وكانت قرية النجيلة من وراء البركة عن يسار الطريق، تدرج صاعدة على نشز من الأرض، حتى يطل أعلاها على أسفلها، وما بين ذلك طرق ضيقة ملتوية تتعرج في تلافيف صاعدة من دار إلى دار، فكانت القرية تبدو من بعيد كأنها قلعة، وتلوح من قريب قطعا من بناء مكدس فوضى، وكان فيما يلي البركة عن اليمين فضاء فسيح يتخذ أهل القرية جانبا منه «جرنا» ويعقدون فيه أسمارهم ويحتفلون بأعراسهم ويتفسحون فيه في ليالي الصيف القمراء، وكان يحف بذلك الفضاء أجم من النخيل يلقي عليه في الصباح ظلا ويخلع على منظره رونقا، ولكنه كان في الليل يلوح للأعين رهيبا يتحامى أهل القرية السير فيه خوف أن تعترض سبيلهم «الأرواح»، وكان إلى جانب النخيل كوم أحمر «كفري» يمد ذراعا نحو فضاء «الجرن» ويترامى من ورائه صاعدا ويزيد عرضا كلما قرب من طرفه البعيد.
وكان الفلاحون يتخذون من تراب الكوم سمادا لأرضهم؛ ولهذا تركوه مهشما مضطرب السطح بين حفر غائرة وأضراس بارزة، وعلى وجهه حطام مختلف الألوان بين قطع حمراء وزرقاء من الآجر والفخار، وعظام من جماجم أو ضلوع.
وكانت دار الأفندي متنزهة عن القرية إلى اليمين، يهبط إليها الطريق من حافة البركة على مسيرة دقائق بين الحقول الخضراء، وهي بسيطة البناء يحيط بها سور من شجيرات ملتفة شائكة تحجب الأنظار عنها ولا تحجب منظر الحقول عمن في داخلها، وكان في ساحة الدار بستان يتخذه الأفندي حقلا يزرع فيه ما يحتاج إليه من خضر وبقول، وفيه ساقية تظللها شجرتان من الجميز، ومن حولها بعض كروم ونخلات وأشجار شتى مبعثرة في غير نظام.
كان الأفندي في شبابه موظفا، ثم غادر الوظيفة، وآثر أن يعتزل في الريف، فاشترى قطعة من أرض تجاور قرية النجيلة، وبنى بها تلك الدار ليقيم فيها مع زوجه، وليس لهما سوى ولد وحيد يخطو إلى حدود العشرين في كلية الحقوق، فإذا أتى الصيف انتظر الوالدان وحيدهما في لهفة ليملأ عليهما الحياة في معتزلهما البعيد.
وكان فؤاد ابن الأفندي يقيم بالقاهرة مدة العام مع بعض لداته من طلاب العلم في منزل مستأجر، حرص أبوه على ذلك على غير رغبة من أمه التي كانت تود لو أقام في بيت من بيوت أخواله، فقد كان حسني أفندي يرى رأيا لا يرضى أن ينزل عنه في تربية وحيده، ولم يحدث له يوما أن ندم على رأيه، إذ مضى فؤاد في دراسته موفقا، فكان في كل عام يراه إذا عاد إليه كأنه عود طيب ينمو يانعا مزهرا.
وأقبل فؤاد من القاهرة حتى بلغ القرية، وكان يركب بغلة أبيه تسير به فارهة مطمئنة الظهر وعليها سرج ملون من نسيج الأعراب، ومن ورائه ثلاثة من أهل العزبة يحملون حقائبه.
فلما بلغ الدار نزل عن البغلة وأسرع داخلا يثب في خطواته حتى قفز سلالم المدخل وأخذ بيد أبيه يقبلها، وكان الوالد جالسا في صدر البهو، فلما لمح ولده قام إليه يستقبله، وقبله بين عينيه قائلا: أحمد الله على سلامتك.
وخرجت الأم فاتحة ذراعيها فضمت ولدها دامعة العين وهي ضاحكة، وقالت له وهي تربت: لقد نحفت يا فؤاد.
ثم دخلوا إلى الدار يستمتعون بالشمل المجتمع بعد فراق عام طويل، ودار فؤاد حول أركان الدار كأنه يستعيد عهدها، وقضى مع والديه ساعة يقص عليهما أنباءه ويستمع في شوق إلى أحاديثهما حتى أعدت مائدة الغداء، وكانت الأم قد حشدت لها كل ما عرفته شهيا عند وحيدها .
ولما هدأ فؤاد بعد العصر، خرج إلى المنظرة يريد أن يرى من هناك، فكل من في العزبة أصدقاء قدماء رأوه صغيرا، ثم فتى يافعا، ثم رأوه بعد ذلك شابا، وهو إذا حل بها كأنه عاد إلى كل بيت من بيوتها، وكان يعرف أنهم سيأتون إليه واحدا بعد واحد إذا فرغوا من عمل النهار، وكان به حنين إلى أن يراهم جميعا.
نامعلوم صفحہ