ولا تسل عن سرور الملك وقتئذ؛ فقد كان عظيما ولا شك في ذلك؛ فإن الصلح الذي عقده مع عدو من ألد خصومه بدون أن يبذل في سبيله أقل مجهود يعد حقا صفقة رابحة له، كيف لا وإنه بذلك الصلح اجتز أسباب البغضاء التي أضرمت في فؤاد ذلك العدو نار العداء، واقتلع بذور الشحناء التي نبتت في قلبه على توالي الزمن، وأقام مكانها في رحبة ذلك القلب نفسه قصور المحبة تظللها أشجار الطاعة ودوحات الإخلاص؟! ثم أمر طبيبه الخاص أن يعنى بالجريح عناية تامة، ووعده برد كل أملاكه الضائعة، وبعد أن استأذن الملك من الجريح بالانصراف عزم على الرحيل، إلا أنه ود أن يقابل الناسك لآخر مرة؛ عسى أن يهديه إلى ضالته المنشودة، فوجده يبذر الحب في الأرض، فلما قرب منه قال له: «أتوسل إليك للمرة الأخيرة أن تجيبني على أسئلتي حتى يطمئن بالي، وتكون قد أسديت لي جميلا لا أنساه.»
فرفع الناسك إليه بصره وقال: «إنك لقد أجبت تماما على كل أسئلتك.» فدهش الملك وقال متعجبا: «كيف ذلك؟! وماذا تعني؟!» فرد عليه الناسك بقوله: «ألم تر أنك لو لم تعطف علي بالأمس ولم ترحم شيخوختي وضعفي وتركتني أقاسي آلام العمل وحدي فإن عدوك كان - لا بد - قاتلك، وإذ ذاك كنت تعض أصبع الندم حسرة على عدم بقائك معي، فاعلم إذن أن أثمن أوقاتك هو وقت اشتغالك بالحفر، وأنفع رجل وقتئذ هو أنا، وإسداؤك الخير هو أهم ما اشتغلت به.
ثم عندما وصل إلينا الرجل يتخبط في دمائه كان أهم وقتك وقت اعتنائك به؛ لأنك لو لم تضمد جراحه لقضى نحبه بدون أن تطفئ نار بغضائه، وتحول عداوته المرة إلى صداقة متينة وطاعة دائمة، وإذ ذاك كان الجريح بطل ذلك الوقت، وما قدمته له من أيادي الخير أهم الأشياء وأنفعها لديك وأكثرها فائدة لك، فاعلم جيدا أن ليس هناك إلا وقت واحد هو من الأهمية بمكان، وذلك الوقت هو (الآن) أو البرهة التي أنت فيها، وما هذا إلا لأنك تكون فيه مالكا ومستجمعا لكل قواك الحالية، وأهم رجل هو من تتكلم معه؛ لأنك لست عالما بما هو مسطر لك في سجل القدر، وفعلك الخير له أنفس ما تشتغل به؛ لأن لهذا الغرض وحده دون سواه ظهر الإنسان على مسرح الحياة.»
الحكاية السابعة
إلياس
هناك تحت ظل حكومة أوفا عاش رجل يدعى إلياس، مات والده بعد أن أتم تأهيله بحول كامل، غير تارك وراءه إلا ثروة واسعة لا تزيد على سبعة أفراس ، وبقرتين، وما يقرب من العشرين رأسا من الغنم، إلا أنه فوق ذلك خلف لفلذة كبده الحزم والجد؛ فكانا نعم الثراء وحبذا الإرث العظيم، أجل فقد كان إلياس حازما مجدا، لا يدع فرصة تمر بدون اقتناص، ولا يني في المثابرة على إصلاح شئونه، فكان يقوم مبكرا والناس نيام، ويدلف إلى فراشه بعد أن يهجع كل إنسان، وجده وحزمه كانا كفيلين بتوسيع نطاق ممتلكاته وازدياد ثروته التي بلغت في نهاية الخمسة والثلاثين عاما مائتين من الخيل، ومائة وخمسين رأسا من الماشية، وألفا ومائتين من النعاج، فضلا عمن كانوا يمرحون في مزرعته من الرجال المأجورين، والنساء المأجورات، أولئك لرعاية ماشيته وقطعانه، وهؤلاء لحلب بقره وأفراسه، وعمل الكومس،
1
واستخراج الجبن والزبد.
ومن ذلك الوقت بسم له الدهر فأصبح إلياس رب ثروة وافرة، وصاحب أملاك واسعة، حسده عليها جيرانه ومواطنوه فقالوا عنه: «إلياس رجل مبخت حالفه الجد؛ فرافقته السعادة، وأقبلت عليه الدنيا، فأصبحت طوع بنانه.» ثم ذاع صيته وعلت شهرته وتهافت على زيارته كثيرون من سراة القوم، وتسابق إلى معرفته العدد العظيم ممن ودوا التقرب منه، فكان يكرم مثواهم ويذبح لهم الذبائح، ويقدم لهم كل شهي من الطعام ولذيذ من الشراب.
لم يرزق إلياس إلا ولدين وابنة كانوا عضده الأقوى أيام بؤسه، يفلحون له الأرض، ويرعون الماشية، ويباشرون كل أعمالهم بأنفسهم، أما وقد ارتاش إلياس فقد تصارعت بين نفسيهما عناصر المفاسد، ثم لقي أكبرهما مصرعه في عراك، وأدمن الآخر على تعاطي المسكرات، وانقاد لامرأته في عدم إطاعة أبيه والإذعان لأوامره، فانفصل عنه بعد أن لم يطق معه صبرا، وقد منحه إلياس منزلا يأويه، وجاد عليه ببعض الماشية؛ كي تعاونه على الحياة، فكانت هذه التجزئة سببا في تصغير ثروته وفاتحة لمصائب جمة، فعلى أثرها انتشر وباء فتاك حصد كثيرا من أغنامه، وتلا ذلك سوء محصول القمح، ثم أغارت عليه قبائل الكرغيز فسلبته الصافنات من جياده، فأتى هذا ضغثا على آباله، وهكذا نخرت عوامل الضعف في ذلك الثراء فانهار عليه بنيانه، وأخذت عوامل التلاشي تعبث ببقايا تلك الثروة الدارسة، بينا كان إلياس يوسع الخطا نحو القبر ويئن تحت عبء الشيخوخة الثقيل؛ إذ أربى على السبعين وقد انقطعت عنه أخبار ابنه القاصي، أما الابنة فعدا عليها المنون واختطفها من بين أبويها، وبذلك فقد الشيخ وزوجه آخر نصير لهما في الحياة ...
نامعلوم صفحہ