من الشوق نار لا نطيق لها وقدا
ملك يرصد الكواكب
تحت هذا العنوان نظم أحد شعراء فرنسا قصيدة بديعة تتلخص في أن ملكا عظيما شغف برصد الكواكب، فكان يقضي ليله في مشاهدة السماء، ومطالعة ما فيها من نجم طالع، أو كوكب ساطع، فبينا هو غارق - ذات ليلة - في تأملاته الحلوة، وهو يجوب ببصره أقطار السماء؛ إذ أزعجه أحد رعاياه بقوله: «مولاي الملك، إن الله لم يولك أمر هذه الأمة لترصد ما في السماء من نجوم وكواكب، بل ولاك لترصد ما في الأرض من مريض أشقاه المرض، وفقير أضناه العوز، وجاهل أضله الجهل. فول وجهك شطر الأرض مرة واحدة لتنظر ما فيها من بؤس وشقاء، وهم وعناء، وإني لواثق بأن في الهموم المنشورة على بساط الغبراء شغلا لك عن النجوم المبثوثة في أديم الزرقاء!
ما الذي يهمك من تأمل النجوم، ولست مسئولا عما يطلع منها وما يغيب، إن لها نظاما لا تعرفه، وسرا أنت عنه محجوب، فما لك لا تشغل بالأرض، ومنها خلقت، وإليها تعود؟» •••
قرأت تلك القصيدة التي لخصتها للقراء، وذكرت أهل العلم في مصر؛ لأنهم يشبهون ذلك الملك من جميع الوجوه، وبيان ذلك أن جميع العلماء الذين نثق بعلمهم من كل خبير بوجوه الحياة، وقفوا علمهم على وصل السلسلة التاريخية للعلوم والفنون، فترى الرجل يقضي عمره في بحث مسألة قد تكون بعيدة عن حاضر النفع لقومه ووطنه، ولكنها تروقه لسبب واحد هو وصلها بين القديم والحديث، ويخيل إليه أنه يقضي مهمة وطنية؛ لأنه يجعل لوطنه ذكرا في تاريخ المباحث العلمية، وإن كانت هذه المباحث ظنونا في ظنون!
ومن الناس من يؤلف كتابا لا يقرؤه إلا اثنان أو ثلاثة، ثم يبلى في المكاتب لعدم الحاجة إليه، فإذا سألته لم اخترت لكتابك هذا الموضوع الغريب، أجابك بأنه إنما فعل ذلك أداء لحق التاريخ، ونحن نجل هذا النوع من الحرص، ولكننا ننكر أن يقبل أذكياء مصر على الأبحاث الكمالية، ثم يتركوا الأمة تتخبط في دياجير الجهالة وبيداء الضلال!
في مقدور هؤلاء النوابغ أن يؤدوا واجبهم نحو العلم وتاريخه، ثم ينظروا - مع ذلك - إلى ما تقاسي طوائف الأمة من عنت الأمراض الاجتماعية، فيصفوا لها ما يعرفون من ناجع الدواء، ثم يحاربوا بأنفسهم جيش البلادة والخمول؛ لتقوى المدارك وتسلم الأذواق، فإذا فعلوا ذلك عرف الناس أنهم يعملون لبعث ماضيهم، وإصلاح حاضرهم، وإلا كانوا كذلك الذي ترك الناس نهبا للبؤس والشقاء، ثم قلب وجهه في السماء ليرصد الكواكب!
الجرائد المصرية
وكما رزئت الأمة المصرية في أقطاب التأليف، فلا تقرأ لهم غالبا غير «تحقيقات وتدقيقات» سخرت من تكرارها القرون، فجعت كذلك في كتاب الصحافة وهم قادتها في هذا الحين! فإن كنت في ريب من ذلك فانظر أي جريدة وتأمل ما يسطره قلم التحرير أو قلم التعريب، فلن تجد غير الأخبار السياسية، والرسائل السياسية، الخلافات السياسية ... إلخ ... إلخ! وتلك بلية عظيمة لا تحتملها أمة تحاول النهوض، فإنه يستحيل أن تنهض أمة لا تجد ما تقرأ غير الشئون السياسية.
وسبب هذه النكبة، أن القائمين على الجرائد المصرية قوم غلبت عليهم مذاهبهم السياسية، ولا يطالعون من الجرائد غير ما تغلب عليه السياسة ولا يطيب لهم السمر إلا إن سادت فيه السياسة ولا يهزون وهم نائمون في غير السياسة! ورحم الله الشيخ محمد عبده حين قال: «قاتل الله السياسة ومادة ساس ويسوس.»
نامعلوم صفحہ