حصل كل هذا والمأمون في قبضة الفضل بن سهل لا يصل إليه شيء منه، فاتصل الإمام علي الرضا بالمأمون سرا وأخبره بكل الواقع، وبين له أن مخرقة ابن سهل أدت إلى كل هذه الاضطرابات؛ فعزم المأمون على المسير إلى بغداد، فلما وصل إلى سرخس أحكم تدبير الحيلة للتخلص من الفضل، فدس له من قتله وهو في الحمام، وكان ذلك في الثاني من شعبان سنة 202ه، وتظاهر بالحزن عليه، وكتب إلى الحسن أخيه بتعزية حارة وأخبره أنه صيره مكان أخيه، وما كاد يصل مدينة طوس حتى أبلغ بوفاة الإمام علي الرضا؛ فشاع بين الناس أنه مات مسموما، وأن المأمون هو الذي سعى في ذلك. فلما قرب المأمون من بغداد وزال ما كان ينقمه الناس عليه من أمر الفضل، وما كان ينقمه البيت العباسي من نقل الخلافة إلى العلويين؛ اجتمع القواد والأمراء وأعلنوا خلع إبراهيم بن المهدي؛ فاختفى، وكان ذلك ليلة الأربعاء 17 من ذي الحجة سنة 203. وفي يوم السبت 16 من صفر سنة 204 دخل المأمون مدينة السلام ولا تزال الخضرة شعار دولته، ثم بعد بضعة أيام أمر بإعادة السواد شعار الهاشمية الأول، وبوصوله إلى بغداد بعد تخلصه من ربقة ابن سهل أصبح خليفة حقا، وعاد إلى بغداد شيء من نضرتها وروائها.
وقرت قلوب كان جما وجيبها
ونامت عيون كان نزرا هجوعها
واتخذ مقره في الجانب الشرقي، ومنذ ذلك الحين استقر الخلفاء في هذا الجانب، وكان قد سافر إلى الشام ومصر ثم عاد إلى غزو الروم.
وأدركته منيته غازيا في 18 من رجب سنة 218، فدفن في طرسوس، وعهد بالخلافة من بعده إلى أخيه المعتصم، وكتب له في عهده وصايا تعد من أنبل ما يوصي به الحكماء الإخوان والأبناء، وكرر له العناية في أمر الرعية وأمر العامة منهم قبل الخاصة، بأن ينصف مظلومهم، ويضرب على يد ظالمهم، ويسعى جهده لنشر العدل وإفاضة الرفاهية عليهم.
ولم يكن المعتصم رجلا بعيد النظر فسيح رقعة التفكير، وكل ما فيه من المزايا أنه كان شجاعا يحب الشجعان ويعتز بهم، وقد أكثر من الغرباء - ولا سيما الترك - في جنده، وتمرد عليه بعض جيشه منذ أول الأمر؛ فاضطر إلى التخلص منهم بالتبعيد والتشريد وبالقتل أحيانا، كما فعل بحيدر المعروف بالأفشين، فإنه اضطر إلى إحراقه مصلوبا، وهذا الجيش الذي ألفه وإن كان قد أذل الأعداء خارج الدولة، إلا أنه قد أذل مع ذلك الرعية في داخل البلاد.
وفي يوم الخميس لثمان مضين من شهر ربيع الأول سنة 227 توفي المعتصم في سامراء، وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده هارون الذي لقب بالواثق بالله. •••
تولى الواثق بالله الخلافة وحالة الجند - على ما علمنا - وقد توطدت أقدام القواد الغرباء الذين اصطنعهم المعتصم، وصاروا أصحاب نفوذ عظيم في الدولة، وكانوا - على ما بهم من غطرسة وخشونة - قدراء على توطيد الأمن في الداخل، كما كانوا قدراء على بعث الخوف في قلوب الدول المجاورة المناوئة للمملكة الإسلامية في الخارج.
مات الواثق يوم السبت لست ليال مضين من ذي الحجة سنة 232، ولم يعهد بالخلافة لأحد من بعده؛ فاختار كبراء الدولة وفيهم أحمد بن أبي داود القاضي - وهو من سراوات العرب وكبار علمائها - جعفر بن المعتصم ولقبوه بالمتوكل على الله، وكان شابا بعيد الهمة، ماضي العزيمة، قوي الشكيمة. نظر ما حوله من الأجناد فرأى أن أكثريتهم من الأعجام الذين لا يوثق بإخلاصهم ولا يؤمن جانبهم في الملمات؛ فالتفت إلى العرب من حوله، فلم يجد منهم العدد الوفير الذي يحتاج إليه؛ لأن الحروب قد أكلت أكثرهم، والفتن قد اصطلمت زهرتهم؛ ففكر أن ينقل عاصمته إلى الشام، فيصطفي من أبناء الشام ومن أبناء الأعاريب هنالك جيشا يفل به غرب هؤلاء المماليك المتغطرسين والجفاة المتغلبين، فشخص إلى دمشق سنة 243 ونقل إليها دواوين الملك، ففطن رؤساء الأجناد من الأتراك إلى مقصده، فدفعوا الجند إلى الشغب؛ فاندفعوا يطالبون بأرزاقهم وأعطياتهم فأجابهم إلى ذلك. ورأى أنه إن استمر على الإقامة في دمشق استمروا على إحداث الاضطرابات والإكثار من المشاغبات؛ فأظهر أن هواء البلد وماءه لا يوافقان مزاجه، وأن الأطباء أشاروا عليه بالنقلة؛ فرجع إلى سامراء. ولا شك عندنا بأن الأجناد من الأتراك هم الذين حملوه على العودة إلى سامراء للحيلولة بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه من إنشاء الجند العربي، وإلا فدمشق من أعذب بلاد الله ماء وأرقها هواء.
وكان المتوكل يكثر من شرب النبيذ، فتفلت منه بعض الأسرار، فظن المنتصر أنه يريد تأخيره وتقديم أخيه المعتز عليه، فتمالأ مع بعض الناقمين من الأتراك واتفقوا على اغتياله، فأعدوا لذلك قوما دخلوا عليه وهو على شرابه فقتلوه، وحاول الفتح بن خاقان الدفاع عنه فقتلوه أيضا، وكان في المجلس أبو عبادة البحتري ويزيد المهلبي - الشاعران المعروفان - فاختبأ أحدهما خلف الباب والثاني في الشاذروان. وفي ذلك يقول البحتري قصيدته المشهورة التي جاء فيها:
نامعلوم صفحہ