ومر بالجموع تجلس في حلقات تحت مظلات زاهية الألوان أو في مقاصير أنيقة من الخشب يتسامر بعضها همسا ويتواثب بعضها إلى أحضان الموج في صخب، ولم يخل الشاطئ من مثله، إذ يسير وحيدا تقع عينه على الأشخاص ولا تكاد تبصرها، كان كل ما على الشاطئ يبدو مثل أشباح تسبح حول عالم عنيف يثور في داخله، وكان يقلب بصره على صفحة البحر الزرقاء أو في الجموع المتزاحمة، وهو لا يقف عند شيء منها. ألا ما كان أرفق لون السماء وألطف مس النسيم وأطيب تلك الرائحة التي تنبعث من أعشاب البحر. وملأ صدره من تلك الرائحة كما كان يفعل إذ هو تلميذ بالمدرسة الثانوية، ليخرج كل أسبوع مع بعض أصدقائه ليمرح على مثل هذا الشاطئ.
ودب إلى نفسه شعور لم يدر كيف يصفه، فما هو شعور القلب السعيد الذي كان يتمتع، وما هو شعور المحروم الذي يتحرق، بل هو أقرب إلى أن يكون مواساة لمن حوله أو استجابة إلى نبضات الذين يستمتعون بالحياة، أهي عدوى من الإنسانية الطروب تدخل إلى قلبه المكتئب؟ أم ذلك أثر زرقة السماء وصفاء البحر ودعة النسيم ومس الأشعة الهادئة المتدفقة على هينتها؟ كان كل ذلك جديرا بأن يهدهد من عنفه وأن يذهب عنه كآبته، وما كان أعظم الفرق بين هذا الشاطئ وبين طرق القاهرة التي كانت تصهر الصدور بأنفاسها.
وود لو أقبل عليه بعض هؤلاء اللاهين فوق الرمال فتحدثوا إليه وأباحوا له أن ينطلق معهم متحدثا، فإن خواطره تزاحمت في صدره فأضاقته وثقلت عليه حتى تمنى لو وجد أذنا عاطفة تستمع إليه، وخطرت له صورة صديق قديم كان يسير معه منذ سنين طويلة إذ هما تلميذان في المدرسة الثانوية، ولم يدر ما الذي بعث إليه صورته في تلك الساعة، فقد لمعت له فجأة مثل الشعاع الذي يخطف إذا انعكس على مرآة، كان صديقه سعيد يخرج معه في نهاية كل أسبوع إلى مثل هذا الشاطئ فيمرحان معا فوق صخوره أو رماله، وكانا يقفان معا يملآن صدريهما من نسيم البحر العبق برائحة الأعشاب التي تفوح في شمه عند ذلك، وكانا ينظران إلى الشمس إذ تلمس سطح الماء عند الغروب، فيخيل إليهما أنهما يسمعان لها نشيشا، ثم فرقت الأيام بينهما فلم يره فؤاد منذ سنوات وتمنى لو رأى ذلك الصديق في ذلك اليوم، فقد كان يجد فيه - بغير شك - أذنا تصغي إليه وقلبا يتدفق في الحديث معه.
وكانت العيون تتطلع إليه إذا مر بها ثم تلتفت عنه فلا يبقى لحظة في خاطرها، إنها عوالم مغلقة دونه لا يستطيع أن يطرق بابها.
وسمع في تلك اللحظة صوتا يناديه باسمه فتلفت في فتور كأنه يفيق من حلم، أيعرفه أحد في هذا الخلق المتزاحم الذي يجوس خلاله بعيدا وحيدا؟! ورأى وجها باسما يقبل نحوه، يتقلع صاحبه من الرمل مسرعا، ومرت لحظة قبل أن تزول سحابة الغموض عن بصره، فرأى صديقه القديم الذي خطرت له صورته منذ لحظات، أهي نجوى الأرواح كما يقولون؟
وفتح فؤاد ذراعيه ليحيى صديقه قائلا في حماسة: إنها لساعة سعيدة!
فقال سعيد وهو يصافحه: لقد خطرت لي صورتك منذ قليل.
فصاح فؤاد: كما خطرت لي صورتك منذ دقائق.
فقال سعيد: إنها آية للعلماء، لو كان يؤمن العلماء بالأرواح.
ومالا على أحد منازه الشاطئ في اتفاق صامت، فاتخذا فيه مجلسهما.
نامعلوم صفحہ