لم ير فلوري إليزابيث كثيرا ذلك المساء. كان الكل معا في قاعة الجلوس، وتصاعدت ثرثرة صاخبة حول لا شيء كما جرت العادة في هذه المناسبات. لم يكن فلوري يستطيع مجاراة ذلك النوع من الحديث طويلا. أما إليزابيث، فقد كان في جو التحضر في النادي، بالوجوه البيضاء التي أحاطت بها والشكل المألوف للصحف المصورة وصور الجرو «بونزو»، ما منحها شعورا بالطمأنينة بعد ذلك الفاصل المريب في مهرجان البيو.
حين غادر آل لاكرستين النادي في الساعة التاسعة، كان السيد ماكجريجور لا فلوري هو من سار معهم إلى المنزل، بخطوات متمهلة بجانب إليزابيث كأنه سحلية عملاقة أليفة، بين الظلال المعوجة الباهتة لفروع أشجار البوانسيانا الملكية. وهكذا وجدت حكاية بروم، والعديد غيرها، أذنا جديدة. كان أي وافد جديد إلى كياوكتادا عرضة لأن يصيبه جزء كبير بعض الشيء من حديث السيد ماكجريجور، إذا كان الآخرون يعتبرونه مملا مللا منقطع النظير، وكان من العادات المتبعة في النادي مقاطعة حكاياته. إلا أن إليزابيث كانت بطبعها تجيد الإنصات. وقد خطر للسيد ماكجريجور أنه قلما التقى بفتاة بذلك الذكاء.
مكث فلوري وقتا أطول قليلا في النادي، يحتسي الشراب مع الآخرين، حيث جرى الكثير من الأحاديث البذيئة عن إليزابيث. وهكذا أجل الخلاف بشأن اختيار الدكتور فيراسوامي مؤقتا. كذلك نزع الإعلان الذي كان إليس قد وضعه في المساء السابق. إذ كان السيد ماكجريجور قد رآه هذا الصباح في زيارته للنادي وأصر على نزعه في الحال بأسلوبه المعتدل. وبهذا صار الإعلان في طي الكتمان؛ لكن ليس قبل أن يحقق هدفه.
الفصل التاسع
حصل الكثير خلال الأسبوعين التاليين.
كان الخلاف بين يو بو كين والدكتور فيراسوامي على قدم وساق آنذاك. وانقسمت البلدة بأكملها إلى فصيلين؛ حيث انضم كل كائن حي من أهل البلد من القضاة حتى كناسي السوق إلى أحد الجانبين، مستعدين جميعا للحلف كذبا حين يحين موعده. لكن حزب الطبيب كان الأصغر حجما والأقل كفاءة في التشهير بين الحزبين. أما محرر «بورميز باتريوت» فقد حوكم بتهمتي إثارة الفتنة والتشهير، ورفض إطلاق سراحه بكفالة. أثار حبسه القليل من أعمال الشغب في رانجون، قمعتها الشرطة بقتل اثنين فقط من المتظاهرين. وفي الحبس أضرب المحرر عن الطعام، لكنه استسلم بعد ست ساعات.
كانت ثمة أحداث في كياوكتادا أيضا. إذ هرب مجرم يدعى نجا شوي أو من السجن في ظروف غامضة. وسارت إشاعات جمة حول انتفاضة أهلية متوقعة في المنطقة. تركزت الإشاعات - التي كانت مبهمة جدا حتى ذاك الوقت - حول قرية تسمى ثونجوا، لا تبعد عن المعسكر الذي كان يجري فيه ماكسويل عملية تحليق أشجار الساج. جرت أقاويل عن ظهور «ويكسا» أو ساحر فجأة من حيث لا يدري أحد وعن تنبئه بانهيار السلطة الإنجليزية وتوزيعه سترات واقية من الرصاص. لم يأخذ السيد ماكجريجور الإشاعات بجدية كبيرة، لكنه استدعى قوة إضافية من الشرطة العسكرية. فقيل إن سرية من المشاة الهنود يترأسها ضابط هندي سترسل إلى كياوكتادا قريبا. أما ويستفيلد فقد هرع إلى ثونجوا مع أول بادرة تهديد، أو بالأحرى أمل، لوقوع مشكلة.
قال ويستفيلد لإليس قبل السفر: «رباه، ليتهم يثورون ويتمردون على نحو صحيح مرة واحدة! لكنها سوف تكون عملية فاشلة لعينة كالعادة. هكذا دائما حال حركات التمرد تلك، تتلاشى قبل أن تكاد تبدأ. هل تصدق أنني لم أطلق النار من مسدسي قط على أحد حتى الآن، ولا حتى مجرم. أحد عشر عاما، دون احتساب سنوات الحرب، من دون أن أقتل رجلا واحدا. شيء محبط.»
قال إليس: «حسنا، إذا لم يبلغوا للمستوى المرضي فبوسعك أن تمسك بالزعماء وتوسعهم ضربا بالخيزرانة دون أن يدري أحد. ذلك أفضل من تدليلهم في سجوننا اللعينة الأشبه بدور الرعاية.» «ربما، لكنني لا أستطيع أن أفعل ذلك هذه الأيام، مع كل تلك القوانين المتساهلة. أعتقد أن علي الالتزام بها، ما دمنا كنا حمقى لوضعها.» «سحقا لتلك القوانين. القرع بالخيزرانة هو الشيء الوحيد الذي يحدث تأثيرا على البورميين. هل سبق لك رؤيتهم بعد جلدهم؟ أنا رأيتهم. كانوا في طريق الخروج من السجن على عربات تجرها الثيران، يصرخون، والنساء يدهن أكفالهن بالموز المعجون. هذا شيء يستوعبونه. لو كان الأمر بيدي لكنت ضربتهم بها على أخمص أقدامهم تماما كما يفعل الأتراك.» «حسنا، لنرجو أن يتحلوا مرة بالشجاعة ويبدوا الرغبة في القتال. حينئذ سنستدعي الشرطة العسكرية، بالبنادق وما إلى ذلك. ونطلق النيران على بضع عشرات منهم؛ هذا سيصفي الأجواء.»
بيد أن الفرصة المرجوة لم تأت. حين ذهب ويستفيلد والكونستابلات العشرة الذين أخذهم معه إلى ثونجوا - صبية مرحون بوجوه مستديرة من الجوركا، يتوقون إلى إعمال سكاكينهم الكوركي في أي شخص - وجد المنطقة مسالمة إلى حد محبط. لم يلح شبح لتمرد في أي مكان؛ إنما كانت المحاولة السنوية، المنتظمة مثل الرياح الموسمية في هبوبها، التي كان يقدم عليها سكان القرى لتفادي دفع ضريبة الرءوس.
نامعلوم صفحہ