ولكثرة ما كان يلقاه الحكماء في بغداد من الإكرام والاحترام في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء والقادة وأهل اليسار أقبلوا ينسلون إليها من كل حدب، ويتخذونها دار إقامة لهم، فقصدوها من الشام والعراق وفارس والهند، وفيهم النساطرة والهنود والفرس، فتضافرت الهمم على ترجمة كتب الأقدمين والتأليف في مختلف علوم الكون على اختلاف فروعها، فأصبحت بغداد بذلك ينبوعا فياضا بهذه العلوم، يغترف منه الناس في سائر الحواضر الإسلامية. ومن أشهر الأسر التي جعلت بغداد موطنها: آل بختيشوع، نشأ منهم في بغداد عدد كبير، من أشهرهم: جورجس بن جبريل وبختيشوع بن جورجس، وجبرائيل بن بختيشوع وغيرهم، وأصلهم من جنديسابور،
1
انتقل جورجس بن جبرائيل إلى بغداد، وكذلك بختيشوع بن جورجس فتناسلوا فيها وكثروا، وآل حنين بن إسحاق العبادي، أولهم حنين بن إسحاق، وهو من أهل الحيرة وجعل بغداد دار إقامته، واشتهر من سلالته جماعة من أشهرهم ابنه إسحاق، وكان كأبيه في حذق اللغات الكثيرة. وآل شاكر، ويقال لهم: أبناء موسى؛ لأن أباهم موسى بن شاكر، فتارة ينسبون إلى أبيهم وتارة إلى جدهم، وهم ثلاثة: محمد، وأحمد، والحسن. أما محمد، فكان واسع المعرفة بالهندسة والفلك وسائر العلوم الرياضية، وكان أحمد من أمهر الناس في علم الحيل (الميكانيكا)، وكان أبناء شاكر قد عهدوا إلى جماعة من أهل المعرفة باللغات أن يترجموا لهم ما يطلبون من كتب الرياضيات والطبيعيات والفلسفة وغيرها، وكانوا ينفقون على ذلك نحوا من 500 دينار في الشهر، ولهم مؤلفات كثيرة في علوم شتى، ولهم إبداعات كثيرة ولا سيما في العلوم الرياضية، وهم الذين قاسوا محيط الأرض قياسا دقيقا لا يختلف عن قياس المعاصرين إلا قليلا مع دقة الآلات في هذا العصر.
وآل الكرخي أولهم شهدي الكرخي، وكان من أوساط التراجمة، وكذلك كان ابنه إلا انه أتقن هذا الفن في أخريات حياته.
ومن مشاهير حكماء بغداد: يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى سنة 260، فيلسوف العرب، يرجع نسبه إلى ملوك كندة، وكان واسع العلم في الطب والفلسفة والرياضيات والمنطق والموسيقى والنجوم، وله تآليف كثيرة في هذه العلوم تربو على الثلاثمائة ، وترجم كثيرا من كتب الأقدمين ولا سيما كتب الفلسفة، وأوضح فيها المشكل ولخص المستصعب وبسط العويص.
ولم يكد ينقضي القرن الثالث الهجري حتى برع البغداديون في العلوم الكونية كلها، وظهر فيهم الكثيرون من أعاظم الفلاسفة وكبار الأطباء، الذين يعتمدون في معارفهم على التجاريب الشخصية العملية، منهم أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المتوفى سنة 311، صاحب البيمارستان العتيق في بغداد، وله في الكيمياء تجارب كثيرة، وقد أحصي له في علوم الطب والفلسفة والكيمياء أكثر من 200 كتاب، ونحن لا نشك في أن للبغداديين حصة كبيرة في رسائل إخوان الصفاء المشهورة. ومن شاء التوسع في الباب فعليه بالرجوع إلى البابين التاسع والعاشر من كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
وقد خمدت جذوة هذه العلوم بعد أفول نجم الخلافة العباسية في بغداد، على أن بعض رجال المغول ومن خلفهم من دول الأعاجم حاولوا إحياء بعض هذه المآثر فيها، وكان في المدرسة المستنصرية رواق خاص بالطب وعلوم الأوائل، ويظهر أنه امتدت به الحياة إلى العهد الذي أهملت فيه هذه المدرسة وأدبر أمرها. ولم تزل بعض هذه العلوم تدرس في المدارس القديمة إلى عهدنا هذا، ولا سيما الرياضيات منها، بما فيها علم الهيئة وعلم الحكمة وعلم المنطق. والبغداديون يعتبرون هذا العلم في مقدمة العلوم العقلية، كما أن النحو يعتبر في مقدمات العلوم اللسانية، فالحاجة إلى المنطق في سلامة التفكير كالحاجة للنحو في سلامة التعبير.
الفصل الثالث
العلوم اللسانية
كانت البصرة والكوفة في العهد الأموي ينبوعين فياضين بعلوم اللسان العربي، فلما استقرت الخلافة في بغداد وأقبل الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة على تنشيط العلوم وبذل الرعاية للعلماء، وفي مقدمتهم علماء اللسان العربي، أقبل علماء المصرين إلى مدينة السلام؛ حيث نالوا من خلفائها وأمرائها كل رعاية وعناية. وكان أئمة الكوفة أسبق إلى ذلك، فكان منهم المؤدبون لأبناء الخلفاء وأكابر رجال الدولة، وكانت العلوم اللسانية التي يتدارسها أهل المصرين يومذاك: الأدب والنحو. وفي ضمنه الصرف واللغة، والإنشاء والخط، والشعر والشعراء، أما البلاغة فلم تكن من النضج بحيث يمكن أن تسمى علما.
نامعلوم صفحہ