حياته العلمية
لا نكاد نذكر اسم تولستوي حتى يخطر على البال مؤلفاته العديدة ورسائله المتنوعة؛ وأشهرها: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) و(القيامة) و(أين المخرج؟) و(الحب والزواج) و(بم يعيش الناس؟) و(ديانة المسيح) و(الحياة) و(مملكة الظلام)، غير أننا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن لرواياته الثلاث الأولى؛ وهي: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) القدح المعلى، والمكانة السامية في عالم الأدب والتأليف، لا فى الروسيا فقط؛ بل في جميع العالم الأوروبي، ولا مراء في أن هذه الروايات الثلاث هي الدرة اليتيمة وواسطة القلادة بين درر مؤلفاته وغوالي حكمه؛ فإن رواية (حنا كرانينا) تمتاز بدقة البحث في تصوير ما يحصل عادة في عالم الزواج من الآلام والاضطرابات التي منشؤها عدم التروي والمضي مع الأهواء النفسية، وفي روايته (البعث بعد الموت) وصف الأمراض الاجتماعية وصورها بكل ألوانها ومعانيها، مع ذكر كيف أن الناس في هذا العصر أصبحوا يتنشقون سموم الظلم والاستبداد، ويتجرعون كئوسا ملؤها الكذب والرياء بدل استنشاقهم الهواء وشربهم الماء، وفي هذه الرواية يقول الناقد الفرنسي المعروف جول لومتر: «كتب تولستوي روايتيه (الحرب والسلم) و(حنا كرانينا)، ثم خجل من الشهرة وبعد الصيت اللذين نالهما أثر ظهورهما فاحتجب في كسر داره، واختفى بين صحائف الإنجيل مدة خمسة عشر عاما، ثم ظهر في عالم الأدب ثانية وفي يده أعجوبة مؤلفاته «كتاب البعث بعد الموت».»
ولو أمعنا النظر في حياة تولستوي المعنوية نرى أنها بكل ألوانها ومظاهرها، سياسية كانت أم اجتماعية، دينية أم خلقية؛ عبارة عن سلسلة حروب شعواء كان يشنها ذلك الرجل العظيم ضد الظلم والاستبداد، ومفاسد المدنية الحاضرة ورذائلها، فكان يرى رأي روسو القائل بأن صلاح الناس أو فسادهم إنما يدخل عليهم من باب المعاشرة والمخالطة، ويسلك إليهم من طريق البيئة والجوار، ثم نظر إلى المدنية الحاضرة المشعشعة بالأنوار الكاذبة، وفطن إلى ما تحت تلك الأضواء من ظلمة المفاسد والرذائل، وعلم أن التبعة في فساد نظام الاجتماع واقع على الرئاسات الدينية والسياسية، فوقف حياته على إيقاظ إخوانه في الإنسانية، وقضى معظم حياته يدعو الناس إلى دينه الجديد (Religion de la bonté)
وأساسه إيجاد رابطة المحبة والشفقة بين الناس، وعدم مقابلة الشر بمثله؛ ولذا نرى أن روح هذا المبدأ تتجلى في أغلب كتبه وتعاليمه التي تكاد تنطق بلسان واحد هاتين الكلمتين؛ وهما: (1)
أحبوا بعضكم بعضا. (2)
لا تقابلوا الشر بمثله.
مقارنة بينه وبين أبي العلاء
ذهب بعض كتاب أوروبا إلى وجود الشبه بين تولستوي وبين روسو، وعزز رأيه بأدلة لا محل لذكرها في هذه المقدمة الوجيزة، وإنا نرى أنه من الظلم أن نختم مقدمتنا دون أن نذكر ما رأيناه من وجوه الشبه بين حياة صاحب الترجمة وحياة أبي العلاء المعري المولود سنة 973م، فكلا الرجلين عاش زاهدا في الحياة، وكلاهما ناله من اضطهاد رجال الدين ما نغص عليه عيشه، وضيق دونه المذاهب، ولكليهما آراء في الحياة، ونظرات في الاجتماع تتفق معنى ومبنى.
اشتهر تولستوي بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة على نحو ما مر بك في مقدمتنا هذه؛ كذلك كان أبو العلاء زاهدا في الحياة متخليا عن ملذاتها؛ يردد قوله:
أتتني من الأيام ستون حجة
نامعلوم صفحہ