لا يقنع الأمة أن ترى من بين هؤلاء الجموع خمسة أو عشرة يكتب كل منهم بضع رسائل في السنة، ثم تطوى الصحيفة ويجف المداد.
كنا سمعنا أن امرأة صالحة وقفت في طريق الفخر الرازي، فسألها الناس أن تفسح له الطريق، فقالت: من هذا الذي تحتفون به؟ فقالوا: رجل عالم أقام على وجود الله ألف دليل. فقالت: ويحكم! هل عميتم حتى تطلبوا على وجود الله ألف دليل؟! وكذلك يقتل الأزهريون وقتهم في إثبات وجود الله - تعالى عما يصفون.
نريد أن يتغير التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية؛ نريد أن نكون أعزة وقد صيرتنا هذه التعاليم أذلاء، نريد أن نرسم الخطة لنهضة الممالك الإسلامية، حتى يغلب الجاحدون على أمرهم فيدخلون في دين الله أفواجا أفواجا من حيث لا يشعرون.
نريد أن نمحو الوساوس التي دخلت في العلوم العربية وأصول الفقه وعلم التوحيد، ولا يضيرنا أن يخمل بذهاب هذه الوساوس مئات المتصدرين في العلم والدين! فهل نحن واجدون من بين العلماء من يسمع هذه الكلمة التي اضطررنا إليها اضطرارا، وألجأنا إليها الغيرة على الدين الذي مات في تأييده الآباء والأجداد؟
الإحسان إلى العقول
كتب التاريخ - فيما كتب - أن الأمير عبد العزيز بن مروان كانت له أياد بيضاء على المعوزين في مصر، ولا زلت أذكر ما طربت له من وصف الأستاذ محمد بك الخضري لذلك الأمير الجليل حينما عرج على ذكراه في الجامعة المصرية. ولم يكن عبد العزيز بن مروان واحد الناس في الكرم والأفضال حتى أخصه بالطرب لما عمل، والإعجاب بما صنع، ولكن الذي انتشيت له إنما هو وجود باحة سعيدة في الديار المصرية، ابتسم فيها الجود للعافين حينا من الدهر، ومن ذا الذي لا يستروح لذكرى السعادة مرت ببلاده ففلت من غرب الشدائد، ونالت من جانب الأحداث؟
أجل! كان ابن مروان موئلا للنفوس الحيرانة أعواما معدودات ثم انطوى بره، حينما انطوت أيامه! ولم يبق من جوده بقية تفزع إليها النفوس الهاربة من الفقر! وكذلك لم يبق من ذكراه إلا كلمات قلائل حفظت في الكتب المنسية! وذهب ما قيل فيه من جيد الشعر، وبارع النثر، وأكثر ما يعرف عنه أنه والد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وكان أولى أن يعرف بجوده الشامل، قبل أن يعرف بابنه العادل!
كذلك كان الناس - فيما سلف - يعملون لليوم لا للغد، ويحسنون إلى البطون، لا إلى العقول! اللهم إلا أفرادا كانوا يثيبون على الكتب المؤلفة، وربما حسبوا شيئا من مالهم على المساجد يدرس فيها العلم، ويذكر فيها ذو الجلال والإكرام.
تلك أيام خلت، وقد اكتفينا بما لدينا من التكايا والمساجد، ووجب أن تتوجه العزائم إلى الأعمال التي تخلق الأمم خلقا جديدا، وينال صاحبها من كرم الأحدوثة ما لا يذهب به كر الغداة ومر العشي، ولن يتمثل ذلك إلا في إنشاء المعاهد العلمية، والعمل على تكوين العقول، وتهذيب النفوس. وأكثر ما يتضح ذلك في العمل الذي قام به منشئو الجامعة المصرية، التي أخذت منذ سنوات تبعث العلم من مرقده، في هذه البلاد التي كانت نقطة الاتصال بين الشرق الناهض والغرب الهامد، والتي لولاها ما حفظت علوم العرب التي كانت نواة هذه المدنية الفسيحة الأرجاء.
إن الجامعة المصرية لم تعد في حاجة إلى الإشادة بذكرها ليلتفت إليها الناس، ولم يكن أبناؤها بالقليلي العدد حتى يقول قائل: ما الذي صنعته في ترقية البلاد؟ ولكن كلمة واحدة تختلج بين شفتي من حين إلى حين وأريد أن أقول: هل يذكر كل قادم إلى الجامعة المصرية من منتسب أو مستمع أنه ضيف صاحبة السمو الأميرة فاطمة بنت إسماعيل - تغمدها الله برحمته - أو ضيف المرحوم حسن باشا زايد أو أحمد بك شريف، ومن نحا نحوهم في الخروج من بعض ماله لتشييد هذا المعهد الذي تفزع إليه العقول؟! وهل يفكر بعض طلبة الجامعة من الذين قدر لهم أن يكونوا أغنياء أو ذوي دالة على الأغنياء، أن يكثروا من أصحاب الأيادي البيضاء على هذا المعهد بما يبثونه من تبجيل من سهروا عليه وهو وليد؟
نامعلوم صفحہ