غضب القصر على شيخ كبير من شيوخ الأزهر، فمنع الشيخ من إلقاء دروسه، ورأى الناس أن في هذا المنع ظلما للشيخ وعدوانا على حقوق الأزهر، ولكنهم لم يصنعوا شيئا، وكان الأزهريون أشدهم فتورا وخضوعا. ولكن صديقا من أصدقاء الفتى - كانت له فيما أقبل من الأيام مواقف مشهورة يحمدها له الناس - أقبل عليه ذات يوم فقال له: ألست ترى فيما حل بشيخنا ظلما وعدوانا؟ قال الفتى: بلى، وأي ظلم وأي عدوان! قال له الصديق: ألا تشارك في الاحتجاج على هذا الظلم؟ قال الفتى: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قال الصديق: نجمع نفرا من أصدقائنا الذين كانوا يسمعون دروس الشيخ ونسعى إليه نتمنى عليه أن يمضي في إلقاء دروسه علينا في بيته، فإذا قبل انتفعنا بالدرس وأعلنا ذلك في الصحف، فعرف الظالمون للأزهر أن بين الأزهريين من لا يقرون الظلم ولا يذعنون له، فقال الفتى: هذا حسن.
واجتمع نفر من طلاب الشيخ فسعوا إليه بما أرادوا، وأجابهم إلى ما طلبوا، فأعلنوا ذلك في الصحف، وأعلنوا أن الشيخ سيقرأ لهم «سلم العيون» في المنطق، و«مسلم الثبوت» في الاصول، يقسم الأسبوع بين هذين الكتابين.
وبدأ الشيخ دروسه في بيته، وكثر الطلاب المقبلون على هذه الدروس حين علموا بها، ورضي هؤلاء الشباب عن أنفسهم وعن شجاعتهم، وعاد إلى الفتى شيء غير قليل من الأمل.
ولكنه في ذات يوم جادل الشيخ في بعض ما كان يقول، فلما طال الجدال غضب الشيخ وقال للفتى في حدة ساخرة: «اسكت يا أعمى ما أنت وذاك!» فغضب الفتى وأجاب الشيخ في حدة: «إن طول اللسان لم يثبت قط حقا ولم يمح باطلا.» فوجم الشيخ ووجم الطلاب لحظة، ثم قال الشيخ لطلابه: «انصرفوا اليوم فهذا يكفي.»
ولم يعد الفتى منذ ذلك اليوم إلى دروس الشيخ، بل جهل كل ما كان من أمرها.
وكذلك عاد الفتى إلى يأسه من الأزهر، ولم يبق له أمل إلا في درس الأدب الذي آن وقت للتحدث عنه وعن آثاره البعيدة في حياة هذا الشاب.
الفصل التاسع عشر
لم يكد الصبي يبلغ القاهرة ويستقر فيها حتى سمع ذكر الأدب والأدباء، كما سمع ذكر العلم والعلماء، سمع حديث الأدب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقيطي رحمه الله وحماية الأستاذ الإمام له وبره به. وقد وقع هذا الاسم الأجنبي من نفس الصبي موقعا غريبا، وزاد موقعه غرابة ما كان الصبي يسمعه من أعاجيب الشيخ وأطواره الشاذة وآرائه التي كانت تضحك قوما وتغضب قوما آخرين.
كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب. وكانوا يتحدثون بحدته وشدته وسرعته إلى الغضب وانطلاق لسانه بما لا يطاق من القول. وكانوا يضربونه مثلا لحدة المغاربة، وكانوا يذكرون إقامته في المدينة ورحلته إلى قسطنطينية، وزيارته للأندلس، وربما تناشدوا شعره في بعض ذلك. وكانوا يذكرون أن له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في مصر وفي أوروبا، وأنه لا يقنع بهذه المكتبة وإنما ينفق أكثر وقته في دار الكتب قارئا أو ناسخا. ثم كانوا يذكرون بعد ذلك متضاحكين قصته الكبرى تلك التي شغلته بالناس وشغلت الناس به، وعرضته لكثير من الشر والألم، وهي رأيه في أن «عمر» مصروف لا ممنوع من الصرف.
وكان الصبي يسمع حديث «عمر» هذا فلا يفهم منه شيئا أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن فهمه في وضوح حين تقدم في درس النحو وعرف المصروف والممنوع من الصرف، وعرف غير المتمكن والمتمكن، والمتمكن الأمكن من الأسماء. وكان أولئك الشباب يذكرون مناظرات الشيخ مع جماعات من علماء الأزهر في صرف «عمر» هذا أو منعه من الصرف، ويتحدثون ضاحكين بأن العلماء اجتمعوا للشيخ ذات يوم في الأزهر يرأسهم شيخ الجامع، فطلبوا إليه أن يعرض عليهم رأيه في صرف عمر، فقال الشيخ في لهجته المغربية المتحضرة: لا أعرض عليكم هذا الرأي حتى تجلسوا مني مجلس التلاميذ من الأستاذ، فتردد الشيوخ، ولكن واحدا منهم ماكرا ماهرا نهض عن مجلسه وسعى حتى كان بين يدي الشيخ فجلس على الأرض متربعا، وأخذ الشيخ في عرض رأيه فقال: أنشد الخليل:
نامعلوم صفحہ