أقرب إلى الخيال على مدخل البحر المتوسط.
ويلوح أن مدخل جهنم ضيق، وأضيق منه مدخل هذا البحر الفردوسي لا ريب، وما وجد من عظام وقرون حيوانات أفريقية في فرنسة والبلقان يدل، كما ذكر في أوائل هذا الكتاب، على وجود برزخ كان يصل بين القارتين في أزمنة ما قبل التاريخ. وما فتئ بعض العلماء يجادلون حول ألوف السنين التي مرت منذ انهيار الجسر بين اليابستين، ولا أهمية لهذه المسألة، ويظهر أنها من المعضلات، ومهما يكن من أمر فإن كلا من الساحلين قريب من الآخر، ولا تزيد المسافة عند أضيق نقطة على أحد عشر ميلا. ويمكن العين المجردة أن ترى من النقطة الجنوبية، المسماة «رأس أوروبة»، شاطئ أفريقية المنوع منظرا، ويخيل إلى الناظر أن المدينة الصغيرة الواقعة داخل الصخرة وكر مهربين مع أنها عادت لا تكون هكذا مطلقا، وتقع على البحر المتوسط كذلك قرية صيادي سمك لا يمكن أن يوصل إليها إلا بطريق ملتوية من ناحية البر أو بنفق من خلال الصخرة. وهنالك، على الذروة تقريبا، يقوم برجان، وللمجموع منظر دبر
8
متجمع حول غول هائل، حول الصخرة.
ومن ينظر إليها في الصيف يقل إن النار خربت ذروتها، وتبدو حديقة الحاكم التي يعنى بسقيها واحة خضراء كالتي تبدعها الأريستوقراطية البريطانية في كل مكان من العالم، حتى في وسط الصحارى وسواء الصخور، مذكرة بحدائقها الإنكليزية. ويعرض في كل وجبة في قاعة الطعام من منزل الحاكم الرسمي ذي المنظر القديم مفتاحان عظيمان قديمان على مخمل أحمر، وكان هذان المفتاحان لباب القلعة قد ضبطهما أسلاف الحاكم الإنكليز، وهما لم ينفكا يعرضان في مائدته منذ قرنين على هذا الوجه، ولا يقام بهذا العرض في ذكرى الفتح السنوية فقط بل يقام به في كل يوم أيضا. ويوجد على الصخرة في الخارج، يوجد بجانب حمام وحجل، قردة قليلة برية تعد آخر ما في أوروبة، ويروي ضباط الحامية في سنة 1900 أنه كان يوجد من القردة خمس إناث متفقة فيما بينها اتفاقا عجيبا على قتل آخر ذكر وافتراسه، ويبحث عن ذكر فتى في أفريقية الشمالية ويرسل إلى الصخرة بعد تلك الخاتمة الفاجعة الهزلية التي تستحق أن تكتب رواية عنها، وتظهر قردة جديدة بعد ذلك وإن لم تكن كثيرة العدد. وهكذا ينقل إلى هذا الطرف الأوروبي الأقصى، الذي كان يمكن الأسود والفيول الأفريقية أن تمر من المضيق إليه بسهولة، قرد واحد في قفص فيطلق على الصخرة إبقاء لذلك النوع الأفريقي.
وتنتصب صخرة أخرى أمام تلك، تنتصب قلعة سبتة، وفي الأساطير أن هركول نصب عمودين في هذا المكان الذي هو أبعد محل معروف في ذلك الزمن. وتجيء كلمة «أبيلا» التي هي أقدم اسم لهذا المكان، والتي يرجح أن الفنيقيين أطلقوها عليه، بمعنى «موقف»! ولا ريب في أن مبدعي الأسطورة لم يروا الصخرة إلا من جهتها الشرقية، وهذا ما يوضح تفسيرهم، ولا ريب في أنهم شعروا بانجذابهم إلى هذه الثغرة الضيقة النافذة إلى عالم مجهول مؤد إلى بحار جديدة بعيدة تقع الأطلنطيد فيها من ناحية الجنوب وتقع ثولة فيها من ناحية الشمال.
وكان أول مجاهد عرف أهمية ذلك المكان، ذلك المفتاح، عربيا، كان طارقا، فأنشأ فيه أول حصون، وسميت تلك الصخرة «جبل طارق»، فتحول اسمها العربي إلى كلمة
Gibraltar
عن إدغام. وقد قاد هذا الرجل جيشا مؤلفا من اثني عشر ألف عربي وبربري من مراكش إلى الأندلس وقهر القوط في شريش، وقد أخذ ينشئ قلعة فوق الصخرة في آن واحد فلم يتم بناؤها إلا في إحدى وثلاثين سنة، ولا يزال يرى برج جبار فكان يدعى «قلعة المغاربة».
وتمضي ستمائة سنة، ويطرد الإسبان المغاربة، فيبدأ ملك إسباني بالأول من حصارات جبل طارق الخمسة عشر التي زلزلت الصخرة بين سنة 1300 وسنة 1800، ومع ذلك فإن جميع الهجمات التي وجهت إلى الصخرة كانت غير منتجة نتيجة لبرنامج التحصينات الذي طبق في القرن السادس عشر، وود الملوك الأولون أن يعمروا القصبة الحارة الجديبة الممتدة على سفح الصخرة فدعوا اللصوص والقتلة إلى الإقامة بها واعدين بإعفائهم من الضرائب، ويقوم المغاربة والإسبان بالحصار مناوبة، ويتقاتل قراصين ومسلمون من ناحية وملوك ودوكات إسبان من ناحية أخرى لحيازة الصخرة فلم يوفقوا.
ولم يوفق الإنكليز لتملك جبل طارق كقاعدة إلا في أثناء الحرب الفرنسية الإنكليزية الكبرى التي قاتل فيها ملبرو الملك الشمس، ففي سنة 1704 أدرك أمير بحر بريطاني أهمية جبل طارق وقيمته فدخل المضيق أمام الصخرة التي ظلت منيعة قرونا، وبدأ الحصار الثاني الذي لم يدم غير ثلاثة أيام فاستولى على القلعة. والواقع أن هذا الأميرال كان مستخدما لدى حليف إنكلترة الأرشيدوك الهابسبرغي، فكان يجب عليه أن يرفع علم آل هابسبرغ، ولكنه أدرك خطر الساعة، فنصب الراية البريطانية واستولى على القلعة باسم الملكة حنة، ولم تلبث حكومته أن وافقت على هذه الضربة.
ويعود فخر الاستيلاء على جبل طارق إلى السير جورج روك البالغ من العمر خمسا وخمسين سنة في ذلك الحين، والذي كان ذا عمل كريم ولكن بلا مآثر، وما هجم به من سرعة على الصخرة وما وفق له من فتحها وما اتخذه من قرار في القبض عليها باسم مليكته من غير أن يوجه إلى ذلك ومن غير أن تكون لديه قاعدة قريبة أمور دلت على وجود شعور بتقدير الوقت المناسب عنده مذكر بكرومويل، وكرومويل هذا كان قد دعا جبل طارق وقادس ب «أهم أهداف السياسة البريطانية».
ويقدر الفرنسيون والإسبان أهمية ما خسروه، ويبدءون بالحصار الثالث في تلك السنة، فيدحر أحسن كتائب المتطوعين في تلك الأثناء، وكان للإسبان بذلك ما يورثهم غما لما أبصروه من استطاعة الأجنبي الرابض فوق الصخرة أن يحاصر جميع إسبانية إذا أراد. وهكذا مر العقدان الآتيان بين المفاوضات والحروب والهجمات المفاجئة، ثم يقع أهم حصارات جبل طارق وأطولها حوالي سنة 1780، فيدوم ذلك نحو أربع سنين؛ أي حينما كانت مشاكل أمريكة تشغل بال إنكلترة وتضعفها، ويحاول الإسبان تجويع الحامية والقيام بهجمات بحرية عنيفة، ويستخدم الإسبان أفاقين وعيونا من كل نوع، ومع ذلك فقد كان المدد يأتي من إنكلترة في الزمن الملائم. ومع ذلك فقد كانت تعقب المعارك البحرية الشديدة فترات وقوف كما وقع سنة 1940 في أثناء إلقاء الألمان قنابلهم على إنكلترة، وكانت الحامية تقوم بهجمات وكانت تنال انتصارات على المراكب الإسبانية، وكانت تظهر مدافع جديدة متزايدة قوة، وكان الفوز الوحيد الذي تم للإسبان هو استيلاؤهم على القاعدة الإنكليزية، على جزيرة منورقة، التي ظلت إسبانية حتى الزمن الحاضر.
وكان يوجد بين المعارك تبادل فروسي للرسائل، وذلك كالذي كان بين قائد القلعة إليوت وقائد المحاصرين دوك كريون ، وقد كتب هذا الأخير إلى عدوه قوله: «اسمحوا لي، يا صاحب السعادة، بأن أقدم أشياء ضئيلة إلى مائدتكم، فهي محتاجة، لا ريب، لما أعرف من اشتمالها على الخضر فقط، ومما يسرني أن أعلم ماذا تفضلون، وهنالك أضيف إليه حجلانا من أجل حاشيتكم السادة مع قليل ثلج.»
واسمع الجواب: «أقدم إليكم ألف شكر، يا صاحب السعادة، لهدية الفواكه والدجاج الجميلة، وإنني أعترف لكم بأنها أوجبت نقض ما عزمت عليه منذ بدء الحرب من عدم أكل شيء غير ما يأكل منه رفقائي، وقد بيع كل شيء علنا هنا، ويمكن كل واحد أن يشتري على أن تكون عنده وسائل الشراء؛ ولذا أرى من الواجب أن أرجو منكم، يا صاحب السعادة، ألا تغمروني بإحسان لا أستطيع أن أتمتع به، ولدينا من الخضر ما يكفي، والزراعة من عادة الإنكليزي، والإنكليزي يقضي ساعات فراغه في الزراعة ولو كان هنا.»
وكان يراهن في إنكلترة وفرنسة حول ثبات جبل طارق أو عدم ثباته، ويسأم المحاصرون في نهاية الأمر، وتعقد هدنة، ويزور رئيس المحاصرين عدوه، ويرى بعينيه ما حاول إدراكه ببصره الطويل على غير جدوى. ويمكن تشبيه هذا القائد برجل تملق امرأة أربع سنين من غير أن يستطيع نيلها، فلما اشتد ولعه لتمنعها لم ير غير الخضوع بالغا غرضه على وجه آخر. وما انفكت قلعة جبل طارق تتمتع، منذ سنة 1783، بسلم دائمة تقريبا.
أجل، وفقت إنكلترة لطرد فرنسة من البحر بعد حرب طويلة في أوائل القرن الثامن عشر، غير أن ثلاث منافسات حديثات بدت في ذلك الحين، وقد غدت النمسة من دول البحر المتوسط؛ وذلك لأن آل هابسبرغ كانوا يملكون سواحل إيطالية واسعة، وقد صارت سافوا دولة بحرية أيضا بنيلها سردينية، وقد عدت صقلية من دول البحر المتوسط أيضا حينا من الزمن، وكان بطرس الأكبر يدفع روسية نحو المضايق، وكان أداة خطر مع عدم ظفره بكبير شيء، وفرنسة هي التي عوقبت بطموح الدول الأخرى نتيجة لتأخرها بحرا، ويشطر الأسطول الفرنسي إلى شطرين من قبل إنكلترة التي تستطيع بجبل طارق أن تقطع وقت الحرب كل طريق بين برست وطولون. واليوم لا تزال حيازة الصخرة تنم على وضع كالذي تكون عليه أمريكة لو كانت بناما قبضة أيد بريطانية، وذلك لما يفصل به كل من الأسطولين الأمريكيين عن الآخر، ولما حوصرت طولون أغرق الفرنسيون أسطولهم الخاص.
ويوفق الفرنسيون بعد زمن لإفساد حصار ثان ضرب حول طولون فدام عامين، وينزل الإنكليز إلى جزائر إيرس غير مرة حيث يتزودون ثم يداومون على الحصار، وقد حرقوا السفن الإسبانية الراسية في مرفأ سان تروبز وإن كانت إنكلترة مسالمة لإسبانية، ولم ينل أي من الخصوم نصرا في الواقعة التي حدثت في أعالي جزائر إيرس.
وبينما كان هذا التغيير الأساسي يقع في أحد أبواب البحر المتوسط الثلاثة، كان يقرر أمر تغيير آخر؛ أي الرجوع إلى مشروع قديم؛ أي إن الملك الشمس يعود إلى الخطة القديمة حول إنشاء قناة في السويس، ويلوح هذا الإنشاء أمرا متعذرا من الناحية الفنية. وتبدو لوزير الملك الألمعي كولبر فكرة مطالبة السلطان بفتح أبواب البحر الأحمر للفرنسيين وبالإذن لهم في إقامة مخازن وتنظيم وسائل النقل بين السويس والإسكندرية.
وكان العبقري الألماني الأكبر ليبنتز يحاول تحويل لويس الرابع عشر إلى تلك الوجهة صرفا له عن مغازيه المخربة نحو الرين، ولما ساءت الصلات بين الترك ولويس الرابع عشر نصح ليبنتز هذا الأخير بالاستيلاء على مصر، ويجيب كولبر عن كتاب الفيلسوف الشهير بدعوته إلى باريس، ومع ذلك لم يظفر ليبنتز بمقابلة الملك مع إدراك الملك أهمية هذا المشروع. وهكذا تركت فكرة سوق فرنسة إلى مصر مدة 130 سنة؛ أي إلى الزمن الذي حققها فيه نابليون وإن كان نابليون يجهل مشروع ليبنتز. ومما يجدر ذكره حول الصراع الأكبر بين فرنسة وإنكلترة، كون إنكلترة استولت على باب من بابي البحر المتوسط مع أن فرنسة أهملت فتح باب آخر له أو الاستيلاء عليه، ولولا هذان الأمران؛ أي احتلال جبل طارق وعدم فتح قناة السويس، لاتخذ تاريخ البحر المتوسط مجرى آخر.
9
كانت النمسة وروسية، كانت هاتان الأمتان الأجنبيتان الراغبتان في التقدم إلى البحر المتوسط، تتوعدان الترك وتداريانهم مناوبة فتعززان تركية بدسائسهما، ولم يصبح النمسويون أمة بحرية أكثر من الترك، وقد صار الروس بحريين أكثر منهما.
ومن الممكن أن كان آل هابسبرغ يسمحون لأنفسهم بفقد بعض ممتلكاتهم المبعثرة ما نالوها وراثة أو صهارة أكثر من نيلهم إياها فتحا، وما كان الميل القومي أو التاريخ أو اللسان ليربط بعض رعاياهم ببعض، ولم يكن ولاء هؤلاء الرعايا نحو البيت المالك إلا أمرا مشكوكا فيه، ولم تكن فسيفساء الدولة هذه لتنم على مركزية، وكل ما تدل عليه يمت إلى الدفاع ضد الترك بصلة.
وما حدث من اشتراك النمسة في حياة البحر المتوسط لم يكن ضروريا لحياتها القومية، وبهذا يفسر سبب خسرانها ممتلكاتها في البحر المتوسط بسهولة كالتي نالتها بها، وقد توارت شركة الهند الشرقية، التي ألفها بعض رجال الأعمال بتريستة على منهاج الأمم البحرية الكبرى، عند انقضاء اثنتي عشرة سنة نتيجة لعدم اكتراث حكومة فينة لها، وقد انتقل ميناء فيوم من أيدي النمسويين إلى أيدي الهنغاريين لمثل هذا السبب، وكل ما بقي من آثار جهود النمسة الاستعمارية هو دولار ماري تريز، هو هذا النقد الفصي الذي لا يزال متداولا في البحر الأحمر وفي الحبشة، ويختم عهد آل هابسبرغ، الذي دام أجيالا، في سنة 1918، ولا تزال جمهورية النمسة الاشتراكية تضرب نقودها الفضية الحاملة صورة الإمبراطورة، ولا يزال زنوج شرق السودان يتعاملون بنقود مشتملة على تصويرة امرأة زالت صورتها من منازل فينة منذ زمن طويل.
وكانت مزاحمة ماري تريز، كترينة، تتعهد مشاريع بالغة الطمع حول البحر المتوسط، وكانت تحلم بإمبراطورية بزنطية كما يدل عليه بعض الدلالة تسميتها حفدتها بقسطنطين وإسكندر، وكان أول ما نوته تقسيم تركية مع النمسة فأثارت اليونان على الترك بحرب إنقاذ طرب لها فولتير نفسه، وتحالف كترينة إنكلترة بعد زمن قليل، ويشاهد العالم دهشا منظر بحرية حربية روسية يقودها ضباط من البريطان فتنطلق من البحر البلطي إلى آسية الصغرى حيث تقضي على الأسطول التركي سنة 1770. ونجهل اللغة التي كان البريطان يخاطبون بها ملاحي الروس والعلم الذي رفعوه للتحية حين مجاوزتهم صخرة جبل طارق، وكل ما نعلمه هو ما كان بين هؤلاء الحلفاء الطرفاء من تبادل ازدراء.
وكانت كترينة تحب الشعوذة بخطط شاملة، فلما طالبت بقورسقة لروسية عقدت صلحا تاركة بجفاء من شجعتهم على العصيان من اليونان، فأدى هذا الخذلان إلى تأخير تحرير اليونان نصف قرن. ومع ذلك فإن كترينة استطاعت أن تحقق إحدى غاياتها المهمة، استطاعت أن تجعل روسية على البحر المتوسط، وذلك باستيلائها على شمال البحر الأسود، وما أدى إليه هذا الاستيلاء من بناء سباستبول وأوديسا في أواخر القرن الثامن عشر. ويذعر الإنكليز عندما نالت مراكب الروس الحربية حق المرور من الدردنيل، ويحتاجون إلى جهاد ثلاثين سنة لإبعاد هذا التهديد.
ومع ذلك فإن نجاح الروس عم العالم بأسره، وقد انتعشت تجارة الآستانة بعد رقاد عدة قرون، وقد أضحى البحر المتوسط لا يقف عند حد الدردنيل، وغدا البسفور مرفأ بحريا أهم مما في كل زمن، وصار وقوع جميع هذه الحوادث تحت راية الهلال لا يزعج أحدا ما بلغ سفراء الدول العظمى من النفوذ في استانبول منذ زمن مبلغا يحسون به أنهم في مستعمرة من بعض الوجوه. والحق أن الإنكليز والروس والنمسويين وجميع الأجانب كانوا سادة في تركية، في هذا البلد الذي كان يسيطر على البحر المتوسط رسميا، والحق أن بلاد البحر المتوسط التي كانت تملك هذا البحر قد تقهقرت من الصف الأول. أجل، ما انفكت فرنسة تتمتع في البحر المتوسط بنفوذ عظيم، غير أنها لم تتقدم إلى فتح مصر وفق مشروعها الذي تمثله لويس الرابع عشر، وعادت إسبانية لا تكون دولة كبيرة منذ زمن طويل، ولم تصبح إيطالية دولة كبيرة بعد.
بيد أن إيطالية كانت راضية، أو كان يلوح أنها راضية، على ما كان من سابق قوتها، ولكن مع دوام هزها بالفتن، ومن المحتمل أن روح المرح لم تزدهر طليقة في مكان كما في إيطالية، وكان جميع الأشراف في إيطالية يتمتعون بكل ما في القرن الثامن عشر من فتون. وكان البابا أميرا حرا، أميرا مسالما غير متعصب، ويدل الأمران اللذان صدرا متعاقبين عن الفاتيكان على تغير الزمان، والأمران هما حل منظمة اليسوعيين ودعوة البروتستان إلى عيد الكنيسة الخمسيني، ويكتسب الكرنفال الروماني المشهور شكلا دوليا بهذه الدعوة.
وكانت المدن الثلاث؛ أي المدينة القديمة ومدينة القرون الوسطى ومدينة النهضة، قد أنشئت متراصفة في رومة، وقد زينت رومة في القرن الثامن عشر مبانيها وطبائعها وأفكارها بزخارف وفق موسيقى العصر الإيطالية، وقديما كان الناس يقصدون رومة عاصمة للإيمان، والآن صاروا يزورون رومة عاصمة للسلوان، ولم تكن رومة ناضرة معمورة في زمن كما في دور ازدهار المرح، وكانت رومة تغتني حينما تفقد سلطانها، وكان لا يفوقها رونقا غير مدينة واحدة، غير البندقية، لا باريس.
واسمع ما قاله غوتة عن البندقية سنة 1786:
ينطوي جميع ما يحيط بي على أثر عظيم رائع لنشاط بشري منسجم، على عمل رفيع ساطع تكريما لشعب، لا لملك، وعلى ما يبدو من طم ضحاضحها الكثيرة الجزائر مقدارا فمقدارا، ومن تموج الأبخرة الفاسدة فوق المناقع ومن وهن تجارتها وانحطاط سلطانها لم يفقد الوضع الجامع وطابع الجمهورية جواذبهما قط؛ ولذلك في النفس أثر أسرة مسنة لا تزال جادة مع انقضاء دور ازدهارها وثرائها.
ولم يزل المال حتى ذلك الحين مكرما في عاصمة المرح البندقية، مع نيله عن نهزة لا عن جهد في الغالب، وكان المال ينفق تمتعا بالحياة من غير توظيف، وما هو المكان الذي كان المال يبذل فيه بأبهج مما في البندقية؟ وإلى هذه المدينة كان الموسيقيون والممثلون والقاصون والساحرون والمشعوذون والمروضون والإكليريكيون يأتون فيتلهون، وكان يذهب ويجيء جمهور متحرك في جميع الفصول طائفا بلا انقطاع في القنوات والميادين مثرثرا مغتابا ضاحكا في نصف النهار وجميع الليل، ومن أمثال ذلك الزمن: «قليل قداس في الصباح، وقليل لعب بعد الظهر، وامرأة في المساء»، ولا مكان كالبندقية كان يتسلى ويضحك فيه وتتناول القهوة والمرطبات فيه ويجادل حول فلسفة الحياة فيه.
ولم تكن تلك ولائم رسمية أقيمت لضيوف البندقية من أمراء الأجانب وملوكهم، ولم تكن تلك «نزها» في حدائق نظمها بستانيون خياليون وزينت بفوارات وتماثيل، بل كانت انسجاما بين شوارع صغيرة وأرصفة ومقاهي ومداخل خلفية لمسرح غلدوني وغرف قاتمة لخياطات ووسيطات. وكانت النساء العارفات بأمور الغرام يسيطرن على البندقية، وما كان أحد ليستطيع أن يميز الخليلات من سيدات المجتمع بغير لقانية الخليلات على ما يحتمل، وكان معظم هؤلاء شقرا، على أسلوب تيسيان، مع عيون دكن، ونساء من هذا الطراز صرن ممثلات للبندقية؛ أي رموزا لمدينة زاهرة كامدة معا، وما كان من السوداء السائدة لهذه المدينة؛ أي لقنواتها المظللة وقصورها المختالة ودعائمها البالية المتفتتة بفعل الماء، وما كان من السوداء التي تشم مع رائحة النبات المائي، أمران يسمان ابتسامة ابنة البندقية وينعمان عليها بفتون لا تجده في الباريسية الرزينة الحذرة.
وإذا ما وصل فيلسوف أو رجل سياسي أو سائح في أثناء الكرنفال لم يبصر من ظل حيا من الطبقة الأريستوقراطية القديمة، فكانت جميع الطبقات تلبس على طراز واحد، وكان جميع الناس يدثرون بمعاطف وشالات من نوع واحد ويعتمرون بقلانس مثلثة القرن من جنس واحد، وكان الجميع يزين بألوان منوعة في دار التمثيل والمراقص، وكانت جميع المدينة تحيي مساخر أشهرا مع تفرغ الجميع لأعمالهم، وكان طراز العيش هذا هو من الشذوذ والفتون ما يجتذب إليه الناس من جميع جهات العالم، ولما مات رئيس البندقية في فبراير سنة 1789 كتم نبأ موته أطول زمن ممكن لكيلا يكدر الكرنفال.
وتنجب البندقية، في ذلك الزمان، بأشهر أبنائها بعد تيسيان، تنجب برجل كان يعلم كل شيء، وكان لا يعلم شيئا، تنجب برجل كان يفتن الدنيا بمخادعتها مع سخريته، وما فيه من دم أبيه الإسباني كان يجعله قادرا على تمثيل دور دون جوان الذي تحول إليه في نهاية الأمر، ويسجن في الثلاثين من سنيه فيفر بعد سنة منقذا نفسه بالسقوف الرصاصية، وينبل بسلطانه الخاص ويسيح في جميع أوروبة، ويرجع إلى البندقية ابنا للخمسين، وينفى مجددا ابنا للستين، وأخيرا يكون الرجل الذي يخلد أعضاء السنات والأدباء والوسيطات، ونساء البندقية المترجحات بين الراهبات وزوجات الدوكات على الخصوص، ويسره أن يحيي جميع ذلك الكرنفال في مذكراته التي كتبها في السبعين من عمره دفعا لسأمه في قصره المنعزل.
وينتسب كازانوفا إلى فصيلة المستهزئين في البحر المتوسط، إلى فصيلة أريستوفان وأوفيد وأرتن، ويقيم هذا الرجل دليلا على الحيوية التي يبعثها البحر المتوسط في أحسن بنيه، والذين قاموا بمغامرات غرامية كثيرة وحدهم هم الذين يمكنهم أن يقدروا صدق مذكرات كازانوفا التي وصفت بالمبالغة والحذلقة كما وصفت مذكرات ماركوبولو، ومن يحاول من الشبان أن يتعلم أعمال الغرام منها لا يجد فيها أكثر مما يجد في ديوان أوفيد، ومن يود من الشيب أن يتعزى عن مجاوزته سن المعاشق بمطالعة هذه المذكرات يخرج مخادعا عاما. وهذا الكتاب، الذي كتبه عظيم من العارفين بالمغامرات الغرامية في جميع الأزمنة، خاص بالراشدين من الرجال والفاضلات من النساء، وهذا الكتاب أكثر صدقا مما يظنه أبناء الطبقة الوسطى، وهذا الكتاب مملوء فلسفة بأكثر مما يعتقده العلماء، ويمكن تشبيهه بمركب شراعي يجاوز خليجا ذات صباح مشرق ريح
9
على حين يحرك وجه الماء الأزرق نسيم عليل، ولا معدل لمن يرغب في إدراك أمر البحر المتوسط عن معرفة كازانوفا كما تعرف كليوباترة ومعبد بستوم وفينوس دوميلو والقرن الذهبي الاستانبولي. والواقع أن كازانوفا مثل النشاط الحيوي البهيج الذي يشع من جميع وجوه البحر المتوسط وأعمدته وتماثيله وخلجانه.
ومن المحتمل أن تكون الصبابة إلى الوطن هي التي أدت إلى روعة كتاب كازانوفا؛ وذلك لأنه كتب في الشمال البارد الذي حفظ فيه عن مصادفة ساخرة مستمرة، ولا يعرف العالم غير جزء منه، ويرقد جزؤه الآخر بليبزيغ في صندوق ناشر خجل موروثا عن أجداده.
10
قورسقة أجمل جزائر البحر المتوسط على ما يحتمل، ولقورسقة على الخريطة أكثر المناظر انسجاما، وهي تظهر على الخريطة ورقة كثيرة التفاريض مع عرق حاد نحو الشمال ومع انبطاح تجاه الشمال والجنوب، وينم شكلها على اعتدال لا يعدله غير اعتدال أقريطش المستلقية من الشرق إلى الغرب، ولقورسقة انسجام ملائم أيضا، وعلى ما لقورسقة من اتساع أعظم من معظم الجزر الأخرى تجدها من الصغر ما يستطيع به الإنسان الواقف على ذروة الجبال العالية القائمة في وسطها أن يبصر البحر المحيط بها، كما يبصر من مركز البلوبونيز المرتفع.
ويجد الزائر هذه الجزيرة تابعة لهواها اتباع المرأة الفتانة، وهذه الجزيرة حلوة مشمسة في شواطئها موحشة جامحة في داخلها، وتجتمع جميع أشجار البحر المتوسط هنا ضمن مسافة صغيرة، فيلوح أن غابة الجبال الدائمة الخضرة موجودة هناك منذ أقدم الأزمان، وهي رطيبة ظليلة كالأيكة الاستوائية، وعلى العكس تزدهر السواحل برياض غن كرياض صقلية، وفي هذا سر ما تراه من اختلاف كبير في الأجواء مؤد إلى تكوين أناس ذوي حميا، وخاصية قورسقة، أو الظاهرة التي لا تبصرها بارزة في مكان بالبحر المتوسط كما في قورسقة على الأقل، هي أريجها، هي عطرها القوي الذي يشم من السفينة التي تدنو من الشاطئ، وهذا هو شذا الغابة الصغيرة المستورة بالعوسج والشجر الصغير والمعروفة بالماكي؛ أي المشتملة على خليط من المر الصافي والغار والسعتر والعبيثران والرتم وأعشاب أخرى تستر أرض منطقة متوسطة الارتفاع، وتزهر في جميع السنة تقريبا، ويمكن القورسقي الذي يؤتى به في منامه على زورق إلى بلده، كأوليس، أن يعرف جزيرته من طيبها.
ويعيش الكرامون والصيادون على الشاطئ، ويقيم بالمدن الصغيرة الموسومة بطابع القرون الوسطى أصحاب السفن والتجار، وهنالك يتصل بالعالم الخارجي، وعلى العكس لا يزال يعيش في داخل الجزيرة رجال صامتون ونساء صوارم يسيرون عن أخلاق ووطنية، وتساورهم رغبة ملحة في حماية أسرهم وجزيرتهم فلا يجذبهم إلى البحر ميل إلى السلطان أو المال، وما فتئوا يشتعلون حبا للثأر كما في الماضي، وتعد الأسرة مقدسة عندهم كما في إسبانية الوسطى، وينجم عن هذا إخلاص القورسقيين البالغ تجاه وطنهم الصغير، وقليلا ما يبالون ضرورة تناولهم معظم غذائهم من البلد الأم مع أن جزيرتهم لا تنتج غير الخمر والزيتون والفواكه والخضر وخشب الإصدار.
ويأتي هؤلاء الناس الجامحون، الذين يلوح انتسابهم إلى جيل آخر، بعمال موسميين من البلد الأم لزراعة الأرض وقطع الغاب، وهم يسيرون في هذه الأثناء على سنة أجدادهم فيذهبون لصيد الطرائد والطيور والنقط والجريث
10
في سيول الجبال، ويحافظ الكرام الفقير على خيلاء ملك، ويضيف الغريب، ولكنه إذا علم أن أسرة معادية قد اقتبرت الغريب أغلق بابه دونه من فوره. وإذا ما نظرت إلى هذه العادات الاستقلالية فأبصرت شدة مقت العمل وتنازع الأسر، وجدت شأن السياسة في الجزيرة كما في اسكتلندة حيث أنتجت الجبال رجالا ذوي مزاج مماثل مع الفارق القائل إن هؤلاء شماليون كيفوا بالضباب والبرد.
وقد أدت هذه العنجهية المضادة للأجنبي، والتي يكتب لها البقاء في جزيرة أكثر مما في بلد من القارة، إلى مقاومة القورسقيين كل دولة أجنبية تريد الاستقرار بالجزيرة، وما كان القورسقيون ليطيقوا قرطاجة ورومة حينما تقاتل هذان البلدان في سبيل تملكها، ولما صارت جزيرتهم ولاية رومانية عرضوا على المبعدين السياسيين، كالشاب سنيكا مثلا، ملجأ رغدا ترضى رومة عنه.
وقد حاولت جميع الأمم التي استولت على البحر المتوسط في الألف الأول من السنين بعد الميلاد، أن تستولي على قورسقة لموقعها المثالي الصالح لإنزال الضربات والقيام بالقرصنات بين نيس وجنوة وليفورن ورومة. وقد نال الوندال شرف تخريبهم غابات الجزيرة الابتدائية لإنشاء أسطول، وقد نزل القوط واللنبار إلى الجزيرة وانهمكوا في النهب، وتصبح بزنطة سيدة الجزيرة فتمقت لجبايتها ضرائب ثقيلة، ثم تنتقل قورسقة في ثلاثة قرون من أيدي العرب إلى أيدي الفرنج، ومن كونتات توسكانة إلى العرب.
ثم يسفر عزمها على الاستقلال عن نيلها في القرن الحادي عشر نصرا على الأمم البحرية المجاورة، ويقام مثل جمهورية في شمال الجزيرة مع نظام انتخابات وعدد غير قليل من الموظفين وراية وميزانية ... ولم تدم هذه الجمهورية زمنا طويلا، ويكدر ما بين دول القارة من نزاع صفو حياة هذه الجزيرة الصغيرة العاطلة من الدفاع، وتصبح بيزة ثم جنوة صاحبتي قورسقة، ثم يعين كونت قورسقي بفضل من فرنسة، ويعين في الوقت نفسه أمير إقطاعي آخر من قبل ملك أرغونة، وتقع معارك بحرية على السواحل وتبنى حصون هنالك، ويملك بنك سان جورج شمال الجزيرة مواجها لجنوة، ويصل دوكات آل سفورزا من ميلان، ويقهر مرتزقة البنك كتائب سفورزا بعد معارك طويلة ويعلن كونتات جدد من ذوي الألقاب الضخمة أنهم سادة الجزيرة.
ولم يسطع القورسقيون أن يقاتلوا هؤلاء الفاتحين بغير العصابات والاغتيالات وبما لا حد له من التقتيل، وكانت قسوة بنك جنوة ومرتزقته أسوأ ما يعانيه أهل قورسقة، وقد أوجبوا في داخل الجزيرة، عن انتقام، حالا من الفوضى لم تنقطع كما أن المنازعات الخارجية لم تنته. وقد قاتل الفرنسيون والترك المتحالفون ما في الجزيرة من ألمان وإسبان مدة ثلاث سنين، ولا يستطيع أحد أن يقول أي الفريقين كان القورسقيون يؤيدون. ويرى قسيس إيطالي درس الأحوال التي كانت تسود الجزيرة في عهد حكومة جديدة قائمة بجنوة، أن أعمال الثأر أسفرت عن قتل أكثر من ألف نفس في كل سنة من دور دام عشرين عاما.
وقد حاول مغامر ألماني اسمه البارون ثيودورفون نوهوف أن يستغل إحدى الفتن الكثيرة التي اشتعلت في قورسقة ضد جنوة، ويسير على غرار «جوابي الآفاق» من الألمان المعاصرين فينقل رجالا وأسلحة إلى الجزيرة بالتدريج «تحريرا» للقورسقيين الذين وعدهم بمساعدة أوروبة، ويطالب بسيادة الجزيرة ثمنا لذلك، ويقبل الفلاحون والصيادون والمقاتلون المحتاجون إلى البنادق والقذائف اقتراحه ويتوج البارون ملكا لقورسقة باسم ثيودور الأول كما يقع في المسارح، ويلبس حين تتويجه معطفا أحمر وسراويل تركية وعمرة إسبانية ذات ريش، وتمضي بضعة أشهر فيرى من الحذر أن يغادر الجزيرة، ويعود إليها بمساعدة الإنكليز ليتوارى نهائيا مع القضاء على كل نفوذ ألماني في الجزيرة.
ويبرز في أثناء المنازعات الدائمة، التي ملأت الدور القادم مدة ثلاثين سنة، رجال ممتازون من أبناء الأسر القديمة، ولا سيما بسكالي دي باولي المشهورون، وما كان يغلي في النفوس من غل ضد جنوة أعظم مما ضد فرنسة. ومع ذلك كان أعظم نبأ لدى هؤلاء الجزريين ما علموه في سنة 1768 من بيع تجار جنوة جزيرتهم من الفرنسيين، وقد دامت مقاومة قورسقة بقيادة باولي سنة واحدة، وكان الرجل الذي يلقى منه أشد تأييد في المجلس محاميا ونائبا يدعى كارلو بونابارت، وقد قضي على المقاومة في صيف سنة 1769، ودخل الفرنسيون جزيرة قورسقة. وقد وضعت زوج بونابارت ابنها الثاني في تلك الأسابيع، وقيد أبوه اسمه في السجل الفرنسي حاقدا في قلبه، ولا يزال السجل معروضا في منزله حتى اليوم، ويسمى الوليد نابليون عند عماده؛ أي يطلق عليه هذا الاسم الذي كان منتشرا في الجزيرة بعض الانتشار.
11
من أعظم غرائب التاريخ أن يجهل أشهر ابن للبحر المتوسط فن الملاحة جهلا تاما، ومع أنه نشأ على الشاطئ ابنا صميميا لقورسقة ولى وجهه قبل اليابسة حيث كان يقوم منزل أبيه القائم على مكان صغير بعيد من الميناء ثلاث دقائق، ويواجه هذا البيت الجبل، ويولي البحر ظهره. ولو رجعت بصرك إلى تاريخ قورسقة الحافل بالمعارك، لوجدت أبطالا من جميع الأنواع، ولوجدت روائع دفاع في غابات الجبال الكثيفة، ولكن من غير أن ترى ملاحا كبيرا واحدا.
أجل، كان يوجد في القرون القديمة؛ أي في عهد الأغارقة والفنيقيين، أمراء بحر أيضا، غير أن قيصر، الذي ولد بعيد انتصار وطنه على قرطاجة فصار هذا الوطن سيدا مسيطرا على البحر المتوسط، لم يصر أميرا بحريا كبيرا قط. وكان أمر أغسطس أقل من هذا، وقل مثل هذا عن الإسكندر الذي لم يغد بطل البحر مع قربه من البحر المتوسط، وقل مثل هذا عن جميع أباطرة بزنطة وعن جميع قوادهم المشهورين، ولم يكن الترك ولا الإسبان ماهرين في الملاحة، ولم يكن محمد الثاني وسليمان وفرديناند وحفيده شارلكن عارفين بالملاحة مع ما نالوه من انتصارات كثيرة، ويعد أغريبا ودون جوان النمسوي وأندره دوريا من الشواذ.
وأقل من ذلك وصف الغرباء الذين سيطروا على البحر المتوسط بالأبطال البحريين، وكيف كان يمكن العرب في صحرائهم والوندال والقوط في غاباتهم الابتدائية أن يتعلموا الملاحة؟ وقد وصل النورمان وحدهم من بحر آخر، وقد نالوا من النجاح ما ناله بعدهم شعبا البحر: الإنكليز والهولنديون، غير أن هؤلاء الأبطال لم يولدوا على شواطئ البحر المتوسط. وقد أنجب هذا البحر بقواد عظام وأنتج مثال الزعامة وأوجب ظهور علماء هيئة وملاحين فضلاء رادوا ساحلهم الخاص وسواحل البلدان الأجنبية، غير أنه ترك المعارك البحرية الحقيقية للقراصين، وقد فاز هؤلاء في معارك صغيرة ما عادت المعارك الكبيرة التي تشترك فيها أساطيل بأجمعها غير موجودة.
إذن، واصل نابليون الجاهل أمور الملاحة تقاليد أبطال البحر المتوسط وتقاليد وطنه الصغير قورسقة، ومن الرزايا أن ساورته خطط شاملة لا تحقق إلا على البحر، ولا سيما البحر المتوسط، ومن الواقع أن كان يشعر بحب لهذا البحر الذي كان مثل مرضع له فلا يقابله هذا البحر بمثل حبه، وكان البحر المتوسط يتعهد رؤى فتوحه على حين كان في مكافحته إنكلترة لا يرى أمامه غير قناة ضيقة تحول دون تحقيق خططه. وكان أسلافه الرومان قد نقلوا فنهم الحربي البري إلى البحر فاخترعوا ما بين الظهرين؛ أي ما يمكنهم أن يبلغوا به مركب العدو فيحاربوه كما لو كانوا على أرض متحركة، وذلك بأسلحة جربوها على اليابسة. وكان النصر يكتب لنابليون في البر دوما تقريبا، ولم ينصر نابليون في البحر قط، ولم يتوان نابليون في توجيه خططه الجامعة نحو البحر المتوسط في أروع أدوار عمله؛ أي حينما كان جنرالا وقنصلا، وهنالك كان يحلم بإحياء الإمبراطورية الرومانية بعد أن أخضع إيطالية وإسبانية ومصر، وهذا هو دوره القيصري، وقد أراد أن ينال الهند في أثناء احتلاله الإسكندرية لأنها إنكليزية فقط، ولكن مع معرفته أنه لا يستطيع الوصول إليها إلا بالبحر المتوسط، وفي هذا سر ما أراده من السيطرة على هذا البحر، وقد قضى ما يمكن تسميته بالدور الكارولنجيني بين سنة 1803 وسنة 1810، حين عاد يكون رجل القارة منظما أمر تتويجه وفق طراز القرون الوسطى، فصرح لنجي في ساعة نصف جنون من نهار ب «إنني شارلمان!»
وكانت جميع نماذج الماضي تبعث في نفس نابليون، وكان باولي أول من اكتشف صفات نابليون العظيمة مع أن نابليون كان في الخامسة عشرة من سنيه، فقال له: «وأنت من رجال بلوتارك!» ومن الطبيعي أن يلائم نابليون الواقعي أحوال حياته اليومية، ومع ذلك كانت تحلق أحلام بالمجد الشامل وبالتاريخ فوق حوادث حياته العادية وفيما وراءها، ولو لم يحلم نابليون بأسلافه العظماء ولو لم يقرأ نابليون كتاب بلوتارك ما أمكن تفسير عمله. ولما جلب الجنرال بونابارت جيوشا ومبادئ ثورية إلى إيطالية استقبله الشعب كمنقذ له من النير النمسوي، وقد رحبت جميع أوروبة، وإسبانية أيضا، بالمبادئ الجديدة العظيمة مسرورة. وقد ظلت روسية التي كان يسودها نظام استبدادي وإنكلترة التي كان يسودها نظام حر وحدهما خارج هذه الحركة، ظل القيصر خارجها لأن اعتناق مثل هذه المبادئ يؤدي إلى ضياع عرشه، وظلت إنكلترة خارجها؛ لأنها كانت أكثر اكتراثا لإمبراطوريتها مما لحرية أوروبة. ومع ذلك فإن عداوة إنكلترة لفرنسة الجديدة بدأت قبل بونابارت، وقد دخل أسطول بريطاني ميناء طولون سنة 1793 تلبية لطلب السكان الذين دعوا الإنكليز لمساعدتهم ضد اليعاقبة كما صنع بعض الروس ضد البلاشفة حوالي سنة 1920، ويوفق بونابارت لطرد الإنكليز، ولم يعتم الإنكليز أن أضاعوا قورسقة التي كانوا قد احتلوها.
وسقطت إيطالية بين أيدي الفرنسيين بسهولة بعد أن قهر نابليون النمسويين فيها، والواقع أن إيطالية كانت في القرن الثامن عشر منهوكة أكثر من فرنسة الملكية السابقة، ويدع البابا دوله الدينية قبضة الفرنسيين بلا مقاومة تقريبا، ولا يحول دون قيام جمهورية في رومة بعد انقطاع ثمانية عشر قرنا خلا بضع فواصل. ويعتزل الأريستوقراطيون الذين حكموا في البندقية مدة ثمانية قرون من غير رفع عقيرة، ويبدي الشعب من الأسف على تواريهم ما هو أقل كثيرا من أسفه على الحصن البرونزية الأربعة التي صنعها ليزيب فسرقتها بزنطة من الإغريق ثم جاء بونابارت فأخذها من البندقية.
ومع ذلك جلب نابليون إلى الطلاينة مقابلة ما قامت به الثورة الفرنسية من المثل العليا الجديدة، ولم يلاحظ الناس في البداءة أنه لم يكن في الأمر غير تغيير سيد. وتصبح جنوة ولنباردية وجميع الولايات جمهوريات بلا مقاومة تقريبا مع أسماء وشعائر رومانية، ويلزم ملوك بيمون ونابل وهابسبرغيو توسكانة بالتنزل عن العروش، والبوربون وحدهم هم الذين استطاعوا حفظ مناصبهم في صقلية بفضل تأييد إنكلترة، وتغدو إيطالية كتلة جمهوريات بسرعة البرق. والواقع أن جميع ذلك لم يكن لدى الفاتح الشاب غير جسور على البحر المتوسط ما كتب يقول لحكومة الديركتوار في ذلك الحين إن كورفو وزانتة وسفالونية أثمن من جميع إيطالية ومن مالطة الموصوفة ب «مستودع أوروبة».
وكانت خطط نابليون في البحر المتوسط موجهة ضد إنكلترة القابضة على الهند كأثمن ممتلكة لها بعد ضياع أمريكة، ويلوح أن نابليون أدرك منذ البداءة تعذر الاستيلاء على بريطانية العظمى فحول خططه شطر الهند، وكان مثل هذه الخطة يظهر أشد وهما في سنة 1800 مما في أيامنا التي تقلل قناة السويس والطائرات جميع المسافات فيها، وتجلو البحرية البريطانية عن البحر المتوسط لتحاصر الإسبان في قادس، ويعتقد نابليون حلول الوقت الملائم فيبحر إلى مصر.
ويقول نابليون لأحد خلصائه إنه عازم على قضاء ستة أشهر أو ست سنين في مصر تبعا لاحتياج فرنسة أو الشرق إليه، ولم يكن نابليون ليعرف، بعد أن غادر أسطوله المؤلف من أربعمائة سفينة شراعية خليج طولون وابتعد عن الشاطئ، محاولة ثلاثة من ربابنة البريطان اكتشاف العدو الذي يظن اتجاهه نحو صقلية بمناظيرهم. ومن المحتمل أن تكون الزوبعة التي حملته على تأجيل سفره يوما واحدا قد أنقذته من نلسن الذي قال مغاضبا: «في هذا الشيطان عرق من الشيطان!» ويقضي بونابارت أسابيع مسيره الأربعة في سريره غالبا لعدم احتماله البحر دالا بذلك على درجة بعده من العنصر البحري.
ولم يقطع البحر المتوسط من قبل أسطول مثل هذا قط، فقد كان يشتمل على جامعة عائمة حقيقية فضلا عن ألفي مدفع، وقد كان القائد يراعي ويذاكر 175 عالما مزودين بمئات الكتب والأجهزة ملقبين ب «الحمير» من قبل الملاحين، وقد كان القائد يفضل بلوتارك أو معارك الإسكندر عندما يحمل على القراءة، وكان القرآن والتوراة يبدوان بين «الكتب السياسية.» ومما كان يحدث أحيانا أن يعقد للأكاديمية اجتماعات في السفينة فيحمل اثنين من الخصوم على المناظرة حول موضوع منتخب، ومع ذلك كان يرى أن هذا الجهاز العلمي خادم لمجده على غرار الإسكندر.
وقد عالجنا موضوع حملة نابليون المصرية في كتاب آخر، وقد كانت هذه الحملة في مجموعها أثر هوس شاب ألمعي موفق في مشاريعه، جهزته حكومة الديركتوار بما هو ضروري من الوسائل تخلصا منه.
وكان نلسن الإنكليزي أقوى منه بحرا، وكان بونابارت يعتمد على ضباطه البحريين في توجيه المعركة عندما هاجم نلسن الأسطول الفرنسي في خليج أبي قير بالقرب من مصب النيل. وكان القائد الفتي بونابارت قد قاد ستين معركة في البر من خيمته تارة وفي الجبهة تارة أخرى، ومما كان يقع أحيانا أن يحارب شخصيا حاملا البندقية بيده، وهو، على العكس، لم ير قط فوق سفينة في أثناء معركة، وهو إذا ما فكر في سلسلة المعارك الكثيرة التي عينت مصير الشعوب على شواطئ البحر المتوسط حار من قلة ما وقع منها في البحر. ولم يكن لمعظم المعارك البحرية غير أهمية نسبية، ومن المحتمل أن كانت نتائجها أقل أثرا من أعمال الهول التي يأتيها هؤلاء القراصين ومن تخريباتهم. ومن ينظر إلى تاريخ البحر المتوسط في ثلاثة آلاف سنة يجد فيه أربع معارك حاسمة بالحقيقة، يجد فيه أن الأغارقة قهروا الفرس في سلامين سنة 480 قبل الميلاد، وأن سفن أكتافيوس غلبت سفن أنطونيوس وكليوباترة في أكسيوم سنة 41 قبل الميلاد، وأن الحليفتين إسبانية والبندقية غلبتا الترك في ليبانتة سنة 1571، وأن نلسن غلب الجنرال بونابارت في خليج أبي قير سنة 1798، وقد وقعت هذه المعارك الأربع بين أول أغسطس وأول أكتوبر، وقد وقعت المعارك الثلاث الأولى منها على الشاطئ اليوناني قريبا بعضها من بعض، وليس لدينا غير وصف مبهم أو مشكوك فيه عن الغالبين الثلاثة الأولين: تمستوكل وأغريبا ودون جوان النمسوي، وينتسب ثلاثة من أبطال البحر المتوسط هؤلاء إلى الطبقة الوسطى، وإذا عدوت تمستوكل وجدتهم قد حاربوا مستخدمين لدى سادة أو ملوك لا يعرفون من الملاحة شيئا، ولم يصرع أي واحد منهم في تلك المعارك، وزاول الأربعة السياسة، زاولها اليوناني والروماني رئيسي دولة وزاولها الآخران ابني وطن.
وكان لهؤلاء الأربعة، ولليوناني على ما يحتمل، علاقات بنساء في الغالب حتى إنهم كانوا يوجهون من قبلهن أحيانا، وكان الأربعة منغمسين في المكايد مدى حياتهم، وكان الأربعة من ذوي النزق، وكانوا يحبون الجاه والفخر في الوقت نفسه، ويبدو أنه كان يوجد فيهم عرق شعري، وقد نالوا انتصاراتهم في شبابهم، ونلسن وحده هو الذي كان في الأربعين من عمره حين نصره العظيم، ولكن مع تمتعه بشهرة واسعة قبل ذلك، ونلسن وحده هو الذي قتل في إحدى المعارك بعد زمن، وطرد الأثنيون تمستوكل بعد نصره ببضع سنين، فمات في منفاه عند العدو الفارسي.
وإذا قابلنا بين ما لنصرهم من مدى رأينا الصدارة للإغريقي، فالروماني لم يهزم سوى روماني آخر كان يمكنه أن يقوم بشئون الحكم مثله على ما يحتمل، ولم يتم الإسباني شيئا من الناحية السياسية، وأما الإنكليزي فقد ترك عدو بلده الأزرق يفلت ولم يقض على أسطوله الحربي إلا بعد سبع سنين، وتمستوكل أعظم الأربعة، ولو من أجل إنشائه أسطولا قاده بنفسه بعد منازعات سياسية طويلة، وهذا إلى أنه الوحيد الذي نال النصر في البر.
ومن الواضح أنه لم يكن أمير بحر عظيما فقط، بل كان عبقريا كبيرا أيضا.
12
إذا ما أنعمنا النظر، بعد بلوغنا هذه المرحلة، في المراكب المعروفة بالغالير، كما تبدو لنا في نقوش القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، ظهر لنا أنها سفن زينت من أجل عيد أكثر من أن تكون سفنا حربية، وقد كانت عقفا في طرفيها على العموم، قصيرة السارية في وسطها، فتذكرنا بثياب السيدات الواسعة في عصر المرح، وقد كانت الأشرعة محدبة تحديبا مخالفا للصواب، وقد كانت تنصب خيمة فاخرة مذهبة في مؤخر المركب، وقد كان يوجد، حتى قبل سنة 1700، سفن مدفعية ذوات حمولة 1600 طن فتثير عجبنا.
وكانت السفن الشراعية الصغيرة تلوح مرفرفة راقصة كسرب الفراش، وكانت ذوات أربعة أشرعة صغيرة منضدة في مقدمها، وكان ينصب فوق هذه الشرع شراعان مربعان مختلفا الأبعاد، وكان ينصب في الوسط شراع كبير مثلث الزوايا كما ينصب في المؤخرة شراع أعظم منه، فإذا ما لعبت الريح في هذا البناء الخيالي لاح نفخ روح في جسم مرتج ودفع له إلى مصير مجهول.
ولما نال نلسن نصره العظيم بأبي قير في أغسطس سنة 1798، كان الجنرال الفرنسي منقطعا عن مسقط رأسه؛ أي خاسرا، وقد علم بونابارت في ذلك الحين أن الإنكليز استردوا مالطة التي كان قد نزعها منهم، وأنهم احتلوا جزيرة منورقة وسردينية وصقلية، وأنهم أخذوا ينالون من احترام الأمم الأخرى ما يفوق نفوذه. وبينا كان بونابارت يحتفل في القاهرة بعيده الثلاثيني أبصر أنه مهدد بحلف عظيم بين الدول الكبرى جامع للترك والروس أيضا، وهنالك يلعب بالجميع من أجل الجميع، ويكتب إلى أخيه في ساعة قنوط، بأسلوب فرتر العاطفي المرضي الذي لا يرضيه، فيقول: «لقد استنفدت كل شيء.»
ويذهب إلى سورية في هذه الأحوال الصعبة، وتقفه قوات الإنكليز في عكا، ولم يسترد نفوذه إلا باقتحامه جيشا إنكليزيا تركيا فوق أرض مصر وسحقه، ولما ترك جيشه سرا بعد قليل كان يبصر هلاك هذا الجيش، ويا لها من عودة قاتمة! ويا للمركبين الصغيرين (لا المراكب الأربعمائة التي حضر بها) المطفأين ليمرا من بين الأسطول الإنكليزي في أسابيع سبعة حتى وصوله إلى فريجوس! لو وجد أناس في مثل وضعه رجعوا فارين إلى بلدهم لرفع أمرهم إلى محكمة ولأعدموا رميا بالرصاص، ومع ذلك كان بونابارت بخيتا، فقد كان النصر حليف أعداء فرنسة في ذلك الحين فاستردوا نصف إيطالية؛ ولذا كان بلده محتاجا إلى القائد الوحيد الذي نال انتصارات في البر حتى ذلك الحين؛ ولذا يتقبل بونابارت بقبول حسن ويرضى به طاغية، ويقوم بونابارت بانقلابه في نوفمبر سنة 1799 كما لو كان يريد إغلاق دور الثورة الفرنسية رمزيا مع عصر التفريط، وهو قد صنع ذلك في أضعف أدوار حياته، وذلك عن شعور بأنه أسمى من منافسيه فقط، ويسترد بعد بضعة أشهر جميع سابق خسره بانتصاره في مارنغو وطرده من إيطالية أولئك الإنكليز الذين لم يسطع أن يغلبهم بحرا.
ولما تملك بونابارت، بمعاهدة أميان في سنة 1802، أملاكا وبلادا يضمن بها انتصاراته أغضى مضطرا عن عودة مصر إلى تركية عادا من حظه عدم غدوها إنكليزية، وقد أصيب آنئذ بهزيمة أدبية في البحر المتوسط كانت وحيدة بين أعماله، وذلك أنه أراد سلامة التجارة الفرنسية فعقد معاهدات مع قراصين تونس والجزائر كما صنع غيره قبله معطيا إياهم جزية حقيقية، وكان هؤلاء القراصين هم السلطة الوحيدة التي برطلها نابليون نيلا لرعايتها، وكانت هذه هي هزيمته الوحيدة حتى موسقو؛ أي في أربع عشرة سنة، وتثبت هذه الهزيمة مرة أخرى كونه لم يخلق ليحارب بحرا.
حتى إن الأسطول الجديد الذي أنشأه على عجل لم يكن من الطراز الأول، وقد كان لواؤه معقودا لأمراء بحر كانوا قد قاموا بخدمهم أيام الملك؛ وذلك لأن بونابرت لم يكن أهلا لقيادة الحركات البحرية بنفسه وتقرير أمرها. وقد اشتعلت الحرب الكبرى الثانية نتيجة لصراع جديد في البحر المتوسط، وذلك لأن الإنكليز كانوا يريدون الاحتفاظ بمالطة من غير أن يعيدوها إلى فرسان مار يوحنا، وقد قال نابليون لسفير إنكلترة: «أفضل أن أراكم في مونمارتر على أن أراكم في مالطة، فهذه الجزيرة هي حجر زاوية البحر المتوسط.» ومن ثم ترى أن المراكز المفتاحية كانت راسخة في روحه رسوخها في روح كرومويل قبل زمن، ويظل عاجزا تجاه إنكلترة مع ذلك، وما صدر عنه من تصاريح في أثناء رحلته التفتيشية ببولوني، حيث رأى المراكب المعدة للغزو، يدلنا على رجل هابط غير مؤمن بفوزه الخاص. وما تم لنلسن من نصر في الطرف الأغر قضى إلى الأبد على خطط نابليون حول نزوله إلى إنكلترة كما قضي على خططه حول البحر المتوسط، وعلى العكس من نابليون قام نلسن بأمور القيادة بنفسه في الطرف الأغر كما في أبي قير، وقد صرع نلسن في أثناء المعركة، وقد امتقع الإمبراطور بباريس عندما علم نبأ غلبه.
فأما وقد درس المؤرخون هذه المعركة في أكثر من قرن لا نرى ذلك النصر في ذلك اليوم من أكتوبر مدينا للحظ، بل مدين للتقاليد وللقدرة البالغة والقيادة اللامعة، وتدوم المعركة خمس ساعات فيقضى على البحرية الحربية الفرنسية، ويقبض الإنكليز على سبع عشرة سفينة من ثلاث وثلاثين سفينة، وتثبت هذه المعركة مرة أخرى عدم سلطان نابليون على البحر. والواقع أن أمير بحر كان يجب تبديله في آخر دقيقة لم ينتظر ساعة زوال حظوته فغادر مرفأ قادس من تلقاء نفسه؛ أي أتى عملا كان لا يقدم عليه قائد في البر. ولم تصدر الكلمة المشهورة التي بقيت لنا حول هذه المعركة عن نلسن كما نعرفها، وذلك أن نلسن كان معتقدا ما ينطوي عليه اسمه من فتون فكتب يقول: «يثق نلسن بأن كل واحد سيصنع ما هو واجب عليه»، ويسأله أحد ضباطه عن كون الأفضل أن يقول «إنكلترة» بدلا من «نلسن». وكان يصعب نقل كلمة «يثق» بالإشارات البصرية الشرطية فعدل الأمر اليومي المشهور هكذا: «تأمل إنكلترة من كل واحد أن يصنع ما هو واجب عليه.» وبما أن نلسن خر في هذه المعركة رئي من الطبيعي أن يجعل منه بطل قومي، وقد بلغ أهل لندن من رفعه عاليا عن احترام ما صار من المتعذر معه أن يعرف وجهه فوق العمود بميدان الطرف الأغر.
وتمضي ستة أسابيع على هزيمة نابليون في البحر فيجيب عنها في أسترلتز، فهنالك كان في عنصره الخاص، ويوفق نابليون في البر توفيقا كان يتعذر عليه نيل مثله في البحر بعد ضياع أسطوله، ويستولي على الساحل الأدرياتي وينزعه كله من النمسة تقريبا، ويجعل من أعضاء أسرته ملوكا في إيطالية. ومع ذلك فإن هذا الرجل الذي هو أقوى رجال عصره لم يسطع أن يمنع الأسطول الروسي من مجاوزة الدردنيل ومن الظهور أمام جزائر اليونان، كما أنه لم يسطع أن يحول دون ظهور الأسطول البريطاني أمام الآستانة في سنة 1807 مكرها السلطان على الإذعان تقريبا، ولم ينقذ السلطان إلا بتردد أمير بحر لم يكن عنده لاسلكي بعد فيتلقى به أوامر من لندن.
13
وفي ذلك الزمن؛ أي في سنة 1806، يحتل الإنكليز في البحر المتوسط، عن أسباب كتلك، جزيرة صغيرة كانت مرغوبا فيها منذ القرون القديمة لجمالها أكثر مما لموقعها الحربي. وإذا ما نظر من نابل إلى كابري، التي تبدو وعرة غير مقراة، أسفرت عن مفاجأة شعرية من جهة الجنوب حيث يكون للأزهار من الروعة ما يرى عادة في أعالي جبال الألب أيام الصيف، وينمو عوسج أزرق ذو أغصان دقيقة في المكان الذي تقي الصخور المتمزقة فيه متموج الأودية من الرياح البحرية، وتنشر أزهاره التي لها حجم الليلك حرارة نورها الضارب إلى زرقة، فيلوح أن لون البحر المتوسط علا وجهها، وتنتظم المعرشات واليتوعات، كشلالات، على طول المنحدر بين الحجارة الخضر النيرة، ويبلغ العبيثران والبربريس
11
من الاتساع ما هو غير معروف في مكان آخر، ويبلغ الآس من الارتفاع ما يعدل قامة الإنسان وتنبعث من أزهاره البيض رائحة طيبة لاذعة في آن واحد كما لو كانت تود تبليغ رسالة إلى جميع العرائس، ويستر السفوح المشمسة أنواع عظيمة من حي العالم ذي الأزهار الصفر والخبازية المنجمة المشذبة على شكل اليد، وتتفتح الشهب والرتم والأريقي تحت ضياء الشمس بغزارة النبات الاستوائي وبأشد من العرعر الذي يلبد بالصخر لكيلا يكسره ريح البحر، وتزدهر في المكان بين المكان شقائق نعمان أرجوانية ناعمة مظللة بأغصان الشمار البري المبرومة أو بالزنبق المسرجي الوردي الرائع المشتد.
وتعين كهوف الجزيرة بألوانها، فيقال: الكهف الأزرق والكهف الأخضر والكهف الأحمر والكهف الأبيض، ويد الخبير وحدها هي القادرة على إمرار القارب من الممر الضيق حين تقلص الأمواج، والمتمرنون وحدهم هم الذين يعرفون أن يدوروا حول الصخر والمهالك والجنادل في هذه الأغوار المملوءة ماء.
والأجدر أن تسمى «مغاور قوس قزح»؛ لأنها مرآة جميع ألوان الطيف الموشوري الذي لا ينال في غير المختبر عادة، وتسطع الأزهار على الصخر في الأعلى بنور الألوان الألبية التي تنحرف تحت هذه الصخر في الأدنى، ويلمع نور سحري في أعماق المياه بهذا المكان كأنه بعيد من الشمس، ويصهر جميع ذلك في ضياء الحجر المعروف بعين الهر فيهدئ عين من يجرؤ على دخول هذه الهوي الخفية خارقا حرمتها.
نعم، غادر الأسطول الإنكليزي كابري بعد عامي احتلال، غير أن شعراء الإنكليز وعشاقهم يقصدونها دوما لما يسعدهم من وجود قاعدة فيها لخيالهم، لا للمدافع، وقد صار نابليون سيد جميع أوروبة تقريبا حينا من الزمن، خلا البحر المتوسط، وما انفك حصاره إنكلترة يخرق من ناحية الجزر وجبل طارق، وما كان يساوره من فكرة قهر إنكلترة في الهند، ما عجز عن قهرها في عقر دارها، واثبه بأشد مما في الماضي، فما أشبه خططه بخطط الفاتحين سنة 1940! وما كان يعد من جهاز حربي خارق للعادة يرافق جيش نابليون من دلماسية حتى الفرات وصفه بالوهمي في منفاه بعد حين. وكان لا بد من تحويل ذلك إلى حقيقة في ذلك العهد على الخصوص، والثورة الإسبانية وزيادة توتر العلاقات بالقيصر وحدهما هما اللتان تلاشت بهما خططه، وتوالت انتصاراته، وأكرهت النمسة على التنزل عن آخر ما تملك على البحر بمعاهدة صلح جديدة، وأمكن فرنسة أن تشعر بأنها سيدة البحر الأدرياتي، ومع ذلك فقد غلب أسطول نابليون مجددا بالقرب من ليسا، وذلك من قبل النمسويين في هذه المرة، من قبل النمسويين الذين كانوا من دول البحر المتوسط منذ زمن قصير مع نجاح أقل من نجاح الفرنسيين. وقد عقد الإنكليز في الوقت نفسه ألبق معاهداتهم مع الترك متنزلين لهم عن جميع الأمور في مقابل وعدهم بإغلاق المضايق لمدة قرن، وهكذا يكون الروس قد أخرجوا من البحر المتوسط بعد مجازفتين فيه.
ولما سقط ابن البحر المتوسط ووجد في جزيرته الروائية إلبا، عرضت عليه بعثات وطنية سرية إيطالية تاج إيطالية موحدة، وذلك لما كان يخامر الناس في إيطالية من كون هذا الفرنسي إيطالي الأصل وكون هذا الإمبراطور ثوريا، وقد أخطئوا في كلا الأمرين؛ وذلك لأنه كان قد نسي أصله الإيطالي منذ زمن طويل كما نسي ثوريته في أوائل عمره؛ ولأنه كان ينظر إلى باريس مفتونا.
ولما حاول مؤتمر فينة أن يبعث الماضي بدلا من التجديد، بدا أبطال الحلف المقدس نصارى بالغي التقوى فأخرجوا تركية من المفاوضات بسبب دينها، كما أخرجوا الصرب واليونان لرغبتهما في الحرية. وقد نالت إنكلترة جزائر اليونان ومالطة فسيطرت على البحر المتوسط بأسره بما لها من قواعد. وقد بسط آل هابسبرغ سلطانهم على نصف إيطالية، ولكنهم كانوا من الغفلة ما سلموا معه زمام أسطولهم إلى البندقيين الذين صاروا من رعايا النمسة، وقد عاد الملوك إلى كل مكان، عادوا إلى بيمون وإلى نابل ، وقد جهلت أماني الشعوب في كل مكان.
وقد أبقي على القراصين مع الملوك أيضا، وما كان أحد في أوروبة ليجرؤ على مس هؤلاء المغامرين الأفريقيين. والأمريكيون وحدهم هم الذين رأوا أن يطاردوهم بأسطولهم الفتي ليعفوا من الجزية المخزية.
14
كان لدخول الولايات المتحدة في البحر المتوسط نتائج مهمة، وأمريكة هي التي ظهرت في البحر المتوسط بعد ثلاثمائة سنة من إبحار ابن البحر المتوسط كريستوف كولونبس إلى السواحل الأمريكية. أجل، إن جميع هؤلاء الأمريكيين كانوا من أصل إنكليزي تقريبا، غير أن أنهم أتوا بأفكار ومقاصد تختلف عما لدى أجدادهم وأبناء أعمامهم، حتى إن من الممكن أن يقال إن المشاعر اللاإنكليزية كانت مفتاح نجاحهم. وقد قال بنيامين فرانكلن محتدما حول موضوع القراصين: «لو لم توجد الجزائر لأوجدها الإنكليز»، وقد صرح اللورد شفلد أمام مجلس اللوردات بلندن في ذلك الزمن تقريبا ب «أنه ليس من مصالح الدول العظمى أن تحمي الأمريكيين.»
وكان على الولايات المتحدة أن تدفع جزية إلى القراصين في سني وجودها الأولى، وكان بعد المسافات يجعل تنظيم قوافل بحرية في ذلك الزمن أمرا متعذرا. وكانت تجارة الولايات المتحدة المهمة مع الشرق قد حملتها على عقد معاهدات مع الجزائر ومراكش في سنة 1785 وسنة 1787، فكان القراصين يقبضون على سفنها مع وجود هذه المعاهدات. ومن العبث أن حاول جفرسن تنظيم هجوم مشترك بين الدول البحرية، فاضطرت الولايات المتحدة أن تشتري في كل سنة حماية دول القراصين الأفريقية مؤدية 21000 دولار اعتمادا لقنصل و20000 دولار و8000 دولار للهدايا، مسلمة بارجة تامة العدة بلغ الداي من الإعجاب بها ما أوصى معه في الحال ببارجتين أخريين دفع ثمنهما على ما يحتمل، وذلك إلى نصف مليون دولار أدي فدية عن أمريكيين اختطفهم القراصين فضلا عن الجزية السنوية.
وظل ما عبر عنه من غيظ في كثير من الوثائق الأوروبية منذ سنة 1800 قاصرا عن العمل مدة عشرين عاما، فقد كانت إنكلترة محتاجة إلى القراصين حصارا لنابليون، وكانت إنكلترة قد حملت البرتغال على مفاوضتهم سابقا، وهكذا استطاع القراصين أن يبلغوا المحيط الأطلنطي ويساعدوا على قطع الميرة عن فرنسة، وهكذا كان الأوروبيون متباغضين كما في الماضي على حين كانوا لا يبغضون القراصين، وهكذا لم تسطع أمريكة نفسها أن تصنع شيئا في هذا الصراع بين هذه الناحية الصغيرة الأفريقية وأوروبة بأسرها. وكانت معاهدات الدول العظمى مع القراصين من العار ما لم تجرؤ معه أية واحدة منها أن تعلنها، وهي لم يعرف أمرها إلا في أيامنا، وكان ينطوي ما يدعى «هدايا» على ساعات دقاقة وحلي ومشروبات وثمرات وحلاوى، لا على آلات طرب وقلائد من خرز، وأرسل البندقيون سندسا
12
ثمينا ذات مرة فرفضه الداي مطالبا بعدد حربية بدلا منه، وقدمت فرنسة توابع مدفعية وأرسلت مهندسين متخصصين في صب المدافع، وتوانى الإسوجيون في إعطاء الجزية في الوقت المعين فقبض القراصين على سبع من سفنهم مملوءة سلعا ثمينة وطالبوا بفوائد عن تأخير دفع الجزية المتفق عليها.
وكانت شئون القراصين لا تسير عن فوضى شرقية، فقد كان يوجد في الجزائر وزير خاص لإدارة أمور الهدايا ونتاج الغارات، ويشابه سجل ذلك الزمن العربي المشتمل على أمور خمس وستين سنة سجلا لجباية الضرائب أو سجلا للرهان، ويبين هذا السجل كيف كان جميع من ساعدوا في أثناء الغارة وبعدها ينالون حصصهم من الغنيمة سائرا من الوزير حتى المستخدم القيم على الموازين غير غافل عن الشيخ الذي دعا من أجل نجاح المشروع ولا عن الوكيل المثمن في سوق النخاسة. وكان بيع السلع بالمزايدات يتأثر من نقل السفن أوساقا متجانسة لما يؤدي إليه هذا من هبوط ثمن الصوف الإنكليزي والجوارب الحريرية والآنية الصينية هبوطا مرنحا في الجزائر.
وكان الأمريكيون أول من أحدث ثغرة في كيان القراصين، وكانوا يأبون، بذوقهم الناشئ البسيط السليم، أن تفصل طريق بحرية ضيقة عالما تسوده حقوق الإنسان عن عالم آخر كان الناس يباعون في أسواقه.
وكانت فاتحة أعمالهم في البحر المتوسط حملة موفقة، وكان قائد البارجة «جورج وشنغتن»، الربان بنبردج، مفوضا إليه تسليم الجزية، وكان بنبردج هذا مرسلا ليفاوض السلطان بالآستانة في ذلك الحين، وكان من الانتباه الكافي ما أبداه حيال دخول وزير البحرية الجزائرية ونسائه وأولاده وحاشيته الكثيرين إلى مركبه، ويضطر المركب إلى الوقوف عند مدخل المضايق، ولا يؤذن للأمريكي في المرور من غير أن يفتش مركبه الذي وجهت إليه مدافع الترك، ويخفض الأمريكي الأشرعة ويحيي بطلقات مكررة ويرد الترك التحية ويتكون دخان كثيف، وينكشف الدخان، ويكون الأجنبي قد مر، ويستقبله السلطان وديا، ولكن مع أمره بضرب رقبة القائد التركي الذي تركه يمر، ويوفق بنبردج لمنع هذا الإعدام.
ولم تكن تلك غير مقدمة، فلما اضطر الأمريكيون إلى دفع مليون دولار فدية عن أسراهم، وكان هذا المبلغ كثيرا على الشعب الناشئ، قرر أهل تلك القارة البعيدة أن يجازفوا بما لم تجرؤ على محاولته أمم أوروبة فأرسلوا أمير البحر دكيتر مع أسطول حامل علما إنكليزيا، ويقفه مركب حميدون الشهير، ويرفع الراية الأمريكية هنالك، ويطلق القذائف من مسافة 1500 قدم، ويجرح الربان الجزائري ويداوم على توجيه الحركات ضاجعا حتى قضت عليه قذيفة، ويؤسر أربعمائة من القراصين، ويضطر الداي إلى تبديل جميع المراكب وإطلاق جميع الأسارى بلا فدية، وتدهش أوروبة ما دام هذا أول انتصار على القراصنة تم منذ ثلاثمائة سنة، وتقع حوادث أخرى فيترضى أمير البحر الأمريكي شو عن تهديد بضرب قنابل جديدة.
ويصعب القبض على سواحل مراكش والجزائر الطويلة حتى في أيامنا، وكان نابليون قد أنبأ «أن الإنكليز سيلاقون سوءا بتقدمهم خطوة في هذا المكان.» غير أن اللورد إكسماوث حصل في ذلك الحين على خرائط دقيقة عن حصون هذه السواحل وغامر فيها بخمسة مراكب من الأسطول البريطاني، وتقع مفاوضات في الميناء، وتبلغ شروط ويرفض القائد إياها بعد تبادل الإشارات بالرايات، ويضرب بالمدافع ضربا مريعا، وتقتل الألوف في مدة قصيرة، ويجرح الداي ويغتال من قبل مؤتمرين. ومع ذلك لم يكن هذا غير فوز جزئي، فما انفكت الدول الصغيرة تؤدي الجزاء
13
حتى سنة 1844، وتمر ثمانية أعوام على هذا النصر فيوفق داي جديد لقهر أمير البحر البريطاني نيل، واسمع جواب القرصان حينما هدده هذا الأخير بأسطوله القوي: «كان نمرود أقوى الناس فلم تحل قوته دون موته بقرصة ذبابة .»
ويسقط هذا الداي نفسه بمذبة
14
بعد حين.
كان على ملك فرنسة أن يدفع بدل البر الذي مون به أسلاف الداي جمهورية فرنسة الناشئة، وحدث جدال طويل حول هذا الموضوع، فلما كانت سنة 1827 وحل عيد الفطر ذهب قنصل فرنسة إلى البلاط للتهنئة على حسب العادة، ويستقبله الداي متهما إياه بالائتمار به، ويدافع القنصل عن نفسه، ويكون الداي الشائب قاعدا على متكئه وفق الطريقة التركية، ويضرب القنصل بمذبة على وجهه، ويكون لفرنسة ذريعة للتدخل نتيجة لهذا الحادث، ويصل أسطول مهم، ويحاصر الجزائر مدة ثلاث سنين، وتبلغ الخسارة من الضخامة ما يرى الداي معه أن يخفض مكافأة مائة الدولار عن كل رأس فرنسي إلى عشرة دولارات ثم إلى تنويه.
وتحتل الجزائر سنة 1830، فيكون لهذا النصر بالغ الأثر في النفوس. وكان للقراصين من النفوذ الروائي ما فتنت به الشبيبة والآداب الغربية فلا يكون لزواله غير وقع عظيم في الناس، وهنا يذكر بعض القصص حول نبل قطاع السبل، فيروى، مثلا، أن القراصين المراكشيين داروا البرتغال لما كان من حسن ضيافة هذا البلد تجاه قريبة للسلطان بعد غرق سفينتها، وأن من يحارب من أجل القراصين فيجرح في المعارك يأخذ حصة من الغنيمة كافية لعيشه في بقية عمره، وأن ضباطا من الفرنسيين وجدوا في مدفعية غنمت من القراصين كتابا لكورناي بجانب كتاب فرنسي عن المدفعية.
ومن المحتمل أن كان ذلك النفوذ الروائي سبب نجاة الداي من التهلكة فضلا عن السماح له بالذهاب إلى نابل مع مبلغ ضخم من المال ومع اثنتين وخمسين امرأة، ثم انتقل إلى باريس هادئ البال ليفرنج حريمه، ويسقط آخر آل البوربون الذي فتحت الجزائر في عهده بعد زمن قليل ويطرد، ويموت كل من هذين الملكين المنتسبين إلى عرقين مختلفين والمتباينين طباعا في المنفى، ومع ذلك كان للص البحري الشديد شرف الدفاع عن نفسه حتى النهاية مدة ثلاث سنين على حين أصبح شارل العاشر محل سخرية.
وتظهر بفتح الجزائر دولة ثالثة كبيرة على البحر المتوسط، وتغدو فرنسة دولة بحرية استعمارية، وتصبح فرنسة الأكثر قوة بعد الترك، وتوفق فرنسة لتوطيد سلطانها على أفريقية الشمالية حوالي سنة 1845 مع تقييد إنكلترة إياها بلا انقطاع. وقد كانت هذه مدرسة قاسية للضباط والمهندسين الفرنسيين الذين تخرج أحسنهم في أفريقية بعدئذ، وقد أتى الفرنسيون بالمعجزات في مقاتلة هؤلاء الجبليين والأهلين المعادين على شواطئ خالية من الماء.
ومع ذلك فإن أمرا واحد قد حال دون تحولهم إلى أمة مستعمرة كبيرة، وذلك أن بلدهم هو من الجمال العظيم والغنى الوافر ما رغب قليل منهم في مغادرته، وألوف الأجانب، ولا سيما الطلاينة والإسبان، هم الذين أتوا ليعمروا ويزرعوا المستعمرات الجديدة، وليس من العجيب في مثل هذه الأحوال أن يكون لبلاد هؤلاء المستعمرين الأصلية مزاعم ومطالب حول الأرضين التي أعان أبناؤها على نشوئها، وبينما كان الإنكليزي ينجذب في كل وقت إلى ما وراء البحار عن ضيق جزيرته وضبابها وعن شوق إلى المغامرات، لم يندفع الفرنسي بمثل هذه العوامل ما دام غير شاعر بنقص في اتساع بلده، والحضارة الفرنسية أقدم من الحضارة الإنكليزية، ويكون هذا الشعب إذن قد بلغ أشده بسرعة بالغة، ولكن مع بقائه محافظا من غير ضنى، ولكن مع قلة ميل إلى ترك بلده ومدنه ودياره.
ويكفي خصب أرض فرنسة وحده لإمساك من يقيم بها حتى عند عدم تلك العوامل، وتجد في هذا سر سياحة الإنكليزي أكثر من جميع الأوروبيين الآخرين وسر سياحة الفرنسي أقل منهم، ولا يحاول الفرنسي، على العموم، أن يكسب في البلدان البعيدة مقتحما أخطارا باذلا جهودا مع حبه للمال، فهو يفضل أن ينال عشرة آلاف فرنك في باريس على نيل مائة ألف فرنك في تونس، وترى الفرنسي، إذا ما جمع ثروته في بلد أجنبي، مستعدا لتصفية أموره قبل أن يشيب مفضلا أن يتمتع بسنيه الأخيرة هادئا مستريحا على أن يعمل، وليس الشعب الفرنسي والشعب الإيطالي من الفتاء ما ينافسان الأمم الحديثة معه في ميدان الاستعمار.
15
لا تفنى عبقرية الشعب اليوناني، ويتضافر المنظر والتاريخ على بعث الأغارقة مجددا بعد دور طويل من الأفول، ولا تزال مئات الجزائر وشبه الجزائر كما كانت في القرون القديمة، ويبدي الشعب دوما من الخفة والمرح والحذق التجاري والخيال كما في الماضي. والواقع أنه لم يكن لدى الشعب شعراء عظماء، ولا فلاسفة عظماء، ولا أسطول مهم، ولا جيش مهم، ما دام البرابرة قد قهروا الأغارقة وعصروهم في الغالب، ومع ذلك لم يهرموا، وما اتصفوا به من فطنة تجارية ودبلمية
15
ينم على النشاط في كل زمن، ولديهم من الاستعداد الفطري ما يسيغون به مبادئ عصرنا الاجتماعية ويحولونها إلى ثورات.
ويلوح من الغريب أن تمر قرون ضغط عليهم من قبل بزنطة والترك وأن يظلوا مماثلين لأجدادهم في العصر الكلاسي مع ابتعادهم عنهم بعدة توالدات، ومع هذا كله لا تزال توجد في تسالية مثل تذكر بصور الآنية القديمة، ومع ذلك فإن سرعة الخاطر وروح الوضوح في سكان المدن اليونانية ظلتا ثابتتين، ولم يصبح مزاجهم أكثر غما مما كان عليه منذ ألفي سنة. ومن يطف في شوارع أثينة الجديدة ير أبناءها يتجمعون زمرا في وسط الطريق للبحث، كما في الماضي، في ارتشاء قاض أو في نظريات أستاذ أو في حذاء مار، حتى إن بعضهم لا يشعرون بوجود السيارات ولا يسمعونها تزمر بشدة إبعادا لهم من الطريق.
وقد اتخذت جميع شعوب البحر المتوسط المضطهدة، أو غير الموحدة، من إسبان وطلاينة وصرب أمة الأغارقة مثالا في عصيانها، فالأغارقة أول من صبا إلى الحرية وإن نالت أمم أخرى حريتها قبلهم.
وكان نابليون أول من أراد تحريرهم، غير أنه كان من شدة الانهماك في الغرب والشمال ما لم يسطع معه أن يتتبع هذه الخطة، وقد خاب أمل الأغارقة حين رأوا إنكلترة وروسية تتخليان عنهم في سنة 1800، وقد قضى سادتهم الترك بمذابح هائلة على ما أتوه من عصيان. ومع ذلك فإن ما يشتعل في هذا الشعب من حب للحرية كان يحفزه إلى تأليف جمعيات سرية ويدفعه إلى الاعتداء، فأسس القساوسة مثل هذه الجمعيات في أرغوس، وقام أشرار في جبال الإبير ورعاء في دلف، ومن ورائهم علماء وصحافيون يوجهونهم، بفتن يمكن الإنكشارية وحدهم أن يقاوموها ما لم تؤيدها دول كبيرة.
ثم كانت سنة 1820 فظهرت في فلك أوروبة السياسي نجوم قوى أو عدد من الدول الأوروبية قائل بالوحدة اليونانية مع اختلاف أسباب، ويصبح هذا شعار العصر كما نرى عما قليل. والواقع أن الحكومة الإنكليزية كانت راغبة في تأييد تركية لقرن واحد آخر وفي المحافظة على معاهدة سنة 1809 حول المضايق، ومع ذلك فإن أنباء ما يقترفه الترك من كبائر أثار كلمة «الإغريق» لدى الشعب الإنكليزي، ولا سيما مثقفوه، ويحتذي قيصر روسية، الحامي لحقوق نصارى تركية، مثال أبيه، فيطالب باستانبول أو بالمضايق على الأقل، ولا تمد فرنسة، التي كانت تعنى بشمال أفريقية، وبسورية أيضا، يد العون إلا عن حرص على عدم ترك جميع المجد لغيرها، وآل هابسبرغ الذين يمثلهم مترنيخ وحدهم هم الذين عارضوا، وفق عادتهم، كل عمل يؤدي إلى تحرير الشعوب.
بدا هذا الوضع الملائم، وكان أغارقة الخارج من الثراء والشعور ما دلوا به على مقدار مساعدتهم لإخوانهم في الجنس، وكان الفناريون في الآستانة قد أصبحوا مع الأرمن أكبر صيارفة السلطان ومالييه، وكان يوجد في الإسكندرية ومرسيلية، كما في جنوة والبندقية، وفي أوديسا وموسكو أيضا، عدد كبير من أغنياء اليونان. وكان الرجلان اللذان أدارا دفة التحرير مستخدمين لدى الروس، فأما أحدهما، واسمه كابوديسترياس وله هيئة مترنيخ إنكليزي، فقد كان وزير خارجية القيصر، وأما الآخر، واسمه إبسلانتي وقد أضاع ذراعه حين محاربة نابليون، فقد كان جنرالا روسيا، وكلا الرجلين كان أداة وصل بين أبناء دينه الأرثودوكس.
ولم تنشأ مساعدة أوروبة للأغارقة عن سبب ديني ما خلت أوروبة من إنسان يدين بالأرثودوكسية، وإنما كان هذا العون نتيجة إنسانية العصر. ومن الأغارقة أناس بباريس رسموا اللغة اليونانية الجديدة فكانوا هدف هتاف جميع العلماء، وأخذت جمعية أصدقاء العرائس الشعرية تدرس في أثينة وكورفو، وتألفت في ألمانية جمعيات لمعاونة اليونان، وخشي ملك بروسية أن يخاطر فأعان بستة آلاف دولار مغفل الاسم، وما أكثر تأثير مبلغ خمسمائة الدولار الذي تبرع به مترجم أوميرس: فوس مع فقره؛ حيث قال: «هذه مساعدة زهيدة اعترافا بالجميل لتربية اقتبست من الإغريق»، وهب أقدر الكتاب للدفاع عن تحرير اليونان مقدرين أن بلاد اليونان وطن التمدن فضلا عن كونها من أقطار البحر المتوسط.
ولما ذهب اللورد بايرون إلى الشرق ليشترك في الجهاد أدركت أوروبة كلها مغزى رمزه، ويقضي في ميسولونجي آخر أيامه ناقص العدة خائبا بالمنافسات الهزيلة مصابا بالحمى، ويظهر أن نصيبه رمز لعبقرية القرن التاسع عشر حين بذل نفسه دون الإغريق. وكان لهذا البلد الروائي بموت اللورد بايرون أوج نفوذه، ويعد موت هذا الشريف الإنكليزي تكفيرا عن جريمة لورد آخر كان قد جلب إلى لندن، منذ بضع سنين، طنف
16
البناتيني الرخامي في البارتنون.
وتمثل هذه الجزائر الإغريقية دورا فعالا في الحوادث مرة أخرى، وذلك لاستطاعة المؤتمرين والسعاة والعيون والشاردين من كل نوع أن يتواروا في هذا البحر ذي المخابئ التي تعد بالمئات والتي تفيض بالأساطير، وتمحي الأهواء الحزبية زمنا قصيرا، فيتعاون أسقف مورة مع شرير صار ميجرا لدى الإنكليز، وينساق رهبان جبل أتوس مع التيار القومي، ويعلن مجلس وطني استقلال البلد بعد الانتصارات الأولى التي تمت سنة 1822، ويبلغ الترك من الغيظ الكبير ما يشنق السلطان معه بطرك الروم البريء على باب كنيسته الخاصة بالآستانة، ويهز العالم ما يقع من غليان ضد النصارى، وتخلد ريشة دلاكروا المحكمة فظائع ساقز.
17
ويقهر الأغارقة من قبل ترك مصر بعيد ذلك، وتكاد ريحهم تذهب لو لم يعين محب الحرية كننغ (سبارتاكوس
18
دوننغ ستريت) رئيسا لوزارة إنكلترة ويسمع نداء الشعب، ويقبض قيصر شاب على زمام الأمور بروسية في الوقت نفسه، وتتعاون الأساطيل مع أسطول فرنسة فتنال نصرا حاسما في خليج نافارين فينال اليونان بذلك حرية مؤقتة، ويكون هذا النصر، أو يلوح على الأقل، بالغ الأهمية في صلات إنكلترة بتركية، فقد كانت الحكومة الإنكليزية تبصر حربا روسية تركية فتذعر من جرأتها، ويتكلم ملك إنكلترة عن «حادث مشئوم».
ولما احتلت فيالق القيصر أدرنة حاق الخطر بالآستانة كما لاح، وهنالك تدخلت الدول العظمى، عن حسد ووفق مبادئها، للمحافظة على تركية الملقبة ب «الرجل المريض»، ومع ذلك فإن تركية اضطرت إلى التنزل للقيصر عن سيادتها على بعض أملاك لها في البلقان، فصارت بلغارية ورومانية شبه مستقلتين، وقد تنازع التاج أفاقان في صربية فدام هذا النزاع بين أسرتيهما في المستقبل، والأغارقة وحدهم هم الذين نالوا استقلالهم التام وإن لم يفوزوا بحدودهم الطبيعية، وتفتح أبواب المضايق للسفن التجارية، ويصبح البحر الأسود قسما من البحر المتوسط في نهاية الأمر.
ويكون كونت فرنسي رئيسا للوزارة في ذلك الزمن، ويتمثل مشروعا يطلق عليه كلمة «الطبق الكبير» العامية، فتنال روسية بهذا المشروع قطعا في شبه جزيرة البلقان، وتعوض بروسية وسكسونية في هولندة والرين، وتعوض فرنسة في بلجيكة ومنطقة السار، ويصير ملك هولندة «ملكا لليونان»، ويأخذ هذا البلد الأخير مدينة الآستانة، ويدل هذا المشروع، الذي لم يحقق قط، على درجة عد الملك والوزراء الأريستوقراطيين للشعوب، منذ مائة سنة، أدوات مبادلة صالحة لتجهيز الأمراء بالتيجان. وكان الوزراء ينظرون إلى الملوك كرقباء يمكن نقلهم من مسرح إلى آخر، ومثل هذا مسألة إقامة ملك أجنبي صغير في أثينة مقام الرئيس الأول وزعيم الشعب كابودسترياس، ومن حسن الحظ أن أبصر هذا الملك ما هنالك من المصاعب ففزع ففضل بلدا أكثر خضوعا بعد حين.
ويعقب النصر من جديد، كما في الأزمنة القديمة، تنازع حزبي وإنكار جميل وحرب أهلية بين الأغارقة، فيقتل كابودسترياس، وينصب ملكا أمير بفاري بالغ من العمر سبع عشرة سنة خال من كل ما يؤهله لهذا الشرف في ذلك الحين، وزد على هذا حماية بضعة آلاف من الجنود البفاريين له تجاه شعبه الجديد حتى حملته فتنة على نشر دستور جديد. وكان اكتراث أوروبة لليونان قد زال منذ زمن طويل، فغدت أثينة تبدو للغرب قرية عفراء مشتملة على بضعة معابد قديمة.
وظلت تركية أعظم دول البحر المتوسط حتى ذلك الزمن مع عجزها الداخلي، وتصاب بضربة قاطعة في ذلك الزمن من قبل رعيتها الخاصة كما في جميع الدول المستبدة. وقد علم تويجر تبغ ألباني جسور ماكر راغب في العرفان كيف ينال مقاما مهما في القاهرة، ومما صنع أن دعا إلى قلعته بضع مئات من المماليك البالغي القوة فأبادهم قتلا خلا واحد منهم استطاع أن ينجو بالوثوب من فوق سور، ويسير محمد علي على غرار كثير من سادة البحر المتوسط فيتحول بعد جرمه الأولي إلى جبار عصري مخلص للسلطان إخلاصا مؤقتا ولكن مع نيته إعلان خلافته كصلاح الدين (!).
وقد أدرك حديث النعمة هذا أمر مصر، وقد سار على سياسة الفراعنة فتوجه إلى مجرى النيل الأعلى حتى السودان بحثا عن الذهب والعبيد فيه، وقد قام بتلك الحملات ابن له بالغ القدرة مع ندرة هذا في التاريخ متصف بعبقرية قائد، ولهذه العبقرية دار جدل ذات مرة حول صحة بنوة إبراهيم باشا وموضوع تبنيه كأن أعاظم القواد لم يكونوا أبناء لأناس من البرجوازية الصغيرة.
أجل، قاد إبراهيم الكتائب المصرية في بلاد اليونان وغلب في نهاية الأمر ولكن بعد أن نال انتصارات كبيرة، وقد مات حين موت أبيه المسن تقريبا، وما كانت توفيقات هذا الأخير لتدرك بغير إبراهيم. وكان أمر جهاد الأب والابن ضد سلطان الآستانة، وقد أدى إلى فتح سورية وما وراءها، يتوقف على لعبة الشطرنج بين الدول الأوروبية، ويمنى بالحبوط حلم تاجر التبغ الإمبراطوري الأكبر نتيجة لكيد بضعة دبلميين في بلاد بعيدة، لا نتيجة قوة عدوه.
تنازعت فرنسة وإنكلترة سيادة البحر المتوسط وحاصرت كل منهما الأخرى وأيدت إحداهما أحد الأميرين المسلمين وأيدت الأخرى الأمير المسلم الآخر، وبلغ الأمر من الشدة في أوروبة ما حصنت معه مدينة باريس في المراكز التي وجه المحاصرون منها نار مدفعيتهم سنة 1871 والتي تجد اليوم فيها حدائق عامة، وتفوز إنكلترة في نهاية الأمر ملزمة الفرنسيين والروس في سنة 1841 بإمضاء معاهدة المضايق القديمة التي تحظر على السفن الحربية أن تمر من الدردنيل، ومثل هذا ما وقفت به إنكلترة حيال كل هجوم فرنسي توسعي بحيازتها جبل طارق. وكانت المضايق مقفلة، وكانت السويس برزخا، وكان البحر الأسود بحيرة روسية، فأمكن إنكلترة إذن أن تقوم طليقة بتجارتها مع الهند.
وظلت مصاير هذين المصريين الطموحين الشخصية غير مؤثرة في البحر المتوسط، فقد خابا في هذا البحر، وما أصيب به إبراهيم من غلب في نافارين كان حادثا مباركا لما ينطوي عليه تخلي أوروبة عن الأغارقة الذين عبدهم الترك من عار. والحق أن معركة نافارين أسفرت عن تحريرهم فأمكن فيكتور هوغو أن يقول: «أجل، إن بلاد اليونان حرة، وقد انتقم لستة أعوام في يوم!»
16
سقط نابليون فساد العقول بأوروبة ارتباك كما يسود زمننا الحاضر، وأخذ جميع العالم يتكلم عن القومية والحرية، وكان رجعيو العصر النابليوني قد كافحوا الاستقلال القومي زمنا طويلا، كافحوا هذا الاستقلال الذي صاروا يقرنونه بذينك المبدأين فيناهضون كل هذا معا، وظهر كل مبدأ حر مناهضا للمبدأ الملكي قبل هذا الدور وبعده فأسفر هذا عن منازعات داخلية ضد الحركات القومية لدى الدول الخمس العظمى التي كانت فرنسة وحدها هي الواقعة منها على البحر المتوسط، وشذ عن هذا ما كان من وضع سياسي تجاه بلاد اليونان، وذلك لما كان من اتفاق الدول العظمى على تأييد قضية الحرية خلافا لمشيئتها. وكان لدى إنكلترة التي ابتعدت عن الحلف المقدس، كما ابتعدت أمريكة عن جمعية الأمم بعد مائة سنة، من الأسباب الصالحة ما بدت به نصيرة الحرية في البحر المتوسط أكثر مما في أماكن أخرى ما أدت هذه الحرية إلى نيلها قواعد بحرية، وما مالطة وقبرس اللتان ضمتهما إليها حديثا إلا بلدان على جانب عظيم من القيمة.
ونشأت فتن إسبانية عن دول غير مجاورة للبحر المتوسط، وكان البوربوني المنفي فرديناند السابع قد عاد إلى بلده بعد سقوط نابليون، وكان وجه هذا الرجل ينم على جميع المعايب، وكان ابن الخليلة الكبرى التي خلدها غويا
19
وابن أحد أولئك الملوك الذين غفل الشعب عن ضرب رقابهم، وتقوم مزيته الوحيدة على أنه سهل، بما كان يسود بلاطه من فجور، جهاد بوليفار وعمل أمريكة الجنوبية في سبيل الحرية. فلما كثرت الفتن وتدخلت الدول العظمى لحماية البوربوني الزائف، ما دام غير ابن حقيقي لأبيه الرسمي، تطورت حوادث إسبانية كالتي تتعاقب على مرأى منا، وهنالك تستولي على البلد دولة مستبدة، تستولي عليه فرنسة لمكافحة الأحرار كما زعمت فتمعن في نهبه مدة ست سنين، وترضى البرجوازية الإسبانية بهذه الحال ما صدرت عن فرنسة التي علمت آباءهم مبادئ الثورة، ثم كانت عودة ملكيي الإسبان وقساوستهم وما ينشأ عن هذا من انتقام دام من الأحرار، وتظل إنكلترة ناظرة إلى هذا نظرا سلبيا.
وكافحت الدول العظمى رغائب الشعب عشرات السنين في إيطالية أيضا، كافحت الحرية والوحدة فيها، ولا تجد في مكان من العالم رجلا كالإيطالي المتوسط وطنية، ولم يكن هذا حال ملوكه وأولياء أمره في كل زمن. وكانت الجيوش أقل من الثورات حسن قيادة، وهذا يفسر سبب معاناة إيطالية لطغاة وثورات أكثر من معاناة أي بلد لهما.
ولم تزل خريطة إيطالية تشتمل على سبعة ألوان بعد سنة 1820، ومن هذه الألوان اثنان خاصان بملوك من الأجانب، خاصان بآل هابسبرغ في الشمال وآل البوربون في الجنوب، وملك سردينية (آل سافوا) والبابا وحدهما من أصل إيطالي، وكيف لا يثور الشعب ضد الأجنبي المسيطر على أربعة أخماس بلده؟ وكان يوجد في صقلية ملك حقير اسمه فرديناند أيضا، وقد دام حكمه ستا وستين سنة؛ أي مدة أطول مما اتفق لمعظم الملوك.
ومع ذلك فإن النمسة جلبت شيئا من الثقافة إلى شمال إيطالية حيث لم تقلد فظائع إسبانية، ومع ما كان عليه النمسويون، ولا سيما آل هابسبرغ، من علم بأسلوب معاملة الشعوب فإنهم كانوا خالين من الجرأة والصولة الضروريتين للمستعمرين الحقيقيين. وقد ذهب أشراف النمسة للهو في إيطالية، وقد ولى البيت الإمبراطوري دوكات، ودوكات عظاما، وجعلوا لهم قصورا جميلة وقاعات رائعة، وقد جاوز أنبغ العارفين بالفن جبال الألب وتعلموا اللغة الإيطالية الظريفة. غير أن النمسة لم تصلح في نصف قرن أحوال عيش الأهلين الخاضعين، وهي، على العكس، قد عاملت هذا الشعب الذي يفوقها ثقافة بزهو لطيف بدلا من معاملته برصانة وإدراك. وكان يقال في ذلك الزمن إن لنباردية غارقة في نوم عميق ناشئ عن حب الأفيون لدى خبازي النمسة، وكان أحد الوزراء في توسكانة يردد سريعا شعار ذلك الزمن القائل: «إن الدنيا تدور وحدها!»
ومع ذلك فإن فتن إيطالية أخافت آل هابسبرغ، فرضوا بالملك النابلي فرديناند، بهذا النذل الذي حلف يمين الولاء للدستور الجديد لينقض عهده بعد قليل، ثم أرسل مترنيخ جيشا نمسويا إلى نابل ليقضي على الثورة آمرا الجنود بوضع غصون زيتون على بنادقهم؛ أي بوضع رمز فاجع هزلي يناسب جميع المحررين الكاذبين في أيامنا، ويظل هؤلاء الجنود ست سنين في المملكة الأجنبية. ويرجع إلى هذا الزمن حقد الطلاينة على النمسويين فيسمونهم سجانين، ويصبو إلى قيام جمهورية جميع الشعب الذي تمتع بالحرية في عهد نابليون ذات حين.
ومع ذلك فإن آل سافوا، الذين كانوا يحكمون في بيمون باسم «مملكة سردينية» على ملك واقع في القسم الشمالي الغربي من شمال إيطالية؛ أي بين نيس وأوست وسبيزية، كانوا يبتغون الحكم في جميع إيطالية، وقد انتهوا إلى هذا بعد نصف قرن في الحقيقة. وكان ملوكها الأربعة، الذين ملكوا سافوا في البداءة ثم إيطالية منذ قرن، لطافا ضعافا معا، ويشابه شارل ألبرت أبيقوريا كثير التردد في العمل، وينظر ذو الرأس المشابه لرأس وكيل ضابط، فيكتور إمانويل الثاني، إلى الشوارع من فوق مئات المباني، ويبدو هنبرت وحفيد السالف إمانويل الثالث محترمين مع عدم كفاءة.
وكان بلاط سردينية في هذا الزمن؛ أي حوالي سنة 1830، أكثر البلاطات تقدما، والواقع أن جميع الملوك الشرعيين لا يزالون يعانون ما كان لطابع نابليون من أثر هائل، والواقع أن الحلف المقدس كان يؤيد كل ملك عن مبدأ ضد ثورة يقوم بها الشعب. وقد بلغ الإغراب في الأمور ما اقترح معه ذو النفس الكبيرة شاتوبريان، الذي كان نابليون قد نفاه فأخذ يمثل دورا سياسيا بعد سقوط الإمبراطور، نصب كثير من آل البوربون ملوكا لبلدان أمريكة الجنوبية.
ولذا كان النجاح يكتب لكل ثورة ترضى بملك، ولو مع سلطة محدودة، أكثر مما يكتب لثورة تهدف إلى نظام جمهوري. ولما حلت سنة 1848 أخفق النظام الجمهوري في بروسية والنمسة وهنغارية، واحتمل السلطة مؤقتا في فرنسة، ووفق توفيقا جزئيا في بلاد اليونان وإيطالية. وكان قيام نظام مثل هذا أسهل وأكثر إبداعا في بلدي البحر المتوسط هذين لما ينزع إليه من تحقيق الوحدة القومية واحترام حقوق الشعب على حين لا يرغب الناس في غير نيل دستور في البلدان الموحدة منذ زمن طويل، وقد أدت هذه الأفكار الحرة إلى سقوط الملك في باريس وإلى الوحدة تحت تاج ملك في أثينة ورومة، وبما أن حركة سنة 1848 لم تلبث أن أدت إلى قيام إمبراطورية جديدة، في فرنسة أيضا، لم تخرج أية جمهورية دائمة عن هذا الاضطراب الثوري نهائيا، وإذا عدوت فرنسة وسويسرة لم تجد في أوروبة غير جمهوريتين بجانب نحو أربعين ملكية مستقلة.
وكان مصير إيطالية أشد تعقيدا لاضطهاد كثير من الدول هذا البلد منذ أربعة عشر قرنا، لا منذ أربعة قرون كحال بلاد اليونان، فاذهب من القوط سنة 500 إلى آل هوهنشتاوفن سنة 1200 فإلى النمسويين وآل البوربون سنة 1800 تجد جميع الفاتحين من الأجانب قد اختاروا هذا البلد في كل زمن لموقعه وجماله، واذهب من الأهلين إلى الجند فإلى دافعي الضرائب تجد الشعب الإيطالي لم يتغير. وقد وفق بعض الولايات للتحرر وملكتهم أسر قومية كما كانت عليه حال ميلان والبندقية وفلورنسة ورومة، ولم يكن هنالك، مع ذلك، سعي وراء اتحاد قومي شبيه بما اتفق لدول الغرب، ثم لما رفع الأغارقة وشعوب البلقان الأخرى راية العصيان ولما قام الفرنسيون بثورة يولية هبت ريح العصر عند الطلاينة من فورها.
وقد دامت هذه الحركة أربعين عاما، دامت منذ سنة 1830 حتى سنة 1870، وهي لم تنجح في غير ثلاث مراحل لكل منها عشر سنين، وقد أتى العون الجوهري من الجيوش الأجنبية كما حدث في بلاد اليومان. والواقع أن الوحدة الإيطالية قد أتمت بفضل الفرنسيين سنة 1859 وبفضل الألمان سنة 1870؛ أي بفضل الشعبين اللذين كان قادتهما قد اضطهدوا إيطالية، ومع ذلك فإن الفوز الأخير مدين لبسالة وصدق ثلاثة من الطلاينة المخلصين ظهر اثنان منهم من صميم الشعب.
وكانت رغائب الشعب بأسره حافزة لهؤلاء الرجال الثلاثة فقادوا الأمة إلى الحرية والوحدة، ولم يكن لدى الطلاينة من النظام العسكري ما يكفي لطرد العدو مع عظمتهم كثوريين وإقدامهم كمؤتمرين ومتمردين، ويختلف تحريرهم عن تحرير السويسريين الذين استطاعوا أن يتخلصوا من آل هابسبرغ قبل ذلك بخمسمائة سنة من غير أن يجيئهم عون خارجي.
وكان مزيني وكافور وغريبلدي؛ أي بقية الأبطال الحقيقيين الذين أنجب بهم البحر المتوسط، من الشمال أصلا؛ أي من جنوة وتورن ونيس مقابلة، ومن المحتمل أن كانوا من دم كثير الاختلاط، وولد الثلاثة بين سنة 1805 وسنة 1810، ونشئوا في جو خانق من الرجعية، ومن ثم دفعوا إلى الثورة دفعا. وكان الثلاثة يتصفون ببعض مزايا شعبهم، فأما مزيني فكان يتصف بالذكاء والاكتراث للآداب والخصائص العاطفية، وأما كافور فكان يتصف بالبراعة ومعرفة الرجال والدبلمية، وأما غريبلدي فكان يتصف بروح المغامرة والذوق الروائي، وما أعظم عبقرية شعب استطاع أن يوحي إلى الرجال الثلاثة الشديدي الاختلاف بروح تضحية خالصة واحدة! وكان كل من الثلاثة يزدري المال ازدراء تاما ويطلب المجد، وكان كل من الثلاثة قد تحرر من الشعور الديني وأتم تربيته بسياحات طويلة في البلدان الأجنبية، وهم كذلك مؤتمرون فطرة، وشكل نشاطهم غير القانوني وحده هو الذي كان يختلف على حسب مزاج كل واحد منهم وأصله، وقد مارس أحدهم هذا النشاط بما كتب ومارسه الآخر بما قال ومارسه الثالث بحمله السلاح عندما أراد قهر خصمه الأقوى منه.
ويكشف رأس مزيني الجميل وعيناه المتأججتان وفمه الصغير وجبينه العالي عن شاعر ومثالي، ويكون مسقاما في صباه فيظهر نفورا من ممارسة مهنة الطب التقليدية في آله، وكان أكثر الثلاثة فتونا وكرما، وكان شديد الإيمان بانتصار الخير فيتنبه إيمانه برسالته في السجن للمرة الأولى. وكان مشبعا من المبادئ الكلاسية؛ أي من تراث أمه هذا كما يلوح، وكان راغبا في الحرية قبل كل شيء، نصيرا للجمهورية لهذا السبب، وقد اشترك، عن حمية وعن حرية فكرية، في كثير من المؤامرات التي كانت تهدف إلى إسقاط الملوك الأجانب وإلى التخلص من البابا.
وقد اضطهد مزيني كثيرا، وحكم بإعدامه مرتين، ففر مرارا مضطرا إلى الخارج حيث أنشأ مجلات جمعا لأحسن القرائح، وكان يكتب دوما ويلقي خطبا، وكان لا يبالي بالمال قط ولا يملك منه شيئا، فعاش في غرفة واحدة بسويسرة أعواما، وقد تعلم بباريس ولندن وتسان ما بين الأمم من علاقات ثم غامر في الدوليات. وكان مزيني يحلم بأوروبة موحدة، قبل زمن طويل من الوحدة الإيطالية التي أبصر حدوثها في مشيبه، فأكثر من امتداحها في منشورات بليغة، وبلغ مزيني من الآمال المثالية ما كتب معه رسالة عن «واجبات الإنسان».
ومع ذلك فإنه لم يكن أسير العقائد الثابتة، فهو، مع مشايعته النظام الجمهوري، لم يتردد في مطالبة ملك سردينية والبابا بتوحيد إيطالية عندما لاح له الوقت مناسبا. أجل، صار عضوا لحكومة «جمهورية في رومة» قصيرة الأجل، ولكنه لم يبق في منصبه هذا زمنا طويلا، وذلك عن عدم صبر ككل مثالي انغمر في الأمور العامة بغتة. أجل، كان يوجد وجه شبه بين مزيني ولوثر من حيث ميلهما إلى العمل الذهني النبوي الخالص، ولكن مزيني أعلى من الآخر بثبات عزمه.
وكان وجه كافور المربع الطليق الملهم ينم على الذكاء والفراسة ولكن مع التهكم، فيمكن أن يعد وجه رياضي. وكان كافور سليل أسرة أريستوقراطية قديمة، ولكنه كبسمارك قد ورث ذكاءه، كما يلوح، من أم برجوازية منتسبة إلى هوغنوت
20
جنيف. وكان كافور، كأجداده يدين بولاء طبيعي نحو ملوك بيمون فلم يأتمر ضدهم قط، ومع ذلك فقد كانت أفكاره حرة تماما، وقد رفض أن يصير ضابطا، وقد تعلم من ثورة باريس أن من الممكن أن يكون النظام الملكي حرا أحيانا. وكان رجلا عمليا جوهرا فدرس الاختراعات الجديدة والسفن البخارية والخطوط الحديدية والمصانع، ويدير أملاك أبيه موفقا وينتظر الوقت الذي يقوم فيه بعمل سياسي، ويبلغ السابعة والثلاثين من سنيه فيؤسس جريدة في تورن من غير أن يكون صحافيا قبل ذلك، فتطلق جريدة «الريزورجيمانتو» هذه اسمه على جميع العصر، وقد كان لإحدى مقالاته من التأثير البالغ ما جعلت الملك المتردد يشهر الحرب على النمسة في سنة 1848.
وكانت إيطالية بأسرها متأثرة بثورات باريس وفينة في ذلك الحين، وكان كل شيء يبدو ملائما من أول ساعة، فقد استولى الشعب على نابل ورومة والبندقية، ويعود مزيني وأصحابه الذين أبعدوا معه، ويحدث في البندقية منظر مؤثر، وذلك أن آخر الرؤساء مانين الذي سجنته الشرطة النمسوية أطلقه الجمهور الآن فغادر سجنه القاتم القائم في قصر الرؤساء وتوجه من فوره إلى غرفة مجلس الجمهورية الرائعة ليمارس أعماله. وكان إذا ما تكلم السادة الأجانب عن الاعتدال ينطق بالكلمة الآتية التي يمكن الشعوب المضطهدة أن ترددها مجددا، وهي: «لا نود أن تغدو النمسة أكثر إنسانية، وإنما نريد أن تذهب.» ويقرب رأس مانين الجميل الرزين من مثال رجل الأعمال الأمريكي ولكن مع كثير شحوب وكرب.
بيد أن جميع الآمال التي نشأت عن تلك المقدمات الجميلة زالت بعد بضعة أسابيع، فما كان من سوء عدد الجنود وتردد البابا واحتراز بعض الدوكات من بعض أسفر عن هزيمة سريعة ساحقة، ويتنزل ملك سردينية عن منصبه، ويسهل إطفاء نار الفتنة في كل مكان، ويعود الأمراء، ويفر المهاجرون مجددا، ويكون مزيني ومانين بين هؤلاء. وكان هذا الأخير قد قاوم كأحد أبطال بلوتارك، ولما حاصر النمسويون البندقية، وكانت الهيضة
21
والمجاعة مع جائحة الحرب، كان من الجرأة ما نصح معه بتسليم المدينة مخاطرا بحياته، وهو لم ينج إلا في الساعة الأخيرة، وقد اضطر هذا المسن إلى كسب عيشه في باريس بإلقاء دروس.
ولم يدب اليأس في قلب كافور مع ذلك، وقد أدار في بدء الأمر شئون دوكية بيمون الصغيرة في عهد الملك الشاب الجديد ثم أدار إيطالية الكبرى، فأقام الدليل بأعماله على استعداد دبلمي يذكر بما لدى أعاظم البابوات من الطلاينة.
وما كان من براعة كافور بعد حرب القرم في نيل عون نابليون الثالث ضد النمسة في سبيل إيطالية الموحدة، وما كان من أسلوبه الذي نجح به في حمل هذا الإمبراطور المتردد على إنجاز وعده في أثناء نزهة صيفية، أمور تنم على دبلميته العجيبة الإيطالية الخالصة. حتى إنه جرؤ في مقابل ذلك أن يعد الفرنسيين بنيس وسافوا، بهذين البلدين اللذين يريد الطلاينة استردادهما في الوقت الحاضر، فلما أوفى بعهده بعد النصر أثار حقد القوميين ضده. وقد ظل متصلا سرا بزمر من المؤتمرين في داخل البلاد، بهؤلاء الذين كانوا كلهم راغبين في النظام الجمهوري غير واثقين بوزير الملك. وما كان هذا الرجل الخالص النبل ليمتنع عن أي اعتصار على أن يعود بنفع لإيطالية، ومن ذلك أن توعد نابليون الدائم التردد بنشر وعوده في أمريكة، وأخيرا يسير الإمبراطور سنة 1859 ويهزم النمسويين بسرعة في ماجنتة وسولفرينو، ثم يقف في منتصف زحفه الظافر، ويداري المغلوب، ويصالح الإمبراطور الشاب فرنسوا جوزيف في وقت قصير غير مطالب بغير لنباردية من أجل إيطالية تاركا البندقية لآل هابسبرغ.
ويشعر كافور بأنه غر، وينسى كل حذر وكل ألفة فيبدو عنيفا شديدا تجاه الملك حينما أعطى الملك بما له من سلطان حليفه نابليون نصف ثمن النصر، وما أمر دبلمي خليل ككافور في غضبه إلا كبحيرة غابة تلوح هادئة دوما فتثيرها ريح شديدة بغتة وتحركها بقوة، ويصادم كافور زعيما آخر بعد عامين ويموت بعد زمن قليل.
والزعيم الآخر هو بطل الحرية الروائي غريبلدي العارف بإيطالية أحسن من سواه والذي ساح فيها أكثر من جميع الطلاينة، وكان غريبلدي في صباه قد أعان أباه التويجر كما صنع كريستوف كولونبس. وكان قد أفلت من نظام الإكليروس راكبا سفينة منضما إلى ثوريي مزيني كبحري، ويحكم بإعدامه فيفر إلى أمريكة الجنوبية وينغمس في ثورات البرازيل وأروغواي، ويسجن ويعذب هنالك ثم يطلق ويعود إلى الحرب ويشترك في فتح بورتو أليغري حيث يلاقي امرأة من بني قومه ويتزوجها.
وقد انجذب غريبلدي إلى النزاع عن ميل إليه أكثر من انجذابه إليه عن تحقيق لمبدأ سياسي، ولم يكن مرتشيا كزعماء العصابات بل كان مختالا ولوعا بالمجد، ومما حدث في أثناء قيامه بخدمة أروغواي أن نفدت عدته فأحرق سفينته وفر، ومما حدث في وقت آخر أن ظل راكبا نهارا بأسره مع جرح أصيب به وهو يقاتل في سبيل جمهورية رومة. وإذا ما قيل إن مزيني أحب الحرية وإن كافور أحب إيطالية قبل كل شيء، أمكن أن يقال إن غريبلدي كان يبحث عن المغامرة قبل كل شيء، وكل شيء أصابه، ومنه حب زوجه وموتها، تمثل له منظرا روائيا، مع أنك لا تجد في شخصه ممثلا قبل مشيبه على الأقل.
ويجاوز هذا القائد القديم لفرقة إيطالية سن الأربعين قليلا فيضطر إلى الابتعاد بعد هزيمة بيمون، ويشتغل عن ضرورة في مصنع شمع بنيويورك ثم في سفينة تجارية غير منتظمة الأسفار.
وتمضي عشرة أعوام فيظهر غريبلدي في ميادين القتال ذاتها جنرالا، ويمضي وقت قصير فيتزوج كونتسا ولكنه يتركها من فوره تقريبا، فلما كانت السنة القادمة؛ أي سنة 1860، يوفق بعد النصر على النمسة لمخادعة العدو ويركب البحر مع ألف من المتطوعين، مع «الألف» المشهورين، وينزل إلى صقلية بعد بضعة أيام فيقهر كتائب الملك البوربوني، ويصبح بعد أسابيع قليلة طاغية نابل وصقلية المفتوحتين، ويبحر في الغد إلى جزيرة منفردة حيث يملك مزرعة وحيث يرغب في القيام بأعمال ري وكتابة أشعار ورؤية أحلام.
ويظل فتح جنوب إيطالية عمل غريبلدي القومي العظيم؛ لأنه كان الشرط المقدم للاتحاد الإيطالي؛ ولأن كافور نفسه لم يجرؤ على إنزال هذه الضربة فوق رقعة الزمن السياسية، ويكتب الملك كتابا إلى غريبلدي يمنعه فيه من دخول نابل مع اشتماله على حاشية يوعز فيها بألا يطيع. ولم ينفك هذا المغامر الجريء في المعارك القادمة يربك الدول التي كانت تحاول الانتفاع به؛ وذلك لأن الملوك لا يحبون الاستفادة من الثوريين، ولو كانوا نافعين لهم، كما يخشون الثورات، وذلك كما نشاهد الآن من العلاقات بين لوردات الإنكليز وزعماء عمال الروس، ولم يكن كل واحد من البطلين القوميين كافور وغريبلدي اللذين يمجدان اليوم معا ليشعر بميل أو ثقة نحو الآخر.
ويداوم غريبلدي على الكفاح حين كانت الهدنة أمرا مرغوبا فيه سياسيا؛ ولذا يقصيه أبناء وطنه عن المسرح و«يرافقونه» إلى جزيرته الصغيرة، ويهرب منها ابنا للستين من سنيه فاتحا لنفسه طريقا من بين الأسطول، فهو وإن كان يحب الحياة الرعائية الشعرية لم يرد أن تفرض عليه، ومع ذلك فإن القيادة أمرته بعد حين بالكف عن إطلاق النار فأجابها بكلمته المشهورة «أطيع»، ويقوم بنصف دور. ولما انتهى القتال في إيطالية حاول القيام بمغامرات جديدة فانضم إلى الفرنسيين في محاربتهم الألمان، ولما عاد رفض كل هدية وتكريم مصرحا بأنه لن يقبل ذلك ما دام الحزب الذي عاداه قابضا على زمام الحكم، وقد باشر تنظيم مجرى التيبر إلى رومة، وقد تزوج للمرة الثالثة فاقترن بامرأة رزق منها عدة أولاد.
وهكذا عاش وفق طبيعته حتى الخامسة والسبعين من سنيه، وهو ما انفك يحافظ على قوامه المكين مع عينيه اللامعتين الحالمتين المنيرتين لوجهه المربع اللحياني.
وأكبر خصم لغريبلدي هو البابا، لا النمسة ولا البوربون ولا كافور، ومع ذلك فإن غريبلدي لم يحارب أبا النصرانية، بل كان يحارب شخصا خاصا ورجلا حديديا مولودا محاربا كما كان أمره هو، ولم يكن البابا ذا مزاج روائي، ولم يكن البابا ولوعا كغريبلدي على العموم، وعلينا أن نعترف إذن بأن الحبر الحاكم كان أعلى من المغامر كرجل دولة، وهو قد ولد طاغية على خلاف غريبلدي.
كان بيوس التاسع قد أراد في شبابه أن يتخذ العسكرية مهنة له ككافور، وهو قد صار قطبا سياسيا عن إبعاد الصرع له من الجندية، لا عن نفور من السلاح، وهو قد كان ككافور سليل آل من الكونتات، وهو يشفى من الصرع مع عدم استعداد للخدمة العسكرية، وهو يصير قسا حين مناهزته الثلاثين فقط، وهو يصبح رئيس أساقفة بعد مرور عشر سنين على ذلك، وهو ينتخب بابا ابنا للرابعة والخمسين. وإذا رجعت البصر إلى جميع من جلسوا على عرش القديس بطرس من البابوات وجدته أطولهم مدة، وجدت عهده قد دام ثلاثا وثلاثين سنة، وقد سلك سبيل الحكام المطلقين، ففارق أقدم التقاليد، وكان ذا رأس نادر الجمال، مع فك صارم وأنف بارز وعينين نجلاوين دجناوين ... وكان فمه الحسي ونظره الشهواني يلطفان معناه ويوجهان أبصار النساء إليه. ويقبض على زمام الأمور في سنة 1846 بين أعنف رجعيه، فيعزم أن يكون حرا عن اعتقاد وعن طموح مناصفة، ويبدأ عهده بعفو عام ويتكلم عن إصلاحات ويعين علمانيين لإدارة شئون رومة والدولة البابوبة، وتقرع الثورة باب الفاتيكان البرونزي فيوافق، ككثير من الملوك الخائفين، على دستور قائل بمجلسين على أن يعين أعضاء أحدهما، ولكن ماذا يصنع بالكتائب التي تزحف من إيطالية الشمالية إلى النمسة؟ كانت تطلب بركته ما دامت كاثوليكية إيطالية في آن واحد، وهنالك يخشى بيوس التاسع شجاعة نفسه كمعظم الأمراء الأحرار فلا يريد أن يفسد صلاته بآل هابسبرغ الكاثوليك فلا يمنح الكتائب بركته إلا «داخل الحدود»، وهذا الطراز هو أدعى الأمور إلى الضحك حول قسيس يطلب من الرب حماية جيش، وتمر أربعة أسابيع فيتحصن وراء الحياد.
وتبصر رومة أنها على رأس إيطالية الموحدة، وتغضب، ويقاسمها الغضب جميع شبه الجزيرة، وتقع فتنة، وتحمل البابا على تسريح حرسه السويسري وعلى قبول حرس مدني، ويصير البابا أسيرا بذلك في بضعة أيام، وهنالك يلبس البابا حلة رجل ديني عادي كما كان يلبس في فتائه، وهنالك يفر البابا مع بعض الأصدقاء إلى ملك نابل. عجبا! غادر البابا رومة! وهل عادت القرون الوسطى وأفينيون؟ وهل طرد البابا من قبل الترك أو من قبل فاتحين أجانب؟ إن الكاثوليك الرومان هم الذين حجزوه، إن لم يكونوا قد طردوه في هذه المرة! وعند ذلك تصبح رومة جمهورية، وتحول الدولة البابوية وأموال الكنيسة إلى أمور زمنية، ويدخل الأوروبي الحر مزيني في الحكومة ليواصل حكم خليفة القديس بطرس، وتتعاقب الحوادث مثل جدال بين رجلين ليعرف أيهما يقذف نفسه في الماء لينقذ غريقا وأين تغمر الضحية في تلك الأثناء. ويرغب نابليون الثالث أن يتوج مثل عمه فيعيد البابا بنفسه ويجعله شاكرا له، وينزع هذا الامتياز من النمسويين الذين كان لديهم من الأسباب الخاصة ما يعيدون به دولة البابا التي يعدونها مانعة من توحيد إيطالية، ويحلف غريبلدي قائلا: «رومة أو الموت!» ويزحف مع كتائبه إلى رومة، وتشاهد عندئذ معارك بين الفرنسيين ذوي السراويل الحمر والطلاينة ذوي القمصان الحمر، ويشاهد حصار رومة كما في زمن الوندال وعهد شارلكن، وتشاهد مفاخر الغريبلديين التي تنم على البطولة، ومع ذلك كان هؤلاء وحدهم، فاضطروا إلى ترك الميدان في نهاية الأمر ، وهرب زعيمهم إلى أمريكة بعد محن لا حد لها، وعاشت جمهورية رومة، ووجدت في خمسة أشهر، كما في زمن ريانزي في القرن الثالث عشر، ومع ذلك فإن البابا، الذي كان مقصد من ساعدوه، لم يعد إلا بعد عام، وهل يبدو راعي النفوس هذا رحيما؟
يرجع إلى غرائزه الاستبدادية هذا الذي ظل في منفاه ثمانية عشر شهرا، ويرغب في الانتقام هذا الطاغية الذي جرحت عزته واضطر إلى الفرار ليلا متنكرا، وهذا إلى ارتباطه، مدة نفيه، في اليسوعيين الذين لاءمته فلسفتهم كثيرا، ويعود فيزيد الطرد والحبس والتنكيل في رومة، ويفرط في ذلك فيضطر ضباط من النمسويين إلى رد جماح القسوس القساة، ويعوز الناس، ويغتني القساوسة على العكس، فيموت سكرتير دولة البابا أنطونلي عن ثروة خمسة وعشرين مليون دولار مع أنه ولد فقيرا.
ونظام مثل هذا يسفر عن حقد الشعب على الفاتيكان إلى حد لا يعرفه الناس منذ تنازع البزنطيين، وتشتد الحركة القومية حوالي منتصف القرن، وتدان دولة البابا لأسباب سياسية أيضا، ويجادل في جميع أوروبة حول زمنية البابوية، وينشر عالم إيطالي من علماء اللاهوت رسالة مغفلة متبعا فيها رأي كافور، وتنفت دولة البابا وتخسر ثلثي أملاكها بعد انتصار الفرنسيين على النمسة. وكان جميع العالم يترقب تحول رومة، لا فلورنسة، إلى عاصمة طبيعية للمملكة الحديثة حينما أدى دخول البندقية في اتحاد سنة 1866 إلى تعزيز هذه الأخيرة، ففي هذا الدور حمى نابليون الثالث دولة البابا بفيالقه وشخص البابا بسطوته.
وينمو في هذه السنين زهو الشائب بيوس التاسع وتحديه الاستبدادي مقدارا فمقدارا فيناهض الحرية ويبدو شديدا، ويحاول الانتقام لتصغير دولته بعصمته فوق هذا العالم الفاسد، ويطالب للكنيسة بسلطان على التربية والتعليم، ويكافح حقوق الإنسان وحقوق الشعب وحرية العالم والضمير. ويرسم لوح للمجمع الديني الكبير، الذي عقده في كنيسة القديس بطرس وشبهه بمجمع ترانت الديني، فيصور فيه جالسا على عرش القديس بطرس منفردا عن أكابر الأعيان الذين اشتركوا فيه.
ويوطد بيوس التاسع مبدأ الاستبداد البابوي المخالف لجميع التقاليد ما كانت المجامع الدينية مستقلة في الماضي وما كان الإجماع ضروريا فيها، ويريد البابا أن يعترف بعصمته في ذلك الحين، ويهز هذا الزعم أمريكة التي أرسلت 113 نائبا، ويخالف هذا الزعم منذ البداءة 150 مصوتا من ستمائة مصوت في الاقتراع السري، ويجد البابا إنكارهم أمرا بسيطا، ويذكر القسوس مثال غريغوار السابع، ويعلن بيوس التاسع عصمته الخاصة في جميع مسائل الإيمان والأخلاق في الاجتماع الكبير الذي عقد في كنيسة القديس بطرس في يولية سنة 1870. وإنه ليتكلم إذ يلمع البرق ويقصف الرعد، ويذكر القساوسة في أنفسهم الفصل التاسع عشر من سفر موسى الثاني (الخروج)، ويمكن الحرب الفرنسية البروسية التي نشبت قبل ذلك ببضعة أيام أن تلهي العالم وحدها، ويحس بيوس التاسع أنه في الذروة من سلطانه، فقد أصبح معصوما في الثامن والسبعين من سنيه وصار أقوى من جميع الملوك!
وتقع واقعة سيدان بعد ستة أسابيع فتقضي على إمبراطورية نابليون، ويلوح حظ جديد لإيطالية التي نال الأجانب نصرين لها في أمرين، ويغادر الملك فلورنسة حالا ويجاوز حدود المملكة البابوية الصغيرة، ويعد دور لفتح رومة، ما جلت الكتائب الفرنسية عن رومة منذ أسابيع، وتزحف كتائب الملك إلى رومة بلا قتال، كما كانت قد دخلت ميلان والبندقية سنة 1859 وسنة 1866 لنيل النصر لها مقدما من قبل جيوش أجنبية.
ويرى البابا المعصوم نفسه أسيرا من فوره بعد شهرين فقط من ارتقائه العالي، ومن الواقع أن تركت له كرامته وحريته الشخصية وحرسه الخاص وثلاثة قصور، وأن عرض عليه مال أيضا، وقد رفض الحرية والمال؛ لأنه وهو الطاغية المهان فضل عليهما اعتقاد العالم كونه أسيرا. وتنسج أسطورة جديدة قائلة إن التجار في البلدان الكاثوليكية باعوا حزم الموص
22
التي كان البابا ينام عليها، ومن الواقع أن كان البابا يعيش في قصره ذي الرداه الكثيرة والحدائق العجيبة فلا يخرج منه إلا نادرا عن تقدم في السن.
وذلك حادث مهم في البحر المتوسط؛ وذلك لأن خليفة القديس بطرس يقتصر مرة أخرى على تلك السلطة الروحية التي كانت لأسلافه الأقدمين؛ وذلك لأن من الحماقة أن كان للحبر الأعظم أرضون وكتائب وشرطة ومحاكم وضرائب ؛ وذلك لأن على الدولة البابوبة أن تزول إذا ما وجب ظهور إيطالية موحدة أمام العالم. وكان قد ملك رومة أباطرة وبابوات، فلما حاولوا الحكم معا كانت الحرب أو النفي نصيب أحد الفريقين، وكانت أشعرة السلطة قبضة أيد واحدة ما ظهر الملوك أحبارا عالين، شأن الفراعنة وبعض أباطرة الرومان وشأن الخلفاء، وقد وجب فصل بعض هذه الأشعرة عن بعض فصلا تاما ما وجدت منفصلة، ويعد من الغرائب تتويج أمير من قبل آخر. ويبدو بيوس التاسع من طول العمر وشدة الاستبداد وعظم العصمة ما لا يشعر معه بنصره الحقيقي من خلال غلبه الظاهر، ويدرك الأمر خلفه ليون الثالث عشر مع ذلك، فينال احترام العالم بأسره من أجل السدة الرسولية. وتقوم في وسط البحر المتوسط مملكة قوية موحدة مع تجانس حكومة ولغة في نهاية الأمر، ويكون ملك إيطالية من النبل ما لا ينزع معه قورسقة من فرنسة أيام انكسارها مع أن حزب كليمنسو الشاب عرضها عليه، ومع ذلك كان يود أن يستولي على تونس لو لم يمنعه الأسطول الإنكليزي المتوعد من ذلك، وشمال أفريقية هو المجال الطبيعي لتوسع الدولة الجديدة بحكم الضرورة.
وكان للملاحة بالقوة المحركة الجديدة؛ أي البخار، وثبة جديدة، ومما يجدر ذكره أن القائد النمسوي تجتهوف أول من استعمل مراكب مصفحة لقهر الطلاينة، وكان هذا في سنة 1866. وكانت الأمم التي أنشأت سفنا بخارية، أو معظم هذه الأمم على الأقل، من الأمم الحرة، وصارت وسائل النقل أعظم سرعة وأكثر عددا في كل مكان، وزادت المنافسة من كل ناحية، وأخذ البحر المتوسط ينتعش بعد أن نسي زمنا طويلا، وظهر أن كل ما يبحث عنه للتجارة العالمية هو منفذ جديد، وأوشك الباب الذي أغلق مدة تزيد على ألف سنة أن يفتح للمتفجرات، واقتربت الساعة الحاسمة التي يحرر فيها هذا البحر الداخلي.
17
كان سادة مصر قد قهروا برزخ السويس خمس مرات في ألفي عام ومنحوا البحر المتوسط منفذا مصنوعا ثالثا فضلا عن بابيه الطبيعيين: جبل طارق والدردنيل، وقد حفرت هذه المنافذ الخمسة بالتتابع نتيجة لبراعة الناس وصبرهم قبل دور الاكتشافات العظيمة بزمن طويل، وقد كان لهذه القناة من النتائج للجنوب ما هو أعظم مما للبابين الطبيعيين في الشرق والغرب. والواقع أن الدردنيل كان لا يؤدي إلا إلى بحر داخلي، إلى البحر الأسود، وأن جبل طارق كان يعد آخر الدنيا في ذلك الزمن ما جهل أمر المحيط الأطلنطي. والواقع أن طريق رمسيس الكبير كانت تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر بواسطة النيل وبقناة في دلتا هذا النهر، وأن هذا النظام بلغ من دقة التصوير ما كانت السفن تقضي معه أربعة أيام فقط بين البحرين. وتمضي سبعة قرون فيحاول أحد الفراعنة نخاو أن يجدد القناة فيهلك العبيد ال 120000 الذين سخرهم لهذا الأمر نتيجة لحر الصحراء؛ أي يحدث من الهلاك ما لا يكترث له فرعون، ويقع العكس فيشير عليه هاتف الغيب بأن يعدل لما تؤدي إليه القناة من فتح طريق مصر لفاتح، ومهما يكن من أمر فإن الكهنة مصدر هذا الهاتف مهتدين بعوامل اجتماعية وسياسية. ومما لا ريب فيه أن ملك الفرس دارا قد فتح مصر بعد تسعين سنة وجدد ذلك النظام، وقد عاد البطالمة إلى القنوات القديمة ووسعوها ولكنهم لم يلبثوا أن أهملوها، وقد حاولت كليوباترة إنقاذ مراكبها الفارة من الرومان بهذا الطريق ولكن معظمها لم يجد له هنالك ممرا.
ثم وسع الرومان طريق البر بين الإسكندرية والسويس، لتوصل إلى المحيط الهندي، وقد أنشأ تراجان في نهاية الأمر؛ أي حوالي سنة 100 بعد الميلاد، قناة مشابهة للنظام المصري القديم فلا يزال جزء منها قاطعا لمدينة القاهرة حيث يعرف باسم الخليج.
ثم مضت خمسة قرون، فجدد فاتح مصر العربي عمرو بن العاص هذه الشبكات البحرية التي كانت قد ردمت منذ زمن طويل، وهو لم يصنع ذلك قاصدا إرسال البر المصري إلى أوروبة، بل ليوصله إلى مسقط رأسه، إلى مرفأ مكة، ويخشى خلف قريب منه نتائج ذلك فيأمر بتخريب القنوات خوفا من أن يدخل عصاة جزيرة العرب مصر كما كان الفرس قد فعلوا، ويقع ذلك سنة 767، ومن ثم ترى أن طريقا مائية بين البحرين قد جربت وعرف إمكانها مرات كثيرة في ألفي سنة.
ومع ذلك فإنك لا تجد من خاطر فجرب حفر برزخ السويس الضيق الذي تقطعه بحيرات، فهذه الفكرة تامة الجدة، وعصر النهضة وحده هو الذي عن له تحقيق ذلك لإقدامه على كل شيء ولوضعه العناصر فوق الرب ووضعه الإنسان فوق العناصر. وقد وضع ليونار دفنسي أعظم المشاريع للقنوات وأتقن كثير من الأجهزة المائية، وقد ظهر البندقيون طلائع في هذا المضمار، وقد حفزهم حب الكسب إلى البحث في البحار المحيطة، ومن يعلم أنهم أرادوا حفر قناة السويس قبيل كريستوف كولونبس لا بعده، يعرف مرة أخرى أن الاختراعات العظيمة مرهونة بروح الزمن كالاكتشافات الكبيرة.
وكان البحر المتوسط صالحا للتوسع، ومن المحتمل أن كان البندقيون يوفقون للقيام بمشروعهم لو لم يستول الترك على مصر وعلى شرق البحر المتوسط في ذلك الحين، فهذا الأمر أدى، مع الاكتشافات الكبرى، إلى انحطاط سلطان البندقية، ومع ذلك فإن المعضلة بلغت من التوتر في ذلك الحين ما بدت معه لنائب ملك البرتغال في الهند الشرقية فكرة حمقاء، فكرة تحويل مجرى النيل بالقرب من جزيرة بلاق (الفيلة)؛ أي بالقرب من الشلال الأول، وذلك بقناة تتجه إلى الشرق رأسا مارة من الصحراء إلى البحر الأحمر، وينطوي هذا العمل على إزالة دلتا النهر.
ومع ذلك فإنه لم يعمل شيء حتى ظهور نابليون، وكان يساور نابليون حب المجد الكلاسي فرجع إلى خطط الفراعنة، فأمر بقياس اتساع البرزخ الذي يحفر وارتفاعه، كما أمر بقياس كل من البحرين، وكانت هذه الحسابات قاطعة من حيث نتائجها ومن حيث ما أوجبه تقرير المهندسين من تنافس بين أكثر الناس نشاطا في أوروبة، ولم ينقطع الجدل حول المسألة منذ ذلك الحين. ولم يقع سادس اختبار لبناء قناة السويس على نطاق واسع وعلى منهاج قاطع إلا سنة 1860؛ أي بعد أحد عشر قرنا من التخريب الثاني المقصود للقناة خوفا من الغزو العربي.
وما تجد من اختلاف بين الاختبارات القصصية الخمس الأولى التي تفصل قرون كثيرة بعضها عن بعض، وبين الخطط التي لم تنفذ، وبين الدراسات والمنازعات التي تمت بين سنة 1830 وسنة 1860 فسبقت إنشاء قناة السويس، يشابه الاختلاف بين التماثيل العصرية وتماثيل مصر القديمة. أجل، أبصر رمسيس نزاعا بين المبادئ والأشخاص أيضا، غير أنه لم يبق لنا منه سوى تقارير وجيزة في هيروغليف القبور والمسلات، وتلوح لنا حوادث شفق البشرية هذا كالشهب
23
البعيدة الهائلة التي تنفصل عن الفلك فتتلاشى أمام شمس التاريخ.
وليس الصراع من أجل قناة السويس صراعا حقيرا، بل هو صراع رمزي ذو وجهين، والواقع أن صنفين من الناس ونوعين من الدول تقابلا، والواقع أن الدولة التي اعتمد عليها رئيس أحد الفريقين هي التي خسرت، فإنكلترة هي التي وفقت لاستملاك القناة وإن كان الفرنسي دلسبس هو الذي أنشأها.
وكان أول من حرصوا على صنع ما يعبر عنه بخط وصل بين جزأي العالم القديم مثاليين حقيقيين، وهم قد تذرعوا ببراهين عاطفية ففتحوا باب دعاية واسعة النطاق في سبيل إنشاء القناة، ثم استعانوا بمهندسين مجربين لإعداد التصاميم، والنشاط الكلبي هو الذي كان يعوزهم، وإيمانهم العظيم بالإنسانية هو الذي حال دون نجاحهم.
وكان المهندس الشاب أنفانتن ابنا لصيرفي باريسي، وكان تلميذا حمسا للكونت سان سيمون، وكان قد سجن وأبعد في الدور الأول من فتائه؛ لأنه جرؤ على الكلام حول إنسانية سلمية موجها الاكتشافات الحديثة إلى ما فيه سعادة النوع البشري بدلا من استخدامها في سبيل الحرب.
وقد ساعد أيضا على تأسيس اشتراكية نصرانية، وتبديه إحدى الصور الفتوغرافية ذا شعور سود وذا لحية كأنه همجي «على طريقة روسو»، وتبديه صورة أخرى حليقا من قريب، وتبديه ذا فم دقيق كون ليتمتع بالحياة وذا عينين ملتهبتين تعبران عن خطط طموح، وقد كتبت تحت اسمه في هذه الصورة الثانية كلمة: «الرئيس الأعلى للديانة السانسيمونية».
وكان فريق الناس الذي انتسب إليه أنفانتن يعد إنشاء إحدى القنوات هدية إلى الإنسانية، وزار أنفانتن مع أصدقائه مصر في سنة 1833، وكان يمكنه أن يذهب إلى بناما أيضا ما دار الحديث حول القناتين في ذلك الحين . وكان غوتة قد نطق بكلمة قبيل وفاته حول هذا الموضوع فذكرها هنبولد لأحد المهندسين مشجعا، وذلك أن الشاعر الثمانيني قد أثنى على مشاريع حفر القناة كعامل على تفاهم الشعوب وكفتح إنساني للكرة الأرضية، وأنه كان يود لو يعيش خمسين سنة أخرى ليرى إنشاء قناة السويس وقناة بناما، وقد تم إنشاء الأولى بعد أربعين سنة من ذلك، وتم إنشاء الثانية بعد ثمانين سنة من ذلك.
وقد اقتصر الشبان الفرنسيون، أو رسل القناة هؤلاء، في خرائطهم على حسابات مهندسي نابليون بونابارت سنة 1799، ولكنهم بدءوا أعمالهم بلا مال مكتفين بدراسة طائفة من التصاميم وحسابها ورسمها، وقد عاش صناع وفنيون وكتاب كعمال على طرف الصحراء، وكانت العوامل المثالية حافزة لهم، وكانوا لا ينالون هنالك أجرا، ومرض منهم كثيرون ومات منهم خمسة عشر رجلا بفعل الإقليم. وأصبح الفرنسي العملي لينان ذا صلات بصاحب مصر الشائب محمد علي، وكان هذا الأخير، الذي يحكم في مصر تام الاستقلال، يطمح إلى القيام بأمر عظيم، وما كان يبغي أكثر من أن يرى هؤلاء المهندسون ينشئون سدا كبيرا على النيل قريبا من الأهرام دالا بهذا العمل الفني على بطل الأهرام الجبارة، ومن سوء الحظ أن حال الوضع السياسي دون استمراره، ويعود محبو الإنسانية خائبين.
ومع ذلك فإن حماستهم وتقاريرهم وكتاباتهم أسفرت عن نشر فكرة القناة في جميع أوروبة، وتحمل خطتهم على معنى سياسي حينا من الزمن، وهذا ما أدى إليه تدخل أقطاب السياسة تجاه العوامل الجميلة النبيلة التي أوحت إلى هؤلاء الممهدين. وكان عدم الاكتراث أول ما أبدته إنكلترة معولة على ما تم في زمن نابليون من حسابات قائلة إن المستوى بين البحرين يتطلب إنشاء أسداد، وهذا ما يجعل تنفيذ الخطة أمرا مستحيلا، ومن تلك الحسابات يعلم أن مستوى البحر الأحمر أعلى من مستوى البحر المتوسط عشرة أمتار، ولتلك الحسابات يرى الرأي العام الإنكليزي في دور الخطوط الحديدية الأولى ملائما لفكرة إنشاء خط حديدي يصل ما بين الإسكندرية والسويس مار من القاهرة.
وكانت إنكلترة تقوم بعمل البريد بين القارات منذ زمن طويل، وكان كل بريد آت من الهند وآسية الشرقية في ذلك الزمن يمر من السويس إلى القاهرة على أسنمة الجمال التي تقطع في الصحراء مائة كيلومتر في اثنتي عشرة ساعة. وكانت العربة التي تحمل اثني عشر راكبا تأتي بالمسافرين في يوم واحد إلى المحل الذي تشق النيل منه بواخر ذوات دواليب، ثم تجر حصن هذه المراكب على طول القناة حتى الإسكندرية، حيث تنتظر باخرة لحمل البريد الإنكليزي إلى مرسيلية، حتى إنه لم يكن للبواخر النمسوية حق تسلم بريد الهند حينما بدأت تسير بين الإسكندرية وتريستة حوالي سنة 1850.
وكان عدم اكتراث الإنكليز للقناة يقوم على خطأ ما خدع مهندسو نابليون في حساباتهم، فمستوى البحرين كان واحدا وكان يمكن إنشاء القناة بلا أسداد؛ أي بسهولة نسبية وثمن معتدل، فلما مضت خمسون سنة واكتشف المهندسون خطأ أسلافهم ذعرت الحكومة الإنكليزية كذعر الفاتيكان حينما خلع الفلكيون الأرض كمركز للكون. وهكذا بدت القناة أمرا ممكنا، وهكذا ارتجفت الإمبراطورية البريطانية، أفلا يحدث في المستقبل ما تعرض به طريق التجارة الإنكليزية للخطر وما يسهل به مرور عدو طارئ؟ قال بسمارك: «إن قناة السويس هي عصب رقبة الإمبراطورية البريطانية، فهي تربط السيساء
24
بالدماغ.» وقد أخذت إنكلترة، التي تعنى برفاهية الإمبراطورية أكثر من عنايتها بخير الإنسانية، تنصب المكايد ضد إنشاء القناة.
وهنالك تحول المعضلة إلى السؤال الآتي، وهو: أيعمل في سبيل خير الإنسانية أم تتبع لعبة الشطرنج السياسية؟ ويوجه هنبولد إلى القناة نظر مهندس نمسوي اسمه نغرلي، وينم وجه نغرلي على مولد ألماني إيطالي، وكان هذا رجلا مفضالا قد قام بأعمال عظيمة على الرين وفي سويسرة، وقد درس نغرلي مسألة القناة في موضعها فكان أول من وضع لها رسما حاسما. وقد وجد المثالي الفرنسي أنفانتن معلمه فيه فأبان في كتاب كريم عن عزمه على الامحاء أمام نغرلي، ويحمس الصيرفيان السويسريان الأخوان دوفور للمشروع فيجمعان بصعوبة أربعين ألف دولار نفقة للجنة تدرس الأعمال، ويكون ابن مخترع القاطرة ستيفنسن من أعضائها، وتكشف مراسلة هؤلاء الرجال عن نبلهم وكرمهم، وتدل وجوههم على روحانية يظن الإنسان معها أنه انتقل إلى عالم روسو حيث يتم النافع نظرا إلى نتائجه الأدبية.
ومن المؤسف أن تدخلت السياسة من فورها في هذا الأمر فحطت من قدره. وقد اشتم محمد علي ما في إنشاء القناة من فوائد فأبدى استعداده لدفع أجور عالية إلى المهندسين الأجانب على أن يعملوا تحت ظله، وكان خليفته الثاني شابا كفيا تخرج على الطريقة الأوروبية فكان مستعدا لمنح الأوروبيين بعض الفوائد إذن. وتعلن اللجنة الثلاثية ميلها إلى مشروع نغرلي مع اختلاف رأي بين أعضائها حول النفقات، ويتفق أخيرا على تقدير هذه النفقات باثني عشر مليون دولار، وإن وجب أن ينفق عشرة أمثال هذا المبلغ في الحقيقة.
ويدرس المشروع في عشرين سنة من قبل أناس خالين من الغرض مع وجود كثير من أكابر الخبراء بينهم، ومع ذلك لم يسر إلى الأمام، فلم تكن المثالية كافية لحفر البرزخ، ويظل البحر المتوسط مغلقا.
وكان لعزيز مصر الشاب أستاذ يعلمه الفروسية الفرنسية في صباه، فلم يلبث أن أصبح مرشدا له، وكان هذا ابنا للقنصل الفرنسي العام النافذ لمساعدته محمدا عليا في سني ارتقائه فكان يشعر بشكران العزيز، ويصبح الابنان صديقين كما كان الأبوان، ويغدو سعيد عزيز مصر، ويدعو إليه أستاذه وصديقه دلسبس من فوره.
18
كان آل دلسبس أبناء أسرة فرنسية شريفة قديمة، وكانوا قد تلقوا تقاليد أكابر موظفي الدولة مع ثقافة واسعة، وقد أثبت فرديناند دلسبس (1805-1894) صدق غريزته وتجربته في طراز معاملته الشرقيين، وقد ربي في القاهرة ثم عاد إليها قنصلا لبلده، ولا جرم أنه كان لا يجهل شيئا من دراسات أبناء وطنه حول القناة، ولا جرم أنه كان جامعا لصفات كثيرة متنوعة ما نشأ صائدا وفارسا وتاجرا وأديبا وداعيا وعالما، والشيء الوحيد الذي كان يعوزه هو عرفان الفن، وصفات المهندس وحدها هي التي كانت تعوزه بين صفاته، ومع ذلك فإن إنشاء قناة السويس أمر ألقي على عاتقه.
وقد أقام الدليل على قوة طبع أيام الطاعون في القاهرة كما أثبتها في أثناء عصيان ببرشلونة، وقد أثار نشاطه إعجاب جميع العالم لامتزاجه ببراعة شرقية، ومن ثم ترى أن دلسبس كان معدا للقيام برسالة سياسية ساطعة، ولا عجب ما وجد من الفرنسيين رجال وجهوا فرنسة فائزين. ويرسل دلسبس إلى رومة لأمر صعب، لإعادة البابا الفار بيوس التاسع، ويؤدي تغيير مفاجئ في الحكومة الفرنسية إلى نزع كل نفوذ سياسي منه، ويستعفى، ويقضي سنين كثيرة في الأرياف، ويعزم على عدم خدمة الدولة مطلقا، ويلوح أنه أكب على دراسات منوعة في أثناء عزلته.
ولما دعا تلميذ دلسبس، سعيد الذي صار إليه الملك، أستاذه هذا إلى القاهرة، كان دلسبس في التاسعة والأربعين من سنيه، وكان سعيد في الثانية والثلاثين من سنيه. وكان دلسبس غنيا معتزلا للخدمة طموحا أيما طليقا من كل ناحية فعزم على تحويل خططه القادمة سائرا إلى الأمام، ويسافر مع سيد مصر الجديد ذات مرة ويوضح له معنى القناة في العالم وفي بلده ويبدي له ضرورة إنشائها على وجه يخالف ما انتحله أسلافه، ويكونان في معسكر في صحراء ليبية فيعرض دلسبس على سعيد تصاميمه التي اقتبس فيها جميع ما انتهى إليه نغرلي تقريبا، مثنيا على نغرلي هذا مشيرا على العزيز بأن يدعوه إلى تولي الأشغال.
وعلى العكس يتكلم عن اللجنة الثلاثية كأمر ماض، يتكلم عنها كما يتكلم عن قنوات رمسيس ودارا والبطالمة والعرب، وهو لا يتكلم كمخترع، بل يتكلم كملتزم، وهو لا يزعم أنه واضع التصاميم بل يعترف بأنه اشتراها. وكان مخاطبه الشاب سعيد، الطموح الماكر كدلسبس، يثق بهذا النصراني الأجنبي أكثر من ثقته بمستشاريه المسلمين، وقد وافق على شرطي أستاذه السابق؛ أي على وضع القناة تحت الرقابة الفرنسية وعلى أن يعهد بالإنشاء إلى دلسبس نفسه.
ويكون في جيب دلسبس، بعد نزوله إلى الإسكندرية بثلاثة أسابيع، إذن ثمين في تأسيسه شخصيا شركة لإنشاء القناة، ويعود إلى أوروبة، ويقبل في باريس بفتور وتحفظ، وتجهر لندن بمقاومته، ويظهر جميع الناس في هذه العاصمة خصوما له، وتوعز الحكومة الإنكليزية إلى سفيرها في الآستانة أن يوضح للصدر الأعظم مقدار ما ينطوي عليه مثل هذا المشروع من خطر في أيدي أسرة الوصولي بالقاهرة إذا ما فكرت هذه المدينة في الانفصال عن تركية ووضعها نفسها تحت وصاية فرنسة، ويرفض السلطان الامتياز، ويصف صيارفة لندن هذا المشروع بالخداع، وتحذر الحكومة الإنكليزية الجمهور من الإعلانات التي تحث على الاكتتاب بالأسهم، ويحدث بلمرستن الشهير عن المشروع بأنه من «المشاريع الفقاعية» الكثيرة، ولا يمنعه هذا من احتلال جزيرة بريم في باب المندب لغايات مفيدة، وغلادستن هو الإنكليزي الوحيد الذي أدرك معنى المشروع، ووجد من المهندسين من صرحوا بأن القناة لا تنشأ مطلقا لما يكون من استيلاء طين البحر المتوسط عليها.
ويطرق دلسبس باب الصحافة والبرصة، ويكتب رسائل، وينشئ مجلة، ويجرؤ في أثناء حرب القرم على قوله إن قناة السويس ستكون أهم من الدردنيل، وسيكون محتاجا إلى خمسين مليون دولار ويجدها، يجد معظمها في فرنسة، ويجد نحو عشرين مليونا لدى صديقه عزيز مصر سعيد.
ثم يضع الدول أمام أمر واقع، ويذيع نبأ إنشاء قناة السويس، ولكنه لا يدخل إلى اللجنة أحدا من المثاليين، من المحرضين الأصليين على المشروع، وذلك مع استثناء نغرلي الذي كان من حسن حظ دلسبس موته بعيد ذلك، وتجعل مدة استثمار القناة من قبل الشركة تسعا وتسعين سنة ثم تصبح القناة من حقوق مصر سنة 1968، ويصير دلسبس رئيس الشركة، ويحوز خمسين مليون دولار، ويغدو من أعظم ملتزمي العالم، ولا تتجلى رغبته المباشرة في نيل أرباح بل في إنجاز العمل الذي اقترح تحقيقه، أجل، كانت أهدافه إنسانية فرنسية، غير أنه سار قدما عن طموح، ويقلب دلسبس أول حفنة تراب بالمجرفة بين احتفال عظيم في سنة 1859 بدءا للعمل، ويقوم المشروع على فصل أفريقية عن آسية، وسيحقق جمع ما بين آسية وأوروبة في نهاية الأمر!
ويجد دلسبس حالين ملائمين في جهاده الذي دام عشر سنين تحقيقا لمشروعه، فأما الأول فهو تأييد أوجيني الكونتس الإسبانية مولدا والمتصلة بأم دلسبس قرابة، وتصبح أوجيني إمبراطورة الفرنسيين، ويحتمل أن يكون دلسبس قد تملقها حين أثار مقارنات بكريستوف كولونبس والملكة إيزابلا، ويكون نابليون الثالث، السماع لزوجه في الغالب، هو الذي يعاضد دلسبس معاضدة فعالة حين حاولت إنكلترة أن تقطع العمل مرة أخرى في أثناء أزمة حادة.
وأما الحادث السعيد الآخر فهو ما أبداه ديسرائيلي من اكتراث تجاه القناة، فقد أدرك هذا الوزير الإنكليزي إدراكا تاما ما لهذا العمل الذي هو في دور التحقيق من أهمية تاريخية، فحاول أن ينال لبلده ما حاولت فرنسة أن تناله.
ويتم دلسبس الستين من سنيه في أثناء العمل، ومع ذلك لا يزال مملوءا نشاطا مباليا بالأمور وبابتياع المواد وبإدارة جحفل من العمال جادا في إرواء أهواء السلطان والباشا والإمبراطورة أوجيني، وأخيرا يتغلب على جميع الموانع الكثيرة بشدة كالتي يتغلب بها بطل الرواية على ما يعترض له من عوائق، ويمكننا أن نتمثل ذلك بسرد ما يأتي: موت ألوف الفلاحين في الصحراء، وحظر الباشا جمع آخرين، وقلة الماء الصالح للشرب،
25
وهبوط أسهم شركة القناة من 500 دولار إلى 180 دولارا، وخطر ما ينتظرها من إفلاس، واكتشاف صخور من حجارة قاسية إلى الغاية، وعدم عمل الآلات المهمة جدا، ومفاجئات في حسابات المد والجزر، ونقص الفحم، وتهديد الشركاء والعمال، والصحراء، والبحر، ومكافحة الناس والعناصر بلا انقطاع مدة عشر سنين، واليوم لا نأبه للأرقام كما لو كنا نقرؤها في قصة معركة وقعت في القرون القديمة، ومع ذلك فإن المهندسين لا يزالون يعجبون بالقناة التي مر على إنشائها سبعون سنة؛ لأنها تقطع الصحراء، لا بسبب أبعادها، والصحراء مما كان يخيف ملتزمي الإنشاء، والصحراء تفتن مسافر البحر في أيامنا مدة ثلاث عشرة ساعة؛ أي مدة مجاوزة القناة.
وقد أنقصت اليد العاملة الضرورية بمقدار الربع نتيجة للبحيرات الخمس التي يمكن الانتفاع بها في سير القناة على مسافة نحو مائة ميل بحري، ويلوح أن العرض قليل الاتساع ما دام مائة متر في الأقسام الرملية وثمانية وخمسين مترا في الأقسام الصخرية، وقد رأى كل واحد منا في مكان ما من الحدائق ما طوله ثمانية وخمسون مترا على الأقل، ومعظم الأنهار أكثر عرضا، ويمكن عبور قناة السويس بقارب مع ست وثلاثين جدفة، وتبلغ قناة السويس من العمق ما بين ثمانية أمتار وتسعة أمتار، أي ما يعدل عمق حوض عادي مرتين، وقل مثل هذا عن الأرقام حول التلال لهزالها المثير للسخرية، فارتفاع هذه التلال يترجح بين عشرة أمتار وستة عشر مترا. وجميع هذا يذكر بإنشاء أي نفق كان، ومع ذلك فإن هذا المشروع قد تم منذ ثمانين سنة في الصحراء المركبة من رواسب غرينية، ومن صخور في بعض المرات، ويمكن تشبيه الرمل الذي تأتي به الريح فوق القناة والذي يرسم صورا متقلبة كالجن ببشرة فتاة ناعمة تستر هيكلا عظميا، ومن قول غوتة: «إن الطبيعة مستورة بشيء ناعم على الدوام.»
وسلم هذا العمل، الذي عرض للخطر في الغالب، بنشاط رجل كان ينقصه ما عند الطلائع الأولى من اندفاع مثالي، وأثبت مرة أخرى أن العزم والذكاء في مكافحة العناصر هما عاملان أعظم فعلا من الخيال الذي أسفر في أمر قناة السويس عن منح محركي المشروع أجنحة. وأنجز هذا العمل في ست سنين رجل لم يضرب مدينة بالمدافع ولم يظلم شعبا، ولم يقد إلى النصر قوما، ولم يخرب شيئا خلا شريطا من الصحراء الرملية الصخرية بالغا من العرض مائة متر، وقد صور عمله وحقق ليبقى بعد جميع الإمبراطوريات التي فتحت في الجوار بقواد وملوك. أجل، كانت العناصر عدوا له، غير أن مقاومتها تشابه مقاومة حيوان يلبط تحت مبضع الجراحي؛ لأنه لا يعرف ماذا يراد أن يصنع به.
وأخيرا تحل الساعة المنتظرة، ويقل ضغط البحرين المتزايد، ويتدانى هدير أمواجهما وتحسه آذان الآدميين عما قليل، وأخيرا يتحرران من طرفي أنف الأرض، ويمرجان مياههما بمياه البحيرات الخمس التي كانا قد أحدثاها في هذه الأمكنة منذ أقدم الأزمنة، ويقع في يوم من شهر مارس سنة 1869 أول تدفق لأمواج البحر المتوسط نحو الجنوب، وتمضي خمسة أشهر فتتجه أمواج البحر الأحمر نحو الشمال، ويحين يوم ضرب آخر مجرفة، ويندر أن يسر رجل بمثل ما سر به دلسبس حينما رأى مياه البحر الأحمر السمر الخضر تلاقي مياه البحر المتوسط الخضر الزرق وتختلط بها، واليوم أيضا يمكن أن يميز باللون ماء كل من الجريانين من الآخر في أقصى طرفي القناة، ويعقب ذلك احتفال عظيم، فيصل أباطرة وملوك لعبور القناة، وتعزف فرق موسيقية، وتسطع عوامات ملونة تحت الشمس، وتخفق أعلام بالريح، وتوجه المناور نورها نحو السماء، ويخبر البحر الأزرق والصحراء الصفراء باجتماعهما بعد فراق طويل. وتبدو الإمبراطورة الحسناء أوجيني لابسة تنورة واسعة وتركب السفينة ممسكة مظلة، وتفكر، على ما يحتمل، في أن هذا العمل العظيم لم يكن ليحقق لولاها، ويجلس دلسبس بجانبها طافحا شبابا مع بلوغه الستين، ويقول في نفسه، على ما يحتمل، إنه كان على الجمال والذكاء أن يجتمعا، وإنه كان يمكنه أن يجعل هذه المرأة أكثر سعادة مما جعلها به الإمبراطور المريض نابليون الثالث الذي هو سليل أسرة أقل قدما من أسرة دلسبس بكثير.
وكان أول مركب دفع رسم المرور من القناة يحمل راية بريطانية، ويسقط نابليون بعد سنة ويؤسر، وتضطر أوجيني إلى الفرار من فرنسة، وتحرم فضيحة كبيرة دلسبس راحة سنيه الأخيرة بعد عشرين عاما، وكان نشاطه الأكبر قد أوقعه بعد إتمام قناة السويس ببضع سنين فقط في العمل العظيم الثاني الذي كان جميع العالم يطلبه منه، ويعرض عن تمثيل الدور السياسي المهم الذي عرض عليه فيداوم على العناية بالعناصر، وتكون قناة بناما الهدف الثاني الذي فرضه هذا الشيخ البالغ من العمر أربعا وسبعين سنة على نفسه.
ومع ذلك فإن إرادته هي التي ظلت شابة لا عقله الذي شاب، فقد بدا عنيدا، فصار يصر على قبول حلوله الخاصة، وما اتفق لقناته الأولى من نجاح عالمي أوقع الثانية في خطر؛ وذلك لأن دلسبس لم يكن ليريد الإصغاء إلى اعتراضات الخبراء؛ وذلك لأن دلسبس أراد أن يصنع قناة بناما بلا أسداد ما دام قد أنشأ قناة السويس من غير أسداد، فكان في هذا كالشيخ الذي يحاول معاملة زوجته الثانية التي هي أفتى منه كثيرا كما عامل زوجته الأولى فيما مضى، وقد أدت مسائل المال، التي يسهل تشويهها واستعمالها ضد الملتزم في مشاريع مماثلة قائمة على الملايين، إلى مشاغبات سياسية ... ويخسر أعظم ملتزم أعمال في ذلك الحين نفوذه وثروته معا، ومن الممكن أن كان مذنبا جزئيا بالاختلاسات التي اكتشفها خصومه، ولكن أمر هذه المهربات لم يثبت، ويحتمل ابنه كل تبعة، ويظهر الشيخ غير عارف بالقضايا لاجتناب الحديث حولها أمامه ... ولما مات دلسبس ابنا للتسعين كان معدما تماما، ومع ذلك فإن ما أصاب عمله من قيمة ونجاح زاد على كل تقدير، وإذا ما قابلنا بين أرقام سنة 1870 وأرقام سنة 1935 وجدنا الوسق الإجمالي الذي يجاوز القناة في كل سنة قد بلغ ثلاثين مليون طن بعد أن كان أربعمائة ألف طن في البداءة، وقد أصبح ما يوزع من أرباح هذا «المشروع الاختلاسي» عن سهم ال 120 دولارا 500 دولار بعد أن كان 25 دولارا.
ويتوصل ديسرائيلي بضربة معلم إلى تحويل هذا العمل الفرنسي إلى مشروع إنكليزي، وكان مخترع لقب الهند الإمبراطوري محتاجا إلى منازل كثيرة بين إنكلترة والهند وصولا إلى أغراضه في السياسة العالمية، كان محتاجا إلى مصر قبل كل شيء، فأغرى الخديو إسماعيل باشا، الذكي مع خفة، بأن يزرع قطنا في دلتا النيل وأن يستولي على أملاك حتى عدن في النيل الأعلى، وذلك تحت إشراف إنكلترة، وذلك ليسهل على إنكلترة انتزاع أملاكه منه متى أرادت. وهكذا أدى دين مصر الزائد بلا انقطاع وما يقضيه الخديو من حياة بذخ إلى تدهور الخديو، فابتاعت إنكلترة منه أسهمه في قناة السويس بسخاء، ولم يطلب ديسرائيلي إذنا للقيام بهذه الصفقة، وقد قام ممثله في القاهرة بالمفاوضات في عشرة أيام، ويمكن الحكومة البريطانية أن تطالب بعدئذ بعشرة مقاعد في مجلس إدارة القناة وأن تنال بذلك صوتا حاسما في تاريخ البحر المتوسط حتى أحدث الأزمنة.
وما اتصف به الإنكليز من شجاعة بارزة في الاعتراف بالخطأ حفز «التايمس»، التي ما انفكت في سنين تشن غارة على القناة، إلى نشر الاعتراف الآتي وهو: «إن إنكلترة ستضمن الأرباح التي يأخذها أصحاب الأسهم، وليكن في هذا عوض عن خطأ اقترفناه!» وجملة مثل هذه تنم على أحسن تقاليد الإنكليز، وهي تطابق النمطية الإنكليزية البارزة أيضا والتي ألزمت بريد الحكومة البريطانية بأن ينزل في الإسكندرية مدة عشرين سنة بعد فتح قناة السويس لينقل بسرعة إلى السويس برا ثم يحمل ثانية في السفينة نفسها.
وتمضي أربعة أعوام على موت دلسبس فينصب تمثاله على طرف الرصيف الطويل عند مدخل القناة ببورسعيد، فإذا ما جاء المسافر من أوروبة كان هذا التمثال أول ما يبصر مسيطرا على رمال أفريقية وآسية، وقد أصبح مثالا لجميع من أنشئوا بعده قنوات كبيرة وأسدادا فساعدوا الإنسانية على قهر العناصر، وعدت لا تجد أحدا يذكر التهم التي دوت في العالم.
فقد نسيت الفضيحة، وبقيت القناة.
19
سفينة تجوب الصحراء، ذلك هو المنظر العجيب الذي تعرضه على من ينظر من البر إلى المراكب الكبيرة التي تمر من قناة السويس متمهلة حذرة كثيرا، ولكن الأثر الذي يحدثه ذلك فيمن يكون راكبا إحدى تلك السفن ليلا على الخصوص لا يقاس بشيء في هذا العالم، فما يبدو من ضيق القناة التي يلوح استيعاب السفينة نصف عرضها، وما يكون من اتزان السير البطيء، وما يحس من كآبة الجوار، أمور تثير منظرا ميتا يزلق من خلاله داخل المطهر في الليل البهيم بقيادة ربان ومرشد مجربين كدانتي وفرجيل.
بيد أن عصر الكهربا لا يدع نفسه منسيا زمنا طويلا، فمنار بورسعيد يلقي حوله نوره المخروطي على ثلاث شعب، وتتبادل السفن والشواطئ إشارات ساطعة، وتظهر نجوم وتقف على ارتفاع معتدل، كما لو لاح أن إطار الجوزاء قد نزل إلى كرتنا، ويتقدم مركب صغير نحونا بلا صوت، ويبدو شبح صاعدا في سفينتنا، وهذا هو دليل القناة، وتصر المراسي ويلطم الماء نور ساطع بغتة، وهذا هو مصباح قناة السويس الذي يهيمن على تلك الليلة ويرقبها كعين الجبار.
وكل شيء صامت، ويلوح أن السفينة نفسها تمسك أنفاسها، وهي تزلق رويدا رويدا من خلال القناة، ولا تجاوز سرعتها خمس عقد في الساعة مطلقا، والسفن الصغيرة الخاصة بشركة القناة وحدها والتي تنقل أناسا عابرين هي التي ترسل دخانها المتدحرج من بين قمع نور كحصان يبخر متنفسا في يوم بارد من أيام الشتاء، ولسرعان ما يضيق شريط الماء الذي أنير بشدة، وينفذ ضياء الجبار بين الرمل الدقيق في جهتي القناة.
ويظهر من الصحراء جبار آخر بغتة، ويتقدم نوره العظيم رويدا رويدا، ويعشي كل من النورين الآخر، كمصابيح السيارات التي تصير في الشوارع غير مبصرة شيئا، ومع ذلك فإن من الممكن أن يسمع ما لا تستطاع رؤيته، ويصرخ، وينادى، باللغة العربية التي يكثر فيها حرف العلة (أ)، وبما أن كلا من المركبين لا يستطيع أن يمر بجانب الآخر فإن الضرورة تقضي بالانتظار في إحدى نقاط الالتقاء وفق بعض الأنظمة، ويمر بعض الملاحين على زورق، وتجر السفينة الكبرى إلى الشاطئ بقلس
26
واحد كما لو كانت قارب جولان، وترتفع من جديد صرخات ولعنات، ويسمع أمر بالوقوف، ويلقى المرسى، وتقف السفينة في سواء الصحراء وفي وسط الليل، ويمر بناء عائم ذو ألف نور زاحلا ببطء، ولا يبعد كل من العملاقين من الآخر أكثر من ستة أمتار، ويرفع المرسى مجددا، وتتحرك الآلات ويجذب القلس، ويعمل الملاحون ويمضى من هنالك.
ويكتشف النهار الناشئ تلك الصحراء التي يلوح أنها لا حد لها أكثر مما يلوح البحر، وما الذي يبدو محدودا أكثر من خط الأفق البارز في البحر؟ يبدو هذا الخط غير متناه في الوقت المضب. وينعش الصحراء أكثر من البحر تزاحم الألوان المترجحة بين الأصفر والأزرق البالغ الزرقة، وبين البرتقالي والأخضر الزيتوني، كما ينعشها تنوع الظلال، وتحدث الريح جميع الأشكال في الصحراء، ويكون لكل تحول تأثير وحي، وتقاد جمال إلى القناة وتمشي مشيا وئيدا كحيوانات مصر المقدسة، ويصبح كل مخلوق رمزا، وتتجه نحو دلتا النيل سحاب ليلكية اللون بعيدة من هنالك، فيمكن أن ترى بالمنظار، فهذه هي النحام،
27
ويجثم على البحيرة المرة ساكنا على كف طير الحكمة: الغواص الأسود، ويسيطر على خليج باشقان متلويان ظاهر أحدهما فوق الآخر فيترصدان سمكا في الماء، وتبدو نخلة وحدها بعيدة قائمة في الصحراء هنالك، وتبدو امرأة مبرقعة فيما هو أبعد من ذلك، وتبدو الصحراء، وتبدو جماعة من الجمال باركة، وتبدو الصحراء أيضا، ويبدو الجميع أسود على أساس الرمل الأصفر كالذهب بارزا بين لون السماء.
وإن الأمر لكذلك إذ يظهر رأس بشري في القناة، ونراه يمحي ليدع السفينة تمر، وهذا هو رأس سباح عربي أتى من آسية فجاب البادية ماشيا، وقد ربط جرابه حول رأسه وعنقه فتراه الآن يسبح ثابت الجنان حيث كان من عادة أجداده أن يمروا، فمتى لاح بعد حين خلف السفينة وتسور الساحل وضع جرابه على ظهره وأخذ يسير في الصحراء المصرية على الأرض الأفريقية وله ملامح نبي.
وإن الأمر لكذلك إذ يسرع المركب في السير، وتنتصب قرية مع بضع مآذن، وترى على الشاطئ جماعة سوداء مؤلفة من عشرين عربيا مائلة نحو الشمس الطالعة غارقة في صلاتها، وها هي ذي السويس، وهنا يبدأ البحر الأحمر، وستلطم السفينة، التي غادرت جنوة منذ أربعة أيام، المحيط الهندي بعد أربعة أيام، وقد أضحت القارات جزرا تبللها البحار المحيطة بعد أن قامت القناتان بعمل الفصل، وقد غير الإنسان خريطة العالم بدلا من أن يحول حدوده على الخريطة بالحروب.
والبحر المتوسط مجهز بمرفأ آخر في الوقت الحاضر، وعاد هذا البحر لا يكون مركز الحضارة منذ الاكتشافات الكبرى، وقد ظل مهملا نحو أربعة قرون، والآن تفتح طرق تجارية كان الفنيقيون والأغارقة والعرب والبندقيون ينقلون عليها سلعهم، والآن تنتبه المرافئ القديمة التي كانت قوية في سالف الأيام فاستولى عليها شبه نعاس، والآن يبعث نبوغ الأغارقة التجاري فتتلقى استانبول والبيره وإزمير تجارة العالم بأسره، والآن تعود الإسكندرية إلى ما كانت عليه أيام الرومان وقبل الرومان، والآن تبدو أعلام أمم أجنبية كعلم أمريكة واليابان، والآن يعود أبناء البحر المتوسط المفرقون في أقطار الأرض إلى أوطانهم، ويفضل كل واحد أن يقتصد في الوقت والوقود اللذين كان لا بد من إنفاقهما في سبيل رحلة 5000 ميل بحري حول أفريقية، وتتحول الأم العجوز بمعجزة إلى المركز الذي يلتقي فيه الأبناء وأبناء الأبناء، ويأتي هؤلاء بأنباء وسلع وأفكار واختراعات، ويصير البحر القاري الذي كانت شواطئه تعج بالأجانب بحرا عالميا يغادره أولاده ليعودوا إليه ، أو لينقلوا إلى البلاد البعيدة لغة أجدادهم وحضارتهم، وكل يبحث فيه عن مرفأ أو خليج أو مصنع أو شاطئ أو جزيرة أو مستعمرة.
ولا غرو، فالبحر المتوسط قد أفاق عن حياة جديدة.
الجزء الخامس
إلى المنار
يصير العنب أحمر في شهر سبتمبر، ويتحول بعضه إلى وين،
1
ويغدو حلو الطعم في الجزيرة والبروفنس؛ حيث يكون الراح قرمزيا خالصا خفيفا.
ويذهب حارس المنار وزوجته وأولاده الثلاثة إلى الكرم الصغير المعتنى به يوما بعد يوم، وسينتهي اقتطاف العنب في هذا الأسبوع، وكان الأولاد يسرون، في البداءة، من الأكل حتى الشبع من العنب المذهب كلما جنوه، وهم قد تملئوا منه، وهم يتلهون الآن مراهنين حول من يقتطف أكثر من الآخر وحول من يملأ سلته أكثر من سواه، وأما أمهم فهي مشغولة البال رصينة، وهي تبصر أن البيع لا يعود بشيء نتيجة لكثرة المحصول في هذه السنة، وهي ترى أن مائة الصاع من العنب تساوي من القيمة أقل مما في العام الماضي بنسبة الربع، وإذا ما كان البستاني تاجرا أيضا لم ينظر بعين الارتياح إلى مقاسمة جيرانه إياه بركة الأرض.
ويقف الحارس قريبا من الكرم مسيطرا عليه بطوله، وتبلغ الزوج من الطول ما تستطيع أن تجني معه عالي القطوف، ويجب على الأولاد أن يقفوا على رءوس أصابعهم، ومع ذلك فإن القطوف دانية في الغالب، وهي تكون من الدنو ما تقضي الضرورة معه في معظم الأوقات بمسح الغبار الذي يسترها أو إزالته بالنفخ، ويلقي الحارس على أسرته المحبوبة نظرة البحار الخالصة الهادئة شاكرا لله، وينظر إلى ابنه الأكبر الذي يحمل السلة ويضعها على الأرض حذرا، ثم يسمع ابنته الصغرى وهي تنادي أخاها لشعورها بثقل سلتها، ثم يعدو الابن الأصغر من طرف إلى آخر حاملا إلى أبيه قطف عنب يظن أنه أكبر ما في الدنيا، ثم يركض نحو أمه ليمسح أنفه بمئزرها.
وما انفك هذا المنظر الرعائي في كل خريف يكرر على شواطئ البحر المتوسط منذ ألوف السنين، وهو بعد أن كان من الطقوس المبهمة تحول لدى الأغارقة إلى نوع من الخدم الدينية، ثم صار عند الرومان عملا منظما ثم أصبح صناعة فتجارة.
واليوم تراه استغلالا تقوم بتنظيمه شركات مهمة، ومع ذلك لا تعرف بيوت التجارة التي ترسل براميل مرسيلية وجنوة ونابل شيئا آخر غير جداول الأرقام، وهي تجهل بين طقطقة الآلات الكاتبة ماذا يحدث في الكروم، ولا يبالي بالقطوف المنضودة غير تجار الثمار، وتبدأ الأعمال التجارية بالبراميل والقوارير، ومهما يكن من أمر فإن المنظر الريفي يتجلى تجليا ثابتا في الكرمة، وهو ليس له من الفتون ما يكون له في موسم القطف.
وينقل الكرام مثل عدة ذات حبل إلى حماره، ويعلق سلة كبيرة به على حين يحفظ ابنه التوازن بجره الحبل من الناحية الأخرى، وتعلق السلة الأخرى، ويسوق الغلام الحمار، ويكردح
2
الحمار نحو سطور الكرمة المثقلة بالثمر، ثم يسير على الطريق المؤدية إلى قرية على الشاطئ، وهنالك يوضع حمل الحيوان في باخرة صغيرة وينقل إلى حيث تجلبه عجال إلى طولون.
ولم يلائم هذا المنظر سجية البحر المتوسط أكثر من ملاءمته أي مكان آخر في الدنيا؟ ألا تشتمل كليفورنية والشيلي وخليج بسقاية وفرنسة على عنب كثير العصارة؟ ألا تنتج بوردو وبورغونية ألطف خمر؟ بلى، ولكن كل خمر ينتج حول البحر المتوسط متقارب متماثل، وانظر إلى خمر أفينيون المزة التي لا ينبت شجر عنبها بعيدا من جزيرة المنار، وانظر إلى خمر شريش الأندلسية المزة، فإلى خمر مالقة الثقيلة، فإلى خمر توسكانة الرطيبة، وإلى جميع خمر إيطالية الوسطى، فإلى خمر كابري الوردية، فإلى خمر فالرن الأكثر إشباعا والصادرة عن تربة بركانية، فإلى خمر مرسالة الفائرة، فإلى خمر بحر إيجه الخطرة، فإلى خمر قبرس الجيدة، تجد جميع هذه الأنواع تحملنا، مع اختلافها، إلى التفكير في فصيلة واحدة تنقل صفاتها الخاصة بالبحر المتوسط قرنا بعد قرن، ولجميع هذه الأنواع قوة التهييج من غير أن تحدث دوارا، ولجميع هذه الأنواع قوة الإنعاش من غير إسكار، فخمر البحر المتوسط وشعوبه معتدلة مشمسة.
ولا يفكر القاطفون في غير العناقيد التي تصل أيديهم إليها، ولا يفكر القاطفون في خمر البلدان البعيدة مطلقا، وأما الحمار فإنه لا يبالي في غير أمر واحد، في غير الوقت الذي يجب عليه أن يحمل فيه السلال قبل أن تنزل وقبل أن يعود إلى مقره خفيف الخطا مسرعا مع ركوب الغلام عليه، وأما الغلام الذي يضربه صارخا فإنه يفتن بعدوه ويقهقه أخوه الأصغر.
ويعود الحارس إلى المنار مساء، ويجرب آلاته بانتظام ومن غير شعور تقريبا، وهو يشدها ويطبطب
3
عليها وينظر إليها بمؤخر عينيه كأنه يفحصها، ثم يتصفح يومية المنار بسرعة، ثم يعود إلى كتابه ويلقي نظرة خاطفة على ما قرأة في الليلة الماضية، ويقول في نفسه: «... من حسن الحظ أن البحر لم يكن مهملا كما يبدو من العنوان، وما أكثر ما نرى من الاضطرابات والمعارك في غضون الزمان كما يقع عندنا مع عدها أعظم سلما! هو يحسن وصف قورسقة، ولكنه لا يقول ما فيه الكفاية عن جزائر إيرس، أجل، إن حكاية المعركة البحرية الحائرة محكمة، بيد أن هنالك مئات الاقاصيص الأخرى حول القراصين الذين كان من عادتهم أن يختبئوا في الخلجان الصغيرة من هنا والذين لم يسمع عنهم المؤلف حديثا على ما يحتمل، وكنت قد قرأت كثيرا من التفصيل عن ليبانتة، وغير قليل ما حدث حول مرسيلية وطولون! والواقع أن الكتاب لم يتكلم غير قليل عن فرنسة على العموم، ولا ريب أن المؤلف أعظم إيلافا لتاريخ إيطالية، ويمكنني أن أقص عليه الشيء الكثير، وليس من الضروري أن يكون المؤلف أسن من قارئه على الدوام، ولي أمل في اشتمال ما يأتي على كثير أرقام وقليل فلسفة، وعلى قليل تاريخ عن الملوك وكثير قول عن القواعد البحرية وعن التجارة، وسنرى ...»
مكافحة الدخلاء
1
ألوف الأجيال من السمك أبصرت الإنسان على مركبه فوق البحر المتوسط، ومن المحتمل أن يكون جد الدلفين
1
الذي برز ظهره من بين الأمواج الزرق وقت الظهر قد رأى أول شجرة مجوفة عائمة بجانبه فهاجمها ليقلبها، ثم استطاع حفيده أن يشاهد رمث
2
أوليس الذي حرص القرش
3
على تخريبه، وقد مرت مراكب الفنيقيين ذوات المجاديف أمام أجيال من الدلافين ، وكانت حيازمها
4
أول ما زخرف بنقوش على شكل السمك، وما كان هذا الطعم ليغري أحدا.
وظهر طراز جديد من السفن الشراعية على البحر المتوسط في زمن الرومان، ظهرت الأشرعة المنحرفة، المسماة بالأشرعة اللاتينية أيضا، والتي تنصب على ثلاث صوار، ثم جاء العرب فكانوا أول من استعمل المتفجرات قاذفين ضربا من القنابل باليد أو بالآلة فكانت تصفر إذا ما سقطت في الماء، وتساق سفن البحر المتوسط بالأشرعة والمجاديف مدة عشرة قرون.
وكان أول ظهور لباخرة مجهزة بدواليب في سنة 1840، ويتطرق الخطأ إلى الخبراء، الذين لا يصدر غير كبير سوء عنهم كما في أيامنا، حول ما للاختراع الجديد من قيمة سحرية، ومن ذلك ما حدث حوالي سنة 1780 من عزم إنكلترة أن تنشئ أول مركب حديدي فصرح الخبراء بأن الحديد هو من الثقل الكثير ما لا يعوم معه كما أنه يؤدي إلى انحراف إبرة البوصلة، ويبدو أصحاب الغاب وتجار الخشب من ذوي الوطنية فينشرون أغاني وقصائد على «أسوار إنكلترة العجوز الخشبية»، ومع ذلك فقد ثبت أن السفن الحديدية أقل ثقلا من السفن الخشبية، ولما مرت سنون أخر ظهر للفولاذ من الفوائد ما هو أعظم من ذلك.
وقد أثار تجهيز أول باخرة بمحرك احترازا عاما.
وتبرز المدخنة بين الأشرعة، وتظهر الأسطوانة السوداء بين الصواري شيئا مضحكا، ومما كان يحدث في بعض المرات أن تلبد خمس مداخن قصيرة حمر بين ست صوار عالية على فواصل متساوية، فيزيد تضاد هذا المنظر بالدواليب التي تدور بلا جهد، ويحمل منظر هذه السفن في النقوش الملونة على تمثل بنات عجائز لابسات شالات وقبعات مصنعة مجاوزات ردهة رقص أمام حضور ساخرين.
وقد تحول رسم السفن بتقدم الفن، كما تحول رسم السيارات بعد حين، وذلك أن أمريكيا وضع في المركز، منذ مائة سنة، لولبا كان اختراعه قد أدرك في بلاد أخرى، وكان هذا من أهم الاختراعات في إنشاء السفن، وكان هذا من الحظوة كالمجداف الأول وكالباخرة الأولى، وكان اللولب محل سخرية الخبراء في البداءة، وكان أسود يوم عرفته آلهة الرياح لدى الأغارقة، وهي مما يمكن مشاهدته على برج أثينة، هو ذلك اليوم الذي جرؤ السياح فيه على الركون إلى البخار من دون الأشرعة، وتشعر هذه الآلهة بما وقع من ازدرائها فتنتقم لنفسها من زهو الآدميين بإرسالها إلى القعر كثيرا من هذه السفن المختالة الخالية من الأشرعة.
ومع ذلك فإن الآدميين وفقوا بالتدريج لإنشاء محركات أصغر مما كانت عليه وأقوى فزادوا بذلك طاقة السفن، وما كنت ترى حتى سنة 1890 غير واحد في المائة من السفن تزيد حمولته على ثمانية آلاف طن، وتزاد الأبعاد بسرعة فيبنى الآن من السفن ما تبلغ حمولته ثمانين ألف طن، وكانت السفن الشراعية والسفن البخارية تتساويان عددا تقريبا حوالي سنة 1880، ثم أخذ عدد الأولى ينقص سريعا كخيل العربات، وبعض الأغنياء الغريبي الأطوار وحدهم هم الذين يصرون على الطواف في البحر المتوسط في يخوتهم الشراعية المجهزة بمحركات ديزل، وذلك كما لو كانت أخريات العربات في مدخل الحديقة المركزية بنيويورك تجهز بمحركات مساعدة، وأما السفن الشراعية الكبيرة القديمة التي يتعلم فيها تلاميذ المدارس البحرية الصغار أمور الملاحة فتشابه سفن الأزمنة الغابرة.
ولم تزد سرعة البواخر بنسبة اتساعها ما بلغت سرعتها في قرن ثلاثة أمثال ما كانت عليه فقط، وقد كان نقل الشاي من الصين إلى إنكلترة في أسرع نهبوغ
5
يتم في ثلاثة عشر أسبوعا فصار اليوم لا يدوم غير خمسة أسابيع.
وأدى إنشاء قناة السويس إلى زيادة اتساع السفن في البحر المتوسط، وظلت الملاحة في البحر المتوسط حتى سنة 1870 ضربا من المشاريع الداخلية، فكان أهل السواحل يسافرون بحرا كما كان الفنيقيون والأغارقة يصنعون بين شاطئ وآخر، ومن النادر أن تجد بينهم من كان يجرؤ على المغامرة في البحر المحيط، فلما أسفرت قناة السويس عن فتح ساحل الجنوب صار صاحب كل مركب يحاول أن ينتقل سريعا في البحر وأن يستفيد من تجارة الشرق بعض الشيء على الأقل، ومن هنا كان الحافز إلى إنشاء سفن أضخم مما في الماضى، وهذا إلى أن الإنكليز كانوا يشقون عباب البحر بأكبر سفنهم، وتفيق المرافئ القديمة ، التي كانت موانئ عالمية ما عد جبل طارق آخر الدنيا، عن حياة جديدة رغيدة وتصبح مرافئ بحرية عظيمة وفق روح القرن العشرين، وهذه هي حال مرسيلية القائمة منذ خمسة وعشرين قرنا، وهذه هي حال نابل وجنوة والجزائر وبرشلونة، وقد أنشئت سفن كثر عددها في مصانع زادت شيئا فشيئا، ولم تلبث قدرة السفن العالمية أن جاوزت عشرة ملايين طن.
وقد خدمت هذه المرافئ، التي كانت مراكز وصل بين الطرق الرومانية ثم الطرق القومية، بالخطوط الحديدية الجديدة التي تصل إليها رأسا، وبدا أول نقل للسلع الشرقية من سفينة إلى مقطورة خط حديدي له من الشأن في تاريخ الإنسان ما لنظام القنوات الأول المصري، وصار يمكن مسافرا مريضا أو طالب راحة حوالي سنة 1900 أن يركب للمرة الأولى، ومن غير ضرورة إلى خلع خفه على ما يحتمل، مقطورة نوم بباريس فينتقل منها إلى سفينة ويجاوز طريق برنديزي بخطوة ويداوم على السفر برا حتى شنغاي، وهكذا يصبح البحر المتوسط بعد الآن ممرا بحريا صغيرا لرحلة طويلة من خلال العالم.
وعادت المداخن لا تدخن، وأخذت السفن المجردة من المجاديف تلوح مجهزة بقوى خفية كالسيارات، وهكذا يكون النفط الذي لم يعم إلا بعد الحرب العالمية الأولى قد غير هو أيضا منظر مرافئ البحر المتوسط، وكان الحضور اللابسون ثيابا صيفية والمتكئون على دربزين السفن الفاخرة يشاهدون منظرا دانتيا
6
منذ هنيهة، كانوا يرون صفين أسمرين طويلين من العمال يتقدمان إلى لوحين مترجحين بين الرصيف وبطن السفينة المفتوح فيفرغان فحما من أكياس ضاربة إلى صفرة، ثم يعودون بسيرهم النمطي نحو كومة عظيمة من الفحم في الناحية الأخرى، ويسترهم الغبار بين ضجيج مصم، ويعملون أربع ساعات أو ثماني ساعات أو عشر ساعات مسرعين تعبين معا، فيلوح أن هذا المنظر من بقايا عصر الرق.
واليوم يقطع الصحراء، بفضل الفن الحديث، أنبوبان آتيان من حقول النفط في العراق، ويجري البترول من الآبار إلى الأنابيب ليخرج ثانية في مرفأ سوري بعيد ألف كيلومتر ويصب في صهريج واسع فينقل منه إلى خزانات السفن الكبرى بأنابيب أخرى أصغر من تلك، ويسيل البترول إلى هذه الخزانات بالمضخات آليا. وإذا ما نظر إلى الفوائد الفنية نظرا عاما؛ أي إلى ما للقوة الدافعة من فعل بالغ وإلى اختصار أربعة أخماس زمن الرحلة وإلى اقتصاد تسعة أعشار اليد العاملة، وجدت أقل شأنا من الفوائد الاجتماعية التي اكتسبت بهذه التحولات. وما كان من استبدال النفط بالفحم يعد حادثا اجتماعيا مشابها لنظام المصانع الحديث أو للتدابير التي تهدف إلى حماية النساء والأولاد، وما كان من استعمال الفحم في القرن التاسع عشر لتسيير المحركات للمرة الأولى أثار احتجاج ربات البيوت لتلويثه ثيابهن، وأما اليوم فيمكن باخرة تجوب البحر المتوسط أن تظل بيضاء كالإوزة، كما أن الملاحين الذين يصبون الماء من دلائهم على سطح المركب صباحا لا يرون غير غسل أيديهم من الغبار.
ووقع حادث ثالث ساعد على تغيير منظر السواحل بين أول استعمال للبخار وأول استعمال للبترول، وذلك أن من كان منذ خمسين عاما يدنو من ميناء ليلا لم يرشد بغير إشارة لامعة مترجحة ببطء، وكان كلما تقدم أمكنه أن يبصر على الشاطئ نور صف من المصابيح الكامدة.
وقد حول نور الكهربا منظر الشواطئ والمرافئ الخارجي تحويلا تاما، ويكون الفرق أوضح كثيرا إذا ما نظر إليه من الساحل.
وقد تلقت أمريكة قوة النور المبدعة من أوروبة، فردتها إلى العالم القديم مرتين على شكل عجيب بواسطة جفرسن وإديسن، ولا يقاس ما حققته أمريكة في أمور أخرى بما أتمه هذان الرجلان، فقوموا ذات ليلة صيف بنزهة على زورق بخاري في خليج بالبحر المتوسط لتروا، على ما يحتمل، منحنى ساحليا منسجما ممتدا في الظلام بغتة على أثر استدارة قصيرة ولتسمعوا صراخا، وتتعود عيونكم نور الكواكب مقدارا فمقدارا، وتبصرون شبح الجبل، وإنكم لكذلك إذ ترون استنارة استدارات الشاطئ من جديد، وهنالك تدركون أن سكان سواحل البحر المتوسط لم ينتفعوا، منذ أرشميدس والبوصلة العربية، باختراع انتفاعهم بالنور الكهربي.
وكان أول عهد لابن البحر المتوسط باللاسلكي في خليج جنوة وسبيزية، وما اتفق لمركوني ولدلسبس وللمهندسين الذين أنموا قوة البخار وقدرة البترول المحركة يلقي الدهش في تمستوكل وقيصر، ونابليون أيضا، فيجعلهم يأسفون على جهل زمانهم لهذه الاختراعات.
ومع ذلك فإن وجه الطبيعة على البحر المتوسط لم يتغير في القرن العشرين بالبترول، ولا بالنور الكهربي، ولا باللاسلكي، تغيره بالطائرة في زمن الحرب وزمن السلم.
وكانت الباخرة وحدها واسطة الاتصال بين الغرب والشرق مع إمكان النزول إلى الموانئ، وأما اليوم فيمكن أن يذهب من باريس إلى بغداد في عشر المدة التي كانت تقتضيها هذه الرحلة من غير أن يمس البحر، ولا تزيد المسافة بين الشواطئ المتباعدة على بضع ساعات.
واليوم أخذت الطائرات تنقل السلع نقلا متزايدا فضلا عن المسافرين، فخسرت قناة السويس، التي بذلت الأمم الحديثة من الجهود في سبيل إنشائها ما بذلت، قسما من قيمتها، واليوم يتدرج البحر المتوسط إلى فقد شأنه العالمي الذي كان قد استرده منذ نصف قرن.
وتثبت الحرب الحاضرة مقدار ما يخسره البحريون الحربيون من شأنهم، وتمحي القواعد البحرية والمرافئ البحرية وراء القواعد الجوية والمرافئ الجوية، حتى إن رودس وقبرس والسويس، وجبل طارق أيضا، عادت لا تعين مصير العالم القديم، ونرى البحر المتوسط يتحول إلى بحيرة رويدا رويدا.
2
إذا ما قرأ الأمريكي في بلده البعيد تاريخ أوروبة الحديث وتاريخ حروبها هز رأسه مبهوتا سائلا: هل تصف القصة مجانين أو أولادا يتنازعون حول لعبة أو قطعة من الحلوى؟ لقد كلفت البلقان الحقيرة الواقعة شمال بلاد اليونان، والتي اقتتل في سبيلها أربع مرات من السنين الستين التي انقضت بين حرب القرم والحرب العالمية الأولي، بنى الإنسان حياة مئات الألوف من الناس مع عطلها من الحضارة والتقاليد، وهل نشأت هذه المذابح عن خصومات دينية أو عن ثورات اجتماعية أو عن مكافحة رق لا يطاق؟
يوجد شيء من ذلك، ومع ذلك فإن فتن المقدونيين ورغبة الصرب في الحرية وعزم البلغار على الاستقلال وشوق أهل رومانية إلى الوحدة الإقليمية أسباب غير كافية لإثارة مثل تلك البلبلات، وكان أقسى وجوه الاضطهاد قد خف بعد الثورة الإغريقية، وما كان من إقامة برلمانات وحكومات شعبية وكنائس قومية قد أحدث ضربا من الوهم حول الحرية في روح العصر الجديد، وما كان من عطل هذه الشعوب البلقانية من ماض عظيم كما للأغارقة والسويسريين لا يجعلها محل اكتراث أحد، وما كان من هذه المنازعات حول قطعة أرض في بلد كئيب حادث يمكن أن يظل غير ذي خطر، أن يظل غير ذي صدى كالأنباء التي تنتهي إلينا عن التبت أو أروغواي، مع عدم بحث في عالم موحد بعد.
وقد انتهت تلك الحروب؛ أي حرب القرم (1854-1856) والحرب الروسية التركية الثانية (1876-1878) والحروب البلقانية (1912-1913)، بتغيرات حدود في البلقان، بتغيرات قصيرة الأجل فلا يبالي بها غير المؤرخين مع أنه لم يكد يمر عليها قرن، ولم يسفر مؤتمر برلين الذي أبطل نصف الفتوح في تركية عن قرار ذي بال، وإن شبه جزيرة البلقان الوحشية الجبلية المضطربة دوما والتي أحدثت في أيامنا ضجة كبيرة في البحر المتوسط والتي أنتجت قيما غير دائمة، وإن وطن تلك العروق والشعوب الوثيقة القربى التي كانت قد قضت حياة بداوة فتحولت إلى مقاتلة، ولكن مع كونها مؤلفة، في الغالب، من فلاحين أميين وقليل من الزعماء الطامعين، وإن شبه الجزيرة هذه مع جميع منازعاتها حول الحدود، قد جلبت إلى الروح أقل مما جلبه تاريخ مدينة واحدة من مدن إيطالية أو جنوب فرنسة، والواقع أن انتصارات الألبان أو أهل الجبل الأسود كانت غير ذات قيمة للإنسانية.
ولا جرم أنه كان هنالك مثاليون وأبطال للحرية، ولكن من النادر أن بدوا زعماء، وهم لم يكونوا ذوي نفوذ حاسم في تاريخ بلدهم قط، ولم تساو بيوت الأمراء التي تذابحت وقسمت بلادها إلى معسكرات متعادية حياة رعاياها، وليس من المفيد إذن أن تذكر وقائعها ومعاهدات سلمها، وقد جلبتها منازعاتها إلى البحر المتوسط دوما، وقد طمعت في مرافئ كدراج
7
وسلانيك وكوستنجة غالبا، والصراع الوحيد الذي يستحق الذكر هو الذي وقع في سبيل الآستانة والمضايق اللتين ظلتا قبضة الترك أربعة قرون بعد سنة 1453.
وكان العامل التاريخي وراء جميع هذه المنازعات هو اصطدام النظم الأريستوقراطية الكبيرة الأخيرة الثلاثة التي كان يحاول كل واحد منها، على وجه مباشر أو غير مباشر أو بواسطة موسطين، أن يزيح الآخرين من البلقان، وكانت روح الثلاثة تشابه روح الآلهة الأوميرية التي أوحت إلى روح محاربي تروادة، وإنما الفارق في أن الأمر عاد غير خاص بآلهة، بل خاص بثلاث جماعات هرمة، أي بروسية والنمسة وتركية، ولم يكد يتحول شيء في طراز الحكم، الذي هو من طرز القرون الوسطى، في هذه البلاد الثلاثة التي كانت نظمها مناقضة لمبادئ الثورات الكبرى، وقد انساق آل رومانوف وآل هابسبرغ وآل عثمان مع ملايين الرعايا وفق مقاييسهم الخاصة في غضون الأزمنة الحديثة غير مبالين بحوادث الغرب.
وكانت هذه البلاد الثلاثة متصلة بالبحر المتوسط، فأما إمبراطورية القياصرة فتجاوره بأملاكها الواقعة على البحر الأسود، وأما إمبراطورية آل هابسبرغ فتجاوره بتريسته وفيوم، وأما الإمبراطورية التركية فلم تزل إذ ذاك مالكة نصف شواطئ البحر المتوسط تقريبا ما دامت سورية ومصر ولبنان تابعات للسلطان في سنة 1912، ولم يكن السلطان إذ ذاك خاسرا لغير شاطئ شمال أفريقية الممتد بين مراكش وتونس، وكذلك كان السلطان يملك اسما ما بين أدرنة وأرضروم، وما بين كوستنجة وأسوان، وما بين بغداد وصحراء ليبية، ومع ذلك فإن هذه الحكومة كانت محتضرة فاسدة منذ زمن طويل، فلم تكن لتستند إلى بحرية قوية ولا إلى مالية غنية ولا إلى روح إدارية، وكان لهذه الدولة دعامة بالجيش والدين وحدهما؛ أي بالقوة والتعصب، ولم يزل الوضع كما كان عليه أيام (السلطان) محمد ووارثيه.
وكان آل هابسبرغ يملكون من ناحيتهم ثمانية بلاد مختلفة، وكان لهم من الرعايا من يلبسون الطربوش في البلقان، ومن كانوا خلائف المصلح هوس
8
في بوهيمية، ومن لم يزالوا ينصبون تماثيل للعذراء في مفارق الطرق، ولم يوفق هؤلاء الآل قط ليوجهوا الشعوب الكثيرة الخاضعة لهم، وذلك لمنحهم الغلبة للألمان والمجر على حساب الأمم الست الأخرى.
ولم يكتف قياصرة روسية بإمبراطوريتهم الواسعة، ولم ينفكوا يوجهون أبصارهم إلى المضايق مع أن روسية لم تهدد من هذه الناحية قط، وقد انتحلوا أمر حماية أمم البلقان التي تمت إلى الروس بقرابة العرق والأرثودوكسية، وهم لم ينقطعوا عن إثارة الفتن آملين أن تفيدهم في الاستيلاء على الآستانة. وبينما كانت الأمم الغربية تعنى بالمسائل الاجتماعية العظيمة وباستعمار أفريقية، كانت هذه الإمبراطوريات العريقة في الرجعية تتخاصم مبدلة محالفاتها دوما، وكان من نتائج هذا أن تقدم رعاياها إلى المجازر من غير أن تستطيع ترغيبهم بعواطف ومنافع، وكنت لا ترى في ذلك الزمن من الشوق إلى الحرية في غير أمم البلقان المزدراة والمبتغاة معا.
وإذا رجعت البصر إلى حروب البلقان الأربع لم تجد فيها من الأباطرة أو القواد أو السياسيين من هم عظام، وابحث في حياة الإمبراطور فرنسوا جوزيف وفي حياة قيصري روسية الأخيرين وفي حياة السلطان عبد الحميد، تر أن بعض هؤلاء الملوك كان ضعيفا وأن آخرين منهم كانوا طاغين غادرين، وكان هؤلاء الأربعة يملكون أرضين كثيرة وكانوا يطلبون المزيد مع ذلك، وكانت هذه الحكومات تحوك الدسائس في الخارج بدلا من جعل دولها عصرية، وكان الإمبراطور النمسوي والقيصر الروسي من شدة التباغض ما لا يشتركان معه في مهاجمة تركية واقتسام إمبراطوريتها كما حلما به، وكانت إمبراطورية كل منهما من كثرة المؤامرات ما أدى إلى شهر حروب وما أسفر وقت السلم عن فتن بين الأمم. وإذا ما وجب علينا، مع ذلك، أن نذكر أمة بلقانية أكثر بروزا من غيرها ببسالتها وحميتها القومية، وجدنا الصرب الذين يتألف منهم معظم ما يدعى اليوم صقالبة الجنوب، أي اليوغوسلاف، ويلوح أن أقل أمراء البلقان قوة أكثرهم أهلا للالتفات، فقد استعد ملك الجبل الأسود الجندي الصيرفي الشاعر الصنديد كأبطال الروايات الفينية الهزلية، ميكيتا، لاعتصار مال من الدول الكبرى ولتزويج بناته الحسان بوارثي البلاطات الأوروبية العظيمة، واليوم ترى إحداهن ملكة إيطالية.
وكان اكتراث الروس للبحر المتوسط أقل من اكتراث الترك له، وإذا ما نظر إلى الأمر من حيث اتقاد الذهن فاستثني فردريك شوبن الآتي من ناحية البحر المتوسط لا من الشرق، وجد اقتصار الروس على بضعة آلاف من المثقفين ووجد الروس قوما من الفلاحين المحدودي الذكاء والعابدين للقيصر كإله والمضحين بأنفسهم في سبيله. وعلى العكس لم يكف الترك عن القيام مدة ثلاثين سنة بما يثير ما لا حد له من الفتن في سورية ومصر وألبانية وجزيرة العرب وكريد، ولم تكلل هذه الفتن بالنجاح في غير البلقان حيث كان الروس والنمسويون يتناوبون إمساك الدويلات الجديدة في أحواض العماد، ولم يكن هؤلاء الحماة ليسمحوا بإقامة جمهوريات لما تنطوي عليه الجمهوريات من بذور الخطر نحو الإمبراطوريات المسنة، وهكذا أنعم على البلغار والرومانيين والصرب بملوك حفظوا حتى بعد الحرب العالمية الأولى مع أنه جدد تنظيم بقية أوروبة بين الدورين، وقد حافظ هؤلاء الملوك الصغار على عروشهم مدة أطول مما حافظ حماتهم ما دامت روسية والنمسة أسقطتا أسرهما المالكة.
وقد أدت حروب البلقان، التي هي مقدمة الحرب العالمية الأولى، إلى ضعف تركية، ثم قد أدت هذه الحروب إلى نزاع بين المؤتمرين طمعا في الدولة العثمانية، وزاد هذا ما كان يسود الدول العظمى من توتر حول موضوع الآستانة، وعجل هذا وقوع الصراع، وتوضع سلسلة من المعاهدات فتغلق المضايق أمام جميع السفن في البداءة، ثم تفتح للجميع، ثم تفتح وفق بعض الشروط، ثم تصبح إحدى هدفي الحرب العالمية الأولى الرئيسين في البحر المتوسط، والواقع هو أن من يملك المضايق والسويس يكون في وضع أحسن من وضع من يمسك رينس أو وارسو، والبحر المتوسط هو الذي سبب حدوث محالفات حاسمة، سبب تحالف إيطالية والحلفاء وتحالف تركية وألمانية.
وعلى البحر فصلت الحروب العالمية أو فصلت بسبب البحر على الأقل.
3
حاولت كل من الإمبراطوريات الثلاث المنحطة أن تقوم، قبل انهيارها في الحرب العالمية الأولى، بأعمال يأس إنقاذا لنفسها مضحية بروح الزمن، وذلك كالجاني المتهم الذي يحاول أن يبرئ نفسه بيمين كاذبة، ومن ذلك أن إمبراطور النمسة ظن أنه يحول دون ارتداد الشعوب الساكنة ضمن حدود الإمبراطورية بالإذن في حرية استعمال لغات هذه الشعوب، ومن ذلك أن كلا من القيصر والسلطان منح شعوبه دستورا مزعوما بفعل الحوادث الثورية، وذلك في سنة 1905 وسنة 1908، ولكن مع عدم كفاية في العمل وقلة في الإخلاص، وكان الإمبراطور والسلطان من المشيب ما لا يتنزلان معه عن امتيازات تعوداها، وكان القيصر عاجزا عن اتخاذ قرار حول هذا الموضوع. ومن علائم الانحطاط الأخرى ما نذكره من انتحار ولي عهد آل هابسبرغ نتيجة صلات غرامية، وما كان من المزاج النزفي في كثير من أبناء الأسرتين الروسية والإسبانية ينطوي على تحذير رمزي لهما.
ولم يدر في خلد أحد من أقطاب الإمبراطوريات الثلاث أن على الدولة المنهوكة أن تجدد نفسها داخلا، وهذا ما صنعته حكومة لويد جورج في الإمبراطورية البريطانية وفق مبدأ التطور الإنكليزي التقليدي، فلما رفض القيصر كل تغيير خسر عرشه وحياته في أثناء الثورة الروسية، وأما إمبراطور النمسة فقد ترك لولي عهده إمبراطورية محتضرة، وأما السلطان فقد خلع مع ما أبداه من خداع، ويخرج أخوه من سجنه ويملك مدة عشر سنين كدمية أو ككرة شحم مزخرفة بأوسمة بعد أن كان يقضي حياته في مغنى
9
واقع شرق البسفور قائم أمام قصر أخيه السلطاني، ويحمل السلطان السابق بهذا الانقلاب على مشاهدته في الشاطئ الغربي ذلك القصر الذي كان يسكنه أيام حكمه الذي دام ثلاثين سنة.
ويسلك زعماء تركية الفتاة سبيل العنف، ولكن مع روح إنشائية، شأن بلاشفة الروس بعدهم، وينشرون في أثناء كفاحهم مرسوما يقضي على حياة ألوف الحيوانات فيعد أفظع حادث وقع في البحر المتوسط مع غنى هذا البحر بالوقائع والأوبئة والزلازل، فقد جمع ذات يوم ما في شوارع الآستانة من الكلاب الساكعة عدة قرون، وتوضع في سفينة ويؤتى بها إلى جزيرة قفر في بحر مرمرة حيث يأكل بعضها بعضا، ويرجع إلى هذه الجزيرة بعد بضعة أسابيع فلا يرى فيها غير عظام، ولم تنل الآستانة بذلك شيئا من النظافة ما ألقي عبء إدارة الأزقة هنالك على عاتق الكلاب، وكان هذا أول عمل فاشي في أوروبة مؤيد للقانون الأدبي الجديد الذي يهدف إلى توطيد النظام بالظلم.
ولما أخذت الإمبراطورية التركية، التي كانت آنئذ أعظم دول البحر المتوسط، تفنى بدت إيطالية وفرنسة وارثتين طبيعيتين لها ، وتبصر إنكلترة، التي هي أقوى من كل واحدة من هاتين الدولتين بدرجات، ما ينطوي عليه اتفاقهما العرضي من تهديد لها فوفقت لفصل كل منهما عن الأخرى، وكان يمكن قطبين سياسيين حقيقيين في باريس ورومة أن يعرف إمكان ائتلاف «الأختين اللاتينيتين» وأن جهاد بلد كل منهما بنجاح لا يكون إلا باتحادهما عند الخطر الأجنبي، ومع ذلك فإن أمور أوروبة كانت تعاني الكثير من تخاصم بعض الأسر، وكان تنازع الأختين وتحاسد الإخوة يحول دون وقوفهما حيال مطامع الأجنبي.
وما قامت به إنكلترة من كفاح وصولا إلى سيادة البحر المتوسط ضمن الأحوال العالمية الجديدة يعد موضوعا أساسيا لتاريخ هذا البحر في عصرنا، كما يعد مبدأ تقليديا من مبادئ تاريخ إنكلترة، وقد لاح حين إمكان تحالف الدول اللاتينية أو تفاهمها على الأقل، وقد نشأ هذا الميل إلى الاتحاد عن إحدى المصائب، وذلك كما يقع في الأسر غالبا، والمصيبة هي ما كان من إزاحة الدولتين من السباق الاستعماري بأفريقية، وكانت إيطالية المستقرة بالبحر الأحمر تطمع في شمال أفريقية الشرقي لتجعل منه معقلا ضد إمبراطورية فرنسة الاستعمارية الناشئة في شمال أفريقية الغربي، غير أن إيطالية أصيبت بهزيمة ساحقة من قبل فرق إمبراطور إثيوبية في سنة 1896.
وتمضي أربع سنين فيزحف الفرنسيون نحو النيل آتين من الغرب، ويقهرون من غير أن يخوضوا غمار معركة؛ وذلك لأن قائد المائة مرشان الذي هو من أحسن المستعمرين بأفريقية اضطر إلى إنزال العلم الفرنسي الذي كان قد رفعه في القرية الزنجية، فاشودة (كودوك)، الواقعة على النيل الأعلى؛ وذلك لأن القائد الإنكليزي كتشنر رجا منه بأدب أن يدع المكان للعلم البريطاني.
وقد أسفر امحاء فرنسة عن تقسيم أفريقية إلى منطقتين تقسيما سلميا، ثم كان الائتلاف الودي، ثم كان إخاء السلاح في الحرب العالمية الأولى، وقد قضى هذا التغيير بسيادة البحر المتوسط لنصف قرن، فوافقت فرنسة على تأييد مصالح إنكلترة بأسطولها الخاص، وحافظت إنكلترة على شواطئ فرنسة الشمالية في مقابل ذلك، وتجد إيطالية نفسها خارجة عن هذه المصالحة، وتحاول إيطالية في أربعين سنة أن تزعزع الصداقة الفرنسية الإنكليزية التي تضمن سيادة البحر المتوسط باجتماع الأسطولين اللذين هما أعظم أساطيل أوروبة.
وتكاد تنجح ذات مرة، وتقتسم الدولتان الكبيرتان، فرنسة وإسبانية، مراكش بعد مفاوضات دامت أعواما فأخذت إسبانية فاس وأخذت فرنسة مراكش، وغدت طنجة دولية لكيلا يقيم أحد حصونا أمام جبل طارق، وهكذا تكون دولتان من دول البحر المتوسط قد انتحلتا حماية أمة ثالثة.
وكان جيولتي يدير أمور إيطالية إدارة المدرك فلاحت له فرصة مقابلة الشر بمثله فاستولى على طرابلس امتلاكا لهذه الولاية التركية التي تدعى اليوم ليبية، وكانت تركية الواهنة تحتضن انقلابها في ذلك الحين، وكانت النمسة وألمانية المرتبطتان في إيطالية بحلف ثلاثي قد تركتا هذه الأخيرة تحتل جزيرة رودس وجزائر الدوديكانز.
وبما أن ليبية واقعة بين تونس الفرنسية ومصر نصف الإنكليزية وبما أن هذه الجزر واقعة في الطرف الأقصى من الشرق؛ أي بجانب ساحل آسية الصغرى الجنوبي الغربي، فإن إيطالية كانت، كما يلوح، متجهة نحو البحر المتوسط الشرقي تماما كاتجاه فرنسة نحو البحر المتوسط الغربي، ومع ذلك فإن إنكلترة التي لم تكن مالكة لأرض على ساحل البحر المتوسط بدت في كل مكان من هذا البحر، وقد قسم شمال أفريقية بين الدول الأوروبية حين انحياز تركية إلى جانب ألمانية سنة 1914، وسيؤدي هذا الحلف إلى ضياعها عما قليل، ولم تسفر الحرب العالمية الأولى البالغة الخطورة في البحر المتوسط بأسبابها ونتائجها عن أية معركة بحرية كبيرة؛ لأن جميع دول هذا البحر كانت في معسكر واحد خلا تركية التي أسطولها لا يستطيع الخروج وخلا النمسة التي ظلت محصورة في شواطئ البحر الأدرياتي الضيقة، وإذا عدوت معركة أترانته التي وقعت سنة 1917 لم تسمع للمدافع صوتا غير الذي وقع أيام الحرب الأولى عندما شقت بارجتان ألمانيتان رائعتا القيادة طريقا لهما بين أساطيل الأعداء بعد كثير من المحن فطالبتا بالمرور من الدردنيل.
ولم يكن لها الحق في المطالبة بهذا المرور ما دامت تركية محايدة في ذلك الحين، غير أن زعماء تركية الفتاة القابضين على زمام الحكم آنئذ كانوا من خريجي المدارس الحربية الألمانية، وكانوا مدربو جيوشهم يهتدون بضباط من الألمان، وقد حمل رجال من ذوي الإقدام سلطان تركية وبرلمانها على عقد حلف تركي ألماني في بضعة أيام وعلى ترك البارجتين الألمانيتين تمران من المضايق، وكان هذا العمل من الجرأة ما يقاس معه عزم شابين عاشقين على الفرار ثم اقترانهما وجعل أبويهما تجاه أمر واقع، وما كان من وقوع هذا الزواج نتيجة نفحة ريح بين تركية وألمانية انتهى بطلاق وانهيار بعد أربع سنين.
أجل، إن ذلك القران لم يعين مصير الحرب، غير أنه أطالها كثيرا، ولو كانت تركية من الحلفاء لاستطاع الحلفاء أن يساعدوا روسية ويقهروا الدول الوسطى سريعا، ولم يكن الحلف الألماني التركي نتيجة صداقة تاريخية ولا نتيجة شعور شعبي مفاجئ، وإذا كان قواد الألمان قد دربوا الجيش التركي في سني ما قبل الحرب فإن أمراء البحر الإنكليز دربوا البحرية التركية ومهندسو الإنكليز حصنوا الدردنيل، ولم تعرف الحكومة التركية غير قسم من خط بغداد الحديدي أنشأه الألمان، ولم يتم هذا الخط إلا وفق تصاميم إنشاء إنكليزية، ومن ثم ترى الحلف التركي الألماني لم ينشأ عن غير رغبة شرذمة قليلين من ضباط ثوريين لم يعيشوا إلا قليلا بعد الهزيمة، ولم يكن هؤلاء الرجال، ولاسيما طلعت باشا وأنور باشا، غير سلف بارزين لطغاة الساعة الراهنة.
وتهزم في ذلك الحين أقوى دولة بحرية في العالم من قبل أضعف دولة بحرية، فقد دحر الترك، الذين لم يكونوا ملاحين قط، الإنكليز في الدردنيل دحرا متصلا وأكرهوهم على الرجوع نهائيا، وقد جعل ضيق المضايق، حيث تتدانى القارتان تداني ضفتي نهر البوتوماك، هذا الوضع أمنع من عقاب الجو، وقد قام الدليل بذلك مرة أخرى حول قدرة موقع ملائم على الدفاع بقوى صغيرة ضد أسطول قوي جدا، ولمثل هذا السبب دحر الروس فيما سعوا إليه من اقتحام المضايق من الشمال في قرون كثيرة كما دحر البندقيون في محاولاتهم دخول المضايق من الجنوب.
وما قام به الترك من الدفاع عن بزنطة السابقة في معارك الدردنيل وغليبولي تلك يدل على حمق كل حرب أوروبية تجاه مصادر صناعة السلاح الأوروبي، وكان الإنكليز قد أعدوا المضايق للترك وسلحوها بمدافع من صنع معامل كروب الألمانية، وقد ذبحت هذه المدافع نفسها الإنكليز الذين حاولوا التقدم، وأغرقت بارجة من أعظم بوارج العصر، وأنقذت العاصمة التركية، وقد حبط حصار البرزخ المزدوج بسبب ما أبدي من رخاوة في تنفيذ الخطط التي هيأها تشرشل، ولما ضربت المضايق بالمدافع في سنة 1914 ظن الكثير في العالم بأسره أن الحضارة رجعت إلى الوراء ألف سنة، وأن الناس لم يزالوا في عصر حرب تروادة، وكان قد أتى جيش من بعيد فيما مضى وحاصر قلعة مدة عشر سنين، وكانت بقايا أسوار تلك القلعة صامتة وحيدة بين أشجار مزهرة هنالك، ويزورها المؤلف حين وقوع المعركة البحرية الكبرى.
وكانت المدافع تقصف بعيدة، وكان أهل العاصمة يرتعشون حينما يمر صدى قصفها من خلال بحر مرمرة حتى الآستانة، بيد أن هذا لم يكن غير وهم سمعي، وكان الأسطول الروسي يحاول أن يشق طريقه في البسفور آتيا من البحر الأسود، وكانت تعد هزيمة عظيمة للترك كما يلوح.
وكان الروس قد تلقوا من الإنكليز في ذلك الزمن وعودا قاطعة حول موضوع الآستانة مع أنهم كانوا قد أقصوهم عنها عدة قرون، وكان بطرس الكبير قد قال بصوت عال: «لا أحاول نيل أرض، بل أحاول نيل ماء.» ولم ينفك خلفاؤه يحلمون بقبة كنيسة أيا صوفية. أجل، صارت الآستانة مسرح اعتراك مرة أخرى، أجل، قاومت الآستانة ودامت المعركة، غير أن الترك والألمان لم يستطيعوا استغلال انتصارهم في البحر المتوسط، وهم قد دحروا عندما حاولوا اقتحام قناة السويس من فلسطين.
وكان لدى سياسي الإنكليز إصابة نظر في كل أمر خلا ما وقع في بلاد اليونان، وكان لا بد للحلفاء من مساعدة بلاد اليونان بلوغا لباب الدردنيل وقهرا للترك في آسية الصغرى، وكان ملك اليونان على خلاف مع وزيره الأول فأدى هذا الخلاف إلى إسقاط الملك. وكان الملك قسطنطين قد استولى على أرضين كثيرة في ولاية عهده أو أمر بالقبض عليها، وكان شديد الإعجاب بالجيش الألماني وكان صهرا للإمبراطور، كما كان يأبى أن يملي الإنكليز عليه وضعه، ومع ذلك فإن الحلفاء كانوا محتاجين إلى حليف، لا إلى محايد، فأكرهوه على التنزل عن العرش، وكان ابن اليونان الحقيقي الوزير فنيزلوس يشابه أوليس بسجيته فيتصف بالسرعة والنشاط والجموح ويخاطر مقداما، ويغادر أثينة سرا، وينضم إلى كتائب الغزو في شمال اليونان، ويظهر حاكما شبه رسمى، وتذكرنا مأساة آل الملك اليوناني من غير ناحية بمأساة أسلافهم الأسطوريين، ولكن مع خلوهم من مثل سوفوكل ليجعلهم خالدين، ولما روى مندوب جمعية الأمم الفرنسي السامي هذه القصة بعد حين صرح برغبته في الفراغ من هذه الصفحة غير المشرفة كثيرا في التاريخ.
ويظهر في الحرب العالمية الأولى مضيق آخر منيع مناعة الدردنيل، ولكن الإنكليز هم المدافعون في هذه المرة، وذلك أن جيشا ألمانيا تركيا شق طريقا له من خلال صحراء القدس متوجها نحو قناة السويس التي تقول القصة إن موسى قاد اليهود من محلها إلى الجهة الأخرى، وكان الإنكليز قد تسلطوا على مصر منذ بدء الحرب ونصبوا خديوا مواليا لهم مع التصريح باستقلاله ... تجاه أنفسهم، وقد عزم الإنكليز، كالترك في الدردنيل، على إمساك قناة السويس بأي ثمن كان، والواقع أن القبض على الدردنيل كان يعني سقوط الآستانة واتصال بعض جيوش الحلفاء ببعض، وعلى العكس كان احتلال قناة السويس من قبل العدو يعني سد طريق الحلفاء، ويلوح اليوم أن مثل هذا العمل يتوقف على العامل الجوي الذي كان غير فتاك في ذلك الحين.
ولم يمكن انتصار إنكلترة في فلسطين وسورية إلا لأن العرب انضموا إلى إنكلترة في وسط الحرب، ويدل ما بين الزعيمين العربيين، حسين باشا وابن سعود، من منازعات لا نستطيع بيانها هنا على أن هذين الرجلين كانا مسلمين تقيين، كانا خصمين إذن لفتيان الآستانة الترك الذين كانوا قد ابتعدوا عن قواعد الدولة العثمانية الدينية بما تلقوه من تربية أوروبية. أجل، إن ثوريي العرب لم يكونوا أقل ملاءمة للعصر الحديث من ثوريي الترك، غير أن أبناء بلاد العرب الحقيقيين وفقوا بين سلاحي محمد : العلم الحربي والإيمان.
وكانت الوهابية مذهب حنبليي الشام (؟)، وجد الوهابيون مائة سنة لتنقية الدين القويم الذي يدافعون عنه بقوة السلاح، ولا جرم أنهم اقترفوا من الخطأ ما كانت مذاهب البحر المتوسط النصرانية قد اقترفته في اقتتالها بدلا من أن تحارب عدوها المشترك، فقد انضم المسلمون إلى الشعوب النصرانية الغربية قضاء على أبناء دينهم في استانبول.
والواقع أن التعصب الديني الممزوج بالتعصب القومي يعمي الناس.
4
لا عهد للبحر المتوسط بمثل هذا السقوط منذ خمسة قرون، وقد فتح الترك، بعد القسطنطينية، نصف ساحل البحر المتوسط كما فتحوا ما وراءه مع سرعة نجاح وزيادة فلاح، وقد صار جميع شرق البحر المتوسط وجنوبه قبضة الترك في نهاية الأمر، ولما سقطت بزنطة، أو القسطنطينية، للمرة الثالثة في أواخر سنة 1918 انهارت إمبراطوريتها في آسية وأفريقية نتيجة لهذا السقوط.
نعم، غيرت البلاد الساحلية الأخرى سادتها في الأوقات الأخيرة، غير أن هذا التبديل المحدود زمانا ومكانا لم يتناول سوى أقسام صغيرة من الساحل، ومع ذلك فإن عالما انكسر في هذه المرة بأشد مما انكسرت به الإمبراطوريات الثلاث التي تكلمنا عنها آنفا، وذلك أن روسية وألمانية غيرتا شكل حكومتيهما مع عدم تعديل جوهري في منظرهما وحدودهما، وذلك أن النمسة قسمت مع بقاء أجزاء إمبراطورية آل هابسبرغ قبضة الشعوب الساكنة هذه الأملاك، وعلى العكس جزأت تركية ثلاث من الدول العظمى الأجنبية إلى ستة بلاد مع بقاء سيادة ضيقة لها، والجزء السابع من الإمبراطورية وحده هو الذي ظل تركيا، وهكذا صار نفوذ الدول الغربية عظيما في القسم الشرقي من البحر المتوسط ولا يزال كذلك حتى اليوم.
ولا تجد بين الحكومات الجديدة التي قامت بعيد الحرب العالمية الأولى واحدة تستحق الإعجاب غير حكومة مصطفى كمال باشا بتركية، ويشرف هذا الرجل الجليل على وجوه الطغاة المعاصرين الآخرين من عل، ويوفق بنشاطه ووعيده، في بدء الأمر، لزلزلة معاهدة صلح شائنة فرضت على الترك من باريس، ثم محا هذه المعاهدة بانتصاراته، وما عن له من فكرة إنقاذ القسم المركزي من مجموع هار
10
أمر عظيم عظم نشاطه الذي حقق به هذه الفكرة. ويمكن مؤلف هذا الكتاب أن يصف كمالا لمعرفته إياه شخصيا كما عرف كثيرا من العظماء المعاصرين فيقول إنه ذو عينين زرقاوين ونظر حالم ينم على ميل شعري يرى مثله لدى ضباط البحرية ولدى القواد في الغالب، وما عليه من ظاهر نبيل يناقض مناقضة كبيرة ما تعبر عنه من مكر وجوه كملوك العراق وجزيرة العرب.
ولكمال ما يكفي لخلوده بتحريره المرأة من دوائر الحريم؛ وذلك لأن هذا العمل أكثر ثورية من كل ما أتم في حقل تحرير المرأة بالغرب، فقد تحولت بفضل كمال هذه المخلوقات المبرقعات، اللائي لم يكن لينبغي لهن أن يبدين أفواههن ولا رءوسهن ولا أعناقهن، إلى فتيات عصريات يسبحن في البرك العامة، وهكذا يكون كمال قد قضى في سنين قليلة على نظام اتبع عدة قرون، وهكذا يكون نساء أمة مؤلفة من خمسة عشر مليونا من الآدميين قد جيء بهن من عزلتهن إلى نور العصر الجديد، وفي الوقت نفسه حظر هذا الجبار المنور، هذا المشترع الذي يذكر الإنسان بمحمد في عنايته بالصحة العامة، الزواج المبكر الذي كان شائعا عند بلوغ البنت اثنتي عشرة سنة من عمرها، كما أنه حظر تعدد الزوجات.
ويتخلى كمال بالتدريج عن سلطاته المطلقة في سبيل برلمان لا ينال حقوقه ولا يوسع نطاقها إلا بنسبة تقدم التربية العامة بين شعب كان معبدا، ويثبت كمال دهاءه وإقدامه بعدم حلوله محل الخليفة بعد أن خلعه، ولا يقاس هذا الخلع بخلع أحد البابوات عرضا كما قد يفكر فيه طغاتنا اللانصارى. والواقع أن الخلافة التي قيل بها بعيد محمد، كما قيل بالبابوية بعد يسوع والقديس بولس، قد ظلت مع القرون مرتبطة دوما في سلطة الإسلام الزمنية، ولم يحدث قط أن انغمرت في منازعات كالتي اشتدت في الغرب في القرون الوسطى، وكل ما في الأمر هو أن الرئيس الزمني والرئيس الروحي شخص واحد في الإسلام، فإذا ما غير الخليفة عاصمته أحيانا كان ذلك نتيجة نقل مقر الأسر المالكة بالتتابع فقط.
وكان كمال أتاترك عالما بتاريخ بلده وروح قومه، وقد قام أيام كان ضابطا بدراسات أعمق مما صنع معظم معاصريه من شبان الترك الذين قبضوا على زمام تركية المحتضرة في دور الانتقال، وكان كمال يعرف أن بنيان الإسلام يهتز إذا ما ألغيت الخلافة، وكان يعرف أن مسلمي مكة والهند يفقدون طمأنينتهم بذلك، ومع ذلك كان من الشجاعة ما صرح معه بأن زمن هذا النظام قد انقضى فقال: «يكفي أن نكون إخوانا في ديننا.» وليس من الصحيح إذن أنه أبطل الدين كما أبطل لبس الطربوش وإن كانت بعض تصريحاته العامة واضحة الزندقة. أجل، إنه صادر الأوقاف الدينية وحول رجال الدين إلى أناس من موظفي الدولة، غير أنه لم يضطهدهم كما فعل روس هذا الزمن، وكما فعل الألمان بعد حين. أجل، إنه لم يغلق المساجد، غير أنه أدخل الأبجدية اللاتينية وحمل حتى الشيب على تعلمها.
وما أصوب حكمه في الزمن إذن! وقد ثبت هذا بما أبداه المثقفون من سخط حينما جرؤ الملك العربي الحسين على انتحال لقب الخليفة الذي ألغاه كمال. وكان علماء الكلام من المسلمين يجادلون في مؤتمرات مهمة تعقد في الحين بعد الحين بالقاهرة ومكة، كالمجامع النصرانية في القرون الوسطى، حول معرفة من ينصب خليفة من غير أن ينتهوا إلى قرار. وقد تبدد نفوذ الشرق بالسيارة والمذياع، وعاد الملوك المسلمون في الشرق الأدنى وفي مصر لا يختلفون عن أواخر ملوك الغرب بشيء خلا ما يحتمل من كونهم أكثر مكرا وأدكن منهم أدما، ولن تقوم الخلافة، ولن تبعث تركية السابقة، مع أن البابوية لا تزال قائمة حتى بعد زوال الدولة البابوية، وهي لم تعدل تعديلا جوهريا بمنح الحبر الأعظم شوارع قليلة في رومة وأمتارا مربعة قليلة من الأملاك.
وأتم كمال هذه الثورة بجيوش قومية، واستفاد كمال من محاولة ملك اليونان قسطنطين، الذي دعي من المنفى سنة 1922، تحقيق ما لم يسطع أن يصنعه له وزيره فنيزلوس منذ ست سنين، ويطرد فنيزلوس، وتقبل الملكية قبولا حارا من قبل الشعب اليوناني المتقلب دوما، ويرى الملك قسطنطين أن تركية الحديثة هي من الضعف ما يقدر معه أن يغزوها ويجردها من أملاكها في آسية الصغرى التي كانت إغريقية في غابر الأزمان، وينظم الأغارقة هذه الحملة برخاوة لا تقاس بما يقوم به عدوهم من استعداد رائع، ويسفر اعتمادهم الأهوج على مساعدة إنكلترة وما كان من تقدمهم السريع مع عدم اتصال وثيق بالمؤخرة عن إصابتهم بهزيمة هائلة عقبتها اضطرابات وفظائع في إزمير وعودة الملك بلا مجد إلى أثينة وتنزله عن العرش، ويموت الملك الشريف مع ضعف في المنفى، ومع ذلك فإن عدوه كمالا أثبت لأوروبة المنهوكة تماما أن الجيش التركي العصري الكامل العدة والمؤلف من جنود لابسين ثيابا خاكية
11
لا يزالون ذوي جبروت كالترك فيما مضى، أى كالإنكشارية الذين كانوا يلبسون عمائم ويركبون حصنا وينقضون على الكافرين هازين سيوفهم المحدبة.
وما تم لهذه الأمة الصغيرة المجددة من انتصارات كبيرة مكن كمالا من إلغاء معاهدات باريس بعد إمضائها بأربع سنين، ولم يحمل الدول العظمى على الاعتراف بتركية الحديثة فقط، بل نال فضلا عن ذلك سيادة المضايق مع هدم ما كان قد أنشئ فيها من الحصون ضمانا لحرية مرور السفن كما نال الجزيرتين المجاورتين.
ويحذو حذو لينين الذي نقل عاصمته إلى داخل روسية فيوجب هجرة بين سكان استانبول. أجل، إن هذه المدينة هي بزنطة في كل وقت، هي الموقع الجغرافي الرائع الذي لا مثيل له، هي المصر ذو الآثار المشهورة بجمالها، غير أن الجسر القائم على القرن الذهبي والذي يربط غلطة بالبيرا
12
عاد لا يهتز تحت ثقل دواب الجمهور، غير أن أسواقها عادت لا تعج بجميع كنوز الشرق.
وعلى العكس ترى تركية الصغيرة الجديدة التي تشتمل على جميع آسية الصغرى تقريبا حائزة كل ما تحتاج إليه لتعيش، ولا يمكن أن تجوع كإيطالية أو بلاد اليونان، ولا تجد ما تخشاه من بغي أجنبي أو حصار، وقد استطاعت حتى الآن أن تحافظ على حرية عملها بين إنكلترة وروسية، وما يربط تركية الجديدة من صداقة بروسية منذ زمن كمال، وما عقدته من معاهدة مع فارس وأفغانستان، لم يلبثا أن جعلا منها نصيرة شعبي العراق وإيران المضطهدين وصديقة بلاد اليونان، ولتركية هذه شأن فائق في العصبة البلقانية.
وأدت المصيبة التي أصيب بها قسطنطين إلى تجربة لا يعرف التاريخ لها مثيلا سعة نطاق، وذلك أن نصف مليون من الترك الذين كانوا يعيشون في شمال بلاد اليونان استبدل بهم أغارقة يسكنون آسية الصغرى، ويمكن الشخص الذي كان قد طرد من بيته، ولو ليعود إلى بلد أجداده، أن يتمثل ما توجبه هجرة مليون من الآدميين من المشاعر والمآسي، ومع ذلك فإنك إذا عدوت الآلام الفردية وجدت هذا التدبير يجلب إلى ألوف الناس حرية وأمنا أكثر من قبل، ومن ينعم النظر في نتائج تبادل السكان هذا لا يسعه سوى الاعتراف بنجاح هذه التجربة.
ويوضح تماثل إزمير وسلانيك إقليما ونباتا بعض الإيضاح كون تبادل السكان المفاجئ، كالذي باشره الترك والأغارقة، قد يظهر في نهاية الأمر علاجا شافيا على ما ينطوي عليه من ألم في بعض الأحيان. وقد سار كمال، وفنيزلوس الذي عاد إلى السلطة، صديقين حقيقيين للإنسانية فضلا عن ظهورهما قطبين سياسيين، وقد ثبت من مثالهما إمكان نقل بعض الآدميين، في أحوال ملائمة وعند أقصى الضرورة، إلى بلاد أجنبية من غير خطر ومع وجود نفع.
5
تحول برزخ جبل طارق، الذي كانت الأسود والفيول تجاوزه من أفريقية إلى أوروبة، إلى مضيق ممدود قليل العمق فاصل بين قارتين، والإنسان قد حفر من ناحيته مضيقا مصنوعا منذ زمن قليل في المكان الذي كان برزخ السويس يربط فيه أفريقية بآسية، واليوم يدرس إمكان إعادة برزخ جبل طارق، المستور ماء في الوقت الحاضر، صناعيا. وكان الساحر الحقيقي القادر على تحويل الأسود إلى أبيض والأبيض إلى أسود، دلسبس، أول من اقترح إعادة برزخ جبل طارق، ثم وضع مهندسون من الفرنسيين والإسبان من التصاميم ما أبعد معه نتيجة لتحاسد الحكومات.
وإذا ما نظر إلى الأمر من الناحية الفنية وجد من غير الصعب إنشاء نفق تحت مضيق جبل طارق كما لا يكون صعبا إنشاء مثله بين إنكلترة وفرنسة، فلا يزيد عمق البحر في مكان هنالك أكثر من أربعمائة متر، ويكون إنشاء النفق الجبار سهلا، ويكون هذا النفق مصونا من ضغط الماء صونا كافيا؛ لهذا السبب، ويكون مجموع الطول خمسين كيلومترا، ويكون نحو ثمانية وعشرين كيلومترا من هذه المسافة تحت الماء، ويكون المدخل في إسبانية واقعا شرق صخرة جبل طارق، ويكون المخرج في أرض إسبانية قريبة من سبتة، وهكذا تكون إسبانية قد أشرفت على مدخل البحر المتوسط الغربي كما تشرف إنكلترة على قناة السويس وكما تشرف تركية على الدردنيل، وهكذا تستطيع فرنسة أن ترسل سلعها بهذه الطريق حتى مرافئ أفريقية الغربية، وهكذا تستطيع إسبانية أن تقتصر في الوصول إلى أمريكة الجنوبية على انتقال واحد إلى السفينة، وهكذا يرسل حرير ليون إلى ريودوجانيرو من داكار بحرا كما أن لحم الأرجنتين يبلغ مطاعم باريس بهذه الطريق. وهكذا يكون الاتصال من تحت جبل طارق متما للخط الحديدي الصحراوي الذي يبحث فيه منذ زمن والذي يعد مشروعه من مميزات العبقرية الفرنسية. ومن قول الباريسيين في السنوات الأخيرة: «إن فرنسة تنتهي في الكونغو.» ولهذه الكلمة نصيب من الحقيقة أكثر مما لتصريح بلدوين القائل: «إن حدود إنكلترة على الرين.»
وتعد جبال درن قاعدة لإمبراطورية استعمارية تشتمل على ثلث أفريقية، وهذه هي الإمبراطورية التي ندرسها هنا لمواجهتها البحر المتوسط، وينم تاريخها الطويل المملوء حوادث على زهو فرنسة، ولو بحثت عن سبب اكتراث العالم للإمبراطورية البريطانية أكثر من اكتراثه للإمبراطورية الفرنسية لم تجده في نبوغ الإنكليز الاستعماري الكبير، بل في استقرار عدد عظيم من المستعمرين البريطانيين بأراضي إمبراطوريتهم فقط، ولو نظرت إلى فرنسة، إلى هذا البلد القليل السكان، لوجدت الإمبراطورية عندها مهدا لكتائب استعمارية، ولكن مع وجود مكان كاف، مع وجود عمل كاف، مع وجود حب كاف، في فرنسة لجميع الفرنسيين، وما انفك يكون في المستعمرات من الإنكليز أكثر من الفرنسيين بمقادير كبيرة، وما انفك الفرنسيون يكونون أقل إقداما منذ إقامتهم بكندة، ولم يهاجر من الفرنسيين إلى شمال أفريقية غير بضع مئات من الألوف، وقد بلغ الطلاينة من الكثرة هنالك ما نالوا معه حقوق الوطنيين في تونس الفرنسية.
وإذا ما حسبنا الكثبان وصحراء الجنوب بحرا محيطا لاحت لنا سلسلة الجبال العالية الطويلة الممتدة من مراكش الغربية؛ أي من المحيط الأطلنطي، حتى حدود ليبية ذات صفة جزرية، وهذه السلسلة خاصة بالبحر المتوسط، لا بأفريقية، من كل ناحية، حتى من الناحية الحيوية، وتبدو هذه الأرض الممتدة إسبانية، أو بروفنسية، أكثر منها مصرية، ويبلغ أقصى شمال تونس عرض قرطاجنة وسرقوسة، وهذا ما يثبت كون إقليم هذه الولايات من البحر المتوسط، وهذا ما يسهل علينا أن ندرك به السبب في شعور القرطاجيين والوندال والعرب والترك مدة تزيد على ألفي سنة بأنهم في بلدهم هنالك. وقد حافظت على بأسها تلك الشعوب المتمازجة التي نطلق عليها اسم البربر المبهم والتي قاومت الفتح الفرنسي مدة قرن في جبال درن، وقد أدى قتالها الفرنسيين في عشرات السنين بقيادة رؤساء من ذوي الإقدام إلى شد عزيمة الفاتحين وتعديلهم فنهم الحربي، وهذا ما يحمل إلى عد أفريقية الشمالية مدرسة حربية واسعة لفرنسة مدة قرن، وفتح مراكش، الذي تم سنة 1926، وحده هو الذي منح فرنسة منفذا في الأطلنطي مستقلا عن إنكلترة وإسبانية يمكنها أن تتصل منه بمستعمراتها في أفريقية الوسطى.
وقد حقق بنجاح ما وضع قبل الحرب العالمية الأولى من مشروع قائل بحماية أربعين مليون فرنسي في القارة من قبل مليون فرنسي من لون آخر، وقد قدرت مزايا المراكشيين والسنغاليين الحربية في شنبانية، وقد نقلت جيوش بأسرها من غير خطر؛ لكون القسم الغربي من البحر المتوسط قبضة الحلفاء فلم تجرؤ غواصات الألمان على المغامرة فيه؛ ولأن إسبانية كانت محايدة.
ومن نتائج قدرة الجيوش المحلية زيادة حقوق الشعوب المستعمرة، وتتوقف سلامة فرنسة على جنود ما وراء البحر أكثر من توقف سلامة إنكلترة عليهم، وهذا يفسر السبب في معاملة الفرنسيين لمن يختلفون عنهم لونا بغير ما يعامل به أهل المستعمرات البريطانية.
ومن الضباط الفرنسيين من يرقصون مع المسلمات الجزائريات، ويستقبل هؤلاء من قبل الحاكم؛ أي يقع من الأمور ما لا يصدر مثله عن الإنكليز، ويعد الفرنسيون هذا دليلا على تسامحهم ، وقد تكون الضرورة هي التي تملي عليهم هذا، غير أن هذا السلوك ذو تأثير حسن في ولاء أهل المستعمرات نحو البلد الأم.
ويمكن اتخاذ الحقوق التي جادت بها فرنسة على رعاياها البالغين اثنين وستين مليونا في أفريقية والهند الصينية أحسن مثال ودليل على ما تمتاز به باريس من لندن من جميع الوجوه تقريبا، وكان ضابطا استعماريا الجنرال غليني الذي خدم بلده في ثلاث قارات مدة خمس وعشرين سنة فأنقذ فرنسة أيام معركة المارن بإرساله نجدات من باريس إلى الجبهة في سيارات مشهور أمرها، وكان المريشال ليوتي الذي هو أكبر استعماري في زماننا رجلا ذا مبادئ إنسانية، فيعد أول فاتح جرؤ على التصريح بأن الاستعمار في زماننا لا يسوغ بغير الطبيب والمهندس الأبيضين.
وما بدأ به ليوتي وأستاذه وصديقه غليني في تونكين ومدغشقر من عمل امتد إلى مراكش؛ حيث أصبح مثالا في ميدان الاستعمار، كان أثر نشاط وصبر خمس عشرة سنة، وهنالك في أقصى الغرب من البحر المتوسط فرغ الفرنسيون للاستعمار بروح جديدة، فلم يرهب ليوتي أهل مراكش ولم يضغطهم إلا عند المقاومة الشديدة، وقد استطاع أن يحكم فيهم من غير أن يسلبهم مقدما إليهم نعم الحضارة الفرنسية.
ولفرنسة أن تفخر دوما بما أنشأته هنالك من مرافئ ومدن وطرق، وينتحل ليوتي الشعار: «تبسموا ولا تقنطوا!» ويصلح أثره نموذجا للمستعمرات الفرنسية الأخرى التي نمت سريعا والتي أعاد تنظيمها بحذق جورج مندل الذي هو من أكثر فرنسيي زماننا إقداما مبصرا حربا آتية.
وكان ضعف إسبانية شرطا لازما لقوة فرنسة الاستعمارية، وقد اضطرت إسبانية المنحطة، التي تهددها الصخرة الإنكليزية القائمة في نقطة حيوية من ساحلها الجنوبي، إلى الاكتفاء في أواخر العهد الملكي بأرض ضيقة من مراكش مع مرفأ سبتة كتعويض لها عن جبل طارق، ويسهل أن يضرب بالمدافع شريط الأرض الطويل المكشوف عند الخروج من المصر، وعلى العكس يمكن الهجوم على جبل طارق من التل الذي يسيطر على مينائه.
ومن جهة أخرى، يملك الإسبان ثلاث جزر تعد أهم من جميع المرافئ، يملكون البليار، وكانت هذه الجزر تابعة للإنكليز مدة سبعين عاما ثم الفرنسيين مدة سبع سنين، وهي تصلح قواعد من الطراز الأول لحرب عصرية، وذلك لوقوعها في منتصف الطريق بين مرسيلية والجزائر. وليس من المحالفات البسيطة ذلك الاتفاق الذي منح به الطاغية الإسباني بريمودي فاليرا في سنة 1926 مثاله موسوليني حق إنزال فرق إلى هذه الجزائر في حال الحرب وقفا لوسائل النقل الفرنسية، بل كان عملا غادرا تجاه فرنسة الديمقراطية، ولم تلبث الجمهورية التي قامت في مدريد بعيد ذلك أن فضحت أمر هذه المعاهدة.
ولم تنل فرنسة في القسم الشرقي من البحر المتوسط أكثر مما وفق له في القسم الإسباني، فقد ناهضها العرب مدة عشرين سنة في سورية التي حلت فيها محل تركية، ويلوح أن الفرنسيين لم يكونوا في بيروت أكثر حظوة منهم في دمشق مع ارتباط كل من الشعبين في الآخر برابطة الكنيسة والتجارة منذ قرون، ومن المحتمل أن يكونوا قد أخطئوا في فصلهم سورية عن البحر بسلسلة من الجمهوريات الصغيرة جدا بدلا من إقامتهم دولة واحدة قوية مع ساحل طويل، والواقع أنه كان هنالك من الأحوال ما استعدت معه فرنسة، التي نهكتها الحرب العالمية الأولى، لترك سورية التي أخذتها وقت السلم أو للمقايضة بها، ومن الممكن أن تبصر علائم نصب الفرنسيين حينما تخلوا عن عدتهم الحربية في الإسكندرونة التي ردوها إلى تركية.
ولم تنقطع اضطرابات سورية لهذا السبب أيضا، فمن الممكن أن كان العرب يشعرون، كبقية العالم، بأن نجم فرنسة أخذ يأفل بعد انتصارها على الألمان. أجل، اضطر الملك فيصل إلى التسليم في نهاية الأمر بعد أن أعلن سورية مملكة مستقلة، بيد أنه لم يلبث أن دعي ليملك العراق على حين وفق أخوه ليسيطر على البقاع الغنية المجاورة، وكان كلا الأخوين يعتمد على مساعدة إنكلترة، ولولا النفط الذي يصب في الأنابيب الجديدة لانزوى رأس المال الفرنسي من هذه البلاد تماما على ما يحتمل.
ومع ذلك فإن غنى هذه البقعة الطبيعي وموقعها الجغرافي وجمالها مما يمن عليها برخاء أعظم مما في مراكش أيضا، ولا يزال لبنان يتمتع بمنظر جليل كما في غابر الأزمان، ولا يزال أرز لبنان المئوي ناهضا كما في أيام الملك سليمان، ولا تزال دمشق في الأدنى، في السهل، محافظة على بهائها في عهد العرب، ولكن النساء أصبحن سافرات، وهن يبدين جواربهن الحريرية الباريسية ويفضلن الثعلب الفضي على جلد الدب الذي يباع في كل مكان بلبنان مع عدم صدوره عن أي محل في البلد مطلقا.
6
يعد الصراع بين إيطالية وإنكلترة سببا أوليا لما يعد من نزاع قاطع في البحر المتوسط في الزمن الذي يلي سنة 1930، وما كانت إسبانية، ولا يوغوسلافية، ولا تركية أيضا، لتمثل دورا مهما، ولم تكن فرنسة نفسها غير كوكب سيار تابع لإنكلترة. ونحن، لكي ندرك آمال الطلاينة، نرى الرجوع إلى ما دار حول اقتصاد البحر المتوسط من إحصاءات تمت حوالي سنة 1930.
تشغل إيطالية، التي يحسب سكانها أكثف ما في البحر المتوسط، موقعا عظيما في هذا البحر، والواقع أن فرنسة المجاورة لبحرين ليس لها غير خط ساحلي قصير نسبيا على البحر المتوسط، ولا يمكن أن تعد من بلاد البحر المتوسط تماما، ويبلغ عدد سكان إسبانية خمسة وعشرين مليونا، ويبلغ عدد سكان كل من يوغسلافية ومصر وتركية الحديثة نحو أربعة عشر مليونا، ويبلغ عدد سكان إيطالية خمسة وأربعين مليونا، وأما مصر الواقعة في وادي نهر بين صحراوين فلا يقاس بها بلد كثافة سكان، ويعد في إسبانية وبلاد اليونان وفلسطين 130 أو 140 نفسا في كل كيلومتر مربع، ويعد في تركية 53 نفسا في كل كيلومتر مربع، ويعد في فرنسة 197 نفسا في كل كيلومتر مربع، وأما إيطالية فيعد فيها 359 نفسا في كل كيلومتر مربع، وهذا إلى أنك، إذا ما طرحت بعض البقاع غير العامرة في إيطالية، تجد 540 إيطاليا في كل كيلومتر مربع.
وإذا نظرت إلى سنة 1930 وما حولها لم تجد بين بلاد البحر المتوسط الأربعة عشر غير التي تقل كثافة سكانها كثيرا، كتركية وتونس والجزائر وإسبانية، قد استطاعت أن تقوم باحتياجاتهم الغذائية، وكان معظم هذه البلدان ذا محصول خمر وزيت زيتون يصدر ما زاد على احتياجه منه، وذا محصول كاف من اللحم والصوف. وكان كل من البلدان: فرنسة وإسبانية ويوغوسلافية، يعيش مستقلا تقريبا من زراعته الخاصة ومواده الأولية، ولكن مع افتقار هذه البلاد الثلاثة إلى القطن والبترول.
وكانت فرنسة أحسن توزيعا من ناحية المصادر الطبيعية، وكانت إيطالية أقل حظوة، وكانت فرنسة مشتملة على كل ما تحتاج إليه خلا البترول والمطاط، وكانت من فيض الحديد الخام ما لم تحول معه غير خمسة في المائة من إنتاجها المعدني إلى فولاذ، على حين كانت إيطالية تنتج من الفولاذ أكثر من حديدها الخام أربع مرات، وكان يمكن فرنسة أن تحتفظ بثمانين في المائة من خمرها الخاصة لاستنفادها المحلي، وعلى العكس كانت مساحات واسعة من الأراضي جديبة في إيطالية، ولنباردية وصقلية وحدهما هما اللتان كان يمكن عدهما خصيبتين، وبما أن فرنسة كانت تتمتع عن سعة، ولكن مع رغبة في قضاء حياة أكثر ترفا، فإنها كانت تدخل بمقدار ما تصدر تقريبا، على حين كان معدل الإصدار الإيطالي ثلاثة في مقابل اثنين، وإذا نظر إلى الأمر من جهة النفوس وجد ما تدخله فرنسة يجاوز ما تدخله إيطالية مرتين على الرغم من غنى فرنسة الطبيعي، وكانت إيطالية محتاجة إلى الفحم والحديد والخشب والقمح، ومع ذلك فإنها كانت تكتنف ثلث أهل البحر المتوسط.
ولا شيء أقرب إلى الطبيعة من رغبة هذا البلد في التوسع لكثرة سكانه وفقره في المواد الأولية، والطبيعة تشير إلى أفريقية موضعا لتوسعه.
والواقع أن التاريخ يمثل دوره في هذا البلد على شكل مزدوج، فلم يزل اسم رومة الطنان يثير في أعقابها الأباعد آمالا تحفزهم إلى تقليد أجدادهم، ومن الطبيعي أن تطمع أمة أربعة أخماس حدودها بحرية في التوسع وراء البحر. وقد خيبت السلم التي عقبت الحرب العالمية الأولى آمال إيطالية؛ لأنها لم تعطها شيئا على البحر، أجل، إن النمسة زالت عن البحر الأدرياتي، غير أن يوغوسلافية حلت محلها، وكان ما بين الصرب والطلاينة من تنافس قد بلغ من العظم في الحرب العالمية الأولى ما نظم الصرب معه تظاهرات احتجاجا على ما قطع من وعود لإيطالية الحليفة حين دخولها الحرب؛ ولذا انطلق الفاشي الأول دنونزيو فور انتهاء الحرب العالمية الأولى محتلا فيوم نتيجة هجوم روائي مفاجئ بالغا بهذه الحركة أشد ضروب الملاذ الفنية، ويسأل عن مشابهته للورد بايرون فيزعجه ذلك، ولم يسطع الطلاينة إلا بعد حين أن ينزعوا من اليوغوسلاف، بمعاهدات وبالقوة، خلجانا ومرافئ وجزائر في القسم الشرقي من البحر الأدرياتي، وقد داوموا على تقوية حصونهم واضعين حمايتهم على ألبانية.
وخيبة الأمل بسبب معاهدة الصلح هي التي أدت إلى ظهور الفاشية، لا الشيوعية التي كانت قد خسرت كثيرا من نفوذها في إيطالية، وما كان المحارب السابق موسوليني ليجهل قيمة أبناء وطنه الحربية المشكوك فيها، ولم يكن هؤلاء ليستطيعوا أن يقهروا أعداءهم النمسويين في عشر معارك، ثم حملهم الألمان على الارتداد عن هزيمة جالبة للنوائب. وينظر في مؤتمر السلم إلى فقدان القيمة الحربية هذه، ولا يصيب إيطالية أذى من مناقشة هذه المعاهدة، وعلى العكس تنال إيطالية أكثر مما تأمل فيه بعد معارك خاسرة في ثلاث سنين، فقد ملكت ولايتين غنيتين في الشمال، ولكن بما أنها لم تنل غير فوائد قليلة في البحر نسيت كسلها البحري وهزائمها العسكرية في أثناء الحرب وصرحت بأن حقها هضم عن مكافأة اليوغوسلاف مع أن هؤلاء قاتلوا وألموا أكثر منها.
وكان لدى هذا البلد الفقير الزاخر بالسكان أربع وسائل لإصلاح حاله، وهي: الهجرة والصناعة والاستعمار وتحديد النسل، والهجرة، وهي أقرب هذه الوسائل إلى الطبيعة، قد سهلت أمور إيطالية؛ وذلك أن نحو مليون من الطلاينة هاجروا في سنين كثيرة طلبا للرزق، واليوم يعيش في الخارج عشرة ملايين من الطلاينة، واليوم يعيش ثمانية ملايين من هؤلاء في أمريكة، فلما أغلق هذا البلد الأخير أبوابه سنة 1927 فاض ما زاد على فرنسة، وكانت الهجرة الإيطالية تغني الوطن الأم بمبالغ عظيمة من المال، وكان المهاجرون من الطلاينة يرسلون إلى أسرهم ملايين الدولارات في كل سنة، وكان الإصدار الإيطالي يعود بالفوائد نتيجة ما بين الوطن الأم والمهاجرين من صلات .
ولكن حركة قومية كالفاشية لا تؤيد حلا طبيعيا كهذا، وأقل من هذا تشجيعها على تحديد النسل، فالطغاة يحتاجون إلى جماهير كثيرة، وهم يطمعون في زيادة رأس المال هذا كما يطمع المقامرون، والطغاة يحتاجون إلى جنود قبل كل شيء، وهم يفكرون في العوض منهم لهذا السبب، وتقيد الفاشية الهجرة إذن، وتزيد معدل النسل بما تمنحه من جوائز إذن، وما فتئت الفاشية تتوجع من ضيق المسافة، وهكذا لم يبق للطلاينة غير الصناعة على نطاق واسع أو الحصول على مستعمرات.
وقد ثبت أن الإيطالي لا يلبث أن يلائم بيئته الجديدة ويدل على قيمته في الخارج على حين لا يكتب له نجاح في مستعمراته الخاصة على العموم. والإيطالي كمستعمر يعوزه العناد والتضحية والصبر والضبط؛ أي يعوزه كل شيء خلا الخيال، والطلاينة هم من شدة الولع بالهوى ما لا يكونون معه من أكابر بناة الإمبراطوريات. والطلاينة هم من شدة التطبع بأخلاق أهل الجنوب ما لا يعاملون الزنوج معه بالحسنى، فما انفكوا يزدرونهم ازدراء النخاسين إياهم فيما مضى؛ ولذا كان الطلاينة غير محبوبين في أفريقية الشرقية قبل الحرب العالمية الأولى، حتى إن الطلاينة في أثناء هذه الحرب طردوا نحو الساحل عن اضطرابات محلية متصلة؛ أي كانوا عرضة لحال لم يواجه الفرنسيون والإنكليز بمثلها قط، ولم يتم خضوع السنوسيين في ليبية إلا سنة 1928؛ أي بعد الحرب بعشر سنين.
واسم ليبية هو الذي أطلقه موسوليني على البلد الواقع بين تونس ومصر مذكرا بالاسم الروماني القديم لهذه الولاية، ولا تقاس ليبية بتونس ولا بمصر، فهي مؤلفة من كثبان وصحار على الخصوص، ولا تشتمل على بقاع خصيبة في غير الساحل. وليست إيطالية، ولا الطبيعة، مسئولة عن هذا الوضع الموروث عن الترك الذين خربوا هذا البلد الكثير الخصب فيما مضى، فيجب مرور مائة عام لإصلاح ما تراكم من إهمال في أربعة قرون. ولم تكن على الشاطئ الأفريقي بلاد معدة حينما قالت الفاشية: «نبغي انتشارا، وإلا أوجبنا انفجارا.» ولم يكن الوضع العسكري ملائما للطلاينة حتى الزمن الذي وفقوا فيه نهائيا لقطع الحلف الفرنسي الإنكليزي الذي تفصل ليبية منطقتي نفوذه، وكان من الممكن إنشاء طريق تجوب الصحراء حتى تمبكتو ودارفور فتبلغ السودان الإنكليزي وتشاد.
وهكذا لم تكن ليبية غير باب نافذ نحو الجنوب وغير قاعدة حربية، وهي لا تشتمل على غير طبرق حصنا طبيعيا، ويعوز ليبية مثل ما يملكه الإنكليز في الشرق والفرنسيون في الغرب؛ أي يعوزها نصف قارة يصلح أداة وصل بين بحرين محيطين. وكانت إيطالية قابضة على أجزاء مبعثرة في أفريقية الشرقية؛ أي على بقاع قليلة الخصب في الغالب وغير هدف لمشروع اجتماعي أو استعماري جامع.
وكيف ترى الفاشية بلوغ غرض تكون به إيطالية دولة مسيطرة على البحر المتوسط أو تكون لها الصدارة به في هذا البحر؟ تحتاج الصناعة إلى نفس طويل تمده وتسهل أمره روح اختراع؛ ولذا لم يبق لإيطالية سوى الميل إلى الاستعمار. وقد داومت إيطالية على تقييد الهجرة مع توجعها من افتقادها أبناءها المهاجرين وإن كان مالهم عاملا عظيما في اقتصادها، وتمسك أبناءها وتمنحهم جوائز ليتناسلوا خلافا لمصلحة البلد، وهكذا لم يبق مفتوحا أمامها غير طريق واحد، غير عمر بلاد صالحة للسكن والاستعمار منتجة للقمح والمواد الأولية.
وما كان هذا الهدف ليبلغ بغير أمر واحد، بغير محالفة إنكلترة.
وقد عرض موسوليني في العالم طاغية فظا، وقد كان هكذا في أحوال كثيرة، والواقع أن موسوليني كان دبلميا أكثر منه جلادا أو قائدا أو متهوسا، والواقع أن موسوليني بقية المدرسة الدبلمية الإيطالية التي ذر قرنها في أيام البندقية الأولى فضمنت نجاح طغاة عصر النهضة وختمت بكريسبي وجيولتي في أيامنا.
وقد وفق موسوليني في عشر سنين لاجتذاب خصومه أو لتسكينهم على الأقل، وذلك بنظام محكم من المعاهدات، وهو بما عقده من عهود ملائمة مع كمال بتركية ومع فنيزلوس ببلاد اليونان ومع العرب والإسبان واليوغوسلاف استطاع أن يكون له وضع نافع في جميع هذه البلدان في زمن السلم على الأقل، ولولا هذا لغلب موسوليني في اللعب.
ولمأساة موسوليني ثلاثة أوجه، فهو قد سار مع سنة الطغاة قبل كل شيء، أي وفق الناموس الذي يسوقه إلى حروب جديدة على الرغم منه؛ وذلك لأن أساليب حكومته البراقة تحول دون وقوفه، وذلك إلى أنه كان ممن حملوا بلدهم على الانحياز إلى جانب الحلفاء في سنة 1915 خلافا لرغبة معظم أبناء وطنه، وبذلك يكون قد أبصر مصالح إيطالية الحقيقية آنئذ، فلما قبض على زمام الحكم خسر قدرة نفوذه في الحوادث. ويدخل عنصر ثالث في مأساة موسوليني، وهو معرفته أخلاق قومه، ولم يبد أحد من الشك في الطلاينة أكثر من زعيمهم هذا، وقد سمع المؤلف حديث موسوليني، والحزن ملء فؤاده، عن الألمان الذين يتألف منهم جهاز رائع طيع حول الحرب؛ ولذا تراه، بعد محاولته عشرين سنة أن ينظم الطلاينة على الطريقة البروسية مع معرفته تعذر هذا، قد حالف الألمان المنظمين غير مبصر أن هذا الحلف سيورده مورد الهلاك لا محالة.
ولم يسر موسوليني في سياسته على خط مستقيم، وقد حاول موسوليني أن يتعاون هو وإنكلترة غير مرة، كما أن إنكلترة حاولت أن تحالفه، ولا غرو، فالإنكليز يحسون بتقاليدهم وتاريخهم وآدابهم أنهم أقرب إلى إيطالية مما إلى فرنسة، فإنكلترة قد حاربت فرنسة دوما تقريبا، ولم تحارب إيطالية قط تقريبا، ولما قرر مؤتمر وشنغتن تساوي الولايات المتحدة وإنكلترة بحرية من ناحية، وقرر جعل بحرية فرنسة وإيطالية 5 أمام 2 من ناحية أخرى، أخذ موسوليني يناهض فرنسة، فذكر قومه بنيس وقورسقة وتونس، مع تشجيع إنكلترة إياه في وضعه هذا، وتنسجم منطقة النفوذ الإيطالي ومنطقة النفوذ الإنكليزي في إثيوبية سنة 1925 فيقل نفوذ فرنسة في البحر الأحمر.
وتمضي ثلاث سنين فيعود الإنكليز غير أصدقاء لإيطالية؛ وذلك لأن إيطالية بدأت تكون من القوة ما لا يريدونه؛ ولأنه كان على حكومة العمال بإنكلترة أن تكافح الجبروت الإيطالي، وهذا إلى أن من شأن سياسة القطب السياسي القائمة على القهر أن تقيم كثيرا من العوائق في علائقه الدولية. ويخسر موسوليني بعد بداءة موفقة نفوذه كزعيم حزب لنظامه اللااجتماعي، ثم يصاب بانتكاس في الحقل السياسي الخارجي في إنكلترة وفي غير إنكلترة.
وكان يمكن الفريقين المتنافسين أن يتفاهما حوالي سنة 1928، وكانا مستعدين لصنع ذلك، وقد أنبأت إنكلترة في سنة 1919 بأنها تنوي إنقاص حصونها في مالطة وبأن لديها من الأسباب ما يحملها على نقل قواها البحرية إلى البحار المحيطة. وكانت الدبلمية الإنكليزية قد أثبتت أيام بلفور كيف تحول الإمبراطورية وفق روح الزمن، وكان ساسة الإنكليز يعرفون، كما يلوح، ضرورة ترك أمم أخرى تتوسع في البحر المتوسط على أن يضعوا حدا لهذا التوسع وأن يرقبوه بعض الرقابة. وأما موسوليني فكان يعرف أن مبدأ «الإمبراطورية الرومانية» يمكن أن يكون شعارا فاتنا للجماهير، ولكنه كان يعرف أيضا أن رومة عادت لا تكون مركز العالم كما عادت باريس لا تكون هكذا، واليوم تدعى عواصم العالم الكبرى وشنغتن ولندن وموسكو، ويجب أن تضاف برلين إليها في هذه الساعة، وبما أن موسوليني كان مناهضا لفرنسة، وبما أن سلطان فرنسة أخذ يأفل في أوروبة، لم يكن عليه غير محاولة الاتفاق مع لندن أو برلين، وكان لا يفصله شيء عن الألمان؛ وذلك لأن مسألة التيرول الجنوبي لم تزعجه قط كما أنها لم تهز ألمانية، وكان يمكنه أن يتفاهم مع إنكلترة تفاهما مستمرا ما دامت حكومتها الاشتراكية أمرا مؤقتا، وما دام احتمال الاتفاق مع هذه الحكومة لم يبعد أيضا. والواقع أن الفظائع التي اقترفها موسوليني أقل بدرجات من التي أثارت غضب العالم ضد ألمانية بعد عشر سنين، حتى إنه أمكن أصدقاء إيطالية أن يزعموا أن موسوليني حال دون بعض المفاسد وإن قضى على الحرية.
ويسمي موسوليني إيطالية جزيرة في البحر المتوسط، ويحرض موسوليني قومه على التفكير في الأمور كجزريين، ويصرح موسوليني بأن البحر المتوسط بالنسبة إلى فرنسة خندق بينها وبين مستعمراتها، وبأنه بالنسبة إلى إنكلترة مقصر للطرق البحرية، وعلى العكس يرى موسوليني أن البحر المتوسط بالنسبة إلى إيطالية ساحة حيوية، ومع أن جيوليتي كان ينكر على قومه تسمية البحر المتوسط «بحرنا» ما وجب أن يظل مفتوحا لجميع الأمم جهر موسوليني بقوله: «البحر المتوسط لأبنائه.» وكان الأغارقة قد دافعوا عن هذه النظرية ضد الغزاة من الفرس، وكان الرومان قد دافعوا عنها ضد الجرمان والعرب كما دافع عنها البابا يوليوس الثاني، بعد زمن، ضد الألمان والفرنسيين المتوعدين، وكما دافع عنها البندقيون والإسبان ضد الإنكليز والهولنديين، فهذه النظرية مما يدافع عنه على الدوام.
بيد أن ذلك لا يكون إلا بشرط واحد، وهو أن على البلد الذي هو أكثر بلاد البحر المتوسط سكانا وطول سواحل، والذي هو وارث لرومة السابقة، أن يشتمل على أمة بحرية. ومن قول المريشال الفرنسي مكمهون أن الطلاينة خسروا جميع المعارك وكسبوا جميع الحروب، ومعنى هذا هو أن الطلاينة كانوا دبلميين ومفاوضين بارعين منذ مئات السنين. وكان الطلاينة حائزين نبوغ متأخري البزنطيين الذين كانوا يكسبون معاركهم بغيرهم والذين ظل النجاح حليفهم زمنا طويلا بعد زوال مزاياهم الحربية. أجل، قد يكون من الصواب اعتقاد الشعب الإيطالي أفضليته على جميع أمم البحر المتوسط بعد انحلال الدولة العثمانية وتجاه نصب فرنسة، غير أن هذا الاعتقاد تعوزه الصلابة والأوزان، ومع ذلك فإن من المتعذر زعم توجيه الآخرين مع البقاء مدافعا دوما ما لم ينعم بقوة بالغة المتانة ذائعة الصيت.
ولا بد للتغلب على هذا الزائر الغريب الذي كان لا يسكن البحر المتوسط، والذي كان يختلف إليه بلا انقطاع، أن يتصف بروح الغزو والتضحية والتنظيم والطموح إلى السيطرة، فإذا ما فقدت هذه الصفات وجب الاتفاق مع هذا الأجنبي، ولم تكن محالفة فرنسة أمرا ممكنا لما يؤدي إليه هذا من مضاعفة إنكلترة قواها في البحر المتوسط لمقاومته، ومحالفة إنكلترة وحدها هي التي ظلت ممكنة.
ولا ريب في أن موسوليني بحث عن مرتكزات في كل مكان فوجدها في جزائر الدوديكانيز وجزيرة رودس في الشرق، وفي إسبانية في الغرب، وفي إثيوبية في الجنوب، ويشن حربا غير مشرفة بدبابات وطائرات ضد زنوج عراة مسلحين بقنوات
13
ويقيم على جثثهم إمبراطورية بعد نصر رخيص، فيعد العالم هذه الإمبراطورية تقليدا مضحكا للإمبراطورية البريطانية، وهكذا يفوز ببلد سيكلف استغلاله جيلا كاملا بأموال طائلة، حتى عند عدم افتقاده نتيجة للحرب الحاضرة، ولم يكن نجاحه المهم في نصره الحربي على الزنوج، بل في نصره الدبلمي على إنكلترة، وهو إذا كان من البراعة ما استطاع به أن يصل، على الرغم من هذا الصدام، إلى ضرب من الاتفاق مع إنكلترة في معاهدات الفصح لسنة 1938 فلأن الإنكليز كانوا راغبين في التفاهم معه بإخلاص.
وما كان من تفضيل موسوليني محالفة الألمان على محالفة الإنكليز مع كل ذلك، ومع مقته الزعيم الألماني والألمان على العموم، يثبت سحر طاغية لآخر بمنظر سلاحه الهائل، ولا يلبث موسوليني أن يدرك أنه أساء الاختيار بظهوره عدوا للإنكليزي؛ لهذا الزائر الغريب.
7
كان الزائر غريبا؛ لأنه لم يحاول احتلال أرض وهو لم يحتلها فعلا كما صنع جميع الغزاة السابقين، وكان القوط والوندال والعرب والترك والبربر قد أوغلوا في البحر المتوسط اقتطافا لثمرات شواطئه وإنشاء لمستعمرات كانت تشتمل في قرون كثيرة، في القرون الوسطى، على جميع إسبانية وعلى جنوب فرنسة وعلى جميع إيطالية وبلاد اليونان. وكان أولئك الغزاة الأولون قد جلبوا دينهم وطبائعهم ومناهجهم ومراكبهم مع سلاحهم، وكان أولئك الغزاة قد أتوا قاصدين البقاء حتى الذي اضطر منهم إلى الارتداد بعدئذ. واذهب من دارا إلى مهرداد، ومن شارلمان إلى شارلكن، ومن بطرس الأكبر إلى إسكندر الثاني، ومن قلب الأسد ريكاردس إلى فرنسوا الأول، ومن عمر إلى سليمان، تجد البحر المتوسط قد اجتذب الأمم التي تسكن حوله ما عد مركزا للعالم، فكان جميع هؤلاء يرغبون في هذه البقاع المشمسة وهذه السماء الصافية وهذا البحر اللجيني وهذه الجزر المطوقة بفضة، فتشابه صور الفردوس.
وإذا عدوت الفصل الهولندي الثانوي وجدت الإنكليز وحدهم هم الذين ظهروا على هذه الشواطئ سائحين أغنياء ممتازين فينزلون من يخت ويخفضون علمهم للتحية في جميع المرافئ وأمام جميع السفن، ولا يقفون في غير بعض الجزائر حفظا لمكانهم، وذلك كما يصنع عند وضع الإنسان قلنسوته أو مظلته على كرسي، ثم يتوارون مجددا من غير أن يقولوا شيئا، ولا يلبث أسطولهم أن يصل، مع ذلك، ليشغل الأماكن المحفوظة على هذا الوجه، ومع ذلك فإن هذا الأسطول يبدو متنزها. والواقع أن الإنكليز لم يطلقوا النار إلا نادرا في أثناء إقامتهم بالبحر المتوسط، لم يطلقوا النار إلا ثلاث مرات في 240 سنة؛ أي في سنة 1799 بأبي قير، وفي سنة 1882 بالإسكندرية، وفي سنة 1915 بالدردنيل.
وكان على الإنكليز أن يحتفظوا بمنفذي البحر الداخلي الكبير: جبل طارق والسويس؛ ضمانا لمراسي هذا الطواف، ثم استطاعوا أن يرقبوا تجارة آسية نحو إنكلترة بفضل مرتكزاتهم في البر وأن يحولوا دون اجتماع أسطولي فرنسة في المحيط الأطلنطي والبحر المتوسط. وأخيرا خيل إلى فرنسة، تجاه الحاجز، وصل قناة الجنوب للمحيط الأطلنطي بالبحر المتوسط بواسطة نهر الغارون فيمكن الأسطول أن يجري بذلك من طولون إلى برست، وبدت فرنسة آخر منافس تخشاه إنكلترة بعد القضاء على الأسطول الإسباني، ومع ذلك فإن الصراع الفرنسي الإنكليزي ظل خفيا في السنين الأربعين الأخيرة، وقد زاد فتح الفرنسيين للجزائر احتراز الإنكليز أكثر مما في أي وقت كان.
وكان تحرير إيطالية مبدأ شعبيا في إنكلترة ككل شيء إيطالي، فلما تم هذا التحرير أمكن اشتماله على بذور تهديد لقوة إنكلترة في البحر المتوسط، ولم تكسب إيطالية حروب وحدتها بغير السلاح الأجنبي، ومع ذلك يتساءل الإنكليز: ألا يمكن فوز الطلاينة في البحر ذات يوم كما فاز العرب والبندقيون والجنويون في هذه الشواطئ؟ ألا يهددون إنكلترة بأسطول هائل بعد بضع عشرات من السنين؟ أبصر الإنكليز تجاه هذه الأحوال احتياجهم إلى قواعد أقوى مما لديهم ضمانا لطرقهم البحرية، فوجدوا أن أهم قاعدة تكون في مدخل القناة الجديدة التي سهل على ديسرائيلي أن يبتاع معظم أسهمها.
ومن الاتفاق أن تم إنشاء قناة السويس أيام تمام الوحدة الإيطالية، وعلى العكس لم يكن من المصادفة بدء الدول العظمى باقتسام أفريقية منذ فتح هذه القناة، ويغدو أمر مثل هذه الأملاك من الموضة بين عشية وضحاها، وذلك كما يتكلم العالم بأسره عن قبعة جديدة أو رواية أخرجتها المطبعة، ويختص الإنكليز برقابة القناة الجديدة مع طريق الهند ويفتحون السودان في الوقت نفسه. وكان المصريون قد اعتزوا بالقناة وصاروا يمقتون الأجانب، وكان من نتائج هذا ما وقع من فتن في الدلتا وحول مجرى النيل الأعلى حوالي سنة 1880، ويرفع محمد أحمد راية العصيان وينزع منهم السودان مدة خمس عشرة سنة، وتحدث ثورة عرابي، ويقع جميع هذا في الوقت المناسب للإنكليز.
وتثبت دبلمية البريطان سلطانها في مثل هذه الأحوال، ولا يجزع الإنكليز أمام عدو غير منتظر، بل يشتدون ويشعرون في أنفسهم بوحدة رائعة كما حدث في الحرب العالمية الثانية، وما لاح لهم من فرصة تحرير مصر من زعيمها الشعبي ومن ضرب الإسكندرية بالمدافع ومن موت غوردون بعد ذلك، يعد ذريعة صالحة لفتح جميع السودان، وفي كلا الحالين يصرح الإنكليز على مضض بأنهم مضطرون إلى إطالة إقامتهم بمصر. وتخسر فرنسة نفوذها في هذا البلد مع أن عدد الفرنسيين كان فيه أكثر مما في الوقت الحاضر. وأما إيطالية فلم تكن نافذة فيه قط، وذلك لأن الطلاينة، وإن كانوا فيه أكثر عددا من الإنكليز ثلاث مرات، كانوا من الفقراء المرتزقين في الغالب على حين كان الإنكليز أغنياء قادرين.
ويقضي احتلال مصر من قبل الإنكليز منذ ستين سنة على النفوذ التركي، ويحقق المبدأ الأكبر، الذي صاغه اللورد كرزن بعد حين، فيرمز إلى مثلث السويس والكاب وسنغافورة، ولا يقتصر الأمر على تقصير طريق الهند أكثر من 12000 كيلومتر، ولا على زراعة القطن في دلتا النيل وفي النيل الأزرق، بل يضمن أيضا أمن نصف القارة الأفريقية باحتلال مصر، وتعزز إنكلترة مركزها في أوائل الحرب العالمية الأولى في هذه الأماكن بوقفها حياة قناة السويس وباحتلالها القناة مع جميع وادي النيل واضعة مصر تحت حمايتها.
وكانت استفادة المصريين من الاحتلال الإنكليزي في الكرامة أكثر مما في الحرية، وينصب خديو طيع في سنة 1914، وينادى بعد الحرب العالمية الأولى بابن حفيد لمحمد علي ملكا، وينال هذا الأخير عدة حقوق لبلده، ومع ذلك لا يغادر جنود الإنكليز ومدافعهم وطائراتهم مصر تماما، ويظل المندوب السامي البريطاني، الذي عاد لا يحمل هذا اللقب، أقوى من في القاهرة، ويداوم المصريون على إبداء مللهم من منظر الكتائب البريطانية حتى تدريبها في ثكنتها الواسعة الواقعة على ضفة النيل. ويسأل رئيس الوزارة مكدونلد الزعيم المصري القومي زغلولا عن الحد الذي يرغب أن يرتد الإنكليز إليه، ويجيبه زغلول باشا عن ذلك بقوله: «إلى لندن.»
ويكون لجبل طارق شأن جديد منذ قبضت إنكلترة على هذا القسم الجنوبي الشرقي الحيوي من البحر المتوسط، وذلك لتحوله من حاجز إلى مركز رقابة لطريق الإمبراطورية؛ أي لقيامه بعمل الكاب فيما مضى، ومع ذلك فإن جبل طارق في زمن الحرب يسد الطريق نحو الغرب على حين تحاصر السويس المخرج نحو الجنوب، ويمكن الإنكليز في هذه الحال إذن أن يجلبوا كتائبهم وسلعهم من الهند إلى أفريقية دائرين حول رأس الرجاء الصالح من غير أن يكونوا عرضة لمخاطر البحر المتوسط. وهكذا يتألف من جبل طارق والسويس عند عدم احتلالهما من قبل دولة أجنبية، ضرب من الاتحاد الشخصي كالذي كان بعض الملوك يزيدون به سلطانهم بضمهم إلى مملكتهم ما يرثون من ولايات أخر، وقد ورثت إنكلترة نفسها قناة السويس، ورثت هذه القناة التي أنشأها الفرنسيون.
وقد استولت إنكلترة على الجزيرتين: مالطة وقبرس، بين احتلال جبل طارق واحتلال مصر؛ أي بين سنة 1704 وسنة 1882، موطدة بذلك وضعها الاسترجي في البحر المتوسط.
وتصبح مالطة نصيب إنكلترة سنة 1800؛ أي في زمن بونابارت الذي سمى هذه الجزيرة قلب البحر المتوسط، ويكون ضياعها هزيمة لفرنسة فيشعر بنتائجه في هذه الأيام مجددا ويضاف إلى ما مني به نابليون من خسر كثير على البحر. وتعد هذه الجزيرة الصغيرة مرآة لتاريخ البحر المتوسط من حيث اللغة وفن البناء، واذهب من الكتابات الغريبة التي ترجع إلى الأهلين الأولين، ومر على المسكن الذي يعزى إلى الرسول بولس، واقصد أبراج النورمان، وابلغ قصور فرسان مار يوحنا الغريبة الزاهية، تبصر ما لهذا البحر من آثار عجيبة مؤثرة، وإذا ما نظرنا إلى هذه الجزيرة بعيون شبه مفتحة، كما ينظر إلى منظر عند غروب الشمس، إدراكا لاستدارتها ألقت في روعنا رؤيا حورية، وتحسب لغة أهل مالطة مزيجا من إيطالية الجنوب والعربية مع مسحة فرنسية، ويلوح هؤلاء الأهلون، الذين هم من أبناء مختلف العروق فيقضون حياة هينة متوانية تحت ريح سموم موهنة، منحطين منذ احتلال جزيرتهم، ويقوم معاشهم الرئيس على إصدار المخرمات والخمر، وكان أجدادهم يقضون هنا حياة فيض ومغامرة. وما فتئت مالطة البعيدة ألف ميل بحري من جبل طارق وبورسعيد وقبرس تكون هدف طمع نظرا إلى موقعها المركزي، ويمكن جزيرة كهذه أن تكون نقطة فتح للعالم أو غرض فتح من العالم، فتشابه بذلك أمر امرأة تابعة لهواها، واليوم يعد الخبراء مالطة أقوى حصون العالم، أقوى من جبل طارق وهونغ كونغ؛ وذلك لأن هذه الجزيرة لا ترتبط في اليابسة بغير شريط ضيق تكلف بحمايته؛ ولأنه يمكنها أن تقف جميع قواها على الدفاع عن نفسها.
ويحتل الإنكليز جزيرة قبرس سنة 1878 مدعين حماية الترك ضد الروس، فجاء هذا دليلا ناطقا على فطنة ديسرائيلي، وتطول إقامة الإنكليز بها منذ ذلك الحين، وهم لم يضموها إليهم نهائيا إلا سنة 1914. وقبرس أكبر من جميع الجزر الواقعة شرق صقلية، وتقطعها سلاسل جبال سكنها جميع شعوب البحر المتوسط الجبلية فتجد نبذا تاريخية في كل مكان منها تسترها الطبيعة وتزخرفها، ويقوم مقر الحاكم الإنكليزي على منحدر الألنب، فإذا ما تناول هذا الحاكم راح قبرس الحلو أبصر رمزا اتصال ما بين أغارقة الماضي وبندقييه من ناحية وملاحيه الماثلين اليوم في الجزيرة من ناحية أخرى.
وتحسب قبرس ومالطة - وهما كل ما لإنكلترة من مستعمرات في أوروبة - أثر مبدأ حكومي زال سلطانه، ويبدو سكانهما مبغضين لإنكلترة، ويبلغ الأغارقة بقبرس والطلاينة بمالطة تسعين في المائة منهم، وتدوم الفتن في قبرس حتى سنة 1930، ويرى الخبراء وجوب ترك هاتين الجزيرتين مقدرين عدم الفائدة من احتلالهما، ومع ذلك فإنهما يحصنان في السنين الأخيرة أكثر مما في أي زمن ماض، فتبدو في ميناء فمابوستة، في قرية صيادي السمك الصغيرة هذه، أفواه المدافع بين الخرائب الفنيسية.
وتبعد قبرس من سورية دقائق قليلة بالطائرة، وهنا، في الساحل الشرقي من البحر المتوسط، أسفر انكسار تركية عن وضع جديد لإنكلترة، وعن ضرورة فن حربي جديد لها، وهنالك كان لإنكلترة بضع سفن حربية قبل الحرب العالمية الأولى، فأنشأت بعد حين قواعد كبيرة ونظمت مواقع استرجية ، ومن أهم ما اتفق لإنكلترة من نتائج الحرب العالمية الأولى هو سيطرتها على القسم الشرقي من البحر المتوسط بين حدود ليبية وحيفا، مع عد سورية الفرنسية في الشمال دولة واقية ضد تركية المجددة.
ومع ذلك فإن سقوط الإمبراطورية التركية الذي كان لإنكلترة به مواقع بالغة القوة قد أوجد لها خصما جديدا، أوجد قوة العرب المتزايدة. وكانت السياسة الإنكليزية تستند في هذه البقاع إلى مختلف الأسر العربية المالكة مع تفاوت في النجاح، ولم تبحث إنكلترة عن مستعمرات لها هنالك، وكل ما في الأمر هو أنها كانت تهدف في الغالب إلى معارضة مطامع الطلاينة الذين كانوا يحاولون ملكا هنالك أو اشتراكا في الحكم على الأقل هنالك. وكانت إنكلترة قد وضعت القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب؛ أي عدن، تحت حمايتها في سنة 1839، ثم استولت على جزيرة بريم، فلما وقعت الحرب العالمية الأولى فتحت لها طريق الهند البرية الموازية لطريق الإسكندر الأكبر مارة من إيران والعراق حتى الخليج الفارسي، ثم فتحت عنصرا ثالثا في آخر الأمر، فتحت السماء بخطوط جوية ضامنة للتجارة أيام السلم وللدفاع عن الإمبراطور أيام الحرب، وقد حولت بغداد التي هي أجمل بلد شرقي إلى مدينة عصرية جاعلة منها مركز اتصال بين خطوط الجو الكبرى.
وتتم قصص ألف ليلة وليلة دورتها، فينقل حاك طويل في سوق مكة خطبة ابن سعود إلى الجمهور، وتقطع شوارع المدينة سيارات مصفحة، ويسمع أزيز طائرات فوق بغداد، ويسمع البسفور صفارة البواخر، ويجري نفط العراق في أنابيب إلى عكا، وتمرن الفتيات بدمشق على الألعاب الرياضية لابسات «سراويل قصيرة»، ومع ذلك فإن كل واحد يتوجه وقت الغروب نحو مكة رافعا يديه إلى السماء مرددا قول الأجداد: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله.»
8
ثبت العرب والترك أمام هجوم النصارى أكثر من ألف سنة، وعاشوا حتى بعد انهيار الخلافة، وأثبت الإسلام قوته ووحدته إثباتا مؤثرا على حين كانت النصرانية في هذه السنين الألف تمزق بمنازعات بين مختلف المذاهب؛ ولذا لم يسطع النصارى أن يفتحوا الشرق. أجل، تنازع العرب كما تنازع الحلفاء غير أن أساس دينهم لم يزلزل بمنازعاتهم، ولما تصادم زعيم الحنبلية الإسلامية ابن سعود هو وحسين لم تؤد العوامل السياسية إلى غير نتائج سياسية، ولما صار ابن سعود ملكا للحجاز في سنة 1925 اجتنب لقب الخليفة خلافا لما صنع خصمه حسين. أجل، إن جميع هذه المعضلات لم تحل بعد، ولكن هل تكون هنالك معضلات أخر لو كانت تلك قد حلت؟
ويجادل حول الأماكن المقدسة في القدس بأشد مما حول مكة، حتى إنه رئي في أثناء الحرب العالمية الأولى، ذات حين، أن تسلم القدس إلى البابا كما صنع في القرون الوسطى، وكان الفاتيكان يسعى وراء هذا الرأي الذي لم يكتب له الفوز بسعي من إنكلترة الراغبة في حيازة ضفتي قناة السويس الغربية والشرقية، وهذا الطمع الإنكليزي هو أساس قيام دولة يهودية في فلسطين.
ولم ينتقص المبدأ الرئيس الذي يهدف إلى إيجاد مثل هذه الدولة بما كان يستتر وراء تحقيقه من رأي، وعلى العكس كانت الدولة التي تقيم دولة لليهود تنتفع بهذا الإنشاء، وما أعطته هذه الدولة من ضمان بدا أدوم مما كان بعض المثاليين ينالون به هذا القرار الإنساني، وما كان من عزم عبر عنه الوزير البريطاني مستر بلفور في تصريحه المشهور الذي أصدره سنة 1917 ينطوي على صدق تام، والواقع أن هذا التصريح هو كتاب موجز، على الطريقة الإنكليزية، وجه إلى اللورد روتشلد بهذه الصيغة وهي: «إن حكومة جلالته تنظر بعين الرعاية إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وهي ستبذل أكبر الجهود وصولا إلى هذا الغرض، ولكن على ألا يجحف شيء بما للجماعات غير اليهودية الموجودة من الحقوق المدنية والدينية.»
ولم يكن بلفور واليهود الذين ساورتهم فكرة هذا الوطن القومي أول من لاح لهم هذا المشروع، ولكنهم كانوا أول من حققوه في الوقت المناسب وبالوسائل الملائمة. وكانت الحركة الصهيونية قد وجدت، حوالي سنة 1890، في شخص ثيودور هرزل زعيما ملتهبا ذا روح نبوية، وكان هرزل هذا حسن الذكر مبتدعا، وكان أديبا عاطلا من الحول والمال، وكان قلبه عامرا بإيمانه وعبقريته فطرح حياته البرجوازية جانبا وترك حضارة مسقط رأسه فينة وموسيقاها، وجاء ليقيم على الصخور العالية في البرية التي كان أجداده قد طردوا منها منذ ألفي سنة، ويغادر الصحافي بلاد النمسة ويقصد البحر المتوسط ويعزم على اجتذاب أبناء دينه إلى هنالك.
ومع ذلك لم يجب دعوته أحد في السنين الثلاثين التي عقبت ذلك، والواقع أن الترك الذين كانوا يملكون فلسطين، وكذلك الدول العظمى، لم يمنحوا المهاجرين أي ضمان كان، وينطوي تاريخ المستعمرات اليهودية الأولى في فلسطين على فتون كالذي تجده في تاريخ الطلائع الأولى بأمريكة وجنوب أفريقية، ويشد مثالهم العظيم عزائم اليهود أيام الاضطهاد.
وترد الحركة الثانية، التي هي أشد من الأولى بمراحل، إلى سنة 1919، وترتبط في عصر الأجداد ارتباطا عاطفيا، ومع ذلك فإن العنصر الديني في هذه الحركة الثانية أقل كثيرا مما في الأولى فتقوم الصهيونية اليوم على الأمور العرقية أكثر مما على الأمور الدينية، ولو نظرت إلى نسبة اليهود القليلي التدين في فلسطين لوجدتها كنسبة المرتابين من اليهود والنصارى في جميع العالم، ويعد هذا الدور الثاني من الدولة اليهودية أشد عصفا من الأول نظرا إلى ما بلغ من النتائج وإلى ما يعترض في طريقه من المصاعب.
ولما وصل أول رعيل من اليهود إلى المحمية البريطانية الجديدة أكرمه العرب كأقرباء وأبدوا له عطفا بالغا عبر عنه الملك العربي فيصل في كتاب حار، حتى إن هذا الكتاب يوكد كون الشعبين فوق أرض فلسطين لا يقدران على العيش مع النجاح إلا بتعاونهما.
ومع ذلك وقع على عجل مثل الذي أثار اللاسامية في أنحاء العالم في كل زمن، فقد برز ما اتصف به اليهود من الذكاء والهمة والثبات بما يوجب عجب الشعوب المجاورة التي لم تثر إلا لأن هذه المزاحمة الجديدة الصارمة تحملهم على العمل الشاق خشية الموت جوعا في مثل هذا البلد، ويذعر الإنكليز من أمر كان يمكنهم أن يبصروه، وتتحول شكاوى العرب إلى وعيد، والوعيد إلى عنف، وتشتعل فتن في البلد، ويتدخل الجيش في الأمر، ويحف الخطر بغتة حول ما ناله الإنكليز من عطف العرب بمشقة.
ويعترف الإنكليز بخطئهم مع الألم على خلاف معظم الأمم الأخرى فيرسلون لجنة إلى القدس، وتصرح هذه اللجنة مخلصة بأن كلا الفريقين على حق، ويصف مكدونلد السياسة الإنكليزية في فلسطين ب «اللعب ذي الوجهين»، ويلوم الحكومة على قطعها وعودا يتعذر إيفاؤها، ويوضح تشرشل الوضع بقوله إن اليهود لم يوعدوا بجميع فلسطين قط، بل وعدوا بوطن قومي فقط، وتقف الحكومة الإنكليزية الهجرة اليهودية لهذا السبب وتضع من الخطط ما يقسم به البلد، ثم تطرح هذه الخطط جانبا، وتشتعل فتن جديدة نتيجة لذلك، وتقع حوادث قتل وتبدأ حرب صماء، ويحيق الخطر بعمل طلائع اليهود ويقضى عليه في الغالب.
والواقع أن ما أنجز على ذلك الشاطئ البحري في سني الهجرة اليهودية الأولى كان أثر نهضة عظيمة، وقد حاول منتقصوه أن يثيروا الريب بتوكيدهم عمل المبالغ الضخمة التي أخذها اليهود من جميع بلاد العالم، مع أن جميع المستعمرات تنال مالا أو تستمد عونا من الوطن الأم أو من الشركات الخاصة. وعلى من يود أن يتبين عظمة هذا العمل أن يقابل بين فلسطين قبل الهجرة اليهودية وبعدها، فهنالك يرى أن عدد اليهود من السكان في سنة 1919 كان ثمانية في المائة؛ أي خمسين ألفا، فأصبح عدد من يعيش من اليهود في بلد أجدادهم بعد ربع قرن خمسمائة ألف؛ أي 35 في المائة من السكان، وما كان من تحويل هذه البقاع الجافة الجديبة التي لا تفيض لبنا ولا عسلا خلافا للتوراة، وإنشاء مدن ومرافئ وخطوط حديدية وشبكات كهربية، يثبت للعالم ولليهود أنفسهم اتصاف اليهود بما كان مجهولا من قدرة على الاستعمار.
ومن دواعي العجب أن يتحول قوم التجار والدكاترة والعلماء الذين كان يلوح بعدهم من الطبيعة إلى قوم زراع، ولم تكن هذه حال الأولاد وحدهم، بل هي حال أول جيل من المهاجرين، بل هي حال الرجال والنساء الذين قضوا حياة أبناء المدن في أوروبة، ففي هؤلاء اليهود جميعهم بعثت غرائز الأجداد التي كبتت في البلدان الأوروبية، والحق أن اليهود صنعوا في فلسطين ما كان الفنيقيون قد صنعوه في قرطاجة، فأصبحوا زراعا.
وقد أدى وزن العصر وما هنالك من خصام وآلام وما لدى اليهود من مزاج نشيط إلى إيجاد أسطورة جديدة، فعاد اليهود لا يتكلمون فيما بينهم عن الملك سليمان أو عن هدم الهيكل موجهين بحثهم حول الموالح وكهربة الصناعة وحول مصانع بحرية جديدة في حيفا، ويحار العالم المملوء احترازا من كون النظام وحفظ المواعيد قاعدة بين الجماعات اليهودية الجديدة، ولا غبار على ما بين اليهود وقدماء المستعمرين من صلات، وما اتصف به اليهودي من عناد وتفاؤل أعانه على اقتحام الأزمة الشديدة التي عقبت ازدهار المستعمرة الجديدة الأولي.
والحق أن أمرا محيرا غير منتظر قد ظهر، فقد غامر اليهود بحرا وبدوا ملاحين صالحين، وقد لاح في البحر المتوسط علم جديد أزرق وأبيض، ولا يكفي هذا لحل المعضلة اليهودية لا ريب؛ وذلك لأن جزءا صغيرا فقط من ال 15 مليون يهودي يمكنه أن يعيش في فلسطين أو يرغب في الإقامة بها، ومع ذلك فإن الأمر لا يعدو حد البداءة، ومع ذلك فإن هذا الشعب الطريد المضطهد بين الأمم وفي غضون الأجيال يملك من جديد وطنا روحا وعملا.
وهنا نبصر حادثا فريدا في حياة البحر المتوسط، وهو أن جميع الشعوب الأخرى قد توارت، فهذه الشعوب إما أن تكون قد تمازجت وإما أن تكون قد تغيرت، غير أن الأرض ظلت كما أوجدتها الطبيعة وحولتها الحضارة. وقد تحول المصريون والفنيقيون واليونان والرومان والغوليون والقوط والعرب والنورمان في بلادهم الخاصة أو في البلاد التي فتحوها، واليهود وحدهم هم الذين أضاعوا بلدهم في بدء تاريخهم، فحملتهم هذه الحال على حفظ سجيتهم الخاصة بين الشعوب الأجنبية، وما كان من عودتهم إلى بلد أجدادهم قلب الدورة، وما دار حول هذه العودة ظهر مثل أسطورة.
14
9
كانت مرافئ البحر المتوسط مدججة بالسلاح في صيف سنة 1939، وما بين إنكلترة وإيطالية من صدام، وما بين الطليان والألمان من حلف، كانا يجعلان الحرب في هذه النواحي البحرية أمرا لا مفر منه. والواقع أن مصير السلم في البحر المتوسط كان يتوقف على رجل واحد، ولو انحاز موسوليني إلى الدول الغربية كما كان قد صنع قبل ذلك بخمس وعشرين سنة لظل البحر المتوسط أكثر سكونا مما كان عليه في الحرب العالمية الأولى. والحق أن تركية المجددة الصغيرة كانت لا تستطيع أن تنحاز إلى الألمان بين المحالفات والمصالح الراهنة، وما كان الألمان ليقوموا بحرب بحرية في الجنوب بلا حلفاء، وذلك إلى أن وجود أملاك كبيرة خلف الشواطئ الشرقية تابعة للرقابة الإنكليزية أو الفرنسية كان يؤدي إلى حياد البحر المتوسط ما رضيت إيطالية بالمنح السخية التي كانت إنكلترة مستعدة لمنحها إياها لا ريب.
ومع ذلك فإن موسوليني الذي كان يزدري مقلده الألماني في البداءة أخذ يبهر بتسلح الألمان الهائل، فصار يحسب هزيمة فرنسة وإنكلترة في حرب قادمة وصار يرى إمكان توسعه على حساب فرنسة بانتصارات بحرية ينالها بعد هذه الهزيمة. وكان إخاء السلاح مع الألمان قد جرب في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية منذ سنة، ثم أسفر تماثل النظام الاستبدادي في البلدين، إيطالية وألمانية، عن تقرير موسوليني لسياسته نهائيا. أجل، لم يكن موسوليني ليجهل أن تاريخ إيطالية وأخلاق الطلاينة وتحول مركز العالم أمور يتعذر معها إقامة إمبراطورية رومانية جديدة، غير أن ما عزم عليه هذا المغامر من مقاتلة إنكلترة نشأ عن تقارب طبيعي بينه وبين هتلر الذي يشابهه في ازدراء الديمقراطيات كممثلة لنظام بطلت عادته.
ولا مراء في أن موسوليني قد نجح في حمله أمة عزوفا عن العمل على القيام بمشاريع مهمة، فأنشأ أكبر أسطول غواصات في البحر المتوسط، كما بنى بحرية حربية رائعة. بيد أن قلة رءوس الأموال ونقص المواد الأولية وعدم النظام والإيمان؛ أي طبيعة إيطالية والطليان، أمور قيدت برنامج تسلحه وحالت دون بلوغه الأرقام الألمانية ولو من بعيد، وقد كان من سوء الحظ عدم سيطرته على شعب يشابه الألمان كما صرح بذلك ذات مرة في أثناء حديث خاص. وكانت إيطالية تملك مدرعتين في سنة 1936 وكانت تصنع مدرعتين أخريين في مقابل ثلاث سفن فرنسية قديمة من الصنف نفسه، وفي مقابل نحو ست مدرعات يملكها الإنكليز في البحر المتوسط من مجموع خمس عشرة مدرعة.
ولا مراء في أن لإيطالية فائدة وقوعها في مكان القتال نفسه على حين لا تملك إنكلترة في البحر المتوسط الغربي غير بضع قواعد بحرية أنشئت على عجل. وعلى العكس كانت إنكلترة وفرنسة تفضلان إيطالية بنيلهما مصادرهما من خارج الوطن الأم مع إمكان تمونهما بطريق المحيط الأطلنطي، وكان يمكن إنكلترة في السويس أن تحول دون اتصال إيطالية بإثيوبية، وكان يمكن إنكلترة في جبل طارق أن تحول دون دخول مواد أولية إليها، ولا يوجد على طول السواحل الإيطالية المكشوفة مصاب واسعة عميقة كما يرى في الشمال غالبا، وتنتهي الخطوط الحديدية إلى البحر الذي تقع كبريات المدن بجواره، وتبدو إيطالية معرضة لغارات بحرية وجوية يشنها عدو أقوى منها عددا أو أكثر منها جهازا.
وقد صنعت الفاشية لإيطالية شيئا كثيرا، ففي صقلية، التي تلقب برأس جسر الإمبراطورية، وسع ميناء سرقوسة كما أصلح ميناء مسينة الذي هو من أعظم موانئ العالم الطبيعية فيمكن أن يشتمل على ألف سفينة دفعة واحدة، وقد أنشئ ميناء كالياري في سردينية الجنوبية، وكان يمكن أن تضرب بالمدافع من أقصى شمال هذه الجزيرة، جزيرة قورسقة الفرنسية البعيدة منها بضعة أميال بحرية فقط. وقد بلغت سبيزية، الواقعة في موضع ممتاز عند مصب أحد الأنهار، من النمو ما صارت معه أعظم مصنع إيطالي بحري، أو أعظم مصنع بحري في جميع البحر المتوسط على ما يحتمل، ولو نظر شعراء إيطالية، الذين ظهروا بين دانتي ودانونزيو فكتبوا مثلهما أشعارهم هنا، إلى ما لهذا الميناء القومي من منظر جديد لرضوا عنه أكثر من رضا زميلهم الإنكليزي شلي الذي لم يكن ليحلم بوجود آلات في هذه الفرضة.
وقد وسع نطاق الدفاع عن البحر الأدرياني إلى أعظم حد، وكاد صقالبة الجنوب الذين هم آخر الخصوم يحجبون عنه، وصار من الممكن أن تقع سفنهم في الشرك. وكانت الطبيعة تحابي إيطالية في هذه البقعة ما بدت دلماسية شريطا ضيقا نحو البحر وما وجد قليل مزارع في جبالها الجرد، وعلى العكس كان العامل العرقي ملائما لصقالبة الجنوب الذين أقاموا بهذا المكان أكثر من عشرة قرون، وبما أن الساحل الشرقي، الذي يستند البحر الأدرياتي إليه بعض الاستناد، لا يشتمل على غير قليل من الموانئ، وبما أن ما يحتويه من هذه الموانئ لا قيمة له، لم يكن على الطلاينة في أيامنا، كما في عهد البندقية، إلا أن يحصنوا أقاصي شمال هذا البحر وجنوبه ليصبحوا سادته فعلا.
وفي الشمال لم تحول تريستة وبولا والبندقية إلى مرافئ مهمة بعد الحرب العظمى كما حولت سبيزية، وصارت تريستة الغنية، التي عرفها النمسويون رائعة، مرفأ قفرا، وأغلقت البيوت التجارية في القصور القديمة وعاد لا يكون وراء هذه المدينة بلد، وعلى العكس ترى زارة، الواقعة على عرض سبيزية وفي وسط يوغوسلافية، متوعدة كجبل طارق في إسبانية كما تراها مهددة من قبل الجزائر اليوغوسلافية المجاورة، وأضحت فيوم التي اشتهرت بمغامرة دنونزيو مدينة تجارية قاتمة مجردة من القيمة الحربية كما لاحظ ذلك هذا الشاعر نفسه في مشيبه ساخرا.
ويقع في الجنوب بعيدا من ذلك؛ أي في وسط الساحل الأدرياتي، ميناء سبليت، أو سبالاتو، اليوغوسلافي؛ أي سبالاتوم السابقة التي كانت مقرا للإمبراطور ديوكليسيان بعد اعتزاله، ويصعب الدفاع عن هذا الميناء، ولا سيما بعد استيلاء الطلاينة قسرا على جزيرة لاغوستا المشرفة عليه وتحصينهم إياها، وينم اسم هذه الجزيرة على غناها بسرطان البحر.
15
وتقبض إيطالية على مضيق أترانت الذي هو مدخل البحر الأدرياني، وتعد تارنت وبرنديزي من القواعد البحرية والجوية المحصنة، وتمتد، بعيدا من هنا، جزيرة ساسينو التي انتزعتها إيطالية من ألبانية قبل احتلالها هذا البلد بزمن والتي لا يسمح لسوى البحريين بدخولها، وترى فالونا مواجهة، وترى في الشمال، على بعد، درازو (دراج)، ويجهز هذان الموقعان بالمدفعية الثقيلة ويحصنان كثيرا، ولا يخسر الطلاينة شيئا في الأدرياتي حين المعارك، وقد يخسرون شيئا بمعاهدة سلم تعقد بعد هزيمة كاملة، وكان لإيطالية الوقاية من غارات بحرية يشنها الفرنسيون أو الترك، وكان يمكن إيطالية أن تلزم خطة الهجوم. وكانت جزيرة بنتلارية
16
الصغيرة الصخرية قد حصنت ضد تونس الفرنسية وضد كل أسطول ينتقل من الغرب إلى الشرق، وكانت الحصون منضدة تنضيدا هائلا هنالك، ومع ذلك لم تسطع الوقوف أمام هجوم الحلفاء الجوي المخيف، وتقع هذه الجزيرة بين تونس وصقلية فترقب قسمي هذه الطريق البحرية المهمة جدا، ويوصل إليها في بضع دقائق جوا وفي بضع ساعات بحرا، وكان أحد ملاحي فرنسة قد دعا بنتلارية، مع جزيرة لنبدوزة الأصغر منها والتي كانت مستعمرة تكفير، بسرة البحر المتوسط، فهذه الصخور الواقعة بين رأس بون ومرسالة ومالطة ذات قيمة استرجية لا تقدر، ومن الغريب أنه لم ينتفع بها كما يجب من قبل أمة بحرية فيما مضى.
وأنشأ الطلاينة ضد الترك وضد الإنكليز الذين هم حلفاء الترك نظاما دفاعيا بحريا في القسم الشرقي من البحر المتوسط بلغ من القوة ما صرح معه قائد إنكليزي بأن جميع الملاحة في بحر إيجه تحت رقابة إيطالية، فقد حصنت جزيرة لريوز الواقعة في جنوب ساموس تحصينا قويا فصارت تهدد كل عدو طارئ كما يهدد جبل طارق وزارة، وقد صوبت مدافعها نحو سواحل تركية وجزيرة قبرس البريطانية معا، وتعد لريوز من جزر الدوديكانيز التي يجب أن تكون مشتملة على اثنتي عشرة جزيرة وفق اسمها اليوناني، لا على أربعين جزيرة كما هو الواقع. وكانت هذه الجزائر قد احتلت من قبل إيطالية «احتلالا مؤقتا» أيام كانت إيطالية دولة ديمقراطية يقبض على زمامها جيوليتي فحولها النظام الفاشي فيما بعد.
وجعل موسوليني من رودس أشهر تلك الجزائر، جعل منها مركزا للثقافة الإيطالية، فأنشأ فيها جامعة وأقام فيها مصحات نظرا إلى إقليمها الرائع مواصلا تقاليد البندقية بذلك، ولما دخل السلطان سليمان رودس راكبا جوادا بعد انتصاره على الهيكليين أغلق باب المدينة خلفه، ومن هنا أتت الأسطورة القائلة إن من يفتح هذا الباب يخسر رودس، ثم تعقب ذلك إدارة الترك السيئة التي دامت أربعة قرون، وأخيرا يأمر موسوليني باقتحام هذا الباب باحتفال رسمي ليمر منه الموكب الذي يقوده حاكمه.
وما استعد له موسوليني في البحر والجو على نطاق واسع كان يهدف إلى حرب قصيرة يمكن أن تنجو إيطالية بها وحدها من ضنك الحصار، وكلما طالت الحرب صارت إيطالية عالة على ألمانية التي لم تكن لتستطيع أن ترسل إليها غير الفحم والسلاح. وكان الطيران الإيطالي يفضل الطيران الإنكليزي لاستطاعته أن يضرب بالمدافع جميع سواحل البحر المتوسط منطلقا من عدة نقاط في شبه جزيرته المستطيلة ومن قواعد في صقلية وسردينية وبنتلارية ولريوز، وهذا هو السبب الذي حفز موسوليني إلى حمل شباب كثير من الطلاينة على الملاحة وعلى التخرج في إسبانية وإثيوبية.
وعلى العكس كان عليه أن يخشى حربا طويلة يحتاج فيها إلى البر والبترول، كما كان عليه أن يخشى ضرب شواطئه ومرافئه ومصانعه البحرية الخاصة، وكان عليه أن يخشى قبل كل شيء أخلاق قومه الذين يدب اليأس فيهم سريعا ولا يحبون الحرب.
ووقعت في صيف سنة 1936؛ أي في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي كانت ترديدا فاشيا عاما للحرب العالمية الثانية، وذلك على البحر حول جبل طارق، عدة معارك بحرية لم يحدث مثلها منذ قرون؛ فقد استولى آخر قراصنة المغرب فرنكو على مراكب إنكليزية وفرنسية كثيرة أو أغرقها من غير أن تحتج حكومتا لندن وباريس على ذلك، وكانت هذه الحرب بداءة انهيار فرنسة في سنة 1940 وما منيت به بريطانية من هزائم.
10
كان ثلاثة من خصوم إيطالية أضعف منها بدرجات قبل صيف سنة 1939، وكان الأغارقة، الذين هم شعب بحري رائع، قد تركوا كل سعي للسيطرة على البحر منذ القرون القديمة، ومع ذلك فإن ستين في المائة من الأغارقة يعيشون اليوم من التجارة والملاحة؛ أي يبلغون في هذا المضمار مبلغا لم يصل إليه شعب آخر، ومع ذلك فإن أسطولهم التجاري الذي تبلغ حمولته نحو مليوني طن لا يمكنه أن يعتمد على حماية أسطول حربي، ومع ذلك فإن جميع الأرخبيل الإغريقي؛ أي المركز الحيوي والروحي لبلاد اليونان، معرض لكل هجوم يأتي من الخارج. وكانت جزر الدوديكانيز أيام الحكم التركي، مثلا، معمورة بأغارقة تبلغ نسبتهم تسعين في المائة من السكان، ولا يزال معظم أهل هذه الجزائر من الأغارقة في العهد الإيطالي، وما انفكت جميع مظاهر الحياة في بحر إيجه تكون يونانية تماما، وإنما الذي يعوز سكان هذه الشواطئ هو ما تقتضيه الحماية من قوة ضرورية.
وظلت قناة كورنث، التي هي كل ما حققته بلاد اليونان الحديثة في البحر، غير ذات تأثير في ملاحة هذا البلد، ولم تزد نفقات إنشاء هذه القناة الذي تم سنة 1893 على عشرة ملايين من الدولارات، ولا يجعلها ضيقها صالحة لغير السفن الصغيرة، والسفن تصدم شواطئ القناة المرتفعة في الغالب، وتعد مهنة الربان في كورنث أقسى ما في البحر المتوسط، ولا قيمة لهذه القناة من الناحية الاسترجية؛ وذلك لأنها لا تنطوي على غير اقتصاد دوران طفيف حول البلوبونيز، وبرزخ كورنث البالغ من العرض أربعة أميال بحرية هو الذي كان قيصر وأدريان من بعده قد ارتأيا فتحه.
ويتوقف الدفاع عن بلاد اليونان على محالفتها إنكلترة التي ما انفكت تبدو حامية لها منذ عودة الملكية إليها ثلاث مرات في عشر سنين. وكان فنيزلوس قد حاول في تلك الفاصلة أن يحالف إيطالية التي لم تكن في ذلك الحين قد اتفقت مع ألمانية والتي كانت صديقة طبيعية لبلاد اليونان، وكان يسهل على إغريقية وإيطالية أن تتفاهما حول كثير من المسائل المختلف فيها، ومع ذلك فإن الإنكليز أنشئوا في كريد، وإغريقية نفسها، وفي الجزر، قواعد بحرية وجوية كانت أنفع لإنكلترة مما للأغارقة على ما يحتمل، والإنكليز يعرفون جيدا جزر اليونان الواقعة أمام الساحل الغربي والتي كانوا محتلين لها فيما بين سنة 1815 وسنة 1864 فلم يعيدوها إلا في مقابل حق استعمال الموانئ الإغريقية.
والترك حلفاء لإنكلترة أيضا، وما كان كمال أتاترك ليستطيع اتباع سياسة أخرى؛ وذلك لأن ما بين إيطالية وتركية من أوجه خلاف أصعب حلا مما بين إيطالية وإغريقية، ولو نظر إلى الأمر على نطاق ضيق لوجد أن بزنطة تعارض رومة مجددا، ولكن مع الفارق القائل إن لبزنطة جارا في الشمال أشد قوة في الوقت الحاضر، ولما جهر بطرس الكبير بقوله: «لا أطلب أرضا، بل أطلب ماء» كان يعبر عن آمال يشاطره السوفيت إياها في أيامنا، على ما يحتمل، فاستطاعوا أن يتفاهموا هم والترك حولها مع ذلك، وهكذا ينمو ضرب من الصداقة الغريبة بين خصمي الماضي، إنكلترة وروسية، بواسطة حليفتهما تركية، وتلبي الدول في سنة 1936 طلب تركية الجديد حول الإذن لها في تحصين المضايق مع سماحها بالمرور لأنواع المراكب خلا الغواصات ومع بعض القيود عن وقت المرور، واليوم ترى من المدافع المنضودة ما يحرس المضايق من جديد كما كانت عليه الحال في الحرب العالمية الأولى.
ومع أنه كان على إسبانية أن تتبع سياسة مترجحة بين إنكلترة وإيطالية منذ أواخر حربها الأهلية فإنها لم تسر في تسلحها الحديث قدما، على ما يحتمل، إلا لما بينها وبين موسوليني من معاهدات سرية. ومن الصواب أن قيل إن جبل طارق إذا كان مفتاح البحر المتوسط فإن طنجة قفله، ومع ذلك فإن طنجة جعلت دولية؛ وذلك لأن إنكلترة لم تكن لتسمح لدولة بإنشاء حصون أمام جبل طارق، وعلى العكس يمكن ضرب الصخرة بالمدافع من سبتة، ومن الصعب أن يبصر مقدار ما يمكن جزائر البليار المحصنة أن توجبه من عسر لإنكلترة إذا ما جهرت إسبانية بقتال إنكلترة. ولو نظرت إلى السنين العشر التي جاءت قبل الحرب العالمية الثانية لوجدت فرنسة أشد تسلحا في البحر المتوسط مما يحمل على ظنه نقاد الديمقراطية الباريسية، وكان عليها أن تمعن في التسلح ما دامت دولة البحر المتوسط الوحيدة، ودولة العالم الوحيدة أيضا، التي يتوقف دفاعها على مستعمراتها. وكانت كلمة «الأسرة الفرنسية الكبرى» الرائعة مرآة لتعاون أربعين مليون فرنسي وستين مليون تابع من لون آخر، وكان هذا التعبير يعين سياسة تعم مقدارا فمقدارا، وكان أصحاب الألوان الأخرى يخدمون في الجيش عن إغراء، لا عن إكراه، فكانت القوة الاستعمارية تقدر بمليونين. وبما أن الفرنسيين لم يرغبوا في فتح شيء منذ 130 سنة، بل كانوا يودون الاحتفاظ بما يملكون، فإنهم كانوا يقتصرون على الدفاع عن سواحلهم الأوروبية والأفريقية وعلى حماية أسطولهم التجاري في سفره إلى أفريقية.
وفي هذا سر محاولة فرنسة مزاحمة إيطالية، لا إنكلترة، في المؤتمرات البحرية، وترى مخاوف فرنسة حول فصل أسطولها إلى شطرين بجبل طارق قد هدأت لمحالفتها إنكلترة منذ أربعين عاما، وصار يمكن الكتائب الاستعمارية أن تمر من المحيط الأطلنطي نحو الشمال منذ تم لفرنسة احتلال مراكش الواقعة في شمال أفريقية الغربي. وكان من نتائج هذه الطريق العملية فقد بعض المفارز التي تنقل، وكان أحسن حل لذلك هو الطريق الذي يقطع الصحراء ذاهبا من مرفأ وهران بغرب الجزائر والذي كان وزير الحربية ماجينو قد وضع تصاميمه في سنة 1929، ولم تسطع فرنسة الغنية، مع قلة سخاء، أن تجمع مليار دولار لإنشاء هذا الخط الحديدي الذي لم تقدر خطوط الجو وسيارات النقل أن تقوم مقامه.
ومن شأن الخط الحديدي الذي وضعت إسبانية رسمه وصلا لما بين إيرن والجزيرة، وانفصالا عن الطرق الفرنسية، أن تنقل به السلع برا بإنشاء نفق تحت جبل طارق متجه نحو الجنوب الشرقي بخط حديدي، وكان يمكن هذه المشاريع العظيمة أن تحقق بفضل الفن الحديث بأسهل مما حفرت به قناة السويس، ومشاريع مثل هذه مما أحسن تنفيذه في أمريكة، وتبلغ أرض الصحراء من الصلابة في بعض الجهات ما يمكن معه وضع عوارض هنالك، وهكذا كان يمكن وصل السنغال والسودان بالبحر المتوسط، وهكذا كان يمكن سود الكونغو أن يكونوا على الرين بعد سفر ثمانية أيام.
وكان هذا الحل أكثر ملائمة للخلق الفرنسي من النقل بحرا ما صار الفرنسيون - كالألمان - جنودا أكثر منهم ملاحين بفعل قرون حروب وقعت على حدودهم، ومثل ذلك وقعا في النفس ما حققته فرنسة في السنين العشر الأخيرة من منهاج للدفاع عن نفسها بحرا تجاه إيطالية. وكان البرلمان الفرنسي يقبل ميزانية كل تدبير يهدف في فرنسة إلى إقامة حاجز ضد الطلاينة دفعة واحدة ما أسفرت تهديدات إيطالية عن زيادة ازدراء الفرنسيين للطلاينة.
وكان تحقيق أمر الدفاع عن أفريقية الشمالية من الصعوبة بنسبة سهولة التجارة معها، والواقع أن ساحل شمال أفريقية لا يشتمل على غير قليل من الموانئ الطبيعية، وكان هذا سبب استطاعة القراصين أن يستقروا به طويل زمن فيما مضى. وقد وسعت فرنسة الموانئ الكبيرة الثلاثة: وهران والجزائر وبنزرت مع مشقة كبيرة ونفقة عظيمة كان القراصين لا يقدمون عليهما مذعورين، ولم يبق شيء يذكر بعهد القراصين في أفريقية، وعلى العكس حافظ ميناء وهران على ذكرى أخرى مدة ثلاثين سنة، ذكرى ثمان وثلاثين قطعة من الأسطول القيصري في البحر الأسود تركت في الميناء في أثناء الحرب العالمية الأولى، واليوم تراها نصف متآكلة بالصدأ مع نشاط المشاغبين الشيوعيين حولها ...
ومع ذلك لا تجد دولة من دول البحر المتوسط، مهما بلغت من كمال العدة، تتدخل بمثل قوة إنكلترة في حياة هذا البحر الذي لا يمس سواحلها. والواقع أن هذا الزائر الغريب الذي يلوح تردده إلى هذه النواحي البحرية فقط يتخذ جميع الوسائل فيثير تسلح الأمم الساحلية أو يؤثر فيه، وعلى ما ليس لإنكلترة في البحر المتوسط غير بضع جزر وبضع محميات تجدها كأنها في بلدها غربا ووسطا وشرقا، وما كان لأي شعب من شعوب البحر المتوسط أن يزهو بمثل هذه السيطرة، حتى إن الذي أبصر صخرة جبل طارق يحتاج إلى ما يتم به ما لديه من خبر عن موضوعه، شأن بعض أقطاب السياسة الذين لا يرى معاصروهم غير أعمالهم مع بقاء أهدافهم مجهولة إلى ما بعد موتهم، ولم نعرف إلا بعد الحرب ماذا كان قد صنع وأعد في هذه الجزر وهذه الصخر وهذه المرافئ وهذه الشواطئ، وعن جبل طارق كتب أحد حكامه السابقين غودلي يقول إنه لا يمكن هذه الصخرة الضيقة، البالغة من الطول أربعة كيلومترات ونصف كيلومتر ومن العرض كيلومترا ونصف كيلومتر، أن تكون مرمى صالحا، وأن على العدو أن يطير منخفضا كثيرا حتى يبلغ غرضه مصادفة، وهذا إلى عدم وجود مكان يحسن تحويله إلى مطير هنالك، وهذا إلى ما يجب حسابه من ريح الشرق التي تهب في هذه النواحي. أجل، يمكن ضرب جبل طارق بالمدافع من سبتة، غير أنه لا يكون بعض التأثير في ذلك لغير المدافع الثقيلة البعيدة المرمى.
ويظهر أن أربعة آلاف من المدافع رفعت إلى دهاليز جبل طارق، كما رفعت إليها صهاريج مصفحة جربت بالقذائف فيستوعب الواحد منها أربعين طنا من الماء، ويمكن أن يأوي إلى ملاجئها ست فرق حين الحرب، وتذكر الحصون في مجموعها بمدرعة ما وجدت في جبل طارق، قلاع منضودة وأبراج صغيرة مستورة ومخابئ خفية مملوءة بالذخائر ومدافع مضادة للطائرات منكرة، وقد بلغت الأسرار من الكتمان ما عين المتخصصون الموكول إليهم تنظيف العدد للفروع نفسها دوما لكيلا يعرفوا المجموع.
وقد أثبتت مالطة، التي هي مركز البحر المتوسط، شأنها في أثناء الحرب العالمية الثانية على الرغم من تقدم الطيران، وقد دعا الطلاينة هذه الجزيرة بالساحرة فزعموا أنهم قادرون على تخريب موانئها من قواعدهم بصقلية في ساعة واحدة، ومع ذلك فقد دلت الحوادث على عدم صواب هذا الزعم ما قاومت مالطة جميع الغارات الجوية العنيفة محافظة على قيمتها العظيمة تجاه الأعمال الحربية في أفريقية.
ومن حيفا تسرب نفوذ الإنكليز في آسية الغربية تسربا عميقا، وما يصل القدس بالمدينة من خط حديدي، وما يرى في عمان الأردنية من حامية قوية، وما بين بغداد وإيران من خطوط جوية، وما شاهد من أنابيب نفط الموصل ومن تقدم ميناء العقبة ومن وجود جزيرتين بعيدتين في البحر الأحمر، أمور يتألف منها حصن جبار ضامن للاتصال بالهند صالح لحماية طريقها، حتى إنه رئي إنشاء قناة جديدة بين البحر المتوسط والبحر الأحمر مارة في أرض بريطانية بفلسطين، مارة من عكا إلى العقبة، ومع ذلك فإن تحقيق هذا المشروع يكلف أغلى مما كلفته قناة السويس عشرين مرة لما يجب من حفر أرض معظمها صخري، ويتطلب إنجاز هذا المشروع سنين كثيرة.
وقد تكون النفقات أقل تخويفا للإنكليز من أن يروا عدوا عارضا يوجه ضدهم ما ينجزونه من أعمال، وخوف مثل هذا كان قد حمل أحد الفراعنة على وقف إنشاء قناة في وادي النيل.
11
كانت شواطئ البحر المتوسط مدججة بالسلاح في صيف سنة 1939 المشئوم، وهذا لم يحل دون دوام النقل والتجارة والسفر، وكانت البواخر في البحر مواخر، وكان أهل السواحل والغرباء يطوفون في البحر المتوسط ويطيرون فوقه.
وكانت سفن خط الهادئ والمحيط تجلب منتجات الهند والصين مارة من قناة السويس بعد سفر طويل، وكانت هذه المنتجات تمر من الكاب منذ قرون مضت، وكانت قبل ذلك تمر من الطرق البرية بين بلاد فارس وآسية الصغرى لتصل إلى موانئ العصور القديمة. وكان من المسافرات نساء لابسات ثيابا بيضا وأحذية ذات كعاب عالية فيسترحن على ظهر بواخر «لويد تريستينو» متذوقات شرابهن الليموني المجمد. وكان على البواخر التجارية الأخف حملا علماء راغبون في دراسة آثار ما قبل التاريخ على سفح سترونبولي الغربي، ودراسة أنواع النخل في تطوان، ودراسة قصور رودس الغريبة، ودراسة النقود القديمة في الإسكندرية، ودراسة المغارس الحديثة في ضواحي تل أبيب.
وكان يقطع البحر المتوسط جوا صحافيون وتجار لاستقصاء أنباء في الشرق، وكانت محطات الإذاعة في جميع السواحل تنشر أخبارها محاولة استرعاء آذان المستمعين في الشواطئ البعيدة. وقد جمع المؤلف ما يستند إليه في وضع هذا الكتاب، فسافر بالطائرة من قورسقة إلى تونس في يوم من أغسطس تام الزرقة راسما خطوط «تاريخ البحر المتوسط» على ارتفاع ميلين فوق هذا البحر نفسه.
وبينما كانت التجارة العالمية تنتعش نشاطا، وبينما كان 120 مليون إنسان يعيشون على هذه الشواطئ متمتعين بالحياة أو جادين في تحسين أحوالهم؛ إذ يسمع أزيز طائرات فوق الرءوس، فكان يمكن أن يماز بالمنظار أو بأذن مرهفة صدور ذلك عن طائرات حربية، وقد صار من الممكن أن يرى في صباح الغد وفي جميع الأيام القادمة مراكب صغيرة وكبيرة تزلق على طول الأفق كحيتان رمادية عظيمة بارزة فوق سطح البحر، وقد أخذ أهل السواحل يرون بعد اليوم سفنا حربية متزايدة عندما ينعمون النظر فيما ألفوه من فرض.
ويقضي البحر المتوسط دور ارتياب واستعداد في هذه الأسابيع الصيفية خلافا لما مضى، ولم يحدث أن استولى ذهول على جميع مدن هذا البحر وجميع سواحله وجميع أممه كما استولى في هذه المرة. أجل، وقعت المعركة البحرية الأخيرة في أثناء الحرب العالمية الأولى في الدردنيل؛ أي في أقصى شمال هذا البحر الشرقي، غير أن المعارك الثلاث أو الأربع التي وقعت في القرن التاسع عشر في البحر الأدرياتي ونافارين والإسكندرية أصبحت من القصص، وكان يمكن أساطيل الأمم غير المحاربة أن تظل هادئة في موانئها. وكان فاتحو الأجانب، إذا ما أتوا البحر المتوسط واستولوا على جزيرة أو شاطئ، تتلقى أمم الشواطئ الأخرى نبأهم كما لو كان الأمر خاصا ببحر بعيد، وما قام به البندقيون من حملات ضد القسطنطينية، والصليبيون ضد الترك والنورمان ضد جزر اليونان، وما وقع في البحر المتوسط من منازعات، كان مقصورا على أقسام من هذا البحر.
ومع ذلك فإن سفن جميع أمم البحر المتوسط وطائراته ومرافئه ومصانعه كانت تهتز في شهر أغسطس سنة 1939، فكان يمكن الشعور بأن حربا تعد في الشمال وبأن إيطالية تجر إليها وبأنها ستجعل جميع أهل البحر المتوسط خائفين يترقبون. والواقع أن مصير بحر بأسره كان يتوقف على حكم رجل واحد، وما كانت أية دولة أخرى من دول البحر المتوسط لتقضي بإخلال سلمه، وهو إذا ما سار للحرب مع أسطوله تحركت جميع الأساطيل لدحره أو مهاجمته.
وفي هذه الأيام من شهر أغسطس يبلغ التوتر في البحر المتوسط غايته تحت سماء زرقاء، وينتظر جميع أهل الساحل عن هلع إطلاق قذيفة المدفع الأولى.
الخاتمة
إلى المنار
ينظر الحارس الواقف على الصخرة في البحر مليا، ويقرأ ابنه الكتاب الذي كان قد طالعه أبوه في ليال قضاها في برجه.
وتمر أربعة أعوام على الزمن الذي أطفئ المنار فيه ويظل الحارس قيما عليه في البداءة، ويصعد في السلم الحلزوني كل صباح راجيا أن يبصر أولى السفن الحربية الصديقة - لا أول الطيور - آتية، عن معجزة، نحو سواحل طولون.
وتلك سنون شداد، وتعيش الأسرة بدخلها من المطبخ والفندق الصغير الضامنين لها ما هو ضروري، وتحافظ زوج الحارس على جهدها المألوف، ويتعود الحارس بطالته الجديدة، وتكبر ابنته، ويصبح الغلام صيادا ماهرا كما كان أبوه فيما مضى.
وينطفئ السرور والأمل مع المنار، ويتتبع الملاح الشائب ما يقع من الحوادث، ويستطيع أن يسمع مذياعه الكبير في بدء الأمر، ثم يكتفي مضطرا بلاقطة صغيرة مكتومة في المفرخ.
وتدهم فرنسة، ويحتل العدو أكثر من نصفها ... ويفر الألوف لاجئين إلى هذا الشاطئ ناجين بأنفسهم، ويصل بعض اللاجئين إلى جزائر إيرس راكبين سفينة، ويبلغها اثنان منهم سبحا ... ويفتح هؤلاء الوكينغ الجدد ملاذ القديم، يفتحون البحر المتوسط ... وتقطع العلاقة مع الحليف الإنكليزي الذي ظل سيد هذا البحر زمنا طويلا ... ويدعو الشجاع دوغول إلى الاتحاد ... ويسفر التصدع عن قطع فرنسة جزأين ... ويظهر زعماء آخرون ويتكرر التصدع ويقع اتحاد آخر ... ويهزم الأسطول ... وتنسف الباخرة التي كان قد خدم فيها وتغرق بين الأسماك السابحة الباحثة عن طعام ... ويصبح الطلاينة، الذين كان يحتقر محاربيهم الأنذال، سادة الجزر والشواطئ التي كانت فرنسة تسيطر عليها ... ثم يزحف إلى مصر، ويخشى وقوع معركة أمام الإسكندرية ...
ويتحسن الوضع بغتة، فتزحف ألف دبابة من الشرق إلى الغرب على طول الشاطئ الأفريقي، وتشق لها الطريق ألف طائرة، فها هم أولاء الإنكليز الذين ينقذون شاطئ البحر المتوسط الجنوبي، ولكن لا أحد يعلم ماذا يقع على سواحل الإمبراطورية الفرنسية.
وها هو ذا المذياع يكرر صراخه: يصل المنقذون! لقد قطعوا ألف ميل من خلال البحر المحيط، من أمريكة إلى أفريقية؛ إنقاذا لأوروبة، وتبدأ القصيدة الحماسية الكبرى، ويعود البحر المتوسط مركزا للعالم، ويملأ خيال الناس.
والآن يأتي دور العدو فيتقدم نحو الجنوب ولم يوفق الأسطول لمغادرة مينائه، ولا يحتاج الحارس إلى المذياع ليعلم هذه الحوادث، فقد أبصر بالمنظار، ذات صباح من نوفمبر، كيف تنتحر المراكب تباعا لكيلا تغنم، ويبصر انهيار زهوه بحريا وفرنسيا في ربع ساعة.
وأخيرا ينزل الألمان إلى جزر إيرس من سفنهم ذات المحركات والمسلحة بالرشاشات، ويعرف ربان هذه السفن الحارس الذي كان قد لاقاه حين سفره البحري الطويل إلى الصين والهند، وكان الحارس المحروم مناره قد جاوز السن العسكرية فلم يك خطرا، ولم يقبض عليه أسيرا، وإنما ألزم بتسليم المنار إلى الحامية الألمانية، مع بقائه في بيته الأبيض الصغير هو ودجاجه وزيتونه وعنبه بجانب زوجه وأولاده.
ولكن الكآبة تعلو معنوية الألمان الحارسين للمنار في الساعة الراهنة ، فقد جاء في الإذاعة نبأ دحر رومل، ويقترن هذا بانتعاش أمل الحارس في بيته الصغير، ويلوح نزول المنقذين إلى أوروبة أمرا آتيا لا ريب فيه، ومن أين يصلون؟ أمن صقلية أم من طولون؟
وتسقط سرقوسة وتحتل صقلية وتهاجم نابل، ويساور الملاح صحو مع شكر فيسأل: متى يأتون إلينا؟ ومتى يضاء مناره مجددا؟ وهل يضيء المصباح في البرج ذلك الألماني ليكون إشارة لغواصاته، أو يدعه مطفأ خشية مساعدة الإنكليز؟
ويقضي الحارس نصف لياليه مثيرا هذه الأسئلة.
والآن ترى نصف البحر المتوسط منقذا تقريبا، فصرت لا تبصر عليه مراكب ألمانية، وقد سلم الأسطول الإيطالي نفسه، وقد فتح الحلفاء جزرا وشواطئ، وأخذ العلم المثلث الألوان يخفق فوق ما كان فرنسيا منها، وإن حارس المنار ينتظر صامتا هنا، وإن الألمان لا يزالون مسيطرين هنا، وهنا ستقع معركة بحرية أو يظهر رجال الهابطات
1
ويكون الغزو.
وهكذا قد يقدر للملاح الشائب أن يمثل دوره في تاريخ البحر المتوسط الذي قرأ كثيرا من أخباره، ولكن ما الذي يهمه من الماضي الطويل وهو يوجه الآن نظره إلى المستقبل؟
وإنه لكذلك؛ إذ يأمر ابنه صارخا بأن يدع كتابه جانبا وأن يذهب ليصطاد سمكا، ومن يعلم أنه يستطيع صنع ذلك غدا؟ ومن يعلم أن الغد سيأتيه بالمنية أو الحرية؟
وإن حارس المنار ليفكر في الأمور هكذا؛ إذ تسفر الشمس عن نهار صاف في منتصف سبتمبر سنة 1943.
نامعلوم صفحہ