هنا رددت عليه مدافعا عن العقل الأمريكي - وجزء من الدافع أن أرضيه - فكان ينصت إلى ثنائي على الأمريكيين في نبوغهم وقدرتهم، وعلى فمه ابتسامة الفرح وفي عينيه لمعة الزهو.
مشينا قليلا بعد العشاء في شارع كانال الذي هو أوسع شارع تجاري في أمريكا بأسرها، وبالطبع يكون أكبر شارع في نيوأورلينز، فوجدته في إضاءة الليل يكاد يتقد اتقادا من الوهج، وهو في هذا الوهج شبيه بشارع برودواي في نيويورك ... إنني لا أحب هذا الوهج الشديد في الإضاءة، وكان يعجبني «الشارع الرئيسي» في كولمبيا من ولاية كارولاينا الجنوبية؛ فلست أدري كيف كانت تمتزج ألوان الضوء فيه من أحمر وأبيض وأزرق امتزاجا جميلا؟!
الثلاثاء 26 ديسمبر
قام بنا القطار الذاهب إلى «لوس إنجلس» (وهوليوود هي إحدى ضواحيها) على الساحل الغربي ليلة أمس عند منتصفها، فنمت في غريفتي بالقطار فور قيامه؛ لأني كنت متعبا من عناء النهار، مع أني كنت أود أن أرى الكوبري الطويل الذي يعبر عليه القطار نهر مسسبي إلى ضفته الغربية؛ إذ يبلغ طوله أربعة أميال ونصف ميل ... فلما صحوت في الصباح كنا قد خرجنا من ولاية لويزيانا إلى ولاية تكساس؛ كان المنظر ساعات الصبح والضحى حقولا زراعية ومراع، فولاية لويزيانا وجزء من ولاية تكساس هما أشهر بقاع أمريكا في زراعة القصب وصناعة السكر، ومن ثم أطلق اسم «وعاء السكر» على ملعب الكرة المشهور في الجنوب، الذي يقصد إليه في مباريات الشتاء ألوف الألوف من شتى أنحاء البلاد ... وكذلك ترى حقول القطن والأرز، حتى إذا ما انتصف النهار دخلنا تدريجا في منطقة صحراوية ليست هي بالرمال الصفراء، بل هي أرض على شيء من الصلابة، تغطيها شجيرات صغيرة متناثرة رمادية اللون جافة ... في هذا المنظر الصحراوي لبثنا ساعات بعد ساعات كلها في ولاية تكساس، حتى إذا ما غربت الشمس بدأت الأرض تتموج قليلا، وإذا فهي بدايات جبال روكي.
الأربعاء 27 ديسمبر
لا بد أن نكون قد قطعنا ولاية «المكسيك الجديدة» أثناء الليل؛ لأنني إذ أصبحت وعندما كنت أفطر في مطعم القطار وقفنا عند هذه المدينة العظيمة، مدينة فينكس وهي في ولاية أرزونا ... الأرض منبسطة سهلا، فلا تل فيها ولا شبه تل، وإذا فلا بد أن نكون الآن على سطح الهضبة، وهو حقول مزروعة، أو مراع للماشية التي ترى حظائرها بين حين وحين غاية في حسن النظام والتنسيق، فتعلم أن رعاية الماشية هنا لا بد أن تكون موردا ضخما من موارد الثروة.
وقبيل الظهر بقليل وصل القطار عند مدينة «يوما» التي تقع عند حدود ولايتي أرزونا وكالفورنيا، تقع على نهر كلورادو، تعبر النهر فتخرج من أرزونا وتدخل في كالفورنيا ... لكن مدينة «يوما» تثير الخواطر وتثير التفكير، فعندها يقف القطار عشر دقائق، وينبهك خادم العربة إلى ذلك، فتنزل إلى الرصيف إذا شئت ...
نزلت إلى رصيف محطة «يوما» فوجدت على مسافات متقاربة نساء جالسات على الأرض، هن من البقية الباقية من الهنود الحمر، السكان الأصليين، وكل منهن قد رصت أمامها قليلا من العقود وما شابهها، هن نظيفات جدا، تبدو عليهن الوداعة، لا ينظرن إلى أحد، فكل منهن قد أحنت رأسها نحو الأرض، لا تنظر حتى لمن يشتري من بضاعتها شيئا؛ فقد رأيت سيدة تشتري من إحداهن عقدا، لم تسألها عن الثمن بل أخذت العقد وناولتها نقودا، فمدت الهندية يدها وأخذت النقود وعيناها لا تزالان تنظران إلى الأرض! كل ما هنالك أنها هزت رأسها بالقبول.
الهنود الحمر - السكان الأصليون للبلاد - يقيمون الآن في محابس منتشرة على طول الولايات المتحدة وعرضها، فقد حصروا مجموعات مجموعات، وسمح لكل مجموعة محصورة في محبسها أن تزرع أرضها هناك وتستغل ما فيها من موارد الثروة بقدر مستطاعها، لكن هؤلاء الهنود (وهم في أمريكا يسمون بكلمة «الهنود» وحدها) لا يعدون من المواطنين؛ فليس لهم مثلا حق التصويت والانتخاب.
وبالقرب من مدينة «يوما» هذه التي وقف عندها القطار حينا، محبس من هذه المحابس الهندية ... والخاطر المقلق الذي ملأ رأسي عندئذ هو هذا: إنه منذ مائتي عام أو نحوها كان هؤلاء الهنود هم أصحاب البلاد، لم تكن هناك أمريكا التي نعرفها الآن! في مائتي عام أو نحوها خلقت هذه الأمة العظيمة خلقا من العدم؛ في هذه الفترة الوجيزة جدا ملئت هذه القارة الواسعة تعميرا واستثمارا ومدنية وحضارة، ملئت علما وفنا وسياسة، إنها غزت العالم غزوا ... أتقول إنه لم يكن من العدل لهؤلاء الدخلاء أن يغتصبوا البلاد من أهلها، وهذه هي نتيجة الاغتصاب؟! هل نحكم على الحركات التاريخية بنتائجها أم بمبادئها؟ هذه أمة عظيمة خلقت، ولا تدعي أنها تستند إلى ماض، اللهم إلا ماضيها الديني؛ نعم فقد جاءت ومعها مسيحيتها، بل جاءت بسبب مسيحيتها ... فهل بعد ذلك نقول: إن النهوض لا يكون إلا بالاستناد إلى تراث الأقدمين؟ هذا كلام يصلح للإنشاء في كراسات التلاميذ، أما من يريد أن يكون جادا في تفكيره، فسيجد الواقع صارخا ببطلانه؛ أم نقول: إن الثقافة الأوروبية هي نفسها ماضي أمريكا الثقافي؟ على كل حال، فحتى على هذا الفرض، فليس هناك ماض قومي، إنما هو ماض إنساني.
نامعلوم صفحہ