ولا تنتهي الليلة حتى يكون فتى بثينة قد جاء إلى بيت شهاب ويتم زواجه بها ويخرجان، نعم لم يكن الأمر غير حلم جامح من تلك الأحلام الجامحة التي تعربد في ذهن شهاب، وإن يكن في هذه المرة قد خرج إلى عالم محسوس حقق به سعادة اثنين ثم عاد حلما، كما كان يربط إليه ذكريات فيها السعادة، سعادة النفس الكريمة تقدم الخير، وفيها الشقاء، شقاء الروح الشاعرة تحرم ممن تحب، ولكنه على الحالين حلم فرحان بالسعادة والشقاء جميعا، اطمأن إلى صاحبه فضمه بين أحناء كريمة تزف إلى السماء فما تعرف الأرض.
الرحمة القاسية
دخل الساعي إلى لطفي أفندي يحمل إليه ظرفا من النوع الرخيص الذي يلاقيك به أطفال الطريق، وقد كتب عليه الاسم «لطفي عبد الكريم» في حروف واضحة وأن كانت شوهاء.
وتناول لطفي الخطاب دون أن يلقي إليه اهتماما، وألقاه إلى جواره ريثما ينتهي من الأعمال التي لا بد له أن يقوم بها واستقر الخطاب في موضعه ينتظر لطفي أن يفرغ.
وفرغ لطفي من أعماله، وكاد ينسى الخطاب، لولا أن مرت بأذنه كلمة «البوسطة» ألقاها أحد زملائه إلى آخر فتذكر تلك المهمة التي أدتها له البوسطة في صباحه هذا وتذكر ذلك الخطاب الملقى إلى جانبه، فأخذ يبحث عنه حتى وجده، وراح يفتحه في كسل وهو لا يفكر فيما قد يحمله إليه الخطاب، ولا يحاول حتى أن يخمن فيمن يكون مرسله!
وانفتح الخطاب أخيرا وبدأ لطفي يقرأ، ثم ما لبث ريقه أن جف وراح قلبه يخفق في وجيب متدافع صاخب، وتولت يديه رعشة ثائرة، وعلا وجهه شحوب قانط أصفر، وانبعثت على جبهته قطرات من الماء، فما يدري أألقتها على جبهته يد صديق، أم ثورة الدماء في عروقه؟ أصبح لطفي في ومضة عين إنسانا منفصلا عن العالم الذي يحيا فيه فهو لا يحس من حوله شيئا وإنما هو بجميعه يحيا في هذا الخطاب الرخيص الذي لقيه هذا اللقاء الفاتر.
لقد كان هذا الخطاب الحقير يحمل أمرا كبيرا.
وضع لطفي الخطاب أمامه وطلب إلى الساعي أن يحضر له كوب ماء، وانتظر حتى شربه وأغمض عينيه قليلا ثم عاد إلى الخطاب ثانية يقرأ، لا، لم يفد كوب الماء، ولم تجد هذه الإغماضة التي أصابها. فالخطاب ما زال يحمل نفس الكلمات، أو ما زالت هذه الكلمات تؤدي نفس المعاني، وإنها لمصيبة! زوجته خائنة! سميرة التي بذل لها أجمل أيام الحياة والتي ضمتها وإياه أحلى الأوقات، عرفها وهو لم ينته بعد من دراسته فكانت له في هذه الأيام إشاراته تضيء له الطريق إلى المستقبل، وعرفته هي حين كانت آمالها في المستقبل حائرة مضطربة فوجدت فيه مرتعا لآمالها وتجسيما لأحلامها، والتقت الآمال منهما والقبول من أسرتيهما، فكان الزوج.
ومشت بهما الأيام، لا يفكر يوما أنه أساء إليها، ولا يذكر أنه مس كرامتها في شيء. نعم إنه يسمع عن هؤلاء الأزواج الذين يقبلون زوجاتهم كلما أصبحوا أو أمسوا، ويسمع عن هؤلاء الأزواج الذين لا يخرجون من بيوتهم إلا إذا وقعوا بشفاههم على وجوه زوجاتهم ولا يرجعون إلى بيوتهم إلا وقعوا مرة أخرى، ولكنه لم يأت مثل هذه السخافات وكيف يقبل أن يجعل من وجه زوجته دفتر حضور وغياب! مثل ذلك الذي تلزمه وظيفته أن يوقع عليه داخلا وخارجا. وهو يسمع عن الأزواج الذين يدللون زوجاتهم فيمتدحون ثيابهن مهما تكن ثيابهن تلك، ويمتدحون عقصة شعورهن على أية ناحية عقصن ذلك الشعر، ولكنه هو لم يفعل مثل ذلك مع زوجته.
لا، إنه لم يكن يدلل زوجته ولم يكن يقبلها مصبحا وممسيا ولم يكن يمتدح ثيابها وعقصة شعرها، لقد كان يحترمها، وهو يعتقد أنها ترضى منه بذلك الاحترام فهو يعرف عنها الذكاء الذي لا يقبل الملق، والحصافة التي تأبى السخافات. نعم إنه يلحظ أنها كثيرا ما كانت تغير الطريقة التي تصفف بها شعرها؛ فكانت تجعله كذيل الحصان حينا، أو كانت تلمه في دائرة مكتملة وراء رأسها ولكنه لم يكن يلقي إلى هذه التصفيفات بالا، ولم يهتم إذ ذاك أن يمتدحها لها، أو يذكر عنها شيئا بخير أو شر؛ فقد كان يحب سميرة، سميرة التي عرفها يافعا يدرج إلى الشباب وشابا يصعد إلى المستقبل. وسميرة عنده أكبر من عقصة الشعر، ومن تغيير الثوب، ومن كل مظهر تتخذه، إنه يحب كيانها الذي أحبه يوما وما زال.
نامعلوم صفحہ