وأي إحاطة فإنها بحثت فيما كتبته باحثة البادية كامرأة مسلمة مصرية كاتبة نافذة مصلحة. ومن الغريب أن عقلها الجامع البحاث أشار إلى هذه الصفات كلها قبلما كتبت سطرا من هذه الفصول، كأنها نظرت بعين بصيرتها إلى كل ما كتبته باحثة البادية فرأتها تتجلى فيه بصفاتها المذكورة آنفا، فلم يتعذر عليها أن تستخلص منه حقائق كثيرة أيدت نظرها. أحاطت بالموضوع من كل جهاته وعززته بآراء الباحثة وأقوالها وبما مهدته لها وعلقته عليها. ولا نظن أنها تركت زيادة لمستزيد. وكل من عانى البحث في مؤلفات الغير المتشعبة الشئون يعلم ما في الإحاطة بمناحيها من المشقة. ومن من الكتاب لا يود أن يتاح له مثل الآنسة مي تحيط بما تكتبه وتشرحه وتعلق عليه تعليق إنصاف ولو كان انتقادا، ولكن هيهات؛ فإني لم أر حتى الساعة كتابا مثل هذا في العربية. (3) التعليق:
هذا في نظري من أبلغ ما كتبته الآنسة مي؛ فإن مدركات العقل مهما كثرت لا تفيض بقوتها وغناها ومجدها إلا لدى احتكاكه بعقل آخر مضاه له، حينئذ تتنبه النفس إلى ما خزنته من المعارف وما وصل إليها بالإرث من الآباء والجدود ، وتنهض القوة الناطقة: قوة الاستحضار والتمثيل والقياس، وتنهض البداهة وتنبه المبدأ الفياض إلى سرد الأمثلة والأدلة وإقامة البراهين الخطابية والمنطقية وتأييدها بالحقائق العلمية والمسلمات العرفية والشواهد الاجتماعية. وهذا كله ظاهر في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب. فهو كتابان: كتاب باحثة البادية أو خلاصة ما كتبته في موضوع النساء، وكتاب الآنسة مي الذي جمعت فيه هذه الخلاصة وشرحتها وعززتها وعلقت عليها زبدة معارفها الواسعة، وختمته بالمقابلة بين باحثة البادية وقاسم بك أمين. وألحقت به ما دار بينها وبين باحثة البادية من المراسلات. والكتابان والخاتمة في موضوع واحد هو أهم المواضيع الاجتماعية في هذا القطر، ألا وهو المرأة المصرية وكيف تصلح شئونها فتصلح بها البلاد. (4) اللغة:
اللغة معربة، خاصة بالكاتبة في أسلوبها، دالة على ذاتيتها. وكذا تكون لغات كبار الكتاب. يرى القارئ لأول وهلة أن الكاتبة خرجت عن مألوف كتابنا الأقدمين والمحدثين في كثير من أنواع المجاز والتعابير، كأن قريحتها الوقادة رقت بها فوق مألوف العادات وعقلها المبتكر حلق بها في سماء الخيال شأن كل نابغة في عصره؛ فإنه يكثر الابتكار ويكره التقليد.
وإذا كان بعض استعاراتها مقتبسا من لغات أوروبية فذلك ليس بدعة في العربية، ولا هي أول من فعل ذلك، بل قد سبقها إليه جماعة من أساطين الكتاب، مثل الجاحظ والصابي وابن المقفع وابن خلدون، فزادوا في غنى العربية بما أضافوه إليها.
وهذا شأن كل الذين ابتكروا لغاتهم، مثل كارليل ولورد أفبري وفيكتور هيغو ولامرتين ومثل الكتاب الرومان الذين كانوا يحسنون اليونانية قبلما يكتبون لغتهم. وإدخال الجديد في اللغة ضروري لحياتها وإلا انحطت وتلاشت شأن الأسر التي لا يتزوج أعضاؤها إلا في بعضهم.
وإلى القارئ مثلا واحدا مما كتبته في وصف باحثة البادية ككاتبة، حيث قالت:
وما حاجتي إلى الكلام عنها كاتبة؟! إننا لو ضربنا صفحا عن شهادة من شهد لها بالمقدرة الكتابية، مكتفين بما ورد من أقوالها في الفصول الماضية، لأثبنا على الورق ما قد سبق وقرره حكمنا الصامت، وهو أنها كاتبة كبيرة. يطلق الناس عادة اسم «الكاتب الكبير» على من كتب كثيرا، وهم في ذلك مخطئون؛ إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير حتى ولا بالصغير؛ لأنه ليس كاتبا على الإطلاق؛ إنه ينقصه ما يسميه الإفرنج «قماش الكاتب»؛ أي السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة ويعلم اليد صياغة الجملة الملائمة. وينقصه خصوصا ذلك اللهيب الخفي الذي ينشر بين السطور أشباح النور والظلام.
ما هي الكلمة؟
الكلمة التي تعين الحركة والإشارة والصوت واللون والانفعال، الكلمة التي تعني أمرا دون آخر وتوقظ عاطفة دون غيرها، ما هي وما هو سر انتخابها؟ الأبجدية لجميع البشر، والناس لا يتفاهمون عادة إلا بالكلام، فما هي تلك القدرة المعطاة للبعض ليرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها، والشفاه وحدود ثناياها، والآفاق واتساعها اللانهائي، والليل وعمقه وكواكبه، والنفس وعجائب خفاياها؟ كيف تنبض في الألفاظ المجردة الجامدة حياة سريعة متقدة بثورة الشعور وهيجان الغضب وأنين الشكوى ورنين النجاح والظفر؟ لماذا تهتز الألفاظ تارة كالأوتار وتولول طورا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينا همسا عجيبا كأنما هو منطلق من سحيق الذراري ومبهم الآمال القصوى؟
قال فيكتور هوغو أن الكلمة كائن حي،
نامعلوم صفحہ