أضف إلى ذلك أن الإذاعة تصبغها صبغة محلية إقليمية؛ ففي كولمبيا وحدها أربع محطات إذاعية، كلها محطات تجارية، أعني أنها ملك أفراد أقاموها لتكون مصدر كسب، وبطبيعة الحال يكون الكسب من الإعلانات التجارية، وإذا فالبرامج الإذاعية قائمة على هذا الأساس؛ ولا بد أن تكون معظم الشركات المعلن عنها في كولمبيا أو ما يجاورها من بلاد.
وبصفة عامة ألاحظ أن النزعة الإقليمية قوية جدا في أمريكا؛ فأهل كارولاينا الجنوبية يتعصبون لها أولا باعتبارها هي الوطن المباشر، كالذي نسمع عنه أحيانا في مصر من تعصب أهل الصعيد لصعيدهم، وأهل الوجه البحري لبلادهم، أو من تعصب أهل المديرية الفلانية لمديريتهم.
الأحد 4 أكتوبر
كنت أقرأ جريدة الصباح في شرفة المنزل، وجاء الأب «م» (رب الدار التي أسكنها) تصحبه سيدة في نحو الثلاثين من عمرها؛ تبادلنا التضحية، وسألتني السيدة: من أي بلد أنت؟ فقلت: من مصر. دخلا المنزل، وبعد قليل عادت السيدة وحدها واستأذنت في الجلوس، وبدأت الحديث معتذرة إذا كانت قد قطعت علي قراءتي ... ولم نكد نبلغ من الحديث شوطا قصيرا حتى علمت أنها ابنة الأب «م» نفسه، وأنها مصابة بمرض عقلي؛ ولذا فهي تقيم في المستشفى إقامة شبه دائمة؛ إذ هي هناك منذ ثلاث سنوات؛ وأخذت المسكينة تشكو إلي من سجنها في المستشفى الكريه، قائلة: إنها لا تطلب سوى أن يقولوا لها في أمانة وإخلاص ما علتها، ثم سألتني: أتظنهم يجرون علي التجارب؟ ترى هل يبقونني في هذا السجن بقية عمري؟ ... إن حديثها عادي لا أثر فيه لانحراف عقلي، ولولا أنها أنبأتني نبأها لما ظننت بها مرضا، لو استثنيت عبارة واحدة قالتها فدلت بها على اضطراب عقلها، وذلك أني سألتها: أنت إذا ابنة الأب «م»؟ فقالت: يقولون ذلك، لكني أراني أقرب شبها بخالي، فلا يبعد أن أكون ابنته!
جاءت أمها عائدة من الكنيسة، فاحتضنتها في حرارة وقبلتها في حنان؛ فالذين يظنون في مصر أن حب الأمومة مقصور على المصريات يكفي أن يروا كيف استقبلت هذه الأم ابنتها.
قالت لي «ب. م» (وهو اسم فتاتنا المريضة): إنها ترى أحلاما مزعجة كل ليلة. قلت لها: وبماذا تحلمين؟ قالت: أحلام فظيعة، كثير منها عن الرجال ... قلت في نفسي: ما أتعس حال الإنسان بما فرض على نفسه من قيود جنسية تحتج عليها الطبيعة في مثل هذه المسكينة!
وجاءت ساعة العصر فأرادوا أن يعيدوا فتاتنا المريضة إلى مستشفاها وهي تضرع إليهم ألا يفعلوا؛ إنها تبكي وتقبل أقدامهم أن يبقوها بينهم وألا يعيدوها لتكون مجنونة من المجانين، والوالدان يديران وجهيهما بأعين باكية حتى لا يريا ضراعة ابنتهما؛ وأنا الغريب لم أحتمل المنظر فصعدت مسرعا إلى غرفتي ... ها هنا صراع بين عاطفة وعقل؛ إنني من أشد أنصار العقل على العاطفة، لكن ذلك في الكلام والكتابة، أما في سلوكي العملي فأضعف من أن أحتمل منظرا كهذا، وأقسم أني لو كنت ذا أمر لأبقيت فتاتي معي وليكن من سلوكها في داري ما يكون ... لكن الأب «م» استعان بابنه الشاب على ابنته الضارعة، فأخذ الأخ أخته في سيارته وانصرف بها إلى المستشفى.
جلس معي الأب «م» وزوجته في شرفة المنزل، وسرعان ما فتحا موضوع بنتهما «ب» فتحدثنا طويلا في أمرها، أنبآني أن مرضها شدة في الخيال حتى لتتوهم الأوهام وتحسبها حقائق ... سألت الوالدين: هل في الأمر مشكلة جنسية؟ فانطلقت الزوجة تؤكد أن ابنتها كانت متروكة حرة التصرف في أمر نفسها، ولم يكن لهما دخل في حياتها، فلم يعملا على كبت طبيعتها وغريزتها، وقالت: إن «ب» كانت تدرس في واشنطن، وكانت على أتم حرية في اتصالها بالأصدقاء الشبان، لكن الغريب في أمرها هو أنها حتى الخامسة والعشرين من عمرها - وهي الآن في الحادية والثلاثين - كان يتودد إليها الشبان فلا تلقي لهم بالا، وبعد أن أصابتها هذه المصيبة أخذت تهذي بالرجال! فقلت لها: الأمر واضح؛ فقد كانت مكبوتة بحكم ضواغط التربية لا بحكم أنكما ترقبانها أو تمنعانها، نشأت في جو ديني أوحى لها بالتزمت، ثم نادت طبيعتها فعجزت عن متابعة المستوى الخلقي الذي يطلبه المجتمع.
إن أمثال «ب. م» هذه من المصريات آلاف، بل عشرات الآلاف؛ إننا نظن أننا ما دمنا قد كممنا الأفواه فلا تنطق بالرغبة الطبيعية، وما دمنا قد حبسنا الأجساد فلا تنطلق مدفوعة بالغرائز، فقد حل الإشكال وانتهى الأمر؛ لكننا بغرائزنا المكبوتة مرضى لا نفكر تفكيرا سليما ولا ننتج إنتاجا قويما. ألا فليعلم من لا يعلم أن فقرنا العلمي والفني وأن قلقنا الاجتماعي كله راجع - ولو إلى درجة ما - إلى عدم تنظيم العلاقة بين الشبان والشابات؛ إن الله قد أراد لنا أن نكون مجتمعا ذا جنسين، فمن أراد له أن يكون غير ذلك فليحتج على الله، وليمسك عن كل أمل في إصلاح حقيقي يتناول المجتمع من أسسه وأصوله .
المنزل الذي أسكنه مجاور لمتحف الفنون، وقد رأيت المتحف مضاء عند عودتي من مشية قصيرة، فدخلته لأنظر ما به من معروضات فنية، وإذا بالمتحف حفلة افتتاح؛ فقد وقف عند المدخل صف طويل من الرجال والسيدات يستقبلون الزائرين، والبيانو يعزف أنغاما حالمة، وعلى مائدة طويلة أنواع من طعام وشراب ... والمعروض الذي يحتفلون بافتتاحه الليلة هو لفنان اسمه يوجين تومسن، ولوحاته تعرض في ولاية كارولاينا الجنوبية لأول مرة، وهو ليس من رجال المدرسة الحديثة في التصوير، بل هو أقرب جدا إلى الفن في صورته الكلاسيكية، وأعني بذلك أنه يرسم الأشياء والأشخاص كما تبدو لعينه، وليس غرضه من التصوير تأليفا بين الألوان كما هي الحال عند أصحاب المدرسة الحديثة.
نامعلوم صفحہ