فعجبت بديعة في كيف لم يجب فؤاد نسيبا على كلامه «المبطن»، وقالت في نفسها: كأنه لم ينتبه. ولكنها أخطأت؛ لأن فؤادا كان أدرى بأخلاق ابن خالته منها، كان يعرف كم هو شديد الغيرة منه ولكنه كان يداويه بدواء ناجع، هو أن يسكت ولا يجيب على كلامه حتى لا يفتح له بابا للتشفي، وكان يعمل العمل الذي يريد عمله والذي يقهر نسيبا ولا يكترث لما يقوله، أو أنه يتهكم عليه به إلى أن يتم ذلك العمل فيدعه يحارب نسيبا بما لا يقدر هو عليه بالكلام.
اختفى أثر أصوات الجميع من الدار إذ دخلوا الغرفة، ولكنه بقي يرن في أذني بديعة التي انطرحت على كرسيها تحارب أفكارها، ووضعت يديها على قلبها لتهدئ نبضاته المتتابعة عند سماع كلام سيدتها التي حسبتها تعني به شيئا، وسواء ارتابت السيدة مريم برجوع فؤاد أم لا فإن بديعة حسبتها هكذا؛ لأن المذنب كثيرا ما يجلب الهم لذاته وكثيرا ما يفشي سره بأخذه كلام الناس المنطبق عليه تأنيبا له وبظهور التأثر عليه منه، وقد قيل: «من تحت إبطه مسلة تنخسه.» والحق يقال بأن بديعة لم تكن مذنبة إلا بعين نفسها؛ لأن ما حسبته هي ذنبا تستحق عليه القصاص الكثير لم يكن ذنبا على الإطلاق، بل هو أمر طبيعي يقع بالرغم عن الإرادة.
أي ذنب اقترفته تلك الفتاة الطاهرة باستماعها كلام فؤاد الذي أحبها حبا طاهرا هو ربيع حياة النفوس الشريفة؟! وأي أمر فظيع أتته بالشعور بحبه وهو أمر طبيعي أو بالأحرى ثمرة النفوس الشريفة التي لا بد منها مرة واحدة بالحياة؟ ماذا عملت حتى بكت وتنهدت ووبخت نفسها؟ وبعد أن كفرت أو ظنت أنها كفرت عن ذنبها عزمت على أن تتم التضحية بشجاعة؛ ولذلك صممت على أن تذهب في تلك الساعة إلى والدة فؤاد وتقص عليها قصتها، وتطلب منها أن تسمح لها بالذهاب من بيتها تلافيا للأخطار من بقائها فيه وهربا من ويلات مقبلة، ولهذا القصد كانت قد طلبت من فؤاد أن يكتم الأمر عن والدته إلى الغد، أي إلى بعد أن تكون ذهبت هي.
هذا ما خطر لبديعة أن تعمله في تلك الساعة المظلمة؛ قياما بواجب الأمانة وتخلصا من اللوم في المستقبل واجتنابا لتكدير صفاء عائلة كانت تحبها، ولم تفتكر قط لا في نفسها ولا في سعادتها ، فهل أشرف من تلك النفس؟ وهل أنقى وأطهر من ذلك القلب؟
وفيما هي تمسح دموعها وبقصدها الذهاب إلى غرفة سيدتها، طرق الباب فعرفت بأن الطارق هو سيدتها، وللحال سقط في يدها لتصورها من ستقابل وكيف يجب أن تقابلها، وتصورت محبة تلك السيدة لها وحنوها عليها، وكيف قضت في خدمتها أياما سعيدة كانت تعاملها في أثنائها معاملة أم لبنتها، فذمت الحب الذي اضطرها إلى مفارقة ذلك البيت السعيد وخسارة حب تلك الوالدة الكريمة. ومجرد افتكارها هذا أضعفها، فذرفت الدموع ثانية ووقفت مكانها وقد سها عن بالها أمر الباب إلى أن طرق ثانية، فأسرعت إلى فتحه، فرأت واقفة عليه تلك السيدة المتعظمة، ورأت وجهها الذي ظهر باردا باسرا وقد كان قبل تلك الساعة مملوءا من الحنو والحب واللطف. ولم تقو بديعة على ذلك المشهد، فاقشعر بدنها، وأحست بحمى داخلية أحرقت قلبها وصعدت إلى أذنيها وخديها.
ومن الغريب أنه لم يكن قد ظهر شيء يدل على حدوث ما من شأنه أن يجعل كل هذا الاضطراب في ذلك البيت، وما أحدثه إلا الوهم فقط؛ لأن السيدة مريم كانت قد ارتابت في رجوع ولدها إلى البيت بدون انتظار، وفي حين غيابهم ظنت أن في الأمر حيلة أو سرا وزادها افتكارا وتصديقا لظنونها ما رأته على وجه فؤاد من دلائل السرور والفرح، فأرادت أن تتحقق الخبر فأتت إلى غرفة بديعة وهي لا تعرف شيئا، ولكن هل لولدها علاقة مع غير بديعة؟ كلا. وكان منظرها البارد مسببا عن انقباض طبيعي في النفس مما مر عليها، فلما لحظته بديعة خافت وظنته نتيجة معرفتها بالأمر، فاضطربت وبكت، فزاد هذا في ارتياب السيدة مريم. ولما رأتها على تلك الصورة دخلت غرفتها وقد تحقق ظنها بأن وراء الأكمة ما وراءها، فأخذتها بيدها ومشت معها إلى مقعد هناك فجلستا. كان منظر تينك السيدتين مؤثرا للغاية؛ لأن بديعة كانت محمرة العينين مطأطئة الرأس يظهر في عينيها ووجهها انكسار قلبها وموت نفسها، والسيدة مريم تنظر إليها ببرودة وبكره، إن لم يكن «بغضا» فهو أول درجات البغض، وكل منهما تريد أن تتكلم ولا تحب أن تكون البادئة بالكلام، وبعد أن ساد بينهما السكوت عدة دقائق رأت بديعة من نفسها ضعفا على الصبر، فارتمت من مجلسها على قدمي سيدتها وقالت: أشكر الله على مجيئك يا سيدتي، فقد وفرت علي الذهاب إلى غرفتك وعرض همومي الظاهرة بوجهي وتعاستي على الغير.
فقالت سيدتها بهدوء وشيء من عدم الاكتراث: وماذا تريدين مني؟
فاضطربت بديعة، وفي هذه المرة لم تمسك دموعها عن الانصباب، فسالت من عينيها كالوبل، وقالت بصوت أضعفه البكاء: سامحيني يا سيدتي على أمر وقع بالرغم عني.
وكان هذا قصد السيدة مريم أن تعلم «ماذا صار»، فقالت لها متظاهرة باللطف: اجلسي وأخبريني القصة كما هي يا بديعة.
فشعرت بديعة بأن الحين قد حان، ولكنها لم تبال كثيرا؛ لأنها كانت قد قطعت مسافة من الطريق، وصممت النية على شرب تلك الكأس مهما كانت مرة، فجلست ثانية وسردت لها حديثها مع فؤاد كما وقع، ولما انتهت من كلامها قالت: يصعب علي يا سيدتي أن أترك من كانت لي كأم حنون، من أنا مديونة لها بأيام سعيدة، ولكنه يهون علي هذا الأمر كثيرا، وكل أمر آخر متى عرفت بأنني سأترك قياما بواجب الأمانة وحبا بعدم تكدير صفاء معيشتك، فاسمحي لي بأن أذهب في هذا الليل إلى حيث لا يعلم بي أحد، ومتى ذهبت يسلوني ولدك وترتاح أفكارك وأكون أنا قمت بواجب نحوك، فأرجوك الآن أن ... أن تصفحي عن ذنبي الغير مقصود، وأن تعتبري هذه التضحية التي قد ضحيتها لأجلك.
نامعلوم صفحہ