فالتفتت بديعة إليها، وقالت بتفكر: إن التعب والنصب لا يهماننا؛ لأننا خلقنا لنأكل خبزنا بعرق جبيننا، ولكن ما يهمني هو الجولان في الأحراج والبلدان كما قلت.
قالت العجوز: اللواتي يكن مثلكن ذوات وجوه جميلة وثياب نظيفة يقدرن على التجول في المدينة براحة؛ لأن الأمريكية لا تغلق الباب بوجوهكن كما تفعل بوجه بياعة قذرة الثياب.
ولما نزلن إلى المحل في ذلك النهار لأجل «الاستبضاع» أو شراء البضائع اللازمة وترتيبها والجولان بها لاصقتهن نساء كثيرات كن «يتبضعن» أيضا وسردن لهن حديث العجوز تقريبا، فعند ذلك احمر وجه لوسيا غيظا، وقالت بنزق: إذا لم يكن للمرأة شغل غير هذا، فأنا أفضل الموت جوعا على أن أدور على البيوت وبيدي وعلى ظهري هذه الأحمال كالشحاذة، فإن المرأة لم تخلق لتكون دابة ...
فابتسمت بديعة وقالت للوسيا: «ما أهون القول عند العمل!» يا عزيزتي لوسيا أفلست أنت القائلة بأن هذه الأيام أيام بخار لا يهم المراكب فيها الريح بل تجري بالرغم عنها؟ فما بالك يوهن عزمك عند أقل صعوبة؟!
قالت لوسيا: إنني لم أحلم بأنني عند وصولي إلى أمريكا أمسخ دابة ...
وكان أولئك النساء قد اجتمعن هناك ينظرن إلى لوسيا، وقد «احمرت عيونهن منها» وأحببن مجاوبتها بكلام أحد من السهام، ولكن قاطعهن صوت أديب الذي التفت إلى بديعة وقال باحترام: وما هو رأيك أنت أيتها الآنسة بديعة؟
فأجابت بديعة باحتشام وصدق: رأيي أن العمل شرف وواجب، ويتضاعف شرفه إن كان لا بد منه، وإذا كان بطريقة أدبية مرتبة. فلعمري أي عار ببيع الكشة الذي هو تجارة متى تعاطته المرأة وهي مرتبة نظيفة الثياب، وإذا كان معها من يحمل لها تلك الكشة إذا كانت تقدر على ذلك، وإلا فتحمل هي «جزدانا» صغيرا جميلا في يدها؛ لأنه ليس العمل الذي يجلب الإهانة على صاحبه، بل الوسائط التي توصل إليه والتصرف الذي يرافقه، ولا أرى ماذا نعمل الآن ونحن غريبات نجهل اللغة وليس لدينا مال نستعين به على المعيشة إذا كنا لا نتعاطى بيع الكشة، فإن أصعب المشقات وأثقل الأحمال هو خير للمرأة من أن تكون عالة على سواها، وهي كطير مقصوص الجناحين يعتمد بمعيشته على سواه ممن لا يكون مطالبا به وبها.
وكان تأثر لوسيا من بديعة؛ الآن أضعاف ما كان من جميلة في تلك الليلة؛ لأن بديعة «أهانتها» - كما اعتقدت - أمام جماعة من نساء شامتات وشبان منتقدين، بينما كلام جميلة كان خصوصيا. وعوضا عن أن ترضخ لأحكام الحق وتقبل النصيحة أضمرت للفتاتين الشر وأكثره لبديعة.
حملت بديعة الكشة مختارة؛ لأنها لم تجد شغلا أنسب ولأنها - كما قالت - كانت تحسب شرف الأعمال بشرف الوسائط، وحملتها لوسيا مضطرة مرغمة، وحملتها جميلة غير مكترثة إلا لما يحول أفكارها عن همومها.
مضت شهور على أولئك الفتيات كن فيها على أتم اتفاق؛ لأن لوسيا كانت لم تظهر بعد عداوتها لرفيقتيها، وكن يذهبن إلى التجول والبيع من الصباح إلى المساء، وفي المساء يمكثن في غرفتهن يقرأن أم يطرزن، وعلى رأي بديعة يشغلن إما عقولهن بالمطالعة وإما أيديهن بالخياطة والتطريز وشغل البيت؛ حتى لا يتركن لألسنتهن وقتا للاشتغال بالنميمة واغتياب الناس. وعند الساعة التاسعة أو العاشر يذهبن للنوم لعلمهن بأن ساعة واحدة ينامها الإنسان قبل نصف الليل تهبه قوة لا تحصل له من خمس ساعات ينامها بعده.
نامعلوم صفحہ