فلما أن أتم حكمته، وأكمل نصيحته رجعت إلى نفسي، وفكرت في سري، وقلت: يا ليت شعري، هذا عجب عجاب، من هؤلاء الذين يذكرونني؟ أنا الآن في المنام، أنا في حلم، لكن الذي أراه حقائق، والذي أسمعه من أدق الدقائق، ومن عجب أن أولئك يقولون ما أعلم، ويعلمون ما أقول، وما أدري لعل هؤلاء القوم الذين أعشقهم، وأهيم بقولهم، وأغرم بصورهم، وأدهش بحكمهم، وأسر لقولهم، هم صور عقلية، وأشخاص مجردون من نفسي، إن أدمغتنا فيها هيئة مدرسة تعليمية وصورة نظامات «نادية» شورية، فما من امرئ إلا أحس في عقله بقوة تحدث الصور، وتحلل المركبات وتركب المحلولات، وتلك القوة المصورة (1).
ويعلم أن هناك قوة ترتب المقدمات، وتنتج النتائج، وتفهم الحساب، وتعرف الهندسة، وتقرأ الطبيعة وهي المسماة بالقوة المفكرة (2).
وكل ذلك في العقل مخزون وفي النفس موجود وهي القوة الحافظة (3).
وقد يتذكر الإنسان بعد ضلته، ويحضر الشيء بعد غيبته، بقوة اسمها المذكرة (4).
وهذه القوى ذات علائق واتحاد وافتراق، والقوة الحاكمة عليها تسمى القوة العاقلة (5).
وهي المدبرة لتلك الجماعات، والقائمة لتدبير تلك السياسات، والمتممة لتلك النظامات.
إن عقلي مملكة واسعة من رئيس ومرءوس، وحاكم ومحكوم، وطائع ومطاع، فالقوة الحاكمة تخضع لها تلك القوى، والإنسان يعلم من نفسه عواطف ومنازع وأوامر ونواهي، وفوق هؤلاء في نفوسنا زاجر واعظ يخفض ويرفع ويعطي ويمنع، فلعل هؤلاء قوى عقلي تشكلت كأنها سائلة مجيبة آمرة مأمورة.
وما أشبه هذه المحاورات بما يحس به المرء في سائر الحالات، أو لعل هؤلاء قوم ناسبوا عقلي وكانوا على مشربي، فاقتربوا من روحي فخالطوها ودنوا من نفسي فخاطبوها، وسواء كان الحق الآخرة أو الأولى فليس يهم الإنسان إلا العظات، فإن كان الخطاب من النفس إلى النفس، أو القول صادرا من غيري إلي فالنتيجة محمودة، والعاقبة مقصودة، والغاية شريفة، وهي السلام العام في نوع الإنسان، وقد ظهرت الشئون الاجتماعية في هذه المحاورات المناسبة، وعلى العقول فهمها، وعلى الأمم نشرها بين الخواص في سائر الأمم والممالك في مشارق الأرض ومغاربها ليسير على منوالها العالمون، ويفقهها المتعلمون.
ثم نظرت فإذا السيد جامون أمامي فقلت: يا ليت قومي يعلمون، ليت إخواني بني آدم يرون ما رأيت ويسمعون ما سمعت، ولو أنهم جاءوا هذه الأرض الفيحاء لتعلموا من علمائها وتفقهوا من حكمائها، ولما حرم أبناء آدم هذا النور والحب والعشق، ويا ليت شعري ماذا أفاد العلم والتعليم، وماذا أحدث الكليات، إنها لم تخرج إلا أعداء، ولم تداو داء.
فقال لي: أعلم أن قلوبكم فيها عنصر الغضب وعنصر الحب، فإنكم عالم من البهائم والملائكة مركبون، ولكم الأمر فيما ترغبون، فإن أردتم الأسدية، والحياة الحيوانية، فلكم ما تشتهون، وإن شئتم المحبة الأخوية فشأنكم وما تعملون، وقد سلكتم السبيل الأدنى وأثرتم ثائرة الغضب والقهر، ولما شاهدتم الأسد في الغابات، والكلاب في الطرقات، والذئاب العاويات، عمدتم إلى فطركم فقدحتم نار الغضب وأوريتم زناد الغلب، وشططتم في سيركم، وبعدتم في غوركم، وزعمتم أنكم صادقون، وإلى المدنية ساعون، كلا والله، قد كان زيد يقاتل عمرا، فضم زيد له آلافا وآلافا ، وكونوا جمعية، واجتمعوا أمة، وصنعوا كرة من نار الغضب، وسهما مسموما من بأس الظلم، وأرسلوها بشواظ من نار إلى آلاف مؤلفة من عمرو وأمم مؤدبة، فأتلفوا أجسامهم، ومزقوا جمعياتهم، ثم أخذوا يسلقونهم بألسنة حداد، ألا إنكم لآساد وأي آساد، وإني لأضرب لكم مثلين اثنين تذكرة لكم وهداية لأممكم، مثلا لحالكم اليوم، ومثلا لكم إذا ارتقيتم وإلى المحبة اهتديتم «المثال الأول».
نامعلوم صفحہ