وأمسك الرجل عن الحديث فقام يسوق بقرته إلى حظيرتها، وجلس فؤاد وحده يفكر في هذه الطبيعة التي لا تعبأ بهموم البشر، فليس القطن عندها سوى نبت قضى واجبه فبدأ حبة ثم نما عودا ثم استوى شجيرة وآتى ثمره وبذره فليس له بعد ذلك من مأرب، وأما مآرب الناس فإنها لا تعني سوى هؤلاء الذين يسخرون النبات فيما يجنون منه، هكذا يعيش هؤلاء الذين يجاهدون الطبيعة وهي تترفع عن النظر إلى أحدهم، وهكذا يقابلون الحياة قاسية منطلقة في سبيلها.
وعادت إليه صورة من شاطئ البحر ومن رآهم عليه يمرحون في الصيف، أيعرف هؤلاء شيئا مثل هذا؟ ومع ذلك فهم يتحدثون أحيانا عن الحياة، وإن كانوا يرونها من وراء حجاب.
ولما هدأ المطر سلم فؤاد على صاحب الدار وصاح مسلما على امرأته من وراء الباب، ثم سار في تلافيف القرية في سبيله إلى العزبة من ورائها.
ولما رأى والده بعد ذلك لمح على وجهه أثرا من كآبة وإن حاول أن يخفيها فلقيه باسما، وسأله عما فعل في تلك العاصفة فأخذ فؤاد يحدثه عن الدار التي دخلها وعن صاحب الدار وما قاله مستسلما.
فقال أبوه: إن من يسلب هؤلاء إيمانهم واستسلامهم لقضاء الله إنما يتآمر عليهم ليدس إليهم الشقاء.
وصفق يطلب الخادم، ثم أمره أن يعد له فنجانا من القهوة، وأخرج علبة تبغ فلف لفافة منها بيده وأشعلها.
وخيل إلى فؤاد أن وجهه كان شاحبا.
وكان فؤاد يزيد معرفة بأبيه يوما بعد يوم ، كان من قبل لا يعرف فيه إلا أبا، ولكن تلك الأيام أظهرته على حقيقة الإنسان فيه.
واستعجله أبوه ليذهب إلى القاهرة فينظر ماذا فعل صاحبه في وساطته، ثم قال له: هذه الأيام ملتقى الطرق في حياتك يا ولدي، فلا تدع نفسك تسير في طريق قد تندم بعد على سلوكها.
وذهب فؤاد إلى القاهرة فأقام فيها أسبوعا يتردد بين الوزارة وبين أصدقاء والده لعله يحقق لأبيه أمله الذي كان عليه حريصا، أما هو فقد عادت إليه صورة العود الضئيل الذي كان يضطرب فوق موج النهر الفائر، فلما عرف بعد حين أن الوزارة قد اختارته لمنصب في النيابة لم يكد يحس فرحا.
نامعلوم صفحہ