فقال فؤاد بغضب أيضا وهو يكاد يضحك من تظاهره الذي أرجف ذلك الخادم المسكين: إذن اذهب وأخبر بديعة بأنك وجدت هذه الفلة مقلوعة ومرمية، وإياك أن تذكر لها عن وجودي هنا.
فذهب الغلام وردد كلام سيده من أنه رأى شجرة الفل مقلوعة على أذني بديعة، فلم تنتبه لهذه الحيلة، ولشدة أسفها على تلك الفلة أسرعت إلى الحديقة ووقفت فوقها مبهوتة حزينة.
وبينما هي واقفة فوق تلك الفلة تتأمل بها، كان فؤاد مختبئا وراء شجرة ينظر إليها متأملا أيضا، ويقول في نفسه: إن كثيرين من الرجال المجانين قد قتلوا نفوسهم وغيرهم انغلابا من حبهم، فلا تحزني يا عزيزتي على هذه الفلة وإن كانت عزيزة عليك، فهي ليست أعز من حديثك على قلبي. وبسرعة عجيبة مشى بهدوء إلى أن وصل إليها، وقال بلطف: من يا ترى فعل هذا الفعل بهذه الفلة؟
إذ ذاك عرفت بديعة الحيلة؛ لأنه كان بصوت ووجه فؤاد ما دلها على ذلك، فرشقته بنظرة عرف منها بأنها قالت له: «أنت هو الفاعل.» ولما ضحك همت بالرجوع فمسك بيدها وقال: أرجو أن لا يغيظك هذا الأمر؛ لأنه وإن يك عظيما فالدافع عليه أعظم.
فقالت بديعة بأسف: يا ليتك استعملت غير هذه الحيلة واتخذت غير هذه الفلة الجميلة واسطة للتوصل إلى رغباتك، أما الآن فاسمح لي بالرجوع يا سيدي ؛ لأن سبب امتناعي عن محادثتك لم يكن من المكان، بل من الشيء الذي يصير في المكان، وحيث إن الشيء هو ذاته فأنا غير قادرة على إجابة سؤالك.
فقال لها: أرجوك أن تقلعي عن هذا العناد؛ لأن كل قصدي منك هو محادثتك بأمر ذي بال وطلب رأيك فيه، وأنت بعنادك هذا تزيدينني في الأمر رغبة وتزيدين نفسك احتقارا، فما هو الداعي يا ترى؟!
إذ ذاك افتكرت الفتاة في أمرها مع الشاب، فعرفت بأنه سيتابع هذا العمل إلى النهاية، ولربما حدث من سعيه وراء محادثتها ما لم يحدث من المحادثة نفسها، فقالت: إني أعرف ما سوف يحدثني به وأرى من نفسي قوة على الرفض؛ فلا يجب إذن أن أرفض مخاطبته، بل أسمع حديثه الذي يكون فصل الخطاب لأني أقدر على إقناعه بالبرهان الصادق بأن الأمر الذي يطلبه مستحيل؛ لأن اقتراننا - وهذا ما سيطلب - مجلبة للتعاسة والكدر لجميع العائلة ولنا أيضا؛ لأنه من العبث أن يعيش الإنسان بين من يكون قد كدرهم وقد أصبحوا لأجله تعيسين، ولا سيما متى كان هؤلاء ممن يسأل عنهم كالوالدين. وعلى أمل أنها «تقنعه» بالعدول عن عزمه نوت أن تسمح له بقص حديثه عليها، ولا غرو إذا غلطت بديعة هذه الغلطة التي تكون باب الحب الذي متى فتحه الإنسان لا يعود أمر إغلاقه سهلا كما يظن؛ لأنها كانت فتاة طاهرة القلب لم تذق الصعوبات لتعرف طعمها، ولطالما فعلت فعلها كثيرات من النساء الفتيات النقيات القلوب؛ إذ يتعرض سبيل معيشتهن شخص فيرين ميلا منه إليهن، ويعرفن بأن الخطر محدق بهن من هذا الميل، ولكنهن يتساهلن ويقلن: لا بأس من هذه الملاطفات، لا بأس من هذه الابتسامات، لا خوف من هذه الكلمات؛ لأننا قديرات على «إقناع» هذا الرجل متى حدثنا بأمر الحب. ولكن وا أسفاه! فإنهن يكن قطعن نصف الطريق تقريبا وهن لا يدرين، فإذا دنا الوقت الذي يحسبن من نفوسهن المقدرة على محاربة ذلك الميل الذي يبدو صغيرا تقدر المرأة على ملافاته، ولكنه لا يلبث أن يكبر بتساهلها، فتصبح المقدرة دونه، وتعرف غلطها وتندم عليه ولات ساعة مندم. لتحذر الفتيات من هذا؛ لأن المرأة التي لا تحب أن ترى ميلا من شاب أو رجل ما أو التي ترى خطرا ما عليها أو عليه أو على سواهما من ذلك الميل، يجب أن تقطع أول أمل منه لئلا يكبر وينمو ويمتد ويصبح شجرة بل دوحة عظيمة تظل كثيرين بأغصان التعاسة المتفرعة منهما، ولا يعود قلعها بالإمكان.
ومن هذا النوع كان فكر بديعة بإقناع فؤاد، ولذلك التفتت إليه وقالت بلطف: أرجوك إذن أن تتكلم إذا كان لا مفر من استماع هذا الكلام. قالت هذا وتقدمت نحو غرسة من الورد، وبدت تنقيها لتشغل نفسها عن النظر إليه، فتبعها هو ووقف بجانبها لينظر إليها بلهفة ويتأمل بيديها الناعمتين اللتين كانتا تشتغلان الأشغال الشاقة في البيت.
وسكت كل منهما يتفكر برهة، ثم تكلم فؤاد أولا فقال: إنني كنت أحفظ مجلدا لأقوله لك من ساعة، أما الآن وقد وقفت بجانبك ودعيت منك للكلام فلا أقدر عليه، فهل لك بتنشيطي بكلمة رضى واحدة عما أقوله تكون لي مقويا على الكلام؟
فقالت بديعة: إن سؤالك لغريب، إذ أنى لفتاة مثلي أن تعلم الغيب لترى بكلامك رأيها وعما إذا كان يستحق الرضى أو الرفض.
نامعلوم صفحہ