وكان الصبي يجيب: من البقرة إلى
لتجدن
في يوم السبت، ومن:
لتجدن
إلى
وما أبرئ
في يوم الأحد، وكذلك قسم القرآن ستة أقسام اصطلح عليها الفقهاء، وخص لكل يوم من الأيام الخمسة، قسما من هذه الأقسام يخبر به سيدنا متى سأله.
ولكن العريف لم يكن ليكتفي بهذا الاتفاق الذي يريحه ويريح الصبي، وإنما كان يطمع في أن يستفيد من موقف الصبي بين يديه، وكان ينذر الصبي من حين إلى حين بأنه سيخبر سيدنا أنه قد وجد بعض السور «متعتعة» سيئة الحفظ عند الصبي: «سورة هود»، أو «سورة الأنبياء»، أو «سورة الأحزاب»، وإذ كان القرآن كله «متعتعا» عند الصبي؛ لأنه أهمل قراءته منذ أشهر، فقد كان يكره أن يمتحنه سيدنا، ويشتري صمت العريف بكل شيء، وكم دفع إلى العريف ما كان يملأ جيبه من خبز، أو فطير، أو تمر! وكم دفع إليه هذا القرش الذي كان يعطيه إياه أبوه من حين إلى حين، والذي كان يريد أن يشتري به أقراص النعناع! وكم احتال على أمه، ليأخذ منها قطعة ضخمة من السكر، حتى إذا وصل إلى الكتاب دفعها إلى العريف، وإنه ليشتهيها كلها أو بعضها، فيأخذها العريف ويدعو بالماء يغمس فيه السكر، ثم يمصه مصا شديدا، ثم يزدرد السكر وقد ذاب أو كاد! وكم نزل عن طعامه الذي كان يحمل إليه من البيت ظهر كل يوم، وإنه لشديد الجوع، ليأكل العريف مكانه؛ لئلا يخبر سيدنا بأن القرآن عنده «متعتع».
على أن هذه الصلات المستمرة لم تلبث أن ضمنت له مودة العريف، فقد اتخذه العريف صديقا، وأخذ يستصحبه إلى الجامع بعد الغداء ليصلي معه الظهر، ثم أخذ يعتمد عليه، ويثق به، ويطلب إليه أن يقرئ القرآن بعض الصبيان، أو يسمعه من بعض الذين أخذوا يعيدون ويحفظون. وهنا كان صاحبنا يسلك مع تلاميذه مسلك العريف معه بالدقة؛ كان يجلس الصبيان بين يديه، ويأخذهم بالتلاوة، ثم يتشاغل عنهم بالحديث مع أترابه، حتى إذا فرغ من حديثه، التفت إليهم، فإذا آنس منهم عبثا أو إبطاء أو اضطرابا؛ فالنذير، ثم الشتم، ثم الضرب، ثم إخبار العريف. والحق أنه لم يكن أحسن حفظا للقرآن من تلاميذه، ولكن العريف قد اتخذ معه هذه الخطة، فيجب أن يكون هو عريفا حقا. وإذا كان العريف لا يشتمه ولا يضربه، ولا يرفع أمره إلى سيدنا؛ فذلك لأنه يدفع ثمن ذلك كله غاليا، وقد فهم الصبيان هذا فأخذوا يدفعون له الثمن غاليا أيضا، وأخذ هو يسترد بالرشوة ما كان يدفع إلى العريف. على أن رشوته كانت متنوعة؛ فلم يكن محروما في بيته، ولم يكن في حاجة إلى الخبز ولا إلى التمر ولا إلى السكر، ولم يكن يستطيع أن يقبل «الفلوس»، وماذا يصنع بالفلوس وهو لا يستطيع أن ينفقها وحده! فهو إن قبلها دل على نفسه، وافتضح أمره، وإذن فقد كان عسيرا وكان إرضاؤه شاقا، وكان الصبيان يتفننون في إرضائه فيشترون له أقراص النعناع «والسكر النبات» و«اللب» و«الفول السوداني»، وكان يتفضل بكثير من ذلك على العريف.
ولكن لونا من الرشوة خاصا كان يعجبه ويفتنه، ويشجعه على أن يهمل واجبه أشنع إهمال، وهذا اللون هو القصص والحكايات والكتب، فإذا استطاع الصبي أن يقص عليه أحدوثة، أو يشتري له كتابا من هذا الرجل الذي يتنقل بالكتب في قرى الريف، أو يتلو عليه فصلا من قصة «الزير سالم» أو «أبي زيد»، فهو واثق بما شاء من رضاه، ورفقه ومحاباته، وكان أمهر تلاميذه في هذه، صبية مكفوفة البصر، يقال لها: نفيسة، أرسلها أهلها إلى الكتاب لتحفظ القرآن فحفظته، وأتقنت حفظه، ووكلها
نامعلوم صفحہ