ولما انتهى الناس من الطعام وأخذوا بالخروج سمع ضجة من السيدات، ورأى الناس يتراجعون ليعرفوا ما صار، وإذا بسيدة مصفرة الوجه من الغيظ والاستياء؛ لأن جارتها وضعت كرسيها على طرف ثوبها، فلما أرادت القيام قد ذلك الثوب النفيس وذهب ضحية الإهمال وقلة التهذيب. فضحك الشاب من هذا الفصل الأخير ومضى إلى الردهة، ولما رجع المدعوون من غرفة المائدة ذهب الشبان والشابات منهم إلى قاعة الرقص، وبقي الشيوخ وبعض الكهول ممن لم يتعلموا الرقص الإفرنجي ولا أرادوا التفرج عليه، فقدمت لهم النراجيل وجلسوا يدخنون ويتحدثون. وكان الشاب لم يزل واقفا حتى رسم بمخيلته هذه الصورة العربية القبيحة، ثم ذهب إلى قاعة الرقص فرأى صورة العادة الأخرى القبيحة، فقال في نفسه: ماذا يضرنا يا ترى أن نعدل عن عوائدنا القبيحة دون أن نضيف إليها ما هو مثلها من عوائد الإفرنج؟ أو بالحري ما كان أعدلنا لو رضينا بواحدة فقط من الاثنتين؛ لأن الضرر المتأتي عنها كاف لإقناعنا!
الفصل الرابع
نتيجة أول نظرة
ولما مثل ذلك الشاب دور انتقاده وانتهى من ملاحظاته، ذهب وهو يقول: إنني رأيت كل أعضاء جسم العوائد المضرة بين الهيئة الاجتماعية في هذه الليلة، ولكن الحمد لله لم أر «رأسها» الذي هو «لعب القمار»؛ فالفضل بهذا راجع إلى أصحاب البيت الأفاضل الذين لا يحبون أن يكون بيتهم هيكلا يضحى على مذابحه شرف وعقل ومال الناس بسرور ورغبة.
حدثت كل هذه الأشياء وفؤاد لم يكترث لأكثرها؛ لأنه لم يكن موجودا بغير الجسد هناك. ومع أنه كان في الوليمة بنات يخجلن بجمالهن زنابق حزيران الجميلة في الصباح، ويمثلن ضروبا من الجمال والدلال؛ فإن الشاب لم يكترث لهن إلا من جهة الضيافة والقيام بواجب الملاطفة المعتدلة، وكان كل فكره عند تلك الفتاة التي رآها حين دخوله الباب، وعلى ذلك الثوب البسيط الذي ظهر جمال وجهها وقدها فيه بأبهى مظهريهما؛ إذ لا شيء يظهر الجمال الحقيقي كالبساطة الطبيعية بكل شيء. وكان يفتكر في من عسى أن تكون تلك الفتاة التي لم يقدر على التمتع بمرآها أكثر من دقائق معدودة والتي أوجدت في قلبه شوقا عظيما إلى نظرة ثانية منها لم يعرف سببه.
وهذا التأمل صيره مشتت الأفكار وجعل وجوه أكثر الفتيات كالحة في تلك الليلة التي كان هو فيها مطمح أبصارهن وأبصار أمهاتهن اللواتي كن يراقبنه ويطوقنه بأنظارهن كيفما دار، وكل واحدة منهن تتوهم «أنه في قبضة يدها»؛ لأن بنتها أحسن من بنت فلانة أو أن نحلتها «الدوطة» أكبر من نحلة فلانة. ولو كان لإصابة العين أثر من الصحة مع شدة اعتقاد بني وطننا بها، لكان وقع فؤاد صريعا من عيون بعض الأمهات اللواتي كن يترقبنه كما تترقب الهرة العصفور ... أما هو فقد كان - وا أسفاه - مشغولا عنهن بالنظر بلهفة إلى الباب كلما فتح أو دخل منه أحد؛ لأنه كان يعلل النفس باستعادة النظر إلى تلك الصورة التي تركت في قلبه أثرا لا يمحى، ولكنه كان يرجع نظره بالقنوط والخيبة إذ يرى بأن الداخل ليس من يريد، وانتبه لأمره كل من كان حاضرا من أصحاب الذوق في تلك الليلة؛ لأن أفكاره كانت مرسومة على جبينه.
وكان يسأل نفسه عن سبب حضور تلك الفتاة الحفلة ويود الاختلاء بوالدته ليسألها عنه، ولكنه تصبر احتشاما إلى ما بعد ذهاب المدعوين. وعند منتصف الليل كان قد ذهب أكثرهم وكانت السيدة مريم قد تعبت جدا من الجهد الذي قاسته بمقابلة الضيوف والقيام بواجباتهم بتدقيق، ومن الحر الشديد في تلك الليلة، فنزلت إلى الحديقة وجلست على مقعد هناك للاستراحة من عناء الأشغال، ولتنشق الهواء النقي الذي هو أحسن وسيلة للراحة وأعظم منعش للقلب في مثل هذه الظروف.
وكان فؤاد ينتظر هذه الفرصة أيضا، فلما خرجت والدته تبعها ماشيا وراءها إلى أن وصلت إلى ذلك المقعد وجلست، فأتى هو ووضع يده اللطيفة على كتفها فأحست بأن هذه اليد هي التي خففت عناءها وليس النسيم العليل، وللحال أخذتها عن كتفها وأدنتها من فمها فقبلتها بحرارة والدية، واجتذبت ولدها بلطف قائلة: اجلس بجانبي يا حبيبي لنريح نفسينا قليلا بالحديث.
وكانت السيدة مريم في الأربعين من عمرها، ولكن من ينظر إليها يظن أنها في الثلاثين فقط؛ لأنها كانت اكتسبت الظهور بأقل من سنها بعشر سنوات، واستبقت جمالها على حاله من اعتنائها بصحتها اعتناء زائدا، وهذا سر قد لا يفهمه جميع الناس ولكنه أصل سعادة العائلة؛ لأن المرأة متى كانت قادرة على الاعتناء بصحتها وجمالها تبقى إلى ما بعد الخمسين صبية، وتكون بذلك لم تزل «عروسا» محبوبة من زوجها ورفيقة عزيزة لبناتها وصبيانها؛ لأن الأم الصبية تكون رفيقة للبنت قادرة على مسرتها والسرور بها، فتفهم احتياجاتها أكثر مما لو كانت شيخة وبنتها صبية، ورب امرأة تلبس هي وابنتها فسطانا من قماش وتخريج واحد، فتعيش بنتها سعيدة معها أكثر مما لو كانت غضنتها الأيام فأصبحت لا تكترث لشيء، وقد قيل: «كل جيل مع جيله يلعب.» وأما منفعة الأم الشابة الجميلة للشاب فهي عظيمة جدا؛ إذ تكون له مدربة ومحبة ورفيقة يسر بمعاشرتها واستشارتها بوقت واحد.
وكان فؤاد يشبه أمه أكثر مما يشبه أباه، فكان وهو جالس معها على ذلك المقعد يظن أنها أخته لا والدته، ومن جهة أخرى يشعر بقوتها عليه وبوجوب طاعته لها لشعوره باللذة والسعادة بمحادثتها. وفي خلال الحديث سألها بلطف قائلا: هل حضر كل مدعويك الوليمة يا أمي؟ فارتابت والدته من سؤاله وقالت له: وما الذي حملك على هذا السؤال؟ أجاب: لا شيء سوى أنني أظن أن البعض منهم ذهبوا بعد حضورهم لأسباب لا أعلمها. فتعجبت والدته من هذا السؤال الغريب، وقالت: لم يذهب أحد من هنا على الإطلاق، ولكن عائلة واحدة لم تحضر؛ لأن أحد أعضائها مريض، فما الذي دعاك لأن تقول بأن البعض حضروا ورجعوا؟ أجاب: ومن هي إذن تلك الفتاة الجميلة التي نظرتها عند وصولي للبيت ولم أعد أنظرها فيما بعد البتة مع ضيوفك؟
نامعلوم صفحہ