ولكل شيء آفة من جنسه
حتى الحديد سطا عليه المبرد
ومن جهة أخرى كان وداد وذكاء جميلة أكبر مساعدين على تسليتها، كما أن إخلاصها وحبها لجميلة كانا يهدئان روع تلك الفتاة وينسيانها شيئا من مصائبها وأحزانها. ولنتركهما الآن ينمو حبهما بانحلال الأيام وعين لوسيا تنظر إليهما بغيرة كلية.
راجعين إلى نسيب، فإنه لما صعد إلى الباخرة وذهب إلى الدرجة الأولى فأضيف إلى ركابها نظر بديعة ولوسيا معها فتحقق ما عند الفتاة الأخيرة من الجمل الرائع، وقال: إن هذا من حسن الحظ، فإذا يئست من إقناع بديعة فيمكنني اجتذاب هذه الفتاة نحوي؛ لأنه يظهر من حركاتها ونظراتها بأن بين بديعة وبينها بونا شاسعا من الرزانة والتعقل، بل أكثر من ذلك؛ لأن دلائل الافتخار بالجمال تظهر على وجهها، ومن كانت كهذه يقدر الرجل على اجتذابها بأسهل طريقة، ولميلها إلى التدليس والإطراء، اللذين وإن يكونا آفة بعض الفتيات الخفيفات، فهما سلاح بعض الرجال لمحاربة أولئك النساء اللواتي لم يختبرن بعد العالم.
على هذا الفكر وعلى فكر آخر هو أن لا يظهر ذاته لبديعة في البحر، سافر نسيب مع الفتيات ولم يشعرن به.
ولما وصلت الفتيات إلى مدينة نيويورك العظمى لم يجدن أقل اعتراض على الدخول؛ لأنهن كن صحيحات الأجسام جميلات الصورة مرتبات الملابس مهذبات، وعيونهن سالمة من المرض الذي هو سبب إرجاع أكثر المهاجرين، وأحيانا يكون موجودا حقيقة وأحيانا لا يكون له أصل، بل يتخذونه واسطة لمنع دخول السوريين الذي لا حاجة لأمريكا إليهم؛ لأنهم قوم لا ينفعون البلاد بشيء كما قال مرة أحد المتوظفين بإدارة المهاجرة لأحد الأفاضل من السوريين. وهذا المرض يسمونه «التراخوما»، ويقول الأطباء بأنه مسبب عن وجود الرمال الناعمة بوطننا، وبعضهم يقول بأن من أسبابه «إهمال النظافة». وعلى كل حال فمن كان به علة جسدية خطرة لا يدخل، وخصوصا متى كان مصابا بعينيه.
الفصل الثاني عشر
في مدينة سنسيناتي - من أمهات مدن هذه البلاد - محل فيه من جميع الأقمشة والقواطع وكل ما يتجر به السوري المهاجر من البضائع والسلع، جلس شاب عند الساعة العاشرة صباحا على إحدى الطاولات الموضوعة بذلك المحل لعرض البضائع، واتكأ على رزمة من طقومة الرجال الموضوعة إلى جانبه، ورمى من يده جريدة عربية كان قد أتم قراءتها، ثم رفع نظره إلى سقف المحل وغاب في فضاء الأفكار؛ لأنه كان وحده، وكان المتعاطون معه من النساء والرجال قد ذهبوا ولا يرجعون إلا عند المساء.
وكان يظهر من عبوس ذلك الشاب بأن أفكاره تستدعي الاهتمام، وهي كانت هكذا صحيحة؛ لأنه كان قد مضى عليه العشر سنوات متغربا، وهو الآن في الخامسة والثلاثين من عمره، ولم يزل أعزب، ولماذا؟ ألأنه كان يعتقد كما يعتقد بعض الشبان العصريين بأن الزواج يخرب البيوت ويهدم أساس السعادة، وأنه مهما بلغ الأعزب من الشقاء لا يبلغ مبلغ المتزوج الذي يشقى بامرأته؟
كلا! إن هذا لم يكن ظنه؛ لأنه كان لا يحسب على الأرض سعادة أتم وأكمل من السعادة الزوجية. وكان يعتقد بأن العائلة أشرف شيء على الأرض، وأنها أكمل وأفضل وأجمل ما يوجد في الجنس البشري، وأنها إرادة الله الأولى على الأرض؛ إذ إنه جل جلاله لم يرض بأن يعيش جدنا آدم وحده، فخلق له امرأة وإنها أقدم وأعظم المدارس المعروفة للإنسان. بل هي تلك الكلية الكبرى التي تكون علمته القراءة فيها ركبة الأم وجعلت كتاب دروسه عينيها.
نامعلوم صفحہ