وفيما هي تميل بالجواد لتدخله دارها رأت رسول الله قادما يسير نحو الدرب الذي مر منه ورقة وهو يمشي متقلعا في مشيته ومجدا في سيره على عادته كأنما ينحط عن منحدر، وكان
صلى الله عليه وسلم
متفضلا في ملبسه على عادته فما عليه إلا ثوب أبيض قصير مشقوق القبة إلى رأس الفؤاد قصير الذيل حتى ليعلو عن قدميه إلى ما دون الركبة بقبضة، وتحزم عليه بحزام من كتان، وفوق الثوب رداء واسع مسبل على كتفيه إلى ما فوق عقبيه، وعلى رأسه عمامة كثيرة الألفاف، وشعره مدلى على قذاله يستره من لفح الشمس، وفي رجليه نعل بقبالين.
2
وكان رسول الله إذ ذاك في السادسة والأربعين من عمره، «من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، ولم يكن رسول الله بالطويل الممغط (المفرط في الطول) ولا بالقصير المتردد (المتناهي في القصر) وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد ولا السبط، ولم يكن بالمطهم (الكثير السمنة) ولا بالمكلثم (المدور الوجه في سمن) أبيض مشربا بحمرة، أدعج العينين (في سواد واتساع) أهدب الأشفار (طويل الهدب) جليل المشاش (عظيم رؤس العظام) والكتد أتلع العنق ذا لحية سوداء كثة، وشارب مقصوص شثن الكفين والقدمين»
2
فلما دنا من حيث كانت فتنة، وكان فيما أخال قد سمع بحديثهما، لم تمهله حتى يحييها؛ بل وقفت إلى جانب الجواد تقول بصوت جهير ممتلئ حبا له وإيمانا: يا رسول الله! أسمع الخافقين شهادتي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا والد ولا ولد، وأنك يا ابن عبد الله وآمنة عبده ونبيه ورسوله وشفيعنا يوم القيامة من النار! ثم غلبها البكاء فبكت رقة وحنانا وإيمانا. فدعا لها رسول الله وحمده على ما سمع، ثم انعطف في سبيله إلى دار الأرقم.
ولكنه ما كاد يخطو في الدرب خطوتين حتى كان أبو الحكم عمرو بن هشام المخزومي (أبو جهل) عدوه وحاسده وشانئه الألد قد أدركه؛ إذ كان آتيا من الجبل، ونظر إليه من ورائه نظرة استخفاف لم يأبه لها رسول الله، ولم يعرها التفاتا، ومضى في طريقه يدعو الله له بالهداية
3
ولكن الوغد أخذ يشتمه، ويسبه، وينعته شر النعوت، والنبي يسمع ولا يجيب. حتى إذا لم يعد يسمع صوته وغاظه من رسول الله أنه أعرض عن سفهه انحنى، وتناول قبضة من ثرى الأرض وحصبائها وروثها، وألقى بها على رسول الله. فسقطت على رأسه
نامعلوم صفحہ