وكان يشعر شعورا غامضا ولكنه قوى بأن هذا العلم لا حد له، وبأن الناس قد ينفقون حياتهم كلها ولا يبلغون منه إلا أيسره. وكان يريد أن ينفق حياته كلها وأن يبلغ من هذا العلم أكثر ما يستطيع أن يبلغ مهما يكن في نفسه يسيرا. وكان قد سمع من أبيه الشيخ ومن أصحابه الذين كانوا يجالسونه من أهل العلم أن العلم بحر لا ساحل له، فلم يأخذ هذا الكلام على أنه تشبيه أو تجوز، وإنما أخذه على أنه الحق كل الحق.
وأقبل إلى القاهرة وإلى الأزهر يريد أن يلقي نفسه في هذا البحر فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت فيه غرقا، وأي موت أحب إلى الرجل النبيل من هذا الموت الذي يأتيه من العلم ويأتيه وهو غرق في العلم!
كانت هذه الخواطر كلها تثور في نفسه الناشئة فجأة، فتملؤها وتملكها وتنسيها تلك الغرقة الموحشة وتلك الطريق المضطربة الملتوية، بل تنسيها الريف ولذات الريف، وتشعرها بأنها لم تكن مخطئة ولا غالية حين كانت تتحرق شوقا إلى الأزهر وضيقا بالريف.
وكان الصبي يسعى أمامه مع صاحبه حتى يقطع الصحن ويصعد هذه الدرجة اليسيرة التي يبتدئ بها الأزهر نفسه، فيمتلئ قلبه خشوعا، وخضوعا، وتمتلئ نفسه إكبارا وإجلالا. ويخفف الخطو على هذه الحصر المبسوطة البالية التي كانت تنفرج أحيانا عما تحتها من الأرض، كأنها تريد أن تتيح لأقدام الساعين عليها شيئا من البركة بلمس هذه الأرض المطهرة. وكان الصبي يحب الأزهر في هذه اللحظة حين ينفتل المصلون من صلاة الفجر وينصرفون وفي عيونهم النعاس، ليتحلقوا حول هذا العمود أو ذاك، وينتظروا هذا الأستاذ أو ذاك، فيسمعوا منه درس الحديث أو درس التفسير أو درس الأصول أو درس التوحيد.
كان الأزهر في هذه اللحظة هادئا لا ينعقد فيه ذلك الدوي الغريب الذي كان يملؤه منذ تطلع الشمس إلى أن تصلى العشاء، وإنما كنت تسمع فيه أحاديث يتهامس بها أصحابها، وربما سمعت فتى يتلو القرآن في صوت هادئ معتدل، وربما مررت إلى جانب مصل لم يدرك الجماعة أو أدركها ولكنه مضى في التنفل بعد أن أدى الفريضة. وربما سمعت أستاذا هنا أو هناك يبدأ درسه بهذا الصوت الفاتر، صوت الذي استيقظ من نومه فأدى صلاته ولم يطعم بعد شيئا يبعث في جسمه النشاط والقوة، فهو يقول في صوت هادئ حلو منكسر بعض الشيء: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلمه، آمين!»
والطلاب يسمعون لهذا الصوت في هدوء وفتور يشبهان هدوء الشيخ وفتوره، وما أكثر ما كان الصبي يوازن في نفسه بين أصوات الشيوخ حين ينطقون بهذه الصيغة في درس الفجر، وأصواتهم حين ينطقون بها في درس الظهر! فأما أصوات الفجر فكانت فاترة حلوة فيها بقية من نوم. وأما أصوات الظهر فكانت قوية عنيفة ممتلئة فيها شيء من كسل أيضا، تصور امتلاء البطون بما كانت تمتلئ به من طعام الأزهريين في ذلك الوقت الذي كان الأزهريون يعيشون فيه على الفول والمخلل وما يشبه الفول والمخلل من ألوان الطعام.
كان في أصوات الفجر دعاء للمؤلفين يشبه الاستعطاف، وكان في أصوات الظهر هجوم على المؤلفين يوشك أن يكون عدوانا، وكانت هذه الموازنة تعجب الصبي وتثير في نفسه لذة ومتاعا.
وكان يسعى مع صاحبه حتى يرقى هاتين الدرجتين اللتين يبتدئ بهما الليوان، وهناك إلى جانب عمود من هذه الأعمدة المباركة قد شد إليه كرسي بسلسلة غليظة يجلسه صاحبه ويقول له: انتظر هنا فستسمع درسا في الحديث، فإذا فرغت من درسي فسأعود إليك.
وكان درس صاحبه في أصول الفقه، وكان أستاذ صاحبه الشيخ راضي رحمه الله، وكان الكتاب الذي يدرسه الشيخ راضي كتاب «التحرير» للكمال بن الهمام، وكان الصبي يسمع هذه الألفاظ كلها فيمتلئ لها قلبه رهبا ورغبا ومهابة وإجلالا؛ أصول الفقه! ما عسى أن يكون هذا العلم؟ الشيخ راضي! من عسى أن يكون هذا الشيخ؟ التحرير! ما معنى هذه الكلمة؟ الكمال بن الهمام! ما أعظم هذين الاسمين! حقا إن العلم بحر لا ساحل له، والخير كل الخير للرجل الذكي أن يغرق فيه، وكان إجلال الصبي لهذا الدرس خاصة يزداد ويعظم من يوم إلى يوم حين كان يسمع أخاه ورفاقه يطالعون الدرس قبل حضوره فيقرءون كلاما غريبا ولكنه حلو الموقع في النفس.
كان الصبي يسمعه فيتحرق شوقا إلى أن تتقدم به السن ستة أعوام أو سبعة ليستطيع أن يفهمه وأن يحل ألغازه ويفك رموزه، ويتصرف فيه كما كان يتصرف فيه أولئك الشبان البارعون، ويجادل فيه أساتذته كما كان يجادل فيه أولئك الشبان البارعون، ولكنه الآن مضطر إلى أن يسمع ولا يفهم، وما كان أكثر ما يقلب في نفسه هذه الجملة أو تلك لعله يجد وراءها شيئا فلا يظفر بطائل، ولا يزيده ذلك إلا إكبارا للعلم، وإجلالا للعلماء، وإصغارا لنفسه، واستعدادا للعمل والجد!
نامعلوم صفحہ