كانت القردة سعيدة كأنها لا تبالي ضيق سجونها، بل لعلها هناك أسعد حالا؛ لأنها تجد قوتها وتأمن غائلة أعدائها التي تفتك بها في الغابة، ولكن أهي هناك أسعد حظا من الأسود الباطشة الحانقة التي تتطلع إلى منفذ في قضبانها لتستعيد حريتها حتى تستأنف افتراسها وبطشها؟ إن الحرية ليست أمنية الإنسان وحده، ولو وجدت تلك القردة فرصة في قضبان أقفاصها لبادرت خارجة منها منطلقة من عقالها سعيدة بأنها ظفرت بحريتها، ولن تعبأ بما يصيبها بعد ذلك من تلك الحياة الحرة.
وود فؤاد لو أتمت حديقة الحيوان مجموعتها فأضافت إليها أشرف أنواع الحيوان وأشدها بطشا وفتكا؛ الإنسان.
ولكن أتتسع حديقة مثل هذه لأنواع ذلك الجنس الأرقى؟ إن منه صنوفا يختلف بعضها عن بعض وفيما بينها من الفروق ما لا تراه عين في صنوف الحيوان الأخرى، فمنه الأسود والأشقر والأصفر والأحمر ومنه القميء الضئيل الجسم ومنه الطويل الضخم، وفيه ما يبلغ ذكاؤه مرتبة الشياطين التي تسترق السمع من تحت عرش الله ومنه ما لا يرتفع في ذكائه فوق مرتبة الطفولة.
على أن من ذلك الحيوان صنفا فاتكا يفترس رزقه كالأسود، ومنه صنف ختال يحتال على قوته فيختلسه كما تختلس الطيور أو الثعالب أو القطط والكلاب أرزاقها.
فلو عرض ذلك الإنسان على اختلاف هذه الصنوف والمراتب لما وسعه سوى هذه الأرض التي تكاد تضيق به على سعتها.
وضحك فؤاد عندما تمثل ذلك العالم الفسيح كله حديقة ضخمة لذلك الحيوان العجيب، وأنه يضطرب فيه قلقا سجينا كما تضطرب هذه المخلوقات في أقفاصها تطلب حريتها، ولكن الإنسان قد خدع نفسه عن الحرية وضللته أحلام البطش والسيادة حتى بلغ من قلقه وضيقه في سجنه الفسيح أنه يجاهد وينفق أكثر ما وهب الله له من ذكاء في التدسس إلى أسرار الطبيعة ليظهر منها على سر يعينه على تدمير الحياة؟ أليست هذه الأسرار التي يعكف على كشفها نوابغ العلماء أبشع من مخالب الأسود وأنيابها؟
ولو عرف الإنسان صنفا من الحيوان يقضي نهاره وليله باحثا عن أنواع السموم في الغابات ليقضي بها على جنسه، أو عاكفا على تدبر آلات الفتك والتخريب لكي يذل بها سائر أبناء صنفه؛ لعده نوعا من أخبث الأنواع ولاتخذ له قفصا شائكا يحجب النظارة عن الاقتراب منه إلا أن يلمحوه من بعيد صورة من صور الشر الكريه، ولكنه هو الإنسان سيد أصناف الخليقة لا يريد أن يرى عيوب نفسه.
وفيما كان فؤاد يسير مناجيا خواطره في شعب بديع تظلله الأغصان المتدلية المزدهرة تمثل ألوان الشفق، رأى أمامه رجلا من أهل القرى يسير الهوينى، وكان في مشيته وصورة قامته ما استرعى انتباهه، فأسرع في خطوه ليسبقه حتى يرى وجهه، وما كاد يراه حتى وقف مدهوشا، فأية مصادفة هذه التي تلقي قوية في سبيله؟!
فصاح بغير وعي: قوية!
واندفع قوية إليه وهم بفتح ذراعيه كأنه يريد أن يعانقه، ثم أمسك ومد يده يصافحه في حماسة مصافحة البدو المكررة، فنسي فؤاد نفسه ومن حوله ممن كانوا يتطلعون إليه باسمين، وانتحى به جانبا، فأخذ يسأله عن حاله ومكانه وأهله، وكان قوية يجيب في نبرات متهدجة فيها ذلك الجرس العذب الذي كان يطرب فؤاد له.
نامعلوم صفحہ