يعيد ذلك مرات في الدقائق القليلة، وصاحبنا يسمع له ويعنف على نفسه حتى لا يضحك فيأتي منكرا من الأمر.
وقد استطاع صاحبنا أن يضبط نفسه، ولكنه لم يستطع أن يختلف إلى درس الأستاذ أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه لم يجد عنده غناء، وإنما وجد عنده عناء، لم يفد منه شيئا، وإنما كان يكظم ضحكه كظما عنيفا، ويكلف نفسه من ذلك ما لم تكن تطيق. والتمس غيره من الأساتذة الذين كانوا يقرءون هذا الكتاب، فلم يجد عندهم إلا هذه اللوازم التي كانت تختلف باختلافهم، ولكنها كانت تدفع الغلام إلى الضحك وتضطره إلى أن يبذل في ضبط نفسه من الجهد ما كان يشغله أحيانا عن الاستماع، وقيل له في أثناء ذلك: إن هذا الكتاب من كتب الفقه ليس بذي خطر، وإن أستاذا ممتازا - سموه له - يقرأ كتاب «الدرر»، والخير في أن تحضر درسه، فهو من أذكى العلماء وأبرع القضاة.
واستشار صاحبنا أخاه وأصحاب أخيه فلم يردوه عن ذلك، بل شجعوه عليه وأوصوا به الشيخ، وقد رضي الغلام عن أستاذه الجديد في دروسه الأولى، فلم يكن يلتزم جملة بعينها أو لفظا بعينه أو صوتا بعينه، ولم يكن يتردد في القراءة ولا في التفسير، وكان ذكاؤه واضحا، وإتقانه للفقه بينا، وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك.
وكان الأستاذ رشيقا أنيقا حلو الصوت، ممتازا في حركته وفي لقائه للطلاب وحديثه إليهم، وكان معروفا بالتجديد، لا في العلم ولا في الرأي، ولكن في السيرة. وكان كبار الطلاب يتحدثون بأنه يلقي درسه إذا أصبح ثم يمضي إلى محكمته فيقضي فيها، ثم يروح إلى بيته فيطعم وينام، فإذا كان الليل خرج مع لذاته فذهب إلى حيث لا ينبغي أن يذهب العلماء، وسمع من الغناء ما لا ينبغي أن يسمع العلماء، وأقبل من اللذات على ما لا ينبغي أن يقبل عليه رجال الدين. وكانوا يذكرون «ألف ليلة وليلة» فيعجب الغلام؛ لأنه كان يعرف أن «ألف ليلة وليلة» اسم كتاب طالما قرأ فيه ووجد في قراءته لذة ومتاعا، ولكنهم كانوا يذكرون هذا الاسم على أنه مكان يسمع فيه الغناء، ويكون فيه اللهو، وتطلب فيه بعض اللذات.
وكان الغلام يسمع عن شيخه هذه الأحاديث فلا يصدقها ولا يطمئن إليها، ولكنه لم ينفق مع الشيخ أسابيع حتى أحس منه تقصيرا في إعداد الدرس، وقصورا عن تفسير النص، وضيقا بأسئلة الطلاب. بل أحس منه أكثر من ذلك، فقد سأله ذات يوم عن تفسير بعض ما كان يقول فلم يجبه إلا بالشتم، وكان الشيخ أبعد الناس عن الشتم وأشدهم عنه ترفعا.
فلما قص الغلام على أخيه وأصحابه من أمر الشيخ ما رأى، أنكروا ذلك وأسفوا له، وهمس بعضهم لبعض بأن العلم والسهر في «ألف ليلة وليلة» لا يجتمعان.
وكان حظ الغلام في النحو خيرا من حظه في الفقه؛ فقد سمع «القطر» و«الشذور» على الشيخ عبد الله دراز رحمه الله، فوجد من ظرف الأستاذ وصوته العذب وبراعته في النحو ومهارته في رياضة الطلاب على مشكلاته ما زاده في النحو حبا.
ولكن حظه في النحو لم يلبث أن ساء حين استؤنفت الدراسة في العام الجديد، فقد أخذ الغلام يسمع على الشيخ عبد الله دراز «شرح ابن عقيل». وبينما الأستاذ وطلابه ماضون في درسهم، راضون عن عملهم، صدر الأمر إلى الأستاذ بالانتقال إلى معهد الإسكندرية، فمانع في ذلك ما استطاع، ومانع طلابه ما استطاعوا، ولكن المشيخة لم تسمع له ولا لهم، فلم يجد بدا من إنفاذ الأمر. ولم ينس الغلام ذلك اليوم الذي ودع الأستاذ فيه طلابه، وإنه ليبكي مخلصا، وإنهم ليبكون مخلصين ويشيعونه باكين إلى باب المسجد.
ثم أقيم مقام الشيخ، شيخ آخر ضرير، وكان مشهورا بالذكاء الحاد والتفوق الظاهر والنبوغ الممتاز، وكان لا يذكر إلا أثنى عليه ذاكروه والسامعون لذكره بهذه الخصال.
أقبل هذا الشيخ، فأخذ الدرس من حيث تركه الشيخ عبد الله دراز. وكانت حلقة الشيخ عبد الله دراز عظيمة تملأ رقعتها القبة من مسجد محمد بك أبي الذهب، فلما خلفه هذا الشيخ ازدادت هذه الحلقة ضخامة واتساعا حتى اكتظ بها المكان، وألقى الشيخ درسه الأول فرضي عنه الطلاب، ولكنهم لم يجدوا عنده وداعة أستاذهم القديم ولا عذوبة صوته، ثم ألقى درسه الثاني والثالث، وإذا الطلاب ينكرون منه رضاه عن نفسه وإعجابه بها، وثقته بما كان يقول، وغضبه الحاد على مقاطعيه.
نامعلوم صفحہ