البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر
تأليف
الحافظ جلال الدين أبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
(٨٤٩ هـ - ٩١١ هـ)
تحقيق ودراسة
أبي أنس أنيس بن أحمد بن طاهر الأندونوسي
أستاذ مساعد بكلية الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
[الجزء الأول]
نامعلوم صفحہ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
خطة البحث
كلمة حمد، وشكر، وتقدير.
ثم قمت بتقسيم البحث إلى قسمين:
أ- قسم الدراسة.
ب- قسم التحقيق.
أ- قسم الدراسة: ويشتمل على ما يلي:
أولًا: مقدمة وتتضمن ما يلي:
- السنة. مكانتها. وحجيتها.
- بيان أهمية علم مصطلح الحديث.
- نشاة علم المصطلح.
- أسباب اختيار الموضوع.
ثانيًا: ترجمة للسيوطي وتشتمل على التالي:
- اسمه، ونسبه.
- مولده، ونشأته، ودراسته.
- رحلاته.
1 / 7
- شيوخه وتلاميذه.
- عقيدته.
- تصديه للفتيا.
- خصوم السيوطي.
- المناصب التي تولاها.
- موقفه من الحكام والسلاطين.
- دعواه الاجتهاد.
- اعتزاله، وهروبه من الحياة، ووفاته.
- المؤلفون في السيوطي من المتقدمين والمعاصرين.
ثالثًا:
- جهود السيوطي في علوم الحديث عمومًا.
- وجهوده في المصطلح خصوصًا.
- دراسة كتبه -الموجود منها- في المصطلح.
رابعًا:
- دراسة كتابه (البحر الذي زخر)، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: موضوع الكتاب، وأهميته.
المبحث الثاني: منهج السيوطي في الكتاب.
1 / 8
خامسًا:
شروح ألفية السيوطي.
سادسًا:
موازنة بين البحر والتدريب.
سابعًا:
ميزات ألفية السيوطي على ألفية العراقي.
ب- قسم التحقيق:
ويشتمل على التالي:
١ - اسم الكتاب وتوثيق نسبته إلى السيوطي.
٢ - وصف نسخ الكتاب.
٣ - وصف نسخ الألفية المخطوطة والمطبوعة.
٤ - منهجي في تحقيق الكتاب.
* * *
1 / 9
كلمة حمد وشكر وتقدير
أحمد اللَّه ﷿ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يجب ربنا ويرضى، وأشكره أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا على أن هداني ووفقني، وحبب إليّ سنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وشرفني بالاشتغال بعلوم السنة الغراء. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ (١)، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحشرني في زمرة الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجعل نيل هذه الدرجة نيل أعلى درجات الجنة برحمته التي وسعت كل شيء.
ثم أتقدم بالشكر الجزيل لشيخي الفاضل الدكتور/ سعدي مهدي الهاشمي المشرف على الرسالة على حسن إرشاده وتوجيهه وتعليمه لي في سنوات الإشراف على الرسالة، كما أتقدم بخالص الدعاء والتقدير لشيخيّ الكريمين الشيخ/ حماد بن محمد الأنصاري رحمه اللَّه تعالى على ما أولاني به من رعاية أبوية علمية، ولشيخي الدكتور/ محمود ميره على حسن تعليمه وإرشاده وتوجيهه لي من كلية الحديث إلى أن أشار علي بأخذ هذا الموضوع بالدراسات العليا.
وأشكر لجميع مشايخي حسن تعليمهم، وإرشادهم لي.
_________
(١) سورة الأعراف: ٤٣.
1 / 10
هذا وأبتهل إلى اللَّه جلّ في علاه، داعيًا من أعماق قلبي للمسئولين بالجامعة الإسلامية على اختلاف مرافقها، وبالدراسات العليا على وجه الخصوص أن يثيبهم ويجزيهم خيرًا، على ما يقدمونه من خدمة للعلم وطلابه، ورزقني اللَّه وإياهم الصلاح والسداد والإخلاص في جميع الأقوال والأعمال.
جزى اللَّه الجميع خير الجزاء، وأحسن لهم المئوبة والأجر، بفضله ومنّه، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين واللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
* * *
1 / 11
أولًا: السنة مكانتها وحجيتها
1 / 13
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﵌.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (١).
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (٢).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (٣).
_________
(١) سورة آل عمران: الآية ١٠٢.
(٢) سورة النساء: آية ١
(٣) سورة الأحزاب: الآية ٧٠ - ٧١.
1 / 15
أما بعد (١):
فإنّ اللَّه ﷿ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنزل عليه كتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأمره بتبليغه للناس وبيانه فقال ﷿:
﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (٢).
وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (٣).
وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (٤).
_________
(١) هذه خطبة الحاجة التي علمها رسول اللَّه ﷺ أصحابه، وهي سنة: يبتدأ بها في النكاح وغيره.
رواها: أبو داود (كتاب النكاح - باب في خطبة النكاح ٢/ ٥٩١) والترمذي - (كتاب النكاح - باب في خطبة النكاح ٣/ ٤٠٤) وقال: حديث حسن، والنسائي (كتاب النكاح - باب ما يستحب من الكلام عند النكاح ٦/ ٨٩) وغيرهم عن جمع من الصحابة، وهو حديث صحيح، وللألباني فيها كتاب سماه "خطبة الحاجة".
(٢) سورة المائدة: ٦٧.
(٣) سورة النحل: ٤٤.
(٤) سورة النحل: ٦٤.
1 / 16
ثم أوجب اللَّه علينا طاعته، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ (١).
وقال سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (٢).
ومما لا شك فه أنّ الكتاب والسنة أصلان أصيلان لا ينفك أحدهما عن الآخر، ومنبعان للتشريع متعاضدان.
قال ﷺ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه. . " (٣).
وقال أيضًا: "تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب اللَّه، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض" (٤).
ولقد تكفل اللَّه ﷿ بحفظ شريعة الإسلام كتابًا وسنة،
_________
(١) سورة الأنفال: ٢٠.
(٢) سورة الحشر: ٧.
(٣) حديث صحيح رواه احمد (٢/ ٣٧٧)، وأبو داود (كتاب السنة باب لزوم السنة - ٥/ ١٠)، والترمذي (كتاب العلم - باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي ﵌ ٥/ ٣٧) وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (المقدمة - باب تعظيم حديث رسول اللَّه ﷺ ١/ ٦) وغيرهم.
(٤) حديث صحيح رواه الحاكم (١/ ٩٣)، وعنه البيهقي (١٠/ ١١٤)، ومالك (٢/ ٨٩٩) بلاغًا. صحيح الجامع (٣/ ٣٩)، والصحيحة (٤/ ٣٦١).
1 / 17
لأنها هي الشريعة التي ارتضاها، وكتب لها الخلود والبقاء إلى يوم القمامة، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١).
وقال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (٢).
والسنة لها مكانة عالية وكبيرة في الإسلام، فهي الأصل الثاني بعد كتاب اللَّه ﷿ المعتمد في التشريع، وقد جاءت السنة مفسرة لمبهم القرآن، مفصلة لمجمله، مقيدة لمطلقه، مخصصة لعمومه، شارحة لأحكامه وأهدافه ومراميه، وجاءت بأحكام زائدة مستقلة لم ينص عليها القرآن، ولما كان للسنة هذا القدر العظيم في الإسلام فقد اتفق علماء السنة قاطبة على حجيتها.
قال الإمام الشافعي ﵀:
"قد وضع اللَّه رسوله ﷺ من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان -جل ثناؤه- أنه جعله علمًا لدينه بما افترض من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن بين رسوله مع الإيمان به، فقال ﵎: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. . .﴾ (٣).
_________
(١) سورة الحجر: ٩.
(٢) سورة المائدة: ٣.
(٣) سورة النساء: ١٧١.
1 / 18
وقال ﷿:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. . .﴾ (١).
فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان باللَّه ثم برسوله معه" (٢).
وقال الإمام الشوكاني:
"إنّ ثبوت حجية السنة المطهرة، واستقلالها تشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام" (٣).
ومن هذا المنطلق نجد الرسول الكريم ﷺ يحث أمته على التمسك بسنته، والعناية بها، ويبين لها أنّ التمسك بسنته نجاة من الضلال، وأنّ الوجه إليها بعد الفتور هداية ورشاد (٤)،
_________
(١) سورة النور: ٦٢.
(٢) الرسالة: (ص ٧٣ - ٧٥).
(٣) إرشاد الفحول: (ص ٢٩).
(٤) دليل ذلك حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "إن لكل عمل شِرَّة. . . . الحديث".
صحيح على شرط الشيخين رواه الطحاوي في مشكل الآثار (٢/ ٨٨)، وأحمد (٢/ ١٨٨)، وابن أبي عاصم في السنة (١/ ٢٨).
1 / 19
وأن المتمسك بها عند وقوع الفتن له أجر خمسين من الصحابة (١) وأنها من مرجحات الإمامة في الصلاة (٢)، وفي أمور أخرى، ويبرأ ﵌ ممن رغب عنها (٣)، ولقد حفظت السنة في أماكن أمينة ومكينة؛ حفظت في صدور رجال صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه من صحابة فتابعين فأتباعهم، فمن بعدهم من علماء هذه الأمة الأفذاذ الذين تشبعت قلوبهم بحب رسولهم فحفظوا السنة ووعوها وعملوا بها، وتفيئوا ظلالها الوارفة، ثم أخرجوا لنا علمًا أصيلًا منها استخرجوه، وعليها بنوه، وحفاظًا لها أصّلوه وهو ما يسمى (بعلم مصطلح الحديث).
_________
(١) حديث صحيح رواه المروزي في السنة (ص ٩)، وأبو داود (كتاب الملاحم -باب الأمر والنهي- ٤/ ٥١٢)، والترمذي (كتاب التفسير - باب ومن سورة المائدة - ٥/ ٢٥٧)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجة (كتاب الفتن - باب قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ - ٢/ ١٣٣٠) وغيرهم.
(٢) دليل ذلك حديث ". . فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. . الحديث". رواه مسلم (كتاب المساجد - باب من أحق بالإمامة - ١/ ٤٦٥)
(٣) الحديث في ذلك رواه البخاري (كتاب النكاح - باب الترغيب في النكاح ٩/ ١٠٥)
1 / 20
علم المصطلح
أهميته - نشأته - مصنفاته
1 / 21
علم مصطلح الحديث يعد مفخرة للأمة الإسلامية، وصفحة مشرفة من صفحاتها الخالدة، الوضاءة، المليئة بالمآثر والمكرمات، والفضائل، فما عرفت أمة من الأمم كيف تخلد أخبار علمائها وعظمائها، وقادتها وأبطالها كما عرفته الأمة الإسلامية، ولا عرفت كيف تصحح تاريخ رجالها كما عرفته الأمة المحمدية بواسطة علمائها وحفاظها ومحدثيها، وهذا الأمر من الخيرية التي خصها اللَّه به من بين بقية الأمم قال تعالى:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. . .﴾ الآية (١).
ويمكن تلخيص أهمية هذا العلم الشريف في الأمور الآتية:
١ - علم المصطلح به يعرف صحيح السنة من سقيمها ومعلولها من سليمها، وحسبك بها من فائدة وثمرة فالمصطلح هو العلم الوحيد الذي تقف به على حال النقلة للحديث، وصفاتهم، وجرحهم وتعديلهم، وما تنضبط به أقوال الحفاظ في الرواة، ومدى سلامة الشد والمتن من العلل، وبالتالي يتحقق بذلك الأخذ بقول اللَّه تعالى:
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. . . الآية﴾ (٢).
_________
(١) سورة آل عمران: ١١٠.
(٢) سورة الحشر: ٧.
1 / 23
وبقوله سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (١) الآية إذ كيف يتم الاقتداء، والأخذ بشيء من السنة، والتعويل عليه في الاستدلال والاستنباط: ونحن نجهل صحته من ضعفه؟؟ .
٢ - علم المصطلح يعد مفتاحًا لتحقيق نصوص كثيرةٍ من العلوم، فهذا العلم يعتني (بأسانيد) الأحاديث، والأخبار، ولو تتبعنا كثيرًا من العلوم في المصادر القديمة لوجدناها نقلت إلينا بأسانيد، فالقرآن الكريم حمله رواةٌ في صدورهم، ونقلوه إلينا، وهم كثر، بلغ بهم العدد حد التواتر، ولا سبيل لمعرفة ما صح من الطرق إلا بأن ندرس سند ذلك الطريق، وتلك القراءة، كما قال الناظم في القراءة المقبولة المعتبرة عند العلماء:
فَكُلُّ ما وافقَ وَجْهَ نَحْوِ ... وكَانَ لِلرَسْم احتمالًا يَحْوِي
وصَحَّ إسْنَادًا هُوَ القُرآنُ ... فهذه الثلاثةُ الأرْكَان (٢)
وفي العقيدة نجدها قد نقلت إلينا عن نبي هده الأمة وسلفها بالأسانيد، فمثلًا: في إثبات الوجه للَّه ﷿ تقرأ في كتاب: "الأسماء والصفات" (٣) لأبي بكر البيهقي (ت ٤٥٩ هـ) في باب بيان الأسماء التي من أحصاها دخل الجنة، فتجد البيهقي يثبت لك العقيدة
_________
(١) سورة الأحزاب: ٢١.
(٢) قالها ابن الجزري (ت ٨٣٣) كما في طيبة النشر (ص ٣).
(٣) الأسماء والصفات (١/ ١٥).
1 / 24
بالسند فيقول:
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، وأبو عبد اللَّه إسحاق بن محمد بن يوسف بن يعقوب السوسي وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب نا محمد بن خالد بن حلي نا بش بن شعيب بن حمزة عن أبيه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "إن للَّه تسعةً وتسعينَ اسمًا، مِائةً إلا واحدًا، مَن أحصَاهَا دَخَل الجنَّة، إنَّه وِترٌ يُحِبُّ الوِترَ".
فدراسة هذا السند ضرورية جدًا لدراسة مثل هذا الحديث الوارد في (العقيدة)، ودراسة السند تحتاج إلى علم المصطلح، وكذلك (التفسير) نقل إلينا بالأسانيد، كتفسير ابن جرير الطبري (ت ٣١٠ هـ)، وتفسير البغوي (ت ٥١٦ هـ) (١)، وكذا (الفقه) ككتاب الأم إملاء الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) و(التاريخ) أيضًا لمصطلح الحديث عليه منةٌ، وقد ألَّف الدكتور عثمان موافي كتاب "منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوروبي" وبيَّن فيه أثر قواعد علوم الحديث في الروايات التاريخية في نقدها وتمحيصها، وللدكتور أكرم ضياء العمري كتاب: "المجتمع المدني"، قصد به: محاولة تطبيق قواعد المحدثين في مصطلح الحديث لنقد الروايات التاريخية.
_________
(١) مطبوعان.
1 / 25
بل وكتب اللغة والآدب نقلت إلينا بأسانيد، مثل كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، و"الأمالي" لأبي علي القالي، وقد ألّف الدكتور شرف الدين علي الراجحي كتابًا سماه: "مصطلح الحديث، وأثره على الدرس اللغوي عند العرب" (١) ذلك لأن علم المصطلح له منبعٌ دافقٌ ثَرٌ لا ينضب، وهو: السنة المطهرة.
يقول د/ محمد الصباغ: "تأثير الحديث النبوي على ثقافتنا العربية يفوق كل تصور، فلقد صبغت طريقته كل فنون ثقافتنا ومعارفنا، إنك تجد طريقة السند عمّت كل أنواع الكتب في مكتبتنا، من آدبية وتاريخية وغيرهما. . . " (٢).
٣ - إيجاد (الثقة) في نفوس المسلمين بتحقيق وعد اللَّه لهم بحفظ كتابه وسنة نبيه حيث قال سبحانه:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (٣).
فهذه القواعد تعد من أهم الأمور التي حفظ اللَّه بها السنة.
٤ - "إيجاد (ملكةٍ) عد الدارس لهذا الفن يتمكن بها من تمحيص الأخبار الواردة، من حديث وتاريخ وغيرهما. . . (٤) "،
_________
(١) طبع في مجلد.
(٢) الحديث النبوي (ص ١٦).
(٣) سورة الحجر: ٩.
(٤) مقدمة د/ مصطفى الخن لتقريب النووي (ص ١٨).
1 / 26
ويصير الدارس لهذا العلم دقيقًا في تعلمه وتعليمه لهذا العلم الشرعي بحميع فروعه، ولقد كان أحد شيوخي من المحدثين الأفاضل دائمًا يحثنا على تعلم علم الحديث، ويقول: تصبحون في يوم من الأيام حكامًا على أقوال الناس وأفعالهم لا محكومين.
أضف إلى ذلك: أن كثيرًا من الخلافيات في الفروع التي يبقى الكثير حائرًا عندها، يستطيع العالم وطالب العلم أن يرجح بين الأقوال بهذا العلم، وكلما رسخت قدمه في علم المصطلح، كلما استطاع أن يسبر غور الخلاف بين الأقوال المختلفة، لأنه يراجع أصول المذاهب والأقوال؛ بالرجوع إلى أدلتها بثبوتها أو عدم ثبوتها.
٥ - بيان منهج (السلف) من المحدثين، ودقتهم في وضع قواعد معتمدة على الكتاب والسنة، ومنهجيتهم في ذلك، وتنظيمهم، وتنسيقهم، ودقتهم لحفظ سنة خير البشر ﵌، وزيادة الثقة بهم، بأمانتهم العلمية في نقل شريعة اللَّه، وسنة رسوله ﵌.
٦ - ثم إنَّ علم المصطلح (تمهيدٌ ومقدمةٌ) للعلماء والمتخصصين في جميع علوم الشريعة، ليقوموا ببناء علومهم على أصولٍ ثابتةٍ، وقواعدَ راسخةٍ، فلا أحكام، ولا أقيسة، ولا اجتهاداتٍ تكون مصيبةً إذا لم تؤسس على نصوص القرآن والسنة الثابتة، والثبات لا يكون إلا بقواعد ثابتةٍ للنقد، والتمحيص النزيه، كقواعد مصطلح الحديث.
1 / 27