وأما الروح الغربية فهي دور من أدوار الإنسان وفصل من فصول حياته. وحياة الإنسان موكب هائل يسير دائما إلى الأمام، ومن ذلك الغبار الذهبي المتصاعد من جوانب طريقه تتكون اللغات والحكومات والمذاهب، فالأمم التي تسير في مقدمة هذا الموكب هي المبتكرة، والمبتكر مؤثر؛ والأمم التي تمشي في مؤخرته هي المقلدة، والمقلد يتأثر. فلما كان الشرقيون سابقين والغربيون لاحقين كان لمدنيتنا التأثير العظيم في لغاتهم. وها قد أصبحوا هم السابقين وأمسينا نحن اللاحقين، فصارت مدنيتهم، بحكم الطبع، ذات تأثير عظيم في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا.
بيد أن الغربيين كانوا في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه ويبتلعونه محولين الصالح منه إلى كيانهم الغربي، أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه، ولكنه لا يتحول إلى كيانهم، بل يحولهم إلى شبه غربيين، وهي حالة أخشاها وأتبرم منها؛ لأنها تبين لي الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه وطورا كطفل بدون أضراس!
إن روح الغرب صديق وعدو لنا؛ صديق إذا تمكنا منه وعدو إذا وهبنا له قلوبنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا وعدو إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي توافقه.
ثالثا: وما يكون تأثير التطور السياسي الحاضر في الأقطار العربية؟
قد أجمع الكتاب والمفكرون في الغرب والشرق على أن الأقطار العربية في حالة التشويش السياسي والإداري والنفسي، ولقد اتفق أكثرهم على أن التشويش مجلبة الخراب والاضمحلال.
أما أنا فأسأل: هل هو تشويش أم ملل؟
إن كان مللا فالملل نهاية كل أمة وخاتمة كل شعب، الملل هو الاحتضار في صورة النعاس، والموت في شكل النوم.
وإن كان بالحقيقة تشويشا فالتشويش في شرعي ينفع دائما لأنه يبين ما كان خافيا في روح الأمة ويبدل نشوتها بالصحو وغيبوبتها باليقظة، ونظير عاصفة تهز بعزمها الأشجار لا لتقلعها، بل لتكسر أغصانها اليابسة وتبعثر أوراقها الصفراء. وإذا ما ظهر التشويش في أمة لم تزل على شيء من الفطرة، فهو أوضح دليل على وجود قوة الابتكار في أفرادها، والاستعداد في مجموعها. إنما السديم أول كلمة من كتاب الحياة وليس بآخر كلمة منها، وما السديم سوى حياة مشوشة.
إذا فتأثير التطور السياسي سيحول ما في الأقطار العربية من التشويش إلى نظام، وما في داخلها من الغموض والإشكال إلى ترتيب وألفة، ولكنه لا ولن يبدل مللها بالوجد وضجرها بالحماسة. إن الخزاف يستطيع أن يصنع من الطين جرة للخمر أو للخل، ولكنه لا يقدر أن يصنع شيئا من الرمل والحصى.
رابعا: هل يعم انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية وتعلم بها جميع العلوم؟
نامعلوم صفحہ