وشكرته علية على تحيته وسؤاله عنها، ثم أخذت تتحدث عن الجو ومنظر الوادي وجلالة الجبال، وحاول فؤاد أن يتماسك في ارتباكه، ويبحث عن مسيل سهل للحديث، ولكنه وجد أبواب الحديث مقفلة دونه إلا بابا واحدا كان يود لو اقتحمه فيسألها عن نفسها وعن حياتها وعن آلامها، وشعر بارتياح عندما أتت السيدة ماري فملأت المجلس مرحا وضحكا، ولكن ما كان أعظم الفرق بين صوتها وبين صوت علية!
ولم تلبث علية أن أقبلت على السيدة مستجيبة إلى حديثها المرح، فانفرجت أساريرها وعاد إلى وجهها شيء من لونه القديم، واستطردت السيدة في حديثها تسأل علية عن أخبارها، فعلم فؤاد في تلك الساعة كثيرا مما كان يود أن يطلع عليه، فعرف أن زوج أختها ثريا سيأتي بعد أسبوع، ولكن «صدقي» سيتخلف في مصر لقضاء أمور لا تحتمل التأجيل، وأما سعيد فإنه قد سافر إلى إيطاليا؛ لأنه لا يطيق سكون لبنان، إذن سيتخلف صدقي في مصر وستكون علية وحدها فيستطيع أن يراها كل يوم في مجلسها، وقد يجد الفرصة أحيانا ليجلس إليها وحدها.
وعادت إلى قلبه تلك الأمنية التي تسللت إليه عندما سمع بشقائها في زواجها، فإنه ما زال حرا فارغا لها لا ينتظر إلا أن تزول العقبة التي تحول بينه وبينها.
ولكن أكانت هي ترضاه لو عاد إليها؟ أما كانت هي التي اختارت زوجها عليه أول مرة ولم تستجب إلى نداء قلبه المخلص الذي كان يصيح بها كلما رآها؟ فما الذي يمنعها إذا هي فارقت زوجها أن تعيد الكرة وتختار فتى آخر تؤثره عليه مرة أخرى؛ فتزيده شقاء على شقاء وتجرح عزته وتدمي قلبه وتزيده عزوفا عن الحياة؟
15
مضت الأيام سراعا حتى كاد الأسبوع ينقضي، وخشي فؤاد أن يأتي زوج ثريا فيبدو للأسرة التنقل في أركان الجبل على عادة المصطافين، وما كان ليجرؤ على تعقبهم فيما يذهبون إليه من القرى، ولم يظهر له من علية في تلك الأيام شيء يدل على تبرمها بحياتها سوى بعض إطراق وصمت كانا يعتريانها، فكانت أحيانا تنطوي على نفسها فلا تشارك في الأحاديث، ولا تطرب إلى شيء من المرح، وتشرد بنظراتها كأنها تسرح في عالم بعيد، ولكنها مع ذلك كانت تأنس إلى فؤاد كلما رأته ولا تتردد في أن تطلب إليه أن يؤدي لها بعض خدمات ضئيلة، وتطلب منه ذلك في يسر طبيعي كان يقع منه موقعا مسعدا.
وفي تلك الأيام فاز فؤاد بثقة ولدها الأشقر الظريف، فكانت علية تبتسم مرتاحة كلما رأته يفتح له ذراعيه فيثب الطفل بين يديه ويضحك مكركرا إذا رفعه فوق رأسه مداعبا.
وفي آخر يوم من الأسبوع أرادت علية أن تنزل إلى بيروت لتشتري بعض ما تحتاج إليه لنفسها ولولدها، وعهدت إلى فؤاد أن يستأجر لها سيارة، فكان من الطبيعي أن يعرض عليها صحبته ليكون في خدمتها، ولعلها كانت تنتظر منه هذا فقبلت شاكرة، وكانت تلك هي الفرصة التي تمنى فؤاد سنوحها في خفي ضميره.
وكان يوما من أواخر يوليو وقد أخذ الجبل يزدحم بالوافدين وسالت الطرقات بالسيارات صاعدة هابطة فوق منحدرات الجبال، تكتنفها جدران الصخر من جانب ومهاو سحيقة القرار من جانب آخر، وكان السائق شابا جريئا فكان يهوي على السفح كأنه يعرف قياس أبعاد الطريق أصبعا أصبعا، فقالت علية في بعض هذه الليات العنيفة: أحمد الله على أنك معي يا فؤاد، فقد كادت هذه السيارة تخلع قلبي.
وطرب فؤاد لقولها وأخذ يحدثها عن الأودية التي شاهدها في جولاته مع أسرة السيد عبد الله بطرس، وعن عيونها وما يتحدث به الناس عن خصائصها العجيبة في شفاء الأمراض المستعصية فشغلها بحديثه عن منعرجات الطريق ومخاوفها، حتى بلغت السيارة بيروت، وتبدل الهواء فصار بعد لطافته كثيفا، وبعد اعتداله حارا ثقيلا حتى بلغوا سرة المدينة في زحمتها وضجتها كأنها ركن من أركان الإسكندرية القديمة.
نامعلوم صفحہ