وكان الشيخ على ذلك من أهل الصعيد أو قل من أقصى الصعيد، وكان قد احتفظ بلهجته الإقليمية لم يغير منها شيئا لا في الكلام ولا في القراءة ولا في الغناء. وكان الشيخ على هذا كله غليظ الطبع، يقرأ في عنف، ويسأل الطلاب ويرد عليهم في عنف. وكان سريع الغضب، لا يكاد يسأل حتى يشتم؛ فإن ألح عليه السائل لم يعفه من لكمة إن كان قريبا منه، ومن رمية بحذائه إن كان مجلسه منه بعيدا. وكان حذاء الشيخ غليظا كصوته جافيا كثيابه؛ فلم يكن يتخذ العباءة، وإنما كان يتخذ «الدفية». كان حذاء الشيخ غليظا جافيا، وكانت نعله قد ملئت بالمسامير، وكان ذلك أمتن للحذاء وأمنع له من البلى، ففكر في الطالب الذي كانت تصيبه مسامير هذا الحذاء في وجهه أو فيما يبدو من جسمه!
ومن أجل هذا أشفق الطلاب من سؤال الشيخ وخلوا بينه وبين القراءة والتفسير والتقرير والغناء. ومن أجل ذلك لم يضع الشيخ وقته ولا وقت الطلاب، وبدأ سنته الدراسية بشرح الكفراوي، ولم تنته هذه السنة حتى كان قد أتم «شرح الشيخ خالد».
فقرأ الطلاب في سنة دراسية واحدة كتابين، على حين لم يكن غيرهم يقرءون مع غير هذا الشيخ إلا كتابا واحدا، وعلى حين لم يكن ذلك الشيخ المجدد المحافظ قد تجاوز بطلابه القليلين الأبواب الأولى من النحو.
وكان لهذا كله أثره في حياة الصبي النحوية - إن صح هذا التعبير - فقد قضى إجازة الصيف وعاد إلى القاهرة، فلم ير شيخه المحافظ المجدد، وإنما سلك طريق غيره من الأزهريين، فحضر في الفقه «شرح الطائي على الكنز»، وحضر في النحو «حاشية العطار على شرح الأزهرية». ولكن من الخير ألا نتعجل الحوادث وأن نبقى مع صاحبنا في سنته الأولى.
كان إذن يفرغ من درس الضحى فينتقل إلى درس الظهر، ثم يعود إلى غرفته فيقرأ مع صاحبه مطالعا دروس غد كما كان يفعل أصحاب الجد من الطلاب، أو متنقلا بين كتب مختلفة يفهم عنها أو لا يفهم. فإذا دعيت الشمس إلى غروبها أقبل الصديقان على عشائهما، وكان يختلف رقة وغلظا باختلاف ما بقي لهما من نقد؛ فإن كان قد بقى لهما نصف القرش قسماه نصفين، فاشتريا بنصفه شيئا من الحلاوة الطحينية وبنصفه الآخر شيئا من الجبن الرومي، وأقبلا على عشاء مترف لذيذ يجمعان فيه على اللقمة الواحدة قطعة من الجبن وقطعة من الحلاوة، ويريان لهذا المزاج الغريب طعما لذيذا. وإن كانت البليلة أو التين قد أسرفا عليهما في نقدهما فلم يبق لهما منه إلا ربع القرش، اشتريا بما بقي لهما شيئا من الطحينة ثم صبا عليه شيئا من عسل أسود أو أبيض كان يأتيهما من الريف، ثم أقبلا على عشاء ليس بالفخم، ولكنه لا بأس به.
فإن جارت البليلة أو التين أو كلاهما على نقدهما فلم يبقيا منه شيئا، فليس عليهما من بأس، لقد حفظا رغيفيهما، وفي الغرفة هذه الصفيحة أو تلك، في هذه العسل الأسود، وفي تلك العسل الأبيض، فليأخذا من هذا العسل شيئا وليغمسا فيه رغيفيهما، فذلك يجزئ عما كانا يجدان في الحلاوة والجبن والطحينة من ترف.
وربما أباحا لأنفسهما على هذا البؤس شيئا من ترف فغمسا رغيفهما الأول وقد اقتسماه في العسل الأسود، ثم غمسا رغيفهما الثاني وقد اقتسماه أيضا في العسل الأبيض.
وقد جعلت الشمس تسرع إلى غروبها، وكاد المؤذن يصعد إلى مئذنته، فليسرع الصديقان إذن إلى الأزهر، فهما يحضران درسا بعد صلاة المغرب كما يفعل أولئك الطلاب الكبار، هما يحضران درسا في المنطق، يحضران «متن السلم» للأخضري، ومن الحق أنهما كانا يحضران هذا الدرس على شيخ كان يرى نفسه عالما وإن لم يعترف له الأزهر بالعالمية، طال عليه الوقت، واشتد إلحاحه في طلب الدرجة فلم يظفر بها، ولكنه لم ييأس منها ولم يرض بحكم الممتحنين فيه، فجعل يطاولهم من جهة، ويغيظهم من جهة أخرى. يطاولهم بحضور الدرس والتقدم للامتحان، ويغيظهم بالجلوس إلى أحد الأعمدة إذا صليت المغرب ومن حوله جماعة من الطلاب وهو يقرأ لهم كتابا في المنطق كما يقرأ العلماء الممتازون؛ فلم يكن يهجم على تعليم المنطق إلا هؤلاء العلماء الممتازون.
ومن الحق أن ذلك الطالب الشيخ لم يكن بارعا في العلم ولا ماهرا في التعليم، وأن جهله وعجزه كانا يظهران حتى لهؤلاء التلاميذ المبتدئين. ومن الحق أنه كان من أقصى الصعيد، وكان محتفظا بلهجته كما عرفها قبل أن يقبل على الأزهر، ولم يكن يغير منها شيئا في قراءته وحديثه.
ومن الحق آخر الأمر أنه كان سريع الغضب شديد الحدة، ولكنه لم يكن يشتم التلاميذ ولا يضربهم، أولم يكن يجرؤ على شتم التلاميذ وضربهم؛ فما ينبغي ذلك إلا للعالم حقا وصدقا، الذي نال الدرجة، ونال معها الإذن الضمني بشتم التلاميذ أو ضربهم.
نامعلوم صفحہ