قال الشاب: إن معنى سفر بديعة إلى أمريكا هو هلاك ابنك لا محالة؛ لأن الفتاة الماكرة تعرف بأن فؤادا يحبها وأنه متى عرف بذهابها يتبعها لا محالة، وبهذا تكون سعادتها به مزدوجة وظفرها عليك باهرا، فوالله إنني لا أسمح لها بهذا أبدا؛ لأني سوف أتبعها وأجعل لك سببا للعذر لدى فؤاد لتحويل أفكاره عن اللحاق بها بقولك: إنني أنا أحببتها وسافرت معها ...
فمحت خالته المسكينة دموعها وهي تقول: يا حبيبي يا نسيب، ما أشرف عواطفك وأكثر مروءتك! فأنت تريد أن تحتمل كل هذه المشاق وتقاسي هذه العذابات لأجل راحة خالتك التعيسة.
وكانت تتكلم وهي تشعر بسرور لبعد بديعة عنها، ولأن ابن أختها سوف «يفدي» ولدها وهذا أمر طبيعي في الأمهات؛ يفرحن ولو تظاهرن بالغم متى رأين الغير يتحمل العذاب عن أولادهن. أما نسيب فإنه سر بانطلاء حيلته الأولى وتأمل نجاح الثانية فقال بلطف: كل شيء ممكن تحت السماء لا أجد عمله صعبا لأجل سعادتك وسعادة الحبيب فؤاد يا خالتي.
فقالت: «تقبر خالتك» ما أرق قلبك وأشرف نفسك!
ولكن يا نسيب، هل تظن أن حيلتك هذه تنجح؟ وأن فؤادا يعدل عن السفر وراءها متى صدق؟ - لا شك في ذلك؛ لأن فؤادا أبي النفس عزيزها، لا يلحق بفتاة يعتقد فيها الخيانة، ولكن فلنفرض أنه يذهب، فما هو أفضل أن أكون أنا هناك أقيه أخطار الغربة والهوى من أن يكون وحده؟
فأثر هذا الكلام في قلب تلك السيدة المتعظمة، وللحال وقعت إلى الأرض تبكي بكاء شديدا؛ ذلك لما تصورت المستقبل بتعاسته ورأت فيه ولدها الحبيب الوحيد راجعا من المدرسة يعاتبها على خيانتها ويطالبها بوعودها، وهو يريد أن يلحق ببديعة وهي عاجزة عن ردعه؛ لأن سلاحها صدئ ولا قدرة لها على محاربة مقاصده بالحق. ثم تصورت بديعة واقفة وهي كالزنبقة الذابلة تقول لها: انظري الفرق بين عملك معي وعملي معك الذي أطلب من الله ألا يجازيك عنه. ثم نظرت على قدميها قلبين قد مزقهما النوى بسببها؛ لأنها هي علمتهما الانضمام بالمحبة، ثم أجبرتهما على الافتراق فأماتتهما بعملها هذا البربري. وآخر ما كان من تصوراتها وداعها لابنها وهو مسافر لبلاد غريبة تبعد عنها ألوف الأميال لأجل فتاة خادمة حقيرة. فودت لو أنها قادرة على رتق ذلك الخرق، ولكن كيف يتم هذا وهي لا تريد أن تكون كاذبة وذليلة ولو خسرت ابنها وكل مقتناها.
ولو نظرها الآن صاحبنا ذلك الشاب الذي كان معجبا بآدابها ويراقبها ليلة الوليمة، لقال: يا للعجب! هل هذه هي تلك السيدة؟ هل هذه تلك المرأة التي كانت تحافظ أتم المحافظة على آداب السلوك وقواعد التهذيب؟ فإن كان هذه هي فكيف توفق بين أعمالها الماضية والحاضرة؟ هل أن من كانت مثال الأدب والشرف أصبحت إناء الشر والكبرياء؟ فما هو السبب يا ترى؟ أهو لأن حبها لولدها الوحيد هون عليها خنق صوت الضمير الحي؟ أو أن تلك الآداب والأخلاق لم تكن طبيعية بل كانت تأتيها بدون أن تعرف لها معنى كالببغاء، تعتبرها واجبا يتم في العموميات وينبذ في الخصوصيات؟ أو أن عواطف النفس ونقاوتها وأعمالها لا علاقة لها قط ببعض عادات اصطلاحية مكتسبة لا غريزية ومدفوعا إليها لا مرغوبا فيها؟
وبعد أن همرت دموعا كثيرة غسلت بها قليلا من همها؛ إذ لا شيء يفرج القلب من الهم كالدموع التي كأنها هي ذلك الهم ذاته، يعصر فيصير ماء وتقذفه العينان من القلب، قامت كاللبؤة وجلست بجانب ابن أختها تصغي إلى تعزيته. وبعد أن مسحت دموعها قالت: لقد نفذ المقدور، فليس علي غير الصبر والتدرع بدرع القوة لأنهي أعمالي بشجاعة. وأما أنت فإنك تحتاج إلى مال يعينك في السفر والغربة، فتعال معي إلى غرفتي فأعطيك ما هو متيسر الآن وإذا احتجت إلى أكثر فاكتب إلي.
وبعد ساعات كان نسيب مكبا على عنق خالته يقبلها بحرارة كأن الدافع عليها سروره بالمال، وهو الأربعمائة وثمانون ليرة التي رفضتها بديعة. وكانت خالته تقبله بشوق وحب وتشكر له مساعدته لها كأنه أتى نحوها خدمة عظيمة.
فلنذهب بالقارئ إلى ظهر باخرة من بواخر مساجري ماريتيم، حيث كانت بديعة ولوسيا واقفتين مع جمهور من الركاب تودعان بيروت على ظهر أول شيء من «عجائب أمريكا». ولما توارت المدينة عن النظر وأسدل الليل برقعه الكثيف من الظلام، رجع كل إلى مكانه، ولحظت لوسيا ما رابها من أمر رفيقتها بديعة التي كانت مضطربة مصفرة الوجه تتكلم بدون فكر. ولما كانت تجهل كل شيء من أمرها، ظنت أن هذا مسبب من دوار البحر. ولم تدر لوسيا بأن دوار بديعة كان اضطرابا فكريا لا جسديا، سببه تركها تلك المدينة المحبوبة «جوليت» وليس وجودها على تلك الباخرة.
نامعلوم صفحہ