واستخذى الفتى من هذا الحديث كله فلم يرجع على علوي باشا جوابا، وإنما انصرف عنه محزون القلب كئيب النفس كاسف البال، راضيا مع ذلك شيئا من رضا، فقد أصبح له عمل ينفق فيه وقته وجهده، وليس بقليل أن يقال عنه: إنه أستاذ في الجامعة. وأقبل على الأدب وتاريخه يعد دروسه فيهما. وقرر أن يختار للدرس في عامه الأول تاريخ الأدب الأندلسي، وما هي إلا أن غرق في «نفح الطيب» وما إليه من كتب الأدب العربي في الأندلس، فنسي نفسه ونسي الناس، ولكنه لم ينس البعثة إلى باريس، ولم ينس الحرب التي تحول بينه وبين باريس. وكيف السبيل إلى نسيان الحرب وأنباؤها المروعة تصبحه وتمسيه في كل يوم؟
وإنه لغارق في الأدب الأندلسي يقرؤه مع صديقه ذاك الذي قرأ معه أبا العلاء، ويقرؤه مع خادمه كلما غاب عنه صديقه ذاك، وإذا الجامعة تدعوه فيذهب إليها عجلا وجلا ذات ضحى، وهناك يلقى علوي باشا رحمه الله فيستقبله باسما له رفيقا به، وينبئه بأنه مسافر بعد أيام إلى فرنسا، فقد انجلت الغمرة بعض الانجلاء، وانهزم الألمان أمام باريس، وسعى ممثلو فرنسا في مصر عند الحكومة وعند الجامعة لتعيدا طلابهما إلى الجامعات الفرنسية.
ومنذ ذلك اليوم أقبل الفتى على تهيئة نفسه للسفر مستأنفا حياته تلك التي كانت تملؤها الأحلام العذاب، والآمال العراض. ويقبل اليوم الموعود فيسافر الفتى من القاهرة ومعه أخ له يرافقه في سفره، ويحيا معه في فرنسا، ليتم درسه هناك، ويعين أخاه على الحياة الشاقة في تلك البلاد الغريبة النائية. وقد أبت الجامعة أن تحتمل من نفقة هذا الأخ قليلا أو كثيرا، فاضطر الأخوان إلى أن يعيشا بمرتب واحد على ما في ذلك من ضيق وشدة، وقبلت الأسرة أن تعينهما بشيء من مال يسير بين حين وحين، وعلى غير نظام مطرد.
وفي الرابع عشر من شهر نوفمبر أبحر الفتى من الإسكندرية، ومعه أخوه وطالبان من طلاب البعثة الجامعية كان لهما في حياته في فرنسا شأن أي شأن.
فأما أحدهما: فكان قد نيف على الأربعين، وكان غريب الأطوار حقا، كان قد ظفر بالشهادة الثانوية، وعمل في ديوان من دواوين الحكومة، وانتسب إلى مدرسة الحقوق الفرنسية. فكان يغدو على مكتبه ويروح إلى مدرسة الحقوق حتى ظفر بدرجة الليسانس الفرنسية من جامعة باريس. وكان مرتبه ضئيلا، ولكنه كان يحسن التدبير والاقتصاد، فيؤدي رسوم المدرسة، ويسافر إلى باريس في كل عام لأداء الامتحان. حتى إذا أتم الدرس طمع في أكثر من الدرجة التي ظفر بها، واتصل بعلوي باشا فقص عليه قصته، وتأثر الباشا بهذه القصة، وقدر أن هذا الفتى يجب أن يكون حريصا على العلم محبا له مشغوفا به، ما دام قد تكلف في طلبه كل هذا العناء، وقتر على نفسه في الرزق كل هذا التقتير حتى ظفر بهذه الدرجة التي أتيحت له. وجعله علوي باشا عضوا في البعثة الجامعية ليمضي في درس الحقوق حتى ظفر بدرجة الدكتوراه، لم يحفل بتقدم سنه، ولم يفرض عليه امتحانا أو شيئا يشبه الامتحان.
وأما الآخر: فكان قد نيف على الثلاثين، وكان قد تخرج في دار العلوم، وتقدم لمسابقة الجامعة فظفر فيها، وأرسل إلى فرنسا للتخصص في الأدب العربي، فأقام فيها سنين متصلة، ثم رد إلى مصر حين أعلنت الحرب، ثم أعيد إلى فرنسا بعد أن انجلت عنها الغمرة الأولى، وكذلك لم يشعر الفتى وأخوه بشيء من الوحشة في هذا السفر بفضل هذين الرفيقين. وكان سفرا غير قاصد، فيه كثير من جهد، وفيه شيء من خطر أيضا.
فقد اختيرت لسفر البعثة سفينة فرنسية فقيرة حقيرة رخيصة، وكان اختيارها لونا من الاقتصاد. وكان اسمها «أصبهان»؛ وكانت على بؤسها وفقرها مرحة تحب الرقص في البحر، وتحسن اللعب على أمواجه ولا تحفل بما يلقى ركابها من عقاب حبها للرقص واللعب. وكانت تؤثر المهل على العجل، وتفضل الأناة على السرعة، وكانت السفن تعبر البحر بين الإسكندرية ومارسيليا في أربعة أيام، فأما أصبهان فكانت تحب البحر وتؤثر أن تعبره في ثمانية أيام لا في أربعة. وصعد الفتى إلى «أصبهان» يتعثر في جبته وقفطانه، ولم يكد يبلغ غرفته في الدرجة الثانية ويسمع الجرس المؤذن بقرب إقلاع السفينة حتى خرج من جبته وقفطانه، وتخفف من عمامته، ودخل في ذلك الزي الأوروبي ... وشغله دخوله في ذلك الزي عن إقلاع السفينة واندفاعها في طريقها هادئة أول الأمر، مضطربة بعد ذلك أشد الاضطراب. ورأى الفتى نفسه حين أقبل المساء وقد فارق مصر، ودفع إلى مغامرته تلك التي عرف أولها ولكنه لم يعرف ما يكون بعد أولها هذا من الأحداث والخطوب.
والحق أنه لم يفكر في الأحداث ولا في الخطوب، ولا في أول المغامرة ولا آخرها، وإنما شغل بزيه الجديد ساعة وبعض ساعة، ثم شغل باضطراب السفينة بعد ذلك، فلم يفرغ منه إلا حين أتمت السفينة رحلتها وانتهت به إلى مارسيليا ذات مساء بعد ثمانية أيام طوال حافلة بالفزع والروع والضيق. •••
وقد لزم الفتى غرفته تلك منذ دخل السفينة إلى أن خرج منها، ولم يذهب إلى غرفة المائدة، وكيف يذهب إليها وهو لا يحسن الحركة في هذه السفينة التي لا تستقر، ولا يعرف الجلوس إلى موائد الطعام، ولا يحسن استعمال تلك الأدوات التي يستعملها الناس حين يطعمون، ولا يستطيع أن يأكل أمام المسافرين من الأوروبيين بيديه كلتيهما أو إحداهما، كما كان يصنع في مصر؛ فليس له بد إذن من أن يصيب طعامه في غرفته. وكان الرفاق قد وكلوا به خادما من خدم السفينة يحمل إليه غداءه وعشاءه، وقد أعدا إعدادا حسنا؛ ليصيب منهما حاجته. فكان الخادم يحمل إليه الطعام في موعده، فيضعه بين يديه ثم ينصرف عنه، ويغلق باب الغرفة من دونه، ثم يعود إليه بعد حين ليحمل ما وضع بين يديه من أطباق. وكان كلما عاد لحمل هذه الأطباق قال الفتى في ضحكة حزينة جملة بعينها لا يغير منها حرفا حتى حفظها الفتى ولم ينسها: «ما أقل ما تصيب من الطعام!» وأفاق السفر ذات ليلة مذعورين، فقد اضطربت السفينة اضطرابا عنيفا مفاجئا، وكثرت فيها الجلبة، ثم وقفت السفينة فجأة، وجعلت الريح تعصف من حولها، واشتد اصطخاب الموج، وصوت بعض النساء، وعرف المسافرون أن عطبا قد أصاب محرك السفينة، ولم يشك أحد في أن الخطر قريب.
وبينما كان السفر في ذعرهم وروعهم، كان الرفيق الدرعمي مقبلا على ذقنه يعمل فيها الموسى، حتى إذا فرغ من ذلك دخل في ثياب النهار كما تعود أن يدخل فيها قبل أن يخرج من غرفته في كل يوم، ثم أقبل على الفتى متكلفا ضحكا يغالب به الروع، فلما رآه مستلقيا في سريره قال متضاحكا: وإنك لتستقبل الآخرة على هذه الحال!
نامعلوم صفحہ