ويرى صاحبنا نفسه ذات يوم في محطة القاهرة مع المستقبلين لعدلي وهو يصيح مع الصائحين: «ليحي عدلي باشا!»
وقد حمل العدليون صاحبهم على الأكتاف حتى وضعوه في سيارته، ولا يكاد المستقبلون للمخفق العظيم يخرجون من المحطة حتى تنهال عليهم اللعنات ويصب عليهم الاستهزاء صبا، ثم يقذفون بالحجارة والعصي، ويصاب صاحبنا ببعض الأذى، ولولا أن رفيقه كان ماهرا لبقا لتعرض لشر كثير، ولكن رفيقه انعطف به إلى حارة من الحارات ثم نفذ به إلى حيث أمن الحصى والحجارة والشتم، وأعاده إلى داره موفورا مكدودا مع ذلك.
وينفى سعد بعد إخفاق عدلي بقليل، وينكر عدلي هذا الإخفاق، ويلح في قبول استقالته، ويرى أصحاب عدلي أن نفي سعد إهانة للوطن كله، وتوشك الكلمة أن تجتمع، ويوشك المصريون أن يصبحوا يدا واحدة على خصمهم من الإنجليز، ولكن العصا لا تلبث أن تنشق، والخلاف لا يلبث أن يعود كأعنف ما كان، لم يغير أحد الفريقين من رأيه ولا من خطته شيئا.
يقول العدليون: إن حب الوفد للرياسة قد أضاع المفاوضات!
ويقول السعديون: إن ازدراء عدلي للشعب وممثله قد أضاع الاستقلال، ويوشك الاستقلال أن ينسى وتنصرف عنه النفوس بفضل هذه الفتنة المظلمة التي كان المصري فيها يخرج يده فلا يكاد يراها.
على أن تصريح الثامن والعشرين من شهر فبراير سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وألف يرد إلى العدليين شيئا من ثقة وكثيرا من أمل، فقد ظفر ثروت باشا رحمه الله ببعض الحق، وشيء خير من لا شيء!
وقد أتيح لمصر أن تدبر أمورها بنفسها، وأتيح للشعب أن يكون له دستور، وأن يحيا حياة ديموقراطية كريمة ... وأصبح السلطان ملكا، وأصبح لمصر أن ترسل ممثليها السياسيين إلى البلاد الأجنبية بعد أن عادت إليها وزارة الخارجية التي ألغاها الإنجليز حين أعلنوا الحماية.
وكل هذا يتيح لمصر مظاهر الاستقلال وشيئا من حقائقه مهما يكن قليلا فإن له ما بعده، ولكن السعديين كانوا ينكرون هذا التصريح ويرونه شرا ونكرا ويرون قبوله جريمة وإثما.
والخلاف يمضي في طريقه لا تهدأ ثورته ولا تزداد ناره إلا اضطراما، وصاحبنا ماض مع أصحابه في إذكاء هذه النار لا يعنيه أن يرضى عنه الراضون أو يسخط عليه الساخطون، وإنما هو مقتنع بأن شيئا خير من لا شيء، وبأن القليل صائر إلى الكثير، وبأن هذه المظاهر ستصبح في يوم من الأيام حقائق إن عرف المصريون كيف يحزمون أمورهم وكيف يجمعون كلمتهم وكيف يحسنون انتهاز الفرص.
وقد أخذ ثروت باشا رحمه الله يهيئ لوضع الدستور فألف لجنة الثلاثين، وأخذت هذه اللجنة في عملها، ولكن شرا آخر يظهر في أفق مصر.
نامعلوم صفحہ