فقال: إن حقيقة النوع الإنساني واستعداده لا تنجلي بتعاريفكم الفلسفية، ولا تعرف بآرائكم العلمية، وإنما أقربها لك بمثالين اثنين؛ المادة العامة الكونية، والهواء المحيط بالكرة الأرضية، ألا إنما مثل الإنسان كمثل الهواء، وكمثل المادة، فإذا درستهما وعرفتهما آن لك أن تعرف استعداد الإنسان وقواه وملكاته. فقلت: إن هذا القول غامض، فأرجو إيضاحه، وأطلب تبيانه. فقال: إن المادة غامضة عليكم، مجهولة حقيقتها لديكم، وليس للبشر أن يقفوا على كنهها، ويطلعوا على سرها، وإنما تعرفونها بأوصافها الظاهرة، وأعراضها القاصرة. تعلم أن المادة تكون ضوءا وحرارة وكهرباء، وهو آخر الآراء عندكم يا أهل الأرض. فقلت له: نعم. فقال: وتكون أثيرا وهواء وماء ومعادن أرضية، كالذهب والفضة والبلاتين والنحاس والقصدير، ونباتا، كالفواكه والحبوب والملابس كالقطن والكتان، وتكون حيوانا في الماء كالأسماك، وفي التراب كالحيات، وعلى وجه الأرض كالبهائم، وفي الجو كالطيور، وتكون كواكب وأفلاكا، وسماوات وأرضين؟ قلت: نعم. قال: المادة واحدة تطورت وتغيرت وتشكلت، فإذا رأينا نحن علماء السماوات حجرا في جبل، نظرنا ببصر غير بصركم، وسمعنا بأذن غير آذانكم، وعقلنا بقلب غير قلوبكم أنه نبات وأسماك وحيوان، فهو فاكهة وروح وريحان، وذهب وفضة ونحاس وقصدير، وجنة ونار، وأرض وسماء، وحيوان وإنسان، فتراه عالما متبحرا، وشجرا مثمرا، وذئبا عاويا، وغزالا أغن، وأسدا رابضا، وإنسانا كاملا، وجاهلا مرذولا، وعالما مقبولا؛ ذلك لأنه يصلح لسائر ما وصفنا، ويتشكل بكل ما ذكرنا من الأشكال.
إن المادة واحدة صالحة للجميع، فإذا فنيت السماوات وحطمت الأرضون، وطاح الحيوان، وذهب النبات، وهلك الإنسان، وذبل الجمال، وراح البهاء، فذلك كله كامن في المادة، مستقر في الهيولي، فليس بمعدوم أثره ولا زائل عنصره، وما المادة إلا كحب الحنطة، وبذرة شجر القطن، متى أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت الأغصان، وأبرزت الأزهار، وأطلعت الأوراق، وألبست القطن، وأهدت القمح، فهكذا المادة تصلح لكل شيء، فإذا أفرغ الله عليها حكمته، ونفحها قدرته، تنوعت أصنافها ، وتشكلت أوصافها، بما تراه، فأنت من هذا عرفت استعداد المادة وتنوعها وتشكلها بما لا يتناهى، فهكذا الإنسان، إن أرواحكم كالمادة، قادرة على الخير والشر، والرفعة والضعة، وإذا ما نظرنا إلى زنجي دميم، أو ملك عظيم، أو عالم حكيم، لم نفرق بين الأبيض الجميل، والصعلوك الوضيع، والجاهل البليد؛ لأننا نعلم الاستعداد الإنساني، وقبوله الرقي، كما قبلت المادة الصورة الحجرية. وتشكلت بالصورة الإنسانية، فلا يشكل المادة إلا العلم والقدرة، ولا يخرج الإنسان من جهله وخموله وبساطته إلا التعليم، وكما تكون المادة بالتشكيل ضارة، كالعقارب والحيات، فهكذا قد يكون الإنسان بالتعليم شرا وبيلا، وشررا مستطيرا، كعلماء اللصوص، وبعض رجال سياساتكم في الأرض. فقلت: وهل سيكون في الأرض سياسات ممدوحة؟ قال: نعم، بعد نشر هذا القول في الكرة الأرضية، سيكون له أثر محمود، وفضل مشهود. فقلت له: فأوضح لي المثل الآخر وهو الهواء. فقال: أنت تعرف الهواء؟ قلت: نعم. قال: إن الإنسان يقبل رقيا عاليا، ومجدا غاليا، لا يحصيهما عد، وليس لهما حد، والفرق ما بين نقصه وكماله، وقبحه وجماله، كالفرق ما بين الهواء في حجرتك الحائم حول دواتك، المحيط بقلم كتابتك، والهواء الخارج من القصبة الهوائية، المغذي للأجسام الإنسانية، الممتزج بالكرات الدموية، المولد للحروف الهجائية بنغماته، المفهم لسامعيه عجائب الحكمة بآياته، ودرر المعاني وغرر العلوم برناته.
فقلت: أوضح لي المثل. فقال: إن الهواء الجوي يغدو ويروح في الجو، وله فوائد معلومة، ونعم محدودة مشهودة، يحمل السحاب، ويرفع قطرات الماء، ويقبل الأصوات، وهو الأمين على اللغات، حافظ أنواع المسموعات، بحيث يميز ما بين صوت وصوت، ولغة ولغة، ورائحة ورائحة.
هذه وأمثالها فوائد الهواء الذي يغمركم بكرته الجوية، ويحيط بكم وهو في حالته الفطرية، فإذا ما تطور بأطوار أخرى، فإنه يأتي بفوائد كثيرة، ألا ترى أنه يغذي النبات فيمتزج بمائه، ويتخلل عصاراته، وهو نفسه وغذاؤه، فهذا مدرسة أولى للهواء، يمتزج بالعناصر الأرضية، ويحدث منها الأغصان، ويخرج الأزهار، ويمازج الأشجار، فهذه الأشجار الخضرة، والأزهار النضرة، والثمار البهية، يدخل في تركيبها الهواء، كما مازجها الماء والتراب، والأضواء ، فالنبات يتنفس ولكنه لا صوت لنفسه، ولا حروف ونغمات ولا علوم ولا آداب، ثم الحيوان يستنشق الهواء فيمتزج بتركيبه، ويدخل في بنيانه كما دخل في النبات، وكون الأوراق والأزهار، لكنه في الحيوان أعظم قدرا وأوفر عملا وأجل فائدة، ألا ترى الطيور بأصواتها الشجية المبهجة، ونغماتها البديعة البهية، أليس هذا من العجب؟ مصلحة الهواء الامتزاج بالدم، وتكوين اللحم والشحم والعظم والعروق والحواس، فما باله زاد في الحيوان جمالا وإبداعا، فصار دلالة بين الأم وولدها، والذكر وأنثاه، والحمامة وأفراخها، والنعجة وحملها، واللبوة وأشبالها، وذلك لم يكن بين الغصن وأزهاره، ولا بين الساق وفرعه، ولا بين الفروع وأثمارها، فإذا تخطينا إلى الإنسان وهو المدرسة الكلية العالية للهواء، رأينا أمرا عجبا، فإنه يفعل كما فعل في النبات من التغذية، وفي الحيوان من النغمات والفهم والإفهام، وزاد عليهما باللغات، والعلوم الناشئات من الحروف الهجائية، المركوزة في الطباع البشرية، ألا تتأمل، ألا تتعجب من الهواء كيف كان في الجو قليل الفوائد، فلما أن دخل المدرسة الأولى النباتية أفاد المواد الغذائية، فلما أن دخل المدرسة الثانية الحيوانية أفاد الدلالة والإفهام، فلما أن وصل المدرسة العليا الإنسانية كانت النغمات المشجية، والحروف الهجائية، والعلوم الكونية، فصار معبرا عن سائر الكائنات، وبجميع اللغات، فكم لغة كونت ودونت! ويقال: إن في الأرض أربعة آلاف لغة تحصر ما في العالم العلوي والسفلي من العلوم، فهل تجد تلك العجائب في هواء دارك، الساكن في غرفتك، أم الصنعة التي أدخلت عليه جعلته في أعلى مكانة وأسماها، لعمرك إنه لا فارق بين هواء غرفتك، ونغمات الموسيقى، ومطربات الموسيقار، وكلمات الحكم والأخبار إلا بالصنعة والإتقان، فالهواء هواء اعترته العوارض ودخلته الصنعة فارتقت به إلى أبدع الأحوال وأسماها، وأعز المقامات وأغلاها، فهل تقصر الروح الإنسانية، عن النسمات الهوائية، إن نفوسكم أرق وأرقى، وأعز وأغلى، فإذا دخلتها الصنعة غلت قيمتها، وعلت رتبتها، وزادت كرامتها، ولئن تدرج الهواء في الصنعة من البساطة في الجو إلى نغمات مشجية مطربة، وحكم عالية، وعلوم باقية، وآداب غالية، أفلا يصل الإنسان من مقامه الوحشي بين الأنعام، إلى رتبة السادة الأخيار المصطفين الأحرار.
ثم قال: يا أيها الناس إن نفوسكم لشريفة عالية ، وأرواحكم طاهرة باهرة، وعقولكم سامية فاضلة. وقدرتكم تزيل الجبال، وترفع الحصون، وتذلل الصعاب، أرواحكم مطلقة فقيدتموها، ومقدرتكم واسعة فضيقتموها، ولئن وسعت المادة سائر الأشكال، من الظلمات والنور، والظل والحرور، والإنسان والجماد، والبحر والبر، فإن نفوسكم أعظم اتساعا وأوفر اقتدارا، وأعلى منارا، وإذا كان الهواء يرتقي إلى أن يحمل الحكمة بسائر أنواعها في حروف هجائية، فالأرواح الإنسانية أجل منه مقاما، وألطف بهاء، وأوسع جاها، وأبهى جمالا، وأبهر حسنا وكمالا. ما لي أرى أخلاقكم نازلة، وسياساتكم عاطلة، وحكوماتكم ناقصة، مشوهة! إنني لما اقتربت من الأرض وشاهدتكم في محن العذاب مسخرين، وفي عذاب جهنم الذل خالدين، أيقنت أنكم مسجونون في هذه الكرة، لا تفارقونها إلا بالموت، كتب عليكم أن تسجنوا في الأجسام، وأن لا تفروا من الأرض، فزدتم القيد قيودا، ذلك أنكم حبستم أنفسكم في سجن الجهالات، وفاسد الحكومات، جهلتم قدر أنفسكم فحبستموها، وبهذا السجن عذبتموها، وكم لكم من قدرة تركتموها، ومن حكمة دفنتموها! كل هذا وأنا مصغ لقوله، سامع لوعظه وزجره، ودعني وولى مدبرا، فنمت، فلما انفلق عمود الصباح كتبت ما قره وسطرت ما حققه.
الفصل السادس
في أنواع الحكومات والفلاسفة
فلما أن كانت الليلة الثالثة دخل الحجرة وأيقظني وأجلسني فآنست وجها يخجل القمر، وقد لبس ثيابا بيضاء مصفرة ومعه ساعة من الذهب، فرجع إلى الكلام على حال الإنسان وقال: ما الذي عملتم بفطركم وعقولكم؟ فقلت: نظمنا الحكومات، وقرأنا الديانات، وأوسعنا العلوم واللغات، واخترقنا الجبال، وعبرنا الأنهار، وسخرنا الهواء، والحجر والماء، فنحن لذلك كله مسخرون. فتبسم وقال: سأريك قيمة ما وصفت، وأعرفك أنه ليس شيئا مذكورا في إنسانيتكم، أجبني: «أين الإنسان؟» أنتم متحاربون متقاتلون متعادون، أنتم ذئاب على أجسادكم ثياب، إنني إذ سحت العوالم السماوية، ونظرت نظاماتها السياسية، وقارنت سياستكم بسياستها، ودولكم بدولها، ما شككت أنكم يا أهل الأرض معذبون غافلون، إني عجبت لكم، إن لكل امرئ منكم قلبين متضادين، ونفسين متناقضتين، ووجهين متشاكسين . فقلت: كلا، بل قلب واحد، ونفس وعقل ووجه. فقال: ألستم تقابلون بعضكم بما تعلنون، وهو مخالف لما تضمرون ؟ ألستم تفشون، وتكذبون وتنافقون، وأنتم متظاهرون بالصلاح، وكثير منكم فاسقون؟ أوهذه حياة الإنسانية؟! إن هي إلا حياة شيطانية.
ثم قال: خبرني، أليست حكوماتكم هي التي أكل عليها الدهر وشرب، ما هذه الحكومات، يا عجبا للإنسان! يا ويل الإنسان! أطلق له السراح كما أطلق للمادة، فتدلى عن الحيوانية، وانحط أسفل من البهيمية؛ ألستم تخضعون للأوهام والدجالين والكذابين؟ ألستم تحسون بضعف أنفسكم أمام وارثي الملك فتملكونهم عليكم، والطبيعة والفطرة تناديكم، أين عقولكم؟ أين أحلامكم؟ «أين الإنسان؟» إن الفطرة قد تكفلت لكم بكل حكمة وسياسة، إن الحكمة العالية الإلهية سنت لكم القوانين، ونظمت لكم كل شيء وأنت غافلون. قلت له: فأفدني. فقال: سيريك الشيخ الوقور من بعد «جامون السماوي». (وسيكون له القول الفصل في آخر الكتاب.)
فقلت له: من أين استمد الإنسان أكثر الحكومات الحاضرة؟ فقال: إن الإنسان عاش مع الحيوان أمدا طويلا يتصارعان ويتجاولان، وقد ركبت فيكم صفات الشهوة لتعيشوا كالبهائم، وصفات الغضب لتدافعوا كالأسود، وصفات العلم والحكمة لترقوا وتسعدوا كالملائكة، ولكنكم يا معاشر الإنسان، لا تزالون مع الأنعام، ولا تقدسون إلا صفات الآساد.
نامعلوم صفحہ